وهكذا يبدأ بسمارك المكافح الذي كان حكمه مطلقا حتى الآن بتجربة النظم البرلمانية التي قضت الضرورة بها، ولا ريب في أن بسمارك كان عالما بما يواجهه من ضروب النضال وإن لم يكد يلوح له كيف يختم تلك التجربة، وما كان ذلك المنهاج ليمضي، وهو لم يمض إلا بصعوبة، إلا إذا ترك الملك المتوسط الذكاء والعارف بنفسه وزيره القدير يوجهه، وإذا وجد ملوك ذوو صلف ومستشارون غير مستقلين كان من العبث أن تبحث الأمة الموحدة في مثل ذلك الدستور عن حقوق تقيدهم بها. وقد أبصر بسمارك جميع ذلك سلفا، ولكن كان عليه أن يختار بين ضمان سلطانه في الوقت الراهن وضمان سلطان من يخلفه في الغد، وبسمارك لم يسطع أن يضمن كلا الأمرين، ولو كان بسمارك يحب الدولة أو العرش حب رون لاختار عند الخيار
1
ما يفعله الملك المفكر في أمر وارثه الشرعي، بيد أن بسمارك إذ كان موظفا يمكن عزله في كل وقت رأى أن يصون سلطانه الخاص الذي أحس أنه أفضل شيء في الدولة تجاه هوى الأحزاب. وبسمارك لم ينظر إلى غير تذبذب الملك مع ما قد ينطوي عليه هذا التذبذب من إزعاج، عادا إياه أقل خطرا من تذبذب الريشتاغ.
حقا أن محاولات وقعت لمقاومته، وحقا أن النص الآتي وضع إيهاما بوجود سلطة عصرية للدولة، وهو: «أن أنظمة رئاسة الجامعة وقراراتها تصدر باسم هذه الجامعة، وأنها لا تصبح نافذة إلا بإمضائها من قبل مستشار الجامعة الذي يحتمل مسئوليتها»، وتجاه من يكون مسئولا؟ أتجاه الريشتاغ؟ أم تجاه البندشرات؟ أم تجاه الملك؟ أم تجاه المحكمة العليا؟ ويرفض الريشتاغ جميع الاقتراحات التي وضعت حول هذه المسألة، ويضحك بسمارك ويود أن يملأ الثغرة التي يمكن أن تقصيه عن الجامعة فيقرر تعيين نفسه مستشارا للجامعة بدلا من سافينيي الذي لم يعد أمره حد «حامل الرسائل»، وبذلك يجمع بسمارك بين مستشارية الجامعة ورئاسة وزراء بروسية نتيجة لتحويل انتقادات خصومه إلى فائدته، وبذلك تصير وظائف الجامعة تابعة لمستشار الجامعة بحكم المنطق، وبذلك يصير موظفو الجامعة موظفين لديه.
ويصبح بسمارك وحده مسئولا إذن، ولكن أمام من؟ لم يجرؤ أحد على قول هذا؛ فالذي يظهر هو أنه مسئول أمام الله فقط، والذي يبدو هو أن على بسمارك أن يقف في بؤرة
2
جميع المباريات التي يوجهها الريشتاغ ضده في السنين الثلاث والعشرين القادمة، وما السبب في قبول هذا المجلس لما عرضه هذا الوزير عليه إذن؟ كان يمكن المجلس أن يرفض ذلك المشروع لو أراد، وفي ذلك المجلس كان من الأعضاء من يكفون للتصويت لرواتبهم الخاصة، وفي ذلك المجلس لم يسجل سوى ثلاثة وخمسين عضوا أنفسهم للمراقبة البرلمانية وصولا إلى حكومة شعبية! وكان حزب الشعب وحده ويماثل جمعية العمال الألمانية العامة صريحا في مطالبته ب «الوحدة الألمانية ضمن دولة ديمقراطية، فلا سلطة مركزية وراثية، ولا ألمانية الصغرى برئاسة بروسية، ولا ألمانية الكبرى برئاسة النمسة».
وذلك الدستور لعدم فرضه من عل كالدستور البروسي، وذلك الدستور للتصويت له من قبل نواب ينتخبهم الشعب، يكون الشعب به مسئولا عن نتائجه أمام التاريخ.
وفي الواقع أن الريشتاغ انتخب وفق مبدأ التصويت السري المباشر وإن عارض بسمارك ذلك مدعيا أن ذلك يخالف صراحة الخلق الألماني وحريته، وكان لاسال ميتا، وكان لاسال أول من قال بحق التصويت العام، ولكن لاسال خسر الرهان الذي قال به كلاهما قولا ضمنيا؛ وذلك لأن أماني بسمارك تجمعت في بروسية الملكية، وكان الديمقراطيون يبصرون ما يحدث فلم يروا ترك مبدأ التصويت الذي لم ينفكوا يطالبون به منذ زمن طويل؛ لما في تركه من دواعي السخرية، وقد قال بسمارك «إذا دل التصويت العام على عدم صلاحه تخلصنا منه.» وبسمارك على الرغم من رغائب الأكثرية لم يكن ليريد مجالس جامعة لتأييد وضعه تجاه الريشتاغ، وبسمارك كان يرى - مع كبير ازدراء - أن أكثر أعدائه انحازوا إليه؛ لأن جيوش رون ومولتكه حققت سياسته، وبسمارك لم يرفض دستوره سوى تسعة عشر من ذوي النفوس الحرة عادين دستوره هذا «معيبا مضيقا معرضا حقوق الشعب للخطر»، ولم تجد في ذلك المجلس غير اشتراكي ديمقراطي واحد عرض مبادئ لاسال، وكان نظام الدولة الدستوري يذوي، وكانت حقوق الشعب ترجع القهقرى عند انتصار الحديد والدم، وأخذ قدماء المحافظين كغرلاخ يتأخرون بعد تمام الوحدة الألمانية بغير النمسة.
وكان الحزب الوطني الحر الجديد أقوى الأحزاب، وكان هذا الحزب يجمع بين عالمين كما يدل عليه اسمه، وكان لاسكر وتويستن وفوركنبك وأونروه الأعضاء في اللندتاغ البروسي، وبنيغسن الهانوفري زعماء له، وكان أرباب الصناعة الثقيلة وأصحاب السفن يمدونه بالمال، وكان الأساتذة يغذونه بالقواعد والاصطلاحات، ويعد بسمارك الأصوات ويتساهل في قليل من الأمور الشكلية ويسر حين يرى روح الإمبراطورية الجديدة شديدة القوة في بندشراته، وتجد لبسمارك في رئاسته لهذا المجلس سلطانا لم يتفق لآل هابسبرغ مثله في ألمانية قط مع أنه لم يكن له فيه سوى سبعة عشر صوتا من ثلاثة وأربعين صوتا، ويقول بسمارك في كتاب يرسله إلى رون: «لم أجد في الوجه الذي يسيطر فيه الملك على ألمانية كبير أهمية، ولكنني بذلت جميع جهودي وجميع ما أعطاني الله من قوة ليمارس سلطانه ذلك.»
ناپیژندل شوی مخ