ظهر شق رفيع في بطانة الغطاء. مددت أصابعي داخله واستخرجت ثلاثة مظاريف متوسطة الحجم، صفراء اللون. أعدت الغطاء إلى مكانه وأغلقت الحقيبة.
أفرغت محتويات المظاريف الثلاثة من أوراق على الفراش، ورتبتها وفقا لأرقام الصفحات، ثم جمعتها كلها في مظروف واحد أودعته حقيبة يدي.
اغتسلت، وعلقت الحقيبة في كتفي، وغادرت الغرفة إلى أسفل. تركت المفتاح لموظف الاستقبال، واتجهت إلى الخارج. وإذا بأحد الشبان يستوقفني هاتفا: وين رايح يا أستاذ؟
تطلعت إليه متسائلا، فأضاف: شو، جنيت؟ هلق الشوارع خطرة.
ترددت قليلا وتلفت حولي. لمحت جهاز التليفون في أحد الأركان، فاتجهت إليه وأنا أخرج مفكرتي من جيبي.
3
عرفت وديع مسيحة عندما التحقت بالمدرسة الثانوية. كنا ندرس في نفس القاعة، لكنه كان يجلس بعيدا عني. وكنا جميعا نرتدي البنطلونات القصيرة، عدا اثنين أو ثلاثة من الأولاد الكبار، ونستمد لذة غامضة من احتكاك ركبنا العارية. وفي بعض الدروس كنا نتبادل الأماكن لهذا الغرض، فيجلس كل واحد إلى جوار من يميل إليه. وكنت أحرص في هذه المناسبة على مجاورته؛ فقد كانت ساقه طويلة، ذات بطن ممتلئة، وإبط ناعم.
لم نكن نتبادل الزيارات المنزلية كثيرا؛ فلم تكن أمي ترحب بمجيئه، كما أن بيته كان يثير في النفور والرهبة؛ فقد كان مظلما في وضح النهار، مزدحما بقطع الأثاث القديم، لا يتردد به صوت، وتفوح في أرجائه رائحة مميزة هي مزيج من زيت القلي والعفن الناشئ عن رطوبة الجدران.
وذات مرة قلت له إنه «عظمة زرقاء» دون أن أفهم معنى العبارة. وإذا بوجهه يشحب ويغضب مني، ثم يقاطعني. وبعدها بأسبوعين أقبلت عليه صدفة بعد انصرافنا من المدرسة، وقد أحاط به عدد من الصبية الكبار في صفنا وجعلوا يرددون: «عظمة زرقاء»، وروعتني النظرة التي ارتسمت في عينيه. كانت ناطقة بذعر لم يسبق لي أن رأيته في عيني إنسان.
تجددت علاقتنا في الجامعة التي دخلناها معا بعد قيام الثورة بشهور؛ فقد ألفينا أنفسنا في مجموعة واحدة من شباب متحمس، نقرأ سارتر وجوركي ولوفافر، ونهاجم طه حسين دفاعا عن الواقعية الاشتراكية، وحكومة «العسكر» دفاعا عن الديمقراطية. ونذرع شوارع القاهرة على أقدامنا، بأحذية مثقوبة. ثم نعتقل جميعا عندما أحكم جمال عبد الناصر قبضته الحديدية في مارس (آذار) 1954م. ودخلنا السجن معا بعد ذلك، في أوج معركة عبد الناصر مع اليسار.
ناپیژندل شوی مخ