قبل أن تقرأ
بيروت بيروت
خاتمة
قبل أن تقرأ
بيروت بيروت
خاتمة
بيروت بيروت
بيروت بيروت
تأليف
صنع الله إبراهيم
ناپیژندل شوی مخ
قبل أن تقرأ
واكبت سنوات مراهقتي نهاية العهد الملكي في مصر. كانت البلاد تموج بدعوات التحرر الوطني من الوجود الإنجليزي العسكري، والتحرر الاجتماعي من سيطرة الإقطاع، ومن الأمية والمرض والحفاء! .. وشكلت هذه البيئة وجداني، وخاصة الحديث عن أن المعرفة هي كالماء والهواء يجب أن تكون للجميع وبالمجان.
وفي مغرب يوم من سنة 1951م، كنا أنا وأبي عائدين من زيارة لأحد أقاربنا في شرق القاهرة. توقفنا في ميدان العتبة لنأخذ «الباص» إلى غربها حيث نقطن. اتخذنا أماكننا في مقاعد الدرجة الثانية. نعم! كانت مقاعد «الباص» آنذاك - والترام أيضا - مقسمة إلى درجتين بثمنين متفاوتين للتذاكر التي يوزعها «كمساري» برداء أصفر مميز أثناء مروره على الركاب.
جلسنا أنا وأبي خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصل الدرجتين، وتابعت في حسد ركاب الدرجة الأولى، بينما كان أبي غارقا في أفكاره التي تثيرها دائما أمثال هذه الزيارات.
قلت بحماس طفولي: «سيأتي اليوم الذي يزول فيه هذا الحاجز، بل ويصبح الركوب بالمجان.»
تذكرت الروايات التي أعشق قراءتها فأضفت: «والكتب أيضا!»
تطلع إلي باستياء من سذاجتي: نعم! الكتب بالمجان؟ يا لها من سذاجة!
ولم أتصور وقتها أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه كتبي أنا متاحة للقراءة بالمجان! وذلك بفضل مبادرة جريئة من مؤسسة مصرية طموحة، فشكرا لها!
صنع الله إبراهيم
بيروت بيروت
ناپیژندل شوی مخ
1
فتشوني مرتين؛ الأولى عند الحاجز الجمركي، والثانية أمام البوابة المؤدية إلى أرض المطار. وبين الاثنتين مررت أنا وحقيبة يدي الجلدية من دائرة تليفزيونية وبوابة إلكترونية. وكان في انتظاري واحد منهم على باب الطائرة، جاس بيديه أسفل إبطي وبين فخذي وداخل كل من حقيبة يدي وكيس السوق الحرة. وأخيرا سمح لي بولوج الطائرة.
توقفت بجوار أول مقعد فارغ صادفني، فأودعت الكيس بالخزانة المعدنية المثبتة في السقف، وجلست بعد أن وضعت الحقيبة على الأرض، بين قدمي.
فصلني مقعد فارغ عن كرة زجاجية انسابت منها شمس العصاري الواهنة، وبدت من خلالها اللافتة الضخمة التي تعلن عن ميناء القاهرة الجوي. استرخيت في مقعدي ومددت ساقي أسفل المقعد الأمامي. ولم ألبث أن أزحتهما جانبا مفسحا الطريق لراكب في جلباب أبيض سابغ استقر إلى جواري. ولمحت بركن عيني «الغطرة» السعودية تتدلى فوق كتفيه.
سمعته يزفر بشدة موجها الحديث إلي: يعاملون الواحد كأنه إرهابي أو فدائي.
انهمكت في تثبيت حزام المقعد إلى وسطي، ولم أعبأ بالرد عليه.
امتلأت الطائرة بعد لحظات، وانتشرت في أرجائها الجلاليب والملابس الريفية الثقيلة، تعلوها وجوه سمراء ناطقة بالرهبة والقلق، والتقطت عيناي البعض ممن ارتدوا ملابس أوروبية أنيقة، وأخفوا عيونهم خلف نظارات شمسية داكنة، واستقرت فوق ركبهم حقائب السامسونايت المحكمة. وكان ثمة نساء قليلات، كشف بعضهن عن أذرع بضة تحمل حقائب يد أشبه بصناديق الأحذية أو المجوهرات. ولم تكن بينهن فلاحة واحدة.
ارتفعت الطائرة أخيرا، فختم جاري الابتهالات التي كان يغمغم بها في صوت مسموع. وبعد قليل غاب الضوء عن الإشارة التي تطلب الامتناع عن التدخين، وجاءنا صوت قائد الطائرة مقدما نفسه، معينا السرعة والارتفاع، والمسافة الزمنية التي تفصلنا عن بيروت.
فككت حزام المقعد، وأخرجت علبة سجائري المصرية من جيبي، وأشعلت واحدة. اكتشفت من أول نفس أن الدخان يتسرب من ثقوب عديدة بها، فأطفأتها في منفضة المقعد. وقررت أن أؤجل التدخين بعض الوقت، مقللا من احتمالات الإصابة بالسرطان.
خاطبني جاري كأنما يواصل حديثا بيننا: ألم تنته الحرب من سنتين؟ لماذا إذن هذه الإجراءات؟
ناپیژندل شوی مخ
لم أفهم لأول وهلة أية حرب وأية إجراءات يعني، ثم أدركت أنه يشير إلى الحرب الأهلية اللبنانية، والتفتيش المتكرر الذي تعرضنا له.
أدرت رأسي نحوه وقلت: احتياطات لا ضرر من ورائها.
طالعني وجه أسمر لكهل في الستين، تتوسطه عينان ماكرتان، وتحف به لحية رمادية خفيفة، مدببة الطرف.
