أيكون هذا حبا؟ ومن أين لي بالحب وأنا لم أحس به إلا من أمي؟ أتراني أعرف الحب؟ كل كائن حي يعرف الحب حتى الحيوانات. ولكن هل حبي من ذلك النوع العاصف الذي لا يبقي ولا يذر؟ هل هو هذا الحب الذي يجعل الإنسان قد تحول إلى نبض قلب ووجيب فؤاد بلا تفكير ولا تدبر؟ لا أظن. كل ما أعرفه الآن أنني أريد أن أتزوج إلهام وأنها خير من يصلح لي. ولماذا لا؟ أما حبي فقد بحت به لها ولم أجد منها استنكارا ولا رفضا وفي أول لقاء: - إلهام؟ - نعم. - أريد ... - قل ماذا تريد؟ - أن نتزوج. - أكذب لو قلت لك إنك فاجأتني. - إذن؟ - ألم تتعرف على جوابي بعد كل هذه المرات التي قابلتك فيها؟ - إنه زواج، أن نصبح روحا واحدة في جسدين متلاصقين. الأمر لا يصلح معه التعرف، إنما لا بد من التأكد. - ولكن آباءنا تزوجوا بالأذن وحدها، وربما تزوج بعضهم بالأذن والعين، فما كانا ليلتقيا قبل الزواج وما كانا ليتعارفا. - ربما تقصدين أجدادنا، أما آباؤنا فقد أدركوا عهد التعرف. - ربما. - لم تجيبي. - بل أجبت. - أريدها صريحة. - أنا موافقة. - الجديد في عهدنا أن آخذك بين ذراعي وأنال قبلة، ولم ينتظر إذنها.
رأى من الطبيعي أن يفاتح أمه قبل أبيه: ماما. - هيه. - أريد أن أتزوج. - هكذا، أنت وشهاب في وقت واحد. - هل هناك مانع؟ - بالطبع لا. - إذن؟ - طبعا تعرفت على العروس، وأغلب الأمر اتفقتما. - هل عندك مانع؟ - أبوك رآني مرة واحدة قبل الزواج، ولم يسألني رأيي. - هذا أبي، إنه أمر يتفق تماما مع أخلاقه. لقد تزوج بعقله وحده وبالنفع الذي سيعود عليه من الزواج بك. - ولد! أهذا أسلوب تتكلم به عن أبيك؟ - أنا أصفه، هل عيب أن أصفه؟ - اسكت، اسكت أحسن. قل لي من عروسك؟ - لا أظن أنك تعرفينها؛ فقد كانت زميلتي في الكلية وليست من بنات أصدقائكم. - عرفني بها. - أتعنين أن تريها؟ - قل لي أولا من هي وابنة من، وبعد ذلك أذهب أنا لأراها. - اسمها إلهام وجدي، هل يعني لك هذا الاسم شيئا؟ - طبعا لا، إلا إذا أخبرتني من وجدي هذا؟ وما يعمل؟ و... - لا، لا، اطمئني تماما من هذه الناحية؛ فإنها من أسرة جديرة بكل الاحترام، وأبوها موظف كبير، وجدها من كبار الأغنياء. طبعا هذا الغنى يهم أبي كل الأهمية. - إذن فعلى بركة الله.
وحين جاء هارون عرف من حميدة رغبة ابنه، وسأله: من وجدي والد إلهام يا فائق؟ - اسمه وجدي زين الدين، وجده ...
وفوجئ فائق بأبيه وقد أصبح إنسانا آخر؛ تقلص وجهه، وعلت الكشرة ملامحه، وعلا نبض قلبه حتى ليكاد فائق أن يسمعه، وصاح بابنه: تقول من؟! - وجدي زين الدين. - ابن عبد المجيد زين الدين. - نعم. - ألم تجد في الدنيا كلها إلا حفيدة عبد المجيد زين الدين؟ - وما عيب وجدي زين الدين يا بابا؟ - أبوه يطيق العمى ولا يطيقني. - لماذا؟
وصمت هارون. وماذا يقول؟ فكر قليلا، ثم قال: خصومات قديمة في السوق. - وهل هذه الخصومات تحول بيني وبين زواجي بحفيدته. - نعم أنا أرفض، لن أطلب من ابن عبد المجيد زين الدين يد ابنته ولو انطبقت السماء على الأرض!
أحس فائق في هذه اللحظة أنه إذا كانت رغبته في الزواج من إلهام رغبة عابرة ليس يفجعه ألا تتم، فقد أصبحت الآن رغبة عارمة لا بد لها أن تتم؛ فليس أبوه عنده بالشخص الذي يثق في أسباب خصومته أو صداقته فهو عنده ظنين، علاقاته جميعها تعتمد على المال وحده، ولن أجعل المال يتحكم في رغباتي أنا الآخر وأصبح نسخة أخرى من أبي الذي لم أر منه أنا وأخي لحظة اهتمام بأمورنا. ولولا أن الله أراد لنا الفلاح ما فلحت ولا فلح شهاب. ما رأيك يا هارون بك أنني لن أتزوج إلا من إلهام مهما يكن رأيك في جدها ومهما تكن علاقاتك به.
وكان وجه حميدة شاحبا فقد أحزنها ما فعله زوجها، وأحست في عيني فائق إصراره أن يمضي في طريقه غير عابئ برأي أبيه. وقام فائق وقصد إلى حجرته مغضبا، ونظر هارون إلى زوجته: في ملايين الأرض كلها لم يجد إلا حفيدة عبد المجيد زين الدين! - يا هارون أنت خصومك في السوق كثيرون، وحرام أن تصنع بالولد ما صنعت. - أموت ولا أذهب إلى بيت عبد المجيد زين الدين. - أليس لأبنائك أي حق عليك؟ - أليس لي أنا أي حق على أبنائي؟ - متى سألت عنهم حتى يكون لك حق عليهم؟ - هل أخرت عنهم شيئا؟ - أولادك غيرك يا