ولم ينته من حديثه حتى فتح الباب وخرجت منه امرأة جميلة؛ شعرها الأسود مرسل على كتفيها بأجمل ما توجد الطبيعة، فقدمني البارون لها، فقالت: قد وصفتك ريتا لي وصفا يستحيل علي ألا أعرفك معه، وما لك عندها من الود المصفى يدعوني لأن أخطب لك ودي وأصفيه. - أشكرك يا سيدتي على لطفك والتفاتك إلي. - ما علمته عنك يجعلني لا أشك بلطفك، والآن اسمح لي أن أذهب إلى المطبخ؛ لألقي نظرة. - الناظر؟ - أمهلوني خمس دقائق وأعود إليكما بالحليب والخبز فتأكلان.
ولما ذهبت قال فركنباك: ما رأيك يا مكسيم، إن هذه المرأة أجمل من أختها ...؟ لكن الحذر من ابنتها فهي فتانة، ومع أنها لا تزيد على الثامنة عشر من عمرها، فنظراتها تسحر وحركاتها تأسر، وإياك أن تتمادى معها؛ مخافة أن تحملك أمها على الأدهم، وتعاقبك ولا ترحم، إلا إذا كان لك مقصد حميد، واعلم يا مكسيم، أنك إذا اقترنت بها يكون طالعك سعيدا، وعمرك مجيدا، وتكون نلت أجمل العذارى، وأكملهن، وأفضلهن، وإذا كانت فقيرة بلا صداق، فأنا أمهرها على قدر الطاقة والاستحقاق، وقد كتبت لعمك أقول: «عندك ابن أخ وعندي ابنة أخت فما رأيك ...؟» وأظن أنه لا يمانع ولا يحول دون مرادي.
فسررت بجونريت سرورا بالغا النهاية، لا لما ذهب إليه البارون؛ بل لأني غدوت أرى في البيت غير وجه ريتا.
وبينا الأفكار تثور ودمائي تقوم وتقعد دخلت مع ابنتها، فقالت لي: أقدم لك ابنتي لويزا وقالت لها: أعرفك بالمسيو مكسيم جوشران، كاتم أسرار عمك.
وإذ ذاك دعانا الخادم للطعام، فجعل البارون يده بيد لويزا، وقال: اعط يدك لجونريت.
كان بين الأم وبنتها فرق عظيم، فهي أشبه بريتا أختها، لها مثل صوت تلك ومثل حركاتها ومقاطعها، ومع أن عمرها يفوق عمر تلك بعشرين سنة فهي لم تزل بغضاضتها.
أما لويزا فهي على قول أمها أشبه بأبيها، ذات عينين كعيون الغزال، ومحاسن أقلها الذكاء والإدلال، وكأن الآداب تمثلت فيها والحلاوة استجمعت في فيها، بل كأنها أعطيت هيبة أبيها وجلاله، فما يراها الرائي إلا ويحترمها ويحفظ أدبه أمامها، فأكرم بها حسناء دون أن تتحسن وردية لم تتلون ...! هواك يا عذراء نائم في جنانك، ورائده كامن وراء أجفانك! فما هي إلا نظرة فتنقلب نظراتك وتتغير طباعك ورغباتك.
فقال البارون لجونريت: كيف ريتا اليوم؟ - صحتها اليوم أحسن منها مساء أمس، ولا يمضي أسبوع حتى ترى لك وريثا. - ليت في الناس من يجعل هذا الأسبوع ساعة، فأعطيه مائتي ألف فرنك. - هذه منك غلطة تعد بألف. - كيف؟ - لأن الزمان - كما قيل - هو النسيج الذي تحاك منه الحياة، فينبغي أن نحرص عليه ونستفيد منه. - هذا الفكر ليس لك يا جونريت فهو لفرنكلين. - نعم له، وإنما استعرته لأرد على رأيك الفاسد. - كلامك اليوم من نضار، فسأمسك لساني من الآن فصاعدا. - مائتا ألف فرنك ...؟ نحن نعلم أنك لا تتعب في كسب المال ...! - مثل الكيماويين أليس كذلك؟ سلي مكسيم يخبرك إذا كان المال يأتي من نفسه إلى صندوقي ...؟ وأنت يا لويزا هل عندك مقاصد تتعلق بمجيئك إلى باريس؟ - نعم، أن أسمع الموسيقى وأتمم دروس اللغة الإنكليزية.
فقلت لها: إني أقدم لك إذا أذنت كتابا أبلغ ما كتب في هذه اللغة.
فالتفتت إلى أمها التفاتة معنوية، كمن تطلب إليها إذنا، فقالت أمها: لا بد أن تلك الكتب أدبية تفيد الأخلاق والعوائد. - إن الكاتب لشلي هو شاعر الملكة فيكتوريا، ولا يمكن مثل هذا الشاعر إلا أن يتأدب في كتاباته. - لا بأس إذن.
ناپیژندل شوی مخ