فوضع عم حمدان سبابته على فيه وهو يغمغم: «هس» ... وتلا آية الكرسي، فتلا كمال في سره - إذ خانته قدرته على الكلام - «قل هو الله أحد» لعلها تطرد الإنجليز كما تطرد العفاريت في الظلام. على أن الباب لم يفتح إلا عند الظهر، فانطلق الغلام إلى الطريق المقفر ثم أطلق للريح ساقيه، وفيما هو يمر بالسلم الهابط إلى قهوة أحمد عبده لمح شخصا صاعدا عرف فيه أخاه فهمي، فهرع إليه كغريق عثرت يده على أداة النجاة، وقبض على ذراعه، فالتفت الشاب نحوه فزعا، ولما عرفه هتف به: كمال؟! أين كنت في أثناء الضرب؟
ولاحظ الغلام أن صوت أخيه مبحوح مطموس المخارج، بيد أنه أجابه بقوله: كنت في دكان عم حمدان، وسمعت الرصاص وكل شيء.
فقال له بعجلته ولهوجته: اذهب إلى البيت ولا تقل لأحد إنك قابلتني ... سامع؟
فسأله الغلام بارتباك: ألا تعود معي؟!
فقال باللهجة نفسها: كلا ... ليس الآن ... سأعود في موعدي المعتاد، لا تنس أنك لم تقابلني قط.
ودفعه حتى لا يدع له فرصة للمناقشة، فاندفع الغلام راكضا، حتى بلغ منعطف خان جعفر، فرأى شبحا واقفا وسط الطريق يشير إلى الأرض، ويخاطب نفرا من الرجال، فنظر حيث يشير فرأى بقعا حمراء ملبسة بالتراب، وسمعه يقول بلهجة رثائية: هذا الدم الزكي يستصرخنا إلى مواصلة الجهاد، وقد شاء الله أن يسفك في رحاب سيد الشهداء لنصل في الاستشهاد حاضرنا بماضينا، والله معنا.
وأحس فزعا يركبه، فاسترد بصره من الأرض الدامية وانطلق يعدو كالمجنون.
56
كانت أمينة تتلمس طريقها إلى باب الحجرة خلال ظلمة السحر، في حذر وتمهل أن توقظ السيد، حين ترامى إلى أذنيها لغط غريب صاعدا من الطريق يطن طنين النحل. لم يكن يطرق أذنيها في هذه الساعة التي اعتادت أن تستيقظ فيها إلا صلصلة عجلات عربات الدبش، وسعال العمال المبكرين، وهتاف رجل يحلو له عند مرجعه من صلاة الفجر أن يردد في الصمت الشامل صائحا بين حين وآخر: «وحدوه»، أما هذا اللغط الغريب فلم تسمعه من قبل، وحارت في تفسيره فتطلعت إلى معرفة مصدره، فمضت بخطواتها الخفيفة إلى نافذة بالصالة مطلة على الطريق، ثم رفعت خصاصها، وأخرجت رأسها، فوجدت في الخارج ظلمة مختلطة عند الأفق ببشائر ضياء، ولكن ليس إلى الحد الذي تستطيع معه رؤية ما يجري تحتها، بيد أن اللغط ازداد ارتفاعا، وازداد في الوقت نفسه غموضا، حتى تبينت فيه أصواتا آدمية مجهولة النسب. دارت عيناها في الظلام الذي أخذت تألفه شيئا ما فرأت تحت سبيل بين القصرين وما يليه من تقاطع النحاسين مع درب قرمز أشباحا آدمية غير واضحة المعالم، وأشياء على هيئة أهرام صغيرات، وأخرى كأنها الأشجار القصار، فارتدت في حيرة ونزلت قاصدة حجرة فهمي وكمال، ثم ترددت، أتوقظه ليرى ما هنالك ويحل لها تلك الألغاز أم تؤجل ذلك إلى حين استيقاظه؟! ثم أبت أن تزعجه طاوية رغبتها، حتى موعد استيقاظه عند مطلع الشمس الوشيك، ثم صلت، ثم عادت مدفوعة بحب الاستطلاع إلى النافذة، فأطلت منها. بدأ وشي الشروق ناشبا في غلالة السحر، وأضواء الصباح تسيل من ذرى المآذن والقباب، فأمكنها أن ترى الطريق في كثير من الوضوح، وفتشت عيناها عن الأشباح التي راعتها في الظلام، فتبينت حقيقتها وندت عنها آهة فزع، وارتدت مهرولة إلى حجرة فهمي، فأيقظته بلا احتراس فانتفض الشاب جالسا في فراشه وهو يتساءل منزعجا: ما لك يا أماه؟
فقالت وهي تلهث: الإنجليز يملئون الطريق تحت بيتنا.
ناپیژندل شوی مخ