وليست النكتة أيضا أنهم أدوا الصلاة أنصاف مساطيل، أنصاف يقظى، ينسى الواحد منهم أنه قرأ الفاتحة، فيقرؤها ثانية ويعود ينساها، أو يعود يتذكر فيعود ينوي للصلاة في منتصف الصلاة.
النكتة في الحقيقة حدثت قرب نهاية الصلاة، نكتة لا تزال تنفجر بها صدور «الحشاشين» في الحي، أولئك الذين تعايشوا مع النكت المروية حتى ألفوها، فما كادوا يعثرون على نكتة حقيقية صارخة دارت وقائعها أمام أعينهم حتى تلقفوها كما يتلقفون «الشيشات» الجديدة، وعربات الكارو، والموتوسيكلات والأطفال الجدد، فيظلون يدندشونها، وبمزاج يزخرفونها ويتقنون روايتها ويتفننون في اختراع التفاصيل التي لم تحدث حتى أصبحت أهم وأعز جزء من فولكلور الحي وتاريخه وقصصه، توارت بجانبها في الحقيقة ملاحم بطولة ليس أقلها ملحمة «حنتيتة» ونسائه الأربع أمام الضابط والمخبرين في واقعة زقاق التعبان.
النكتة أنهم صلوا الركعة الأولى في أمان الله، وكذلك الثانية ، ولم يعد باقيا على انتهاء ركعتي الفجر إلا السجدة الأخيرة، ثم قراءة التحيات والتشهد والتسليم، أما السجود فقد سجدوا، قال الإمام الشيخ: الله أكبر، ثم سجد، وسجدوا جميعا وراءه. عشرة صفوف طويلة ملأت الجامع الصغير، أناس ساجدون في خشوع وإن كان سجودا غير مريح، فمعظمهم كان لم يقرب الصلاة من مدة، ومفاصلهم وعضلاتهم تصلبت حتى لم تعد تقوى على أوضاع الصلاة، ورددوا «سبحان الله» ثلاثا، ولكنهم حين لم يسمعوا «الله أكبر» من الإمام إيذانا بنهاية السجدة بدأ الوسواس يوسوس للكثيرين أنهم أخطئوا العدد، ومن جديد، وعلى مهل، قالوها، وأيضا لم تأت التكبيرة المنتظرة، وأقلية هذه المرة هي التي عاودها الوسواس! وأقلية أيضا هي التي بدأت تستنيم للوضع وتريح رءوسها المتعبة الدائرة، لا تزال، بما فيها من إرهاق وكيوف، أما الأغلبية فقد بدأ شيء من الاستغراب القليل يخالجها، استغراب كان ينهيه إحساسهم أن حالا سينطق الإمام التكبيرة ويعتدل وينتهي الوضع، وكلما أمعنت اللحظة في مضيها دون أن تأتي التكبيرة، كلما بدأت نقطة الاستغراب تتسع وبالتدريج تتحول إلى دهيشة ثم دهشة حقيقية، ثم ذهول، حين تأكد للجميع حتى للأقلية الموسوسة والمستنيمة أن السجدة طالت حقيقة، وأنها ليست بطئا من الإمام أو دعاء خاصا اختار لقوله وضع السجود، كما تأكد للجميع أنهم ليسوا أمام شيء عابر إنما هم بالتأكيد يواجهون حدثا، لا بد أن شيئا قد حدث ومنع الشيخ من إتمام السجدة، هنا تحركت الدهشة الحقيقية وتوزعت ألف احتمال واحتمال راحت تجوب الأدمغة المنحنية، لا تجرؤ على الاعتدال. رائحة غادية. متماثلة متناقضة. أمرض؟ أمات؟ أأغمى عليه؟ أتكون حشيشة أغراه بها شيطان منهم وبدأت «تكبس» على يافوخه؟
وأيضا، ورغم هذا كانوا متوقعين في كل لحظة تالية أن يرتفع صوته بالتكبيرة، طاردا الهواجس، معيدا الثقة بأن كل شيء طبيعي ولا غبار عليه - إلى عقولهم التي بدأت تسرح وتمرح وتنطلق إلى ما شاءت من خيال .