طافت عيناه بملابسي وشعري، وتمهلت عند إصبعي الخالي من خاتم الزواج، وبشائر الشعر الأبيض فوق رأسي. وتجلى فيهما تركيز بالغ وهو يتأمل الحقيبة الجلدية الملقاة بين قدمي.
شعرت بحاجة ماسة إلى الشراب، فأدرت رأسي إلى الناحية الأخرى، وملت بها في الممر الفاصل بين المقاعد، ملتمسا إحدى المضيفات. أحصيت في ذهني ما أحمل من دولارات مفردة. وقررت أن أطلب علبة بيرة، ثم تذكرت أن ثمنها يتجاوز نصف الدولار دون أن يبلغه كله. والغالب أن المضيفة لن تعيد إلي باقي الدولار؛ لأن الطائرة عربية، ونحن جميعا عرب. وبهذا الدولار يمكنني أن أحصل على كأس من الويسكي أو الجين، يبعث شيئا من الحيوية في عروقي.
استدار أحد ركاب الصف المقابل ناحيتي، قابضا على مسند مقعده بأصابع يكسوها طلاء أصفر اللون، وخاطب راكبا خلفي بلهجة مصرية، سائلا إياه عما إذا كان قد اشترى المسجلة من السوق الحرة.
أومأ السعودي إليه قائلا: هؤلاء ذاهبون للعمل في العراق. وهم مضطرون للسفر عن طريق بيروت؛ فمطار بغداد مغلق ومطار عمان لم يعد يحتمل المزيد.
اشتدت حاجتي إلى الخمر. ومرت المضيفة فطلبت منها كأسا من الويسكي. ولم أعبأ بنظرة الاستهجان التي رماني بها السعودي.
سألني بعد لحظة: بيروت وجهتك أم ذاهب إلى مكان آخر؟
قلت: لا، بيروت. - الشرقية أم الغربية؟
ناپیژندل شوی مخ
أوشكت أن أجيب تلقائيا بأنها الشرقية، ثم تذكرت أن بيروت هي المكان الوحيد في عالم اليوم الذي تنقلب فيه المدلولات السياسة للأوضاع الجغرافية.
قلت: الغربية، وأنت؟
قال: عندي أشغال في أماكن كثيرة.
أحضرت لي المضيفة زجاجة صغيرة للغاية تضم كأسا واحدة، وكوبا به قطع من الثلج. فتحت الزجاجة وصببتها في الكوب ثم هززته عدة مرات ورفعته إلى شفتي.
سرت الحرارة في جوفي، فأشعلت سيجارة، وأخذت أنفاسها ببطء.
سألني: سياحة أم عمل؟
أجبت: عمل. - أول مرة؟ - لا.
أفرغت الكأس، وشعرت على الفور بالرغبة في كأس أخرى.
عاد يسألني: معك عقد أم ذاهب للبحث عن واحد؟ - يمكنك أن تقول إني ذاهب للبحث.
سأل في اهتمام: ما هو عملك بالضبط؟ - الكتابة. - صحفي؟ - ليس تماما. - يعني لست ذاهبا للبحث عن عمل في إحدى الصحف؟
ناپیژندل شوی مخ
هززت رأسي نفيا.
قال: إذن ستبحث عن جهة تكتب لها؟ - أبدا، سأبحث عن ناشر لكتاب ألفته.
استغرق في التفكير، فسألته بدوري: وأنت .. ما عملك؟ - أنا كما تقولون باللهجة المصرية مقاول. - مقاول ماذا؟ - كل شيء.
ولوح بيده مشيرا إلى ركاب الطائرة من المصريين وهو يضيف: عندي مئات من هؤلاء في السعودية.
جعلت أتخيل الكأس الثانية.
سألني: هل تعرف مخرجا سينمائيا يدعى صبحي توفيق؟
فكرت قليلا، ثم أجبت بالنفي.
قال: كان عندي هذا الصباح في الهيلتون.
لم أعلق بشيء. وسكت هو لحظة ثم واصل أسئلته: لماذا لم تنشر كتابك في مصر؟
أجبت: لا أحد يريد نشره. - هل هو أول كتاب لك؟ - لا. - لا بد أنه كتاب سياسي.
ناپیژندل شوی مخ
قلت: بالعكس، إنه كتاب إباحي.
طرفت عيناه بسرعة ثم ركن إلى الصمت. وبعد قليل سألني في تردد: هل تكسب .. هذه الكتب؟
أجبت: أوهوه .. كثيرا.
أحسست أني أستحق كأسا أخرى، فقررت التضحية بدولار ثان. وأفضيت بمطلبي إلى المضيفة عندما مرت توزع الصحف.
أخذت منها صحيفتين لبنانيتين، ناولت إحداهما لجاري. ولمحت معها عدة صحف أمريكية فأخذت إحداها. ألقيت نظرة على النصف الأسفل للصحيفة اللبنانية، فألفيته موزعا بين ثلاثة موضوعات رئيسية؛ الأول عن المؤتمر الصحفي الذي عقده ريجان بعد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة. والثاني عن قصف إسرائيلي جديد للجنوب اللبناني. أما الثالث فكان يتضمن تصريحا لوزير خارجية العراق يدافع فيه عن الحرب التي شنتها بلاده على إيران قائلا إنها ستحرر القوى الاقتصادية والعسكرية العراقية من «الشاغل» الإيراني لتصبح قادرة على التصدي للخطر الإسرائيلي.
بسطت الجريدة فطالعني في صدرها عنوان كبير نصه: «قرارات حاسمة بوقف إطلاق النار في بيروت الغربية». بحثت عن التاريخ فوجدته السابع من نوفمبر، تشرين الثاني 1980، وهو تاريخ اليوم. عدت إلى النبأ فقرأت ما يلي: «تم في الساعات الأخيرة اتخاذ قرارات حاسمة لتطويق الاشتباكات التي جرت في اليومين الأخيرين ببيروت الغربية، وذلك في أعقاب سلسلة من الاتصالات بين قادة الأحزاب والهيئات اللبنانية، والمنظمات الفلسطينية، والسلطات السورية.»
