3
من مولتكه أن يبقي على الجيش الفرنسي وأن يقهر الأمة الفرنسية بكرمه، فهنالك توسط بسمارك قائلا: «لا يمكن الاعتماد على شكر أمير ولا على شكر قوم ولا على شكر الأمة الفرنسية، ولا ثبات لوضع الفرنسيين العام؛ فالحكومات والأسر تتغير عندهم على الدوام، ومن يقبض على زمام الأمور منهم لا ير أن يرتبط في عهد من جاء قبله، والفرنسيون قوم حسد، فلا يزالون ينفسون علينا نصرنا في معركة كونيغراتز مع أن ذلك لم يضع لهم حقا، وما هو الكرم الذي ينتظر منهم فيحملهم على العفو عن نصرنا في سيدان؟» ويطلب تسليم الجيش بأسره تسليما مطلقا بلا أسلحة ولا رايات.
فبمثل ذلك العبوس يبدأ بسمارك سياسته ضد الجمهورية الفرنسية القادمة مبصرا قرب إعلانها، وهو لا ينفك يبدي غلظة في أثناء أشهر المفاوضات الستة المقبلة، ويتخذ بسمارك سياسة قاسية، وينتحل بسمارك سياسة الفاتح، ويحيد بسمارك عن السياسة التي اتبعها في نقولسبرغ، وقد ذكر بسمارك أحد الأسباب التي يتمسك بها وهو عدم ثبات حكومات باريس، وسيأتي دور الأخرى، وتحفزه هذه السياسة إلى ضم اللورين، ولهذه السياسة نتائج لا تحصى.
وفي اليوم الثاني من شهر سبتمبر يستدعيه نابليون باكرا، فيجتمع به على الطريق في عربة محاطا بضباط راكبين خيلا، «وكان مسدسي على زناري، فلما وجدتني وحيدا أمامه وأمام ستة ضباط ألقيت نظرة على سلاحي ذلك غير قاصد على ما يحتمل ، ومن المحتمل أن وضعت يدي عليه بغريزتي، ومن المحتمل أن أبصر الإمبراطور ذلك لما رأيت من اغبراره مع الاصفرار»، ويتجلى اجتماع الرجلين وأخلاقهما في تلك الساعة كما لو كان الأمر في رواية؛ فالغالب يجد نفسه من فوره تجاه عدوه، وإن شئت فقل رجلا تجاه ستة فيقبض بحركة طبيعية على مسدسه الذي يحمله للضرورة، والمغلوب يلاحظ وهو في عربته تلك الحركة فيصفر وجهه، وكلا الرجلين يعرف أنه لن يطلق عيار ناري هنالك، وكلا الرجلين يتأثر بغريزته كأنه يتوقع إطلاق عيار ناري في كل دقيقة.
وإذا عدوت هذه المقدمة وجدت اجتماع الرجلين في كوخ حقير على جانب الطريق غير ذي بال. والفروسي المتحرز بسمارك قال عن ذلك - بعد زمن - إنه «حديث رقص موسيقي»، وبسمارك في ذلك الاجتماع وافق الإمبراطور، ولكن بعد الأوان، على أن كليهما كان راغبا عن الحرب، والمبغض الأكبر بسمارك لم يحاول شهوة انتقام في تلك الساعة كما كان يصنع في أحوال أخرى، ولم يكن المخاطب، ولم يكن غرامون هو الذي يشكو ضعفه ضارعا، بل نابليون الذي وصفه بسمارك منذ ثلاث عشرة سنة بأنه رجل لا وزن له مع طيبة، ولم يكره بسمارك نابليون قط، وبسمارك وإن خشي الإمبراطور أحيانا كان يسعى في اكتسابه على الدوام، وبسمارك يمكنه الآن أن ينظر إلى خصمه المقهور نابليون كما ينظر الرجل إلى امرأة تمناها طويل زمن فنالها في نهاية الأمر فصار لا يمن عليها بسوى الشفقة.