ولكن وقتا مضى، بالضبط لم يستطع أحد تحديده، وإنما حسب رواياتهم يتراوح بين الدقيقتين ونصف الساعة، إذا تجاوزنا عن مغالاة البعض وقولهم إنه استمر حتى سمعوا أذان الظهر من الجامع الأزهر، ناهيك عن المهولاتية الذين يصرون على أنهم، للآن، لا يزالون ساجدين.
ولكن المؤكد أن وقتا مضى بحيث أصبح مؤكدا حتى لأكثرهم غيابا عن الوعي أن الشيخ ليس أبدا على ما يرام، وأن التكبيرة بالتأكيد لم تصدر عنه وتنهي سجودهم الذي جعل الشخير يتصاعد من حلقين على الأقل من الحلوق التي تراخت، وبدأ لعابها يسيل.
وهنا فقط بدأ يتجسد أمامهم إشكال حقيقي يواجهه كل منهم منفردا ولأول مرة في حياته، ماذا بالضبط عليه أن يفعل؟ وما هو حكم الدين في موقف كهذا؟ وهل إذا رفع أحدهم رأسه تفسد صلاته وربما صلاة الجماعة بأسرها ويحمل هو وحده ذلك الوزر كله؟ وهل يحتمل أحدهم أن يكون هو دونا عن الساجدين جميعا المتسبب في إفساد الصلاة؟ العودة الحديثة لله وبيته وحظيرة الدين جعلتهم مرة أخرى يرون الله ماثلا بجناته وجحيمه ووعده ووعيده أمام عيونهم. هم كالتلاميذ يعودون ومن تلقاء أنفسهم إلى المدرسة بعد طول «بلطجة» و«تزويغ». الرهبة من الخطأ أو من الإقدام عليه مسألة لا يمكن أن يحتملها تائب حديث التوبة مثلهم، أو يفكر فيها.
ولكن الوقت يمتد. الوقت الحقيقي يمتد، ووقت كل منهم الخاص الممدود بطبيعته يمتد ويتضاعف، وتصبح الدقيقة فيه بعام، يمتد الوقت حتى لتبدأ أفكار شيطانية خبيثة تخطر لبعضهم أكثرها شرا بالتأكيد فكرة أن يضحك، ليس فقط على الوضع الذي هم فيه وإنما على ما يمكن أن يحدث لو كان الشيخ الإمام قد وافته سنة من النوم مثلا، أو الأدهى لو كان مات! وأنهم سيبقون هكذا ساجدين، ربما إلى اليوم التالي، وربما إلى يوم الدين، دون أن يكتشف أحد من أهل الحي ما حدث؛ فالجامع عندهم مكان غير مطروق، مجرد المرور عليه يوقظ الضمير.
ولكن كل الأفكار الشيطانية هزمت، فلم يضحك أحد، وحتى لم يطل تفكيره في الوضع كوضع مضحك كي لا يخونه صدره العائم بطبعه ويفلت منه الضحك.
ولم يعد هناك شك لدى آخر المتفائلين فيهم أنهم أصبحوا في مأزق حقيقي، حين بدأ ضوء الشروق يتسلل وينافس ضوء الكهرباء القليل، وهم قد بدءوا الصلاة والظلام كامل، الآن بالاستطاعة القسم أن السجدة طالت طولا غير طبيعي، وأن السعلات التي بدأت تتكاثر وتتحشرج بها الصدور المحنية لم تكن كلها سعالا، أكثرها كان علامة تململ، وتململ لا حل له؛ فمعرفة ما حدث تستلزم رفع الرأس والاستطلاع، ورفعها نقض للصلاة، فلينتظر إلى أن يفعلها غيره ليكون البادي، ويكون ذنبه هو ذنب التابع، وفرق كبير بين ذنب الفاعل الأول، وذنب التابع.
ناپیژندل شوی مخ