وقرأت أسفل ذلك التفاصيل الكاملة للأحداث المشار إليها. وقد بدأت عندما كانت سيارة رئيس نقابة بائعي الخضر في بيروت الغربية، ويدعى «منير فتحة»، تحاول العبور في أحد التقاطعات قبل سيارة أخرى يقودها أحد أعضاء الحزب القومي الاجتماعي. وتبادل السائقان الشتائم، ثم أشهر كل منهما مسدسه في وجه الآخر. وبادر سائق السيارة الثانية بإطلاق النار فأصاب رئيس النقابة في مقتل، وسارع بالفرار.
وما إن علم بالحادث ابن القتيل، وهو من قادة التنظيم الناصري المعروف باسم «المرابطون» حتى شكل في الحال مجموعة عسكرية من أعضاء التنظيم هاجمت منزل بشير عبيد، أحد زعماء الحزب القومي الذي ينتمي إليه القاتل. ووجد المهاجمون لديه زعيما آخر من زعماء الحزب هو الشاعر كمال خير بك، وابنة أخته الشابة ناهية بجاني، فأعدموا الثلاثة. وتفجرت الاشتباكات بين أعضاء الحزبين على إثر ذلك.
فتشت في أنحاء الصحيفة عن تفصيلات جديدة فلم أجد سوى إشارة إلى افتتاحية لجريدة «السفير» اللبنانية تقول فيها إن الميليشيات المسلحة في الغربية، سواء كانت تابعة أو محسوبة على الحركة الوطنية أو المقاومة الفلسطينية أو الحكومة السورية، أو - بتعبير الصحيفة - «فاتحة على حسابها»، هي المسئولة عن الانفلات الأمني والتسيب، وما يقع في ظلهما من جنايات وجرائم، ابتداء من القتل والسطو المسلح، إلى فرض الإتاوات واغتصاب الشقق والبنايات، إلى تكدس النفايات.
وضعت الجريدة جانبا، وبسطت الجريدة الأمريكية. كانت بتاريخ اليوم السابق. وعثرت في ذيل الصفحة الأول على مربع صغير بعنوان: «الحرب التي لا تريد أن تنتهي». ومرت عيناي بسرعة على السطور التالية: «تعطي الاشتباكات المسلحة التي جرت أمس في بيروت الغربية صورة بالغة الدلالة لما وصلت إليه الأمور في لبنان، منذ اندلاع الحرب الأهلية في سنة 1975، بين أبناء هذا البلد الجميل (3 ملايين نسمة قبل الحرب، انخفضوا إلى مليونين ونصف الآن).»
ناپیژندل شوی مخ
فمن الناحية الرسمية انتهت هذه الحرب عام 1977، بسيطرة قوات الردع العربية التي تتألف غالبيتها من قوات سورية. لكن الاشتباكات المختلفة لم تتوقف حتى الآن بصورة نهائية بين الجانبين المتصارعين. والأكثر من ذلك أن هذه الاشتباكات تركزت في الآونة الأخيرة بين القوى المختلفة داخل كل منهما، بصورة تعيد إلى الأذهن صراع عصابات شيكاغو في العشرينيات والثلاثينيات، والمعارك الدموية بين عائلات المافيا.
ففي 7 يوليو، تموز الماضي، قاد بشير الجميل (33 سنة)، القائد العسكري الشاب لميليشيا الكتائب المارونية، والحاكم الفعلي لبيروت الشرقية، حملة تصفية على مراكز شريكه في الجبهة المارونية، كميل شمعون، أطلق عليها ساخرا لقب «الحركة التصحيحية»، وقتل في ساعات قليلة أكثر من 500 من رجال ميليشيا «النمور» التابعة للأخير. وبالنتيجة، وافق شمعون صاغرا على الاشتراك في اجتماعات المجلس العسكري ل «القوات اللبنانية» بقيادة بشير الجميل، مقابل استمرار حصوله على نصيبه من أرباح ميناء ضبية، بالإضافة إلى مليون دولار نقدا.
وقبل أربعة شهور من مذبحة النمور، انفجرت شحنة متفجرات، تعمل بالتحكم النائي، في سيارة بشير الجميل، فأودت بحياة ابنته مايا (3 سنوات) التي ولدت عشية هجوم آخر دبره أبوها على القصر الصيفي للرئيس السابق سليمان فرنجية، في بلدة أهدن، راح ضحيته ابنه الأكبر طوني (36 سنة) وزوجته فيرا (32 سنة) وابنتهما جيهان (3 سنوات).
وقد رافقت هذه المذابح صعود بشير الجميل، وسعيه لفرض زعامته على الجبهة المارونية أو «الجبهة اللبنانية» كما تسمي نفسها، والتي تتألف من قوات بيار الجميل (الكتائب) وشمعون (النمور) وفرنجية (المردة)، فضلا عن شربل قسيس (المجلس الدائم للرهبانيات)، وإتيين صقر (حراس الأرز).
وعلى الناحية الأخرى من الخط الأخضر الذي يفصل شطري العاصمة اللبنانية، تدور معارك مماثلة بين القوى العديدة التي تتألف منها الجبهة المضادة التي تسمى أحيانا بالإسلامية، وأحيانا أخرى بالوطنية، وأحيانا ثالثة بالتقدمية، وأحيانا رابعة باليسارية.
