31
وفي فجر اليوم الموعود الذي انتظرته طويلا هبت من الفراش في خفة صبيانية من الفرح كأنها ملك يعود إلى عرشه بعد نفي ... ونزلت إلى حجرة الفرن متداركة عادتها التي انقطعت عنها ثلاثة أسابيع، فنادت أم حنفي، واستيقظت المرأة وهي لا تصدق أذنيها، ثم نهضت إلى سيدتها فعانقتها ودعت لها، ثم باشرتا عمل الصباح في سرور لا يوصف، وعند شروق أول شعاع للشمس صعدت إلى الدور الأول، فتلقاها الأبناء بالتهاني والقبل، ثم مضت إلى حيث ينام كمال فأيقظته، وما فتح الغلام عينيه حتى بهت دهشة وفرحا، ثم تعلق بعنقها ولكنها بادرت إلى التخلص من ذراعيه برقة وهي تقول: ألا تخاف أن ترد كتفي إلى ما كانت عليه؟
فأمطرها قبلا ثم ضحك متسائلا في خبث: متى يا عزيزتي نخرج معا مرة أخرى؟!
فأجابته بلهجة لا تخلو من عتاب باسم: عندما يهديك الله فلا تسوقني رغم إرادتي إلى الطريق الذي كدت أهلك فيه!
وأدرك أنها تشير إلى عناده الذي كان السبب المباشر فيما وقع لها، فضحك ملء فيه ضحك مذنب واتته النجاة بعد أن ظل ذنبه معلقا فوق رأسه ثلاثة أسابيع، أجل لشد ما خاف أن يجر التحقيق الذي باشره إخوته إلى معرفة الجاني المستتر، وقد أوشكت الريبة التي سلطتها عليه خديجة حينا وياسين حينا آخر تكشفه في الركن المنزوي فيه لولا صمود أمه في الدفاع عنه، وتصديها لتحمل مسئولية الحادث وحدها، فلما انتقل التحقيق إلى يدي والده تناهى به الخوف، وتوقع بين لحظة وأخرى أن يدعى إلى مقابلته، هذا إلى عذابه - طوال الأسابيع الثلاثة - وهو يرى أمه المحبوبة طريحة الفراش، شديدة العناء، عاجزة عن الاستلقاء والنهوض معا ... الآن مضى الحادث، ومضت في أثره عقابيله، وانتهى التحقيق، وعادت أمه توقظه في الصباح، وسوف تنيمه في المساء، رجع كل شيء إلى أصله، ونشر الأمان ألويته، فحق له أن يضحك ملء فيه، وأن يهنئ ضميره على الراحة المتاحة.
وغادرت الأم الحجرة فصعدت إلى الدور الأعلى، ولما تدانت من باب حجرة السيد ترامى إليها صوته وهو يردد في صلاته: «سبحان ربي العظيم » فخفق قلبها، ووقفت على قيد خطوة من الباب كالمترددة، ثم وجدت نفسها تتساءل: «أتدخل لتصبح أو الأجدر أن تعد مائدة الفطور أولا؟» لا على سبيل التساؤل حقا ولكن فرارا مما شاع في نفسها من الخوف والخجل، أو كليهما معا، كما يقع للإنسان أحيانا أن يخلق مشكلة وهمية يلوذ بها من مشكلة راهنة يشق عليه فضها ... ومضت إلى حجرة المائدة فأقبلت على العمل بعناية مضاعفة، إلا أن قلقها تزايد، فلم تنتفع بمهلة التأجيل التي اقتنصتها، ولم تجدها راحة كما أملت ولكن محنة انتظار أشد عناء من الموقف الذي نكصت عن مواجهته ... وعجبت كيف جفلت من دخول «حجرتها» كأنها كانت تهم بدخولها لأول مرة، خاصة وأن السيد لم ينقطع عن زيارتها يوما بعد يوم في أثناء رقادها، ولكن الحق أن برءها رفع عنها الحماية التي ضربها حولها المرض، فشعرت بأنها ستلقاه بمفردها لأول مرة مذ كشفت خطيئتها ... ولما جاء الأبناء تباعا خفت وحشتها قليلا، وما لبث أن دخل السيد الحجرة في جلبابه الفضفاض، ولكن لم يبد في وجهه أثر لدى رؤيتها، وقال بهدوء وهو يتجه إلى مكانه في المائدة: جئت؟ (ثم مخاطبا الأبناء وهو يتخذ مجلسه) ... اجلسوا.
وأخذوا في تناول فطورهم على حين وقفت هي بمكانها المعتاد، ومع أن الخوف تناهى بها حال دخوله إلا أنها مضت تسترد أنفاسها بعد ذلك، أي بعد أن تم أول لقاء بعد الشفاء ومر بسلام، وشعرت عند ذاك بأنها لن تجد مشقة في الانفراد به في حجرته عما قليل ... وانفضت المائدة فعاد السيد إلى حجرته، ولحقت به بعد دقائق حاملة صينية القهوة التي وضعتها على الخوان، وتنحت جانبا في انتظار فراغه من احتسائها لتساعده على ارتداء ملابسه. وحسا السيد قهوته في صمت عميق، لا ذاك الصمت الذي يقع عفوا أو كالراحة عقب التعب أو كغطاء لصدر فارغ من شئون الحديث، ولكنه صمت صامت مسربل بالتعمد، ولم تكن تعدم أملا - ولو ضعيفا - في أن يتعطف عليها بكلمة رقيقة، أو في الأقل أن يلم بشأن من شئون حديثه المعتاد في مثل هذه الساعة من الصباح، فحيرها صمته المتعمد وعادت تسائل نفسها: ترى ألا يزال بنفسه شيء؟ وأخذ القلق ينشب إبره في قلبها مرة أخرى، على أن الصمت الغليظ لم يمتد طويلا ... كان الرجل يفكر في سرعة وتركيز لم يذق معهما طعما، لا ذاك التفكير الذي ينبعث من وحي الساعة، ولكن آخر عنيدا قديما لم يزايل نفسه طوال الأيام المنقضية ... وأخيرا تساءل دون أن يرفع رأسه عن فنجان القهوة الفارغ: استرددت صحتك؟
فقالت أمينة بصوت خفيض: الحمد لله يا سيدي.
فاستطرد الرجل قائلا بمرارة: إني أعجب - وهيهات أن ينتهي لي عجب - كيف أقدمت على فعلتك!
فدق قلبها بعنف وأطرقت في وجوم ... لم تكن تطيق غضبه وهي تدافع عن خطأ ارتكبه غيرها، فكيف بها الآن وهي المذنبة! ... وعقل الخوف لسانها ولكنه بانتظار الجواب، فواصل حديثه متسائلا في استنكار: أكنت مخدوعا بك طوال هذه السنين وأنا لا أدري؟!
ناپیژندل شوی مخ