وإذا نظرت إلى جوهر الأمر أبصرت أن هذا الإمبراطور الأسير مصدر زعج لبسمارك، وبسمارك هو الذي قال في المساء بعد المعركة وبعد استسلام نابليون بما عرف عنه من وميض ذهني: «والآن يجب علينا أن ننتظر طويل زمن ليتم الصلح.» وبسمارك يخشى حتى ما تصير إليه الأمور من نصيحة بالسير على غرار ما حدث بعد معركة كونيغراتز، ومن نصيحة باجتناب أي تقدم عسكري آخر، ومن نصيحة بالبقاء في القسم الذي احتل من فرنسة حتى الآن! وذلك لأنه قضي على جيش العدو، أو لأن هذا الجيش قد استسلم، أو لأنه حوصر حصارا تاما؛ وذلك لأنه لا بد من انقسام الأمة الفرنسية إلى أحزاب فتذعن عن ضعف، ولو عمل بسمارك بتلك الآراء في ذلك اليوم كما صنع قبل أربعة أعوام لكان هذا تتويجا لسياسته في نقولسبرغ، ولكنه إذا كان قد وجد مصاعب في حمل الملك والقواد على العدول عن دخول فينة كان من المتعذر أن يقنع هؤلاء بالابتعاد عن باريس في هذه المرة، وكان أركان الحرب على حذر تجاه مثل تلك الحماقات المدنية! وكان ذلك المدني يعرف أن رفعه إلى مرتبة جنرال منذ أيام كونيغراتز لا قيمة له، وفيما كان بسمارك يدخل القطار الذي يسافر فيه إلى الجبهة سمع بوديلسكي يقول في الحجيرة المجاورة: «أخذنا حذرنا في هذه المرة، فلن يستطيع بسمارك أن يدخل بيننا!»
والذي يدفع بسمارك - قبل كل شيء - هو الرأي العام الألماني الذي كان يخشى دخول فينة بعد معركة كونيغراتز أكثر من رغبته في ذلك، فصارت الصحافة الألمانية تطالب الآن بضم الألزاس «ضمانا تجاه هجوم يقوم به أعداؤنا التقليديون في المستقبل».
والاشتراكيون وحدهم هم الذين صرحوا بأن الحرب انتهت بسقوط نابليون، وتعلن الجمهورية بباريس في اليوم الرابع من سبتمبر، ويعرب عن عطف على هذه الجمهورية في تظاهرات شعبية كثيرة تقع في ألمانية في اليوم الخامس من شهر سبتمبر، ويمكن القول باشتمال كل عدد من جرائد العمال بعد ذلك الحين على عناوين كبيرة مثل: «صلح عادل مع فرنسة! لا ضم! مجازاة بونابارت وشركائه!» وتتداول الأيدي في جميع ألمانية بيانا بقلم كارل ماركس ينبئ فيه بأن ضم الألزاس «يؤدي إلى عداوة قاتلة بين البلدين وإلى هدنة لا إلى سلم»، وهنالك يقف جنرال في المؤخرة أعضاء لجنة الحزب ويرسلهم إلى إحدى القلاع مقرنين في الأصفاد،
4
ويوقف يوهان جاكوبي أيضا لما كان من إلقائه خطبة في كونيغسبرغ حمل فيها على فكرة الضم فيهز هذا أقوياء الديمقراطيين هزا عنيفا، وكان ماركس قد كتب في منتصف شهر أغسطس يقول: «يظهر أن مصدر التوقان إلى الألزاس واللورين طبقتان: إحداهما هي طبقة الندماء في بروسية والأخرى هي طبقة وطنيي الجعة في جنوب ألمانية، ويعد ذلك أعظم مصيبة تصاب بها أوروبة ولا سيما ألمانية، وعلى البروسيين أن يعلموا من تاريخهم الخاص أنه لا ضمان ضد حرب انتقام يقوم بها عدو مقهور بتقسيم بلاده ... إلخ.» ورأي مثل هذا مما يلوح قول بسمارك به في بدء الأمر.
ناپیژندل شوی مخ