وبالإضافة إلى المنظمات الفلسطينية التي يرتبط بعضها ببلاد عربية متناحرة مثل العراق وسوريا أو السعودية وليبيا، فإن هذه الجبهة تتألف من أحزاب ناصرية يتوزع ولاؤها بين العراق وسوريا وليبيا، وتنظيمين بعثيين يتبع أحدهما العراق، ويسير الآخر خلف القيادة السورية، وآخرين شيوعيين يرفعان راية ماركس ولينين، وحزب اشتراكي يعبر عن الأجنحة الليبرالية في طائفة الدروز، وجماعات إسلامية متفرقة، يمثل بعضها الزعامات التقليدية لطائفتي السنة والشيعة، وهي زعامات شبه إقطاعية تربطها خيوط وثيقة بالأنظمة الملكية في العالم العربي، بينما يمثل البعض الآخر زعامات جديدة لهاتين الطائفتين، يحظى بعضها بمساندة الخميني، ويحظى البعض الآخر بدعم القذافي.
ومن السهل أن تنشب المنازعات بين هذه الجماعات المتباينة، كرد فعل للصراعات القائمة بين الأنظمة العربية، أو بسبب التنازع على مناطق النفوذ. كما أن الشجار التافه في الطريق يمكن أن يؤدي إلى اشتباك واسع النطاق؛ فكل شخص يتبع بصورة أو أخرى أحد التنظيمات أو إحدى الجماعات. وبحكم التفكير العشائري القبلي السائد، لا بد أن تهب الجماعات التي يتبعها إلى نصرته، ظالما أو مظلوما، باللغة الوحيدة السائدة، وهي «لغة المسدس».
وختمت الصحيفة تعليقها قائلة: «إن الساعات القليلة القادمة ستبين ما إذا كان يمكن تطويق الاشتباكات وفرض النظام، أو أن البلاد ستواصل الانحدار إلى هاوية لا يعرف أحد لها قرارا.»
كان السعودي يقرأ صحيفته باهتمام وهو يتطلع إلي بين الفينة والأخرى في قلق، محاولا أن يستشف انطباعي، وتركت وجهي جامدا حتى انتهيت من القراءة، فالتفت إليه وقلت: الظاهر أننا جئنا في الوقت المناسب.
2
ناپیژندل شوی مخ
تناولت جواز سفري من ضابط الجوازات الملول، ودسسته في الحقيبة المدلاة من كتفي، ثم حملت حقيبة السفر في يدي اليمنى، وكيس السوق الحرة في اليسرى، وعبرت حاجز الجوازات إلى صالة المطار الصغيرة، دون أن يحفل أحد بتفتيشي ولو من باب الحماية الجمركية.
مضيت إلى نافذة البنك، فاستبدلت خمسين دولارا بسعر أربع ليرات للدولار الواحد. واتجهت إلى الباب الخارجي للمطار، فبلغته بعد خطوات معدودة. كان ثمة صف من سيارات الأجرة، خارج الباب مباشرة، يشرف عليها شرطي يحمل دفترا. ولمحت السعودي بجوار إحداها، وسمعته يطلب من السائق أن يأخذه إلى المنطقة الشرقية.
تقدمت من السيارة التالية وذكرت وجهتي لسائقها، فغادر مقعده ودار حول السيارة. تبعته وناولته حقيبة السفر ليودعها صندوق السيارة الخلفي، ثم مضيت إلى الشرطي وسألته في صوت خافت عن الأجرة التي يتعين علي دفعها، فقال: ثلاثين ورقة.
صاح السائق من مكانه عند السيارة: ثلاثين ما بتسوى، الكل بيدفع أربعين.
زجره الشرطي برفق وهو يشير إلي أن أركب.
تمسك السائق بموقفه صائحا: ما بدي روح ع الغربية.
عنفه الشرطي: ولاك، ما تصرخ. بتركبه ولا ياخذ السيارة اللي بعدك؟
استسلم السائق وصاح بي: عجل يا زلمة.
ركبت في المقعد الخلفي، وانطلق السائق بالسيارة، وهو يغمغم لنفسه مزمجرا، وقام بدورة سريعة وضعتنا على الطريق الرئيسي.
بدا طريق المطار مهجورا أكثر من المتوقع. وقد انتشرت الحفر وأكوام الأتربة على جانبيه. وأقبلنا على مجموعة من الجنود توارت خلف أحد هذه الأكوام وأحاطت بمصفحة تحمل عبارة «قوات الردع العربية».
ناپیژندل شوی مخ
غمغم السائق: هلق السوريين بيوقفونا.
توقفت سيارتنا أمام الجنود. وفحص أحدهم أوراق السائق ثم طلب جوازي. وبعد أن ألقى نظرة فاحصة داخل السيارة سمح لنا بمواصلة السير.
أشرفنا على مخيم برج البراجنة بمنازله المتواضعة المتلاصقة التي لا تعلو عن طابقين. ومررنا بمجموعة من المسلحين، يحملون شارات الكفاح المسلح الفلسطيني على أكتافهم، وقفوا خلف حاجز من البراميل. أبطأ السائق؛ استعدادا للوقوف، لكنهم أشاروا لنا بالمرور.
سألني السائق دون أن يرفع عينيه عن الطريق: وين بالغربية؟
قلت: الحمرا. عند سينما بيكاديللي.
بلغنا نهاية المخيم، فعبرنا ميدانا صغيرا، وسرنا في محاذاة مخيم صبرا. اعترضنا ثلاثة رجال في ملابس متواضعة، أحاط أحدهم رأسه بلفاعة من الصوف، وحمل الثاني «صرة» كبيرة من القماش في يده. خاطب أحدهم السائق: المزرعة؟
رفع السائق ذقنه إلى أعلى بالإيماءة اللبنانية الشهيرة التي تعني النفي، وهم بمواصلة السير، فسأله ذو اللفاعة: إيش طريقك؟
أجاب: الحمرا. - وليش ما تفوت م المزرعة؟ - ما بدي.
تدخل عجوز امتلأ وجهه بالغضون: دخيلك يا شوفور. نحنا تأخرنا، واللي بدك إياه خده.
صاح السائق: يا زلمة ما في أفوت من المزرعة، الإخوان هونيك عالقانين.
ناپیژندل شوی مخ
قال حامل «الصرة»: ولك هادا عند جامع عبد الناصر. ليش ما تفوت من هون دوغري للكولا؟
فكر السائق ثم سأل: تنزلوا ع الكولا؟
وافق الثلاثة، فطلب مني السائق أن أنتقل إلى المقعد الأمامي ليجلس الثلاثة معا في الخلف. جلست إلى جواره واضعا حقيبة يدي وكيس السجاير والخمر بيننا.
قال وهو يستأنف السير: هيك انتو يا فلسطينية، مغلبين العالم.
لم يرد عليه أحد. وران الصمت على السيارة بقية الطريق. وبين لحظة وأخرى كنت ألتقط نظرات العجوز في مرآة السائق وهي تنتقل بيني وبينه في توجس.
أشرفنا على ميدان آخر. وبعد قليل انحرفنا إلى اليسار، ومررنا بمبنى كبير تعرض لدمار بالغ ، فلم تبق من واجهته غير فجوات مظلمة متجاورة.
تتابعت مناظر الدمار بينما كان الظلام ينتشر في سرعة. وكان ثمة حوانيت مغلقة على جانبي الطريق الذي خلا من المارة. وانحنى السائق في شارع جانبي ثم توقف بالقرب من جسر علوي.
غادر الثلاثة السيارة، وجمعوا من أنفسهم عدة أوراق مالية ناولها العجوز للسائق قائلا: الله معك.
تفحص السائق النقود ثم صاح: عشر ورقات؟ ما بتكفي. شو فاكريني؟
تبادل الرجال الثلاثة النظرات وقال أصغرهم سنا: هيك بندفع كل مرة. - استقر علينا فجأة كشاف قوي، واقتربت منا سيارة جيب عسكرية. وعندما حاذتنا تبدت على جانبها شارة الكفاح المسلح الفلسطيني.
ناپیژندل شوی مخ
سب السائق في صوت خافت، ووضع النقود في جيبه، ثم ضغط على المسرع، وانطلقت بنا السيارة.
بلغنا أول الحمرا فهم بالوقوف قائلا: هون الحمرا.
قلت: بعد. سأنزل عند السينما.
مضى في الشارع الذي أغلقت حوانيته ومقاهيه، وإن ظهر به قليل من المارة، ثم دلف إلى شارع جانبي. وبدت في عينيه نظرة شاردة كأنما يفكر في معضلة.
هتفت: رايح فين؟ السينما في الشارع.
قال: هلق بنشوف.
مال من النافذة وصاح بسائق تاكسي عابر: احجز لي معك يابو حسن.
سألته عما يريد أن يحجزه فقال: دور المطار.
جعل ينتقل بين الشوارع على غير هدى فقلت: لازم نطلع على شارع الحمرا نفسه. السينما هناك.
لم يرد علي، واتجه إلى ناصية تجمع عندها عدد من الشبان المسلحين بالمدافع الرشاشة. أبرز رأسه من النافذة صائحا: مرحبا يا شباب، وين سينما بيكاديللي؟
ناپیژندل شوی مخ
اقترب أحدهم منا وأراح مدفعه على حافة النافذة، ألفيته صبيا صغير السن، لم يكد شاربه يتجلى. تأملني في إمعان، ثم تحول إلى السائق وشرح له الطريق.
قال ونحن نستأنف السير: هادي الشوارع كلها مثل بعضها.
قلت محاولا تقليد اللهجة اللبنانية: باين عليك ما بتعرف شوارع بيروت منيح. - نحنا جينا من الجنوب في الثمانية وسبعين بعد الغزو الإسرائيلي.
خرجنا إلى شارع الحمرا. وتبينت السينما بعد لحظات، فطلبت منه أن يدخل الشارع المجاور لها. وتعرفت على الفندق الذي أقصده بصعوبة ؛ إذ كان الظلام يلف كل شيء.
استوقفته وغادرت السيارة، ثم استدرت لآخذ حقيبتي وكيسي، فألفيت يده تجوس داخل الكيس، انتزعت الكيس منه في عنف وأنا أقول: يا أخي عيب.
غادر مقعده صامتا ورفع باب الصندوق الخلفي، ثم أخرج حقيبتي ووضعها على الأرض.
أحصيت ثلاثين ليرة ثم أضفت إليها خمس ليرات وأعطيتها له، فوضعها في جيبه صامتا وانطلق بسيارته. حملت أشيائي وعبرت الطريق.
كانت ردهة الفندق تضيئها أنوار خافتة. وتناثر عدد من الشبان على مقاعد جلدية متآكلة. وكان بينهم بعض المسلحين.
عاملني موظف الاستقبال دون حماس. وطلبت أرخص غرفة بحمام، فأعطاني واحدة بأربعين ليرة في الليلة. وحمل شاب صغير السن حقيبتي في تثاقل وصحبني في مصعد إلى الطابق الرابع، ثم تقدمني إلى غرفة ضيقة للغاية، امتد بساط ممزق فوق أرضها.
أعطيته ليرة فأخذها بغير اكتراث. وأغلقت الباب خلفه بالمفتاح، ثم انحنيت على حقيبة الملابس ففتحت قفلها، ورفعت غطاءها وأملته على الأرض. ركعت على ركبتي وتحسست بطانة الغطاء بأصابعي، ثم جذبت إطارا رفيعا من الجلد يدور حول محيط الغطاء. واستسلم الإطار لأصابعي؛ فانفصل عن الغطاء كما يفعل الشريط اللاصق.
ناپیژندل شوی مخ
ظهر شق رفيع في بطانة الغطاء. مددت أصابعي داخله واستخرجت ثلاثة مظاريف متوسطة الحجم، صفراء اللون. أعدت الغطاء إلى مكانه وأغلقت الحقيبة.
أفرغت محتويات المظاريف الثلاثة من أوراق على الفراش، ورتبتها وفقا لأرقام الصفحات، ثم جمعتها كلها في مظروف واحد أودعته حقيبة يدي.
اغتسلت، وعلقت الحقيبة في كتفي، وغادرت الغرفة إلى أسفل. تركت المفتاح لموظف الاستقبال، واتجهت إلى الخارج. وإذا بأحد الشبان يستوقفني هاتفا: وين رايح يا أستاذ؟
تطلعت إليه متسائلا، فأضاف: شو، جنيت؟ هلق الشوارع خطرة.
ترددت قليلا وتلفت حولي. لمحت جهاز التليفون في أحد الأركان، فاتجهت إليه وأنا أخرج مفكرتي من جيبي.
3
عرفت وديع مسيحة عندما التحقت بالمدرسة الثانوية. كنا ندرس في نفس القاعة، لكنه كان يجلس بعيدا عني. وكنا جميعا نرتدي البنطلونات القصيرة، عدا اثنين أو ثلاثة من الأولاد الكبار، ونستمد لذة غامضة من احتكاك ركبنا العارية. وفي بعض الدروس كنا نتبادل الأماكن لهذا الغرض، فيجلس كل واحد إلى جوار من يميل إليه. وكنت أحرص في هذه المناسبة على مجاورته؛ فقد كانت ساقه طويلة، ذات بطن ممتلئة، وإبط ناعم.
لم نكن نتبادل الزيارات المنزلية كثيرا؛ فلم تكن أمي ترحب بمجيئه، كما أن بيته كان يثير في النفور والرهبة؛ فقد كان مظلما في وضح النهار، مزدحما بقطع الأثاث القديم، لا يتردد به صوت، وتفوح في أرجائه رائحة مميزة هي مزيج من زيت القلي والعفن الناشئ عن رطوبة الجدران.
وذات مرة قلت له إنه «عظمة زرقاء» دون أن أفهم معنى العبارة. وإذا بوجهه يشحب ويغضب مني، ثم يقاطعني. وبعدها بأسبوعين أقبلت عليه صدفة بعد انصرافنا من المدرسة، وقد أحاط به عدد من الصبية الكبار في صفنا وجعلوا يرددون: «عظمة زرقاء»، وروعتني النظرة التي ارتسمت في عينيه. كانت ناطقة بذعر لم يسبق لي أن رأيته في عيني إنسان.
تجددت علاقتنا في الجامعة التي دخلناها معا بعد قيام الثورة بشهور؛ فقد ألفينا أنفسنا في مجموعة واحدة من شباب متحمس، نقرأ سارتر وجوركي ولوفافر، ونهاجم طه حسين دفاعا عن الواقعية الاشتراكية، وحكومة «العسكر» دفاعا عن الديمقراطية. ونذرع شوارع القاهرة على أقدامنا، بأحذية مثقوبة. ثم نعتقل جميعا عندما أحكم جمال عبد الناصر قبضته الحديدية في مارس (آذار) 1954م. ودخلنا السجن معا بعد ذلك، في أوج معركة عبد الناصر مع اليسار.
ناپیژندل شوی مخ
لكنه غادر السجن بعد أسبوع واحد فقط، بينما بقيت أنا به حتى صدور العفو العام سنة 1964. ووجدت عملا بعد فترة في إحدى الصحف، فألفيته يعمل بها. كان قد صار عضوا بارزا في التنظيم السياسي الحكومي، الاتحاد الاشتراكي العربي، لكن الكل كانوا يسعون إلى عضويته؛ ولهذا لم يكن من الصعب أن تتفق أفكارنا وآراؤنا. وكانت صدمتنا واحدة عندما أسفر العدوان الإسرائيلي عام 1967 عن هزيمتنا.
وفي العام التالي عين في مكتب الجريدة ببيروت. وكان السفر وقتها حلمنا جميعا، والأسهل منه الخروج من ثقب الإبرة. ولم أتمكن منه إلا بعد أن استقلت من الجريدة، واستعنت بوساطات عدة. وذهبت إلى بيروت فاستضافني بضعة أسابيع. ثم غادرت لبنان ولم أره لسنوات طويلة. لكني عرفت أنه تزوج من قريبة له، وأصبح مديرا لمكتب الجريدة في العاصمة اللبنانية، ولم يدهشني ذلك؛ لأنه كان قديرا في عمله، يقيم أوثق العلاقات بالشخصيات الهامة من مختلف الأحزاب والاتجاهات، ويحتفظ بأرشيف دقيق لكافة المعلومات.
ونقلته الجريدة إلى مقرها الرئيسي في القاهرة بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. لكنه ظل يسعى حتى استعاد منصبه ببيروت في منتصف 1976. وعندما استدعي إلى القاهرة بعد سنة رفض العودة، واستقال من الجريدة، ثم التحق بصحيفة يمولها العراقيون، وانتقل منها أخيرا إلى وكالة خاصة للخدمات الصحفية، يديرها صحفي لبناني نشط يدعى نزار بعلبكي.
لم أجد صعوبة في الحصول على رقم تليفون مسكنه من مقر الوكالة. وانتظرته في بهو الفندق حتى جاءني بعد ربع ساعة. تعانقنا بحرارة وكل منا يدرس التغيرات التي طرأت على الآخر. وعلق على لون شعري، بينما نددت بامتلاء جسده والنظارة الطبية التي غطت نصف وجهه، ثم قادني إلى الخارج متجاهلا إشارتي إلى التحذيرات التي وجهت إلي عن أخطار الطريق، قائلا: معي عدة هويات للمواقف المختلفة، ثم إننا لن نذهب بعيدا.
ولجنا بارا في شارع قريب، خلا تماما من الزبائن. وسألني ونحن نجلس: هل ستبقى طويلا؟
قلت: بضعة أيام. على قد فلوسي. - ستنشر شيئا؟ - أجل، كتاب عند عدنان الصباغ. - لكنه ليس الآن في بيروت على ما أظن.
تطلعت إليه في قلق وقلت: لقد تواعدنا على اللقاء هنا يوم الإثنين. هل تظن أن الأحداث الأخيرة يمكن أن تفسد هذا اللقاء؟ - ما حدث شيء عادي يتكرر كل يومين. وقد تعود اللبنانيون على ذلك، وأصبحت الحياة تسير بصورة طبيعية مهما حدث، بل هناك شركة لطائرات الهليكوبتر تنقل الناس عبر المناطق المتحاربة حتى لا تتعطل أعمالهم.
أحضر لنا النادل كأسين من الويسكي. وتطلعت حولي فوجدت أننا ما زلنا الزبائن الوحيدين أسفل الأضواء الخافتة. وكان عامل البار يتبادل حديثا هامسا مع اثنين من زملائه وهم يلتفتون إلى الباب بين الفينة والأخرى.
جاءنا فجأة صوت رصاص متقطع في الخارج. وتوقف الحديث الهامس عند البار. أنصتنا جميعا في رهبة. ومضت بضع دقائق دون أن يتكرر الصوت، فعاد الهمس من جديد في تردد.
سألني وديع: أين تعمل الآن؟
ناپیژندل شوی مخ
قلت: ولا في أي مكان. - كيف تعيش إذن؟ - من الكتابة. - هل هذا ممكن؟ - ممكن إذا حصرت احتياجاتك في أضيق الحدود، ثم إن زوجتي كانت تعمل. - سمعت أنكما انفصلتما. - أجل، تباعدت الطرق بالرغم منا. - كان يجب أن تفعل مثلي؛ فأنا وزوجتي لا نجتمع معا إلا في الصيف. وهي تقضي بقية السنة مع الأولاد في القاهرة. - لا أفهم سر إصرارك على عدم العودة إلى مصر.
نفض سيجارته في المنفضة وجعل يرسم بطرفها دوائر وهمية في الهواء، ثم قال: كلما تخيلت نفسي هناك شعرت بالاختناق.
شرد كلانا بعض الوقت ثم سألني: ومن تقابل؟
أجبت: القليلين. لم أعد شغوفا بالحركة كثيرا.
علت شفتيه ابتسامة ملتوية وقال: ابتعدت إذن عن أصدقائك القدامى؟
قلت: أنت تعرف المواصلات الآن وكيف أصبحت. السفر إلى بيروت أسهل من الانتقال بين أحياء القاهرة. - وكيف الأحوال بصورة عامة، الوضع كله؟ - التطبيع مع إسرائيل يسير إلى الأمام. وبالمثل ارتفاع الأسعار وانهيار الخدمات. النهب في اتساع. وعدد المليونيرات ازداد عدة مئات.
تفرس في بإمعان ثم سأل: هل تنوي أن تقابل أحدا بالذات؟ يوجد هنا كثير من الهاربين من مصر. - لقد جئت لغرض واحد فقط، وبمجرد الانتهاء منه سأعود. - حدثني عن كتابك.
أشرت بيدي إشارة مبهمة في الهواء وقلت: إنه عبارة عن رحلة حول العالم العربي تشبه المقامات القديمة؛ فالبطل يظهر في كل بلد ثم يطرد منه ليظهر في بلد غيره، وهكذا دواليك.
ابتسم في شيء من التهكم وقال: الثوري أم الفلسطيني؟
أجبت: ليس بالضرورة.
ناپیژندل شوی مخ
ألقى نظرة على ساعة معصمه وقال: يحسن بنا أن ننصرف الآن قبل أن تصبح الشوارع غير آمنة بالمرة.
دفع الحساب وغادرنا البار بعد أن علقت حقيبتي في كتفي.
قلت ونحن نخطو: سأتوه إن لم توصلني إلى الفندق.
قال: سنذهب الآن إلى منزلي، وفي الصباح نأخذ أغراضك من الفندق.
قلت: ليست هناك ضرورة. لقد أحضرت معي حاجتي من النقود، ثم إني سآخذ عربونا من عدنان خلال أيام؛ فهو موافق على نشر الكتاب.
قال بحسم: ستأتي عندي. - لا أريد أن أسبب لك إزعاجا. - أنا أقيم وحدي؛ فزوجتي والأولاد في القاهرة. وهناك غرفة خالية يمكن أن تستقل بها.
اخترقنا عدة شوارع مظلمة دون أن نلتقي بأحد. وعند أحد التقاطعات برز إلينا مسلحان، ووجها إلينا فوهتي رشاشيهما. لكنهما لم يعترضانا عندما واصلنا السير بثبات.
تنفس وديع بعمق عندما ابتعدنا، وقال في صوت خافت: إنهما يتبعان منظمة جديدة استولت على هذا الشارع من أسبوعين. ولا أعرف أحدا من أفرادها.
عبرنا ساحة أطلت عليها مبان محطمة، فأردف في صوته الطبيعي: الآن صرنا في المنطقة التابعة للمرابطين، ومعي ما يفيد أني عضو عندهم.
سألته: لماذا لا تشتري سيارة؟
ناپیژندل شوی مخ
أجاب: عندي واحدة لكني أخاف ركوبها.
انطلقنا في شارع قامت على جانبيه عمائر حديثة البناء. وتوقف وديع أمام واحدة تغطى مدخلها بشبكة معدنية متينة، فدق عليها بقوة وهو يصيح مناديا: أبو شاكر.
كان ثمة باب في أقصى المدخل، انفرج عن عجوز ملتح، رث الثياب، حمل في يده سلسلة من المفاتيح. وتبينت عندما اقترب أنه يتمنطق بحزام عسكري يتدلى منه مسدس.
فتح لنا أبو شاكر في صمت. وأخذنا المصعد إلى الطابق الثالث، ثم تبعت وديع إلى مسكن أنيق من غرفتين وصالة ممتدة، انتشرت حشيات خان الخليلي في أرجائها، واستقر مكتب خشبي في ركن منها.
قلت: شقة ظريفة. كم تدفع فيها؟
قال: أربعة آلاف دولار في السنة. وهو ثمن رخيص؛ لأني أخذتها من مدة.
جلست فوق أريكة مريحة في مدخل الصالة. وقرب وديع مائدة صغيرة مني، ووضع فوقها زجاجة ويسكي وإناء من قطع الثلج وكوبين.
قلت: أحضرت لك زجاجة ويسكي معي.
قال: الخمور هنا رخيصة؛ فهي تباع بأسعار السوق الحرة تقريبا.
صب لي كأسا، وأضاف: المنظمات هي التي تجبي الرسوم الجمركية من الموانئ الواقعة في مناطقها. ويلجأ الموارنة إلى تخفيض الرسوم على السجائر والخمور وأجهزة التليفزيون؛ لإغراء التجار بالتعامل مع موانيهم. ويضطر الآخرون إلى مجاراتهم.
ناپیژندل شوی مخ
نقلت البصر بين الأنتيكات الفرعونية والإسلامية التي انتشرت فوق رفوف تغطي أحد الجدران، ولمحت بينها صليبا تدلت صورة البابا شنودة من أحد أطرافه.
تطلعت إليه، فاحمر وجهه بشدة، وقال: زوجتي هي التي علقتها.
صببت لنفسي كأسا واضطجعت إلى الخلف.
قلت: هل تذكر المرأة التي كانت تتردد عليك في 68؟
قال: من تقصد؟
قلت: تلك التي قالت إنها تتقاضى عادة خمسين ليرة في المرة، ولأنها تحبك ستجعلها أربعين.
بدا أنه قد نسي الأمر تماما، أو تظاهر بذلك. وكان قد طلب مني مرة أن أتغيب عن البيت أياما معينة في الأسبوع قائلا إنه يستقبل سيدة لبنانية متزوجة. ولمحتها ذات مرة عند خروجي، فأثار مظهرها شكوكي. وعندما ضيقت عليه الخناق قال إنها تحتاج إلى نقود كي تستبدل الثلاجة، وأنها ذكرت له أنها تتقاضى عادة خمسين ليرة، لكنها تحبه ولهذا ستخفضها إلى أربعين. وأبديت استعدادي لدفع الليرات الخمسين، فعرض عليها الأمر، لكنها رفضت بإباء وغضبت منه؛ فكيف يتصرف هكذا وهما يتبادلان الحب؟
سألته: هل توجد مصريات هنا؟
قال: طبعا، مغامرات وراقصات وباحثات عن أنفسهن. أعرف واحدة من الطالبات اللاتي اشتركن في مظاهرات 73. حلت ببيروت أثناء الحرب. وجاءتني في أحد الأيام بحثا عن مكان للمبيت. ولم تكن زوجتي هنا.
سكت فسألته: وبعدين؟
ناپیژندل شوی مخ
قال: حذرتني من أن أستغل الموقف، وقالت باعتداد إنها ستدعوني من تلقاء نفسها إذا شاءت. - ودعتك؟ - مرة. لكني هربت منها. - لماذا؟ - خفت.
نهض واقفا وهو يقول: الآن موعد المياه النقية؛ فهي تأتي في الصباح الباكر لمدة ساعتين، وتنقطع بقية اليوم عدا ساعتين قبل منتصف الليل. سأملأ عدة زجاجات.
قلت وأنا أتبعه إلى المطبخ: أنت أسعد حظا منا في القاهرة؛ فنحن لا نحصل على دقيقة واحدة من المياه النقية، فضلا عن انقطاع المياه الملوثة نفسها معظم النهار.
4
أعطاني وديع غرفة ولديه، وبيجامة فضفاضة لم أستعملها. ورغم ما كنت أشعر به من إرهاق، تقلبت في الفراش طويلا دون أن يغمض لي جفن. وأخيرا غفوت بعد أن تناهى إلى سمعي ما خلته صوت انفجار بعيد. لكني لم أنم غير ساعات قليلة، واستيقظت بمجرد أن انتشر ضوء الشمس في الغرفة.
حاولت العودة إلى النوم دون جدوى فغادرت الفراش. ارتديت القميص والبنطلون، وخرجت إلى الصالة. ألفيت وديع يقرأ صحيفة، وقد قربها من عينيه المجردتين من النظارة. وجهت إليه تحية الصباح، واتجهت إلى الحمام. كانت المياه باردة، وليس ثمة أثر لجهاز تسخين رغم وجود صنبورين للحوض.
فتحت باب الحمام وهتفت: كيف تعيش في باريس الشرق دون مياه ساخنة؟
رد علي قائلا: التسخين مركزي يا أستاذ. افتح الصنبور الأيسر.
أخذت حماما سريعا، ثم ارتديت ملابسي، ومشطت شعري، ومضيت إلى الصالة. ناولني وديع الصحيفة قائلا: أنباء سيئة.
طالعني عنوان رئيسي عن اعتداءات إسرائيلية جديدة بطائرات الفانتوم وسكاي هوك على مدينتي صور والنبطية في الجنوب، راح ضحيتها 33 قتيلا وجريحا، وتهدم من جرائها 16 منزلا. وأسفل ذلك عنوان رئيسي آخر عن عودة الحياة الطبيعية إلى بيروت الغربية.
ناپیژندل شوی مخ