وخلال ذلك وجد الشارع الوطني والإسلامي في المقاومة الفلسطينية حليفا قويا، كما أن المنظمات الفلسطينية كانت تنتمي إلى هذا الشارع نفسه بحكم تكوينها وأهدافها. وكان عليها أن تحمي كيانها في لبنان بأوسع تحالفات ممكنة.
ولعبت إسرائيل دورها في تصعيد التوتر بالتنسيق مع الموارنة وحزب الكتائب بوجه خاص، فشنت هجوما عسكريا على مخيمي البارد والبداوي في 1973، أشفعته بغارة كوماندوز في قلب بيروت، قتلت خلالها ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وعددا من المدنيين، دون أن يحرك الجيش اللبناني ساكنا .
تفجر الموقف بصورة لم يسبق لها مثيل، وقامت مظاهرات وإضرابات دعت لها القوى الوطنية، نددت بعجز السلطة عن حماية البلاد. وطالبت القوى اليمينية من جانبها بنقل المخيمات الفلسطينية من حول بيروت. ولم يكن سرا أن الرهبانيات التي تملك جانبا كبيرا من أراضي هذه المخيمات، تسعى جاهدة لاستردادها بعد أن ارتفع ثمنها كثيرا في السنوات الأخيرة. واضطلع رئيس الجمهورية، سليمان فرنجية، بالمهمة.
وتصلح سيرة سليمان فرنجية موضوعا لفيلم مثير من أفلام المافيا، كما أنها تعطي صورة دقيقة لطبيعة العمل السياسي في الديمقراطية اللبنانية ذائعة الصيت.
فقد بدأ سليمان فرنجية حياته العملية في الأربعينيات، في ظل أخيه الأكبر حميد فرنجية، الذي كان زعيما للعشيرة المارونية في بلدة زغرتا، وممثلها في البرلمان والوزارة. وكانت مهام سليمان تشمل إلى جنب الدعاية الانتخابية لأخيه، تدبير مقتل واحد من مسلمي مدينة طرابلس كل شهر، كنوع من الإنذار المتجدد لأبناء المدينة المجاورة ذات الأغلبية السنية.
وعشية انتخابات الرئاسة في سنة 1958، برز حميد فرنجية كمرشح محتمل. وكان كميل شمعون يطمع في تجديد رئاسته للجمهورية، فقام بمناورة ماكرة لإزاحة خصمه الماروني عن طريق إثارة النزاع بين عائلتي فرنجية والدويهي. وكما قدر شمعون، تصاعد النزاع إلى مواجهة بين العائلتين في قداس بكنيسة بلدة المزيارة، أطلق النار خلالها على منافسيه، فأردى منهم عشرين. وعلى الفور أصدر شمعون أمرا بالقبض على القاتل الذي هرب إلى سوريا ونزل ضيفا على الحكومة السورية في أحد فنادق اللاذقية، حيث تعرف على الضابطين حافظ الأسد ورفعت أسد اللذين أصبحا شركاء لعائلة فرنجية في عدد من صفقات السوق السوداء - التجارية والسياسية - المربحة.
لم تمض سنة ونصف السنة حتى صدر عنه العفو. وخلال ذلك كان أخوه قد أصيب بالشلل، فعاد سليمان ليدخل البرلمان مكانه، ويصبح زعيما مبجلا للعائلة والعشيرة بفضل سجله الحافل بالقتلى (والذين ارتفع عددهم على مر السنوات إلى سبعمائة قتيل).
وعندما حلت انتخابات الرئاسة الجديدة عام 1970، دارت المشاورات التقليدية المعقدة بين العائلات الحاكمة؛ إدة، الجميل، شمعون، جنبلاط، سلام، الصلح، حمادة، كرامي .. إلخ؛ بحثا عن مرشح يرضي الجميع. وفي مكتب غسان تويني بالطابق التاسع من مبنى جريدة «النهار» التي يملكها، تم الاتفاق على ترشيح سليمان فرنجية.
وفي يوم 17 أغسطس، آب، هبط خمسة آلاف من رجال فرنجية المسلحين من زغرتا إلى بيروت، وأحاطوا بمبنى البرلمان؛ ليضمنوا انتخاب زعيمهم. وأسفر الاقتراع الثالث عن خمسين صوتا له مقابل تسعة وأربعين لمنافسه إلياس سركيس. وعندما أعلن صبري حمادة، رئيس البرلمان، ضرورة إجراء اقتراع رابع، أطلق أنصار فرنجية في الخارج النيران معلنين انتصار رجلهم. واندفع فرنجية شاهرا مسدسه إلى حمادة صارخا، بينما اشتبك أولاد الأخير مع الأب دويهي (الذي أصبح الآن من أنصار فرنجية). وتقدم حراس حمادة لحمايته رافعين مدافعه الرشاشة، بينما أخرج رجال فرنجية، الذين نجحوا في التسلل إلى المبنى قبل الاقتراع، مسدساتهم.
انسحب حمادة إلى مكتبه وتلفن للرئيس شارل حلو طالبا النصح، فقال له الأخير: «إن معلوماتي تخول لي أن أقول لك إنه في حالة إصرارك على موقفك، فإن أحدا لن يبقى حيا من الموجودين في البرلمان، افعل ما تراه ضروريا لمنع تدمير البلاد.»
ناپیژندل شوی مخ