بسمارك :
ما كان المالك القدير ليدير أرضه اليوم بغير سكرتير ذكي، وما كنت يا صاحب السمو الملكي لتسر بالنتائج من غير وزراء أذكياء، فانظر إلى صورة شويرين الجانبية؛ تجد علائم تجمع الفكر فوق حاجبيه، ولكنه ليس لديه من الجبين ما يبصر به علماء قيافة الدماغ شيئا من الحذر؛ فالحق أن شويرين رجل دولة يعوزه البصر فيصلح للهدم أكثر مما للبناء.
وهكذا يتناول بسمارك أعضاء الوزارة واحدا بعد الآخر.
ومن خلال تلك المحادثة الرسمية الأولى نبصر ما يفصل بين بسمارك وولهلم من العلامات الواضحة، ومن الصعب أن نبين أي الأمرين أدعى إلى العجب: أجرأة بسمارك ودهاؤه ومنطقه، أم لباقته في إلقاء التبعة على عاتق خصمه ثم في فرزه منافسيه؟ ونحن حين نقول ذلك نرى هدوء السيد الذي يعتقد رفع مولاه.
ولم ينفذ ولهلم حتى اليوم صميم الوضع السياسي، وهو لم ينظر إليه إلا من خلال شعوره العسكري، ولا غرو، فليس وراءه سوى ماضي جندي مدرب ضيق الأفق، وولهلم من كل ناحية أفضل من أخيه الذي لم تدل خططه الوهمية على غير عجزه، فهو يفوقه صلابة وقلة خيال، وهو يتصف بما لا يتصف به أخوه الأكبر ذلك من الفضائل البروسية، أي يتصف بالدقة والمثابرة والإتقان والعدل والإحسان والتقوى، وتمسكه بشرعية العروش من أجل نفسه ومن أجل سواه، وبالبساطة مع ضيق الأفق، كما ذكرنا ذلك.
ولم يتصف بسمارك بشيء من تلك الشمائل؛ فقد كان حاد الطباع جريئا ساخطا ماكرا حذرا جافيا مذبذب المشاعر تجاه الرب والملك، فطورا تراه من القائلين بالعروش الشرعية، وطورا تراه من ذوي المناحي الثورية، وهو على غموض أمره كان عبقريا.
وكلا الرجلين فخور جسور، وما يتصفان به من الجسارة فيوجب تعاونهما، وما يتصفان به من الفخارة فيوجب تباينهما، ويقوم فخر ولهلم على أنه من آل الملك، وتؤدي تقواه وعبادته للنسب إلى عده نفسه أرفع من جميع من يتصل بهم مع عدم غلوه في تقدير ذكائه، وما كان من اعتداده بنفسه وشعوره بسموه الملكي فقد انقلب مع السن إلى عناد فعاد لا يحتمل الاعتراف بأن وزراءه يوجهونه، وبسمارك يدفعه فخره إلى الأمام على الدوام، فيناضل مع الحذر في كل وقت كما يود، وبسمارك عند العطل من البطل كان يداري رأي رفقائه وفق فائدته؛ ولذا لم يكن ولهلم ليقبل توجيه بسمارك له، مع أن بسمارك كان يردد في نفسه بلا انقطاع أنه يوجه ولهلم، فلولا هذان القيدان ما استطاع الرجلان أن يتعاونا.
وكان بسمارك يريد العلو مع التنفيذ دوما، وكان ولهلم أسن من بسمارك بعشرين سنة فلم يبغ غير الملك والحكم، وكان ولهلم راغبا عن فتح شيء لبروسية ولو في ألمانية، وكان بسمارك راغبا في توسيع بروسية بألمانية ، ومن دأب ذلك الملك أن كانت له أنباض
11
الوارث الموزونة، فإذا ما تأزمت الأمور تحمس وتصلب إلى درجة الجنون، ومن دأب ذلك القطب السياسي أن كان يأتي بنظم فطري مختزل، فيبدو دائم الحركة ويتقدم بدافع باطني، فإذا ما تأزمت الأمور بدا بصيرا فاترا. وهكذا تراه في الأيام القادمة قد قطر الملك الشائب الساكن بمؤخره مخصصا مواهبه لخدمة آخر، فنم بذلك عن مشاعر فاجعة لعبقري خاضع.
ناپیژندل شوی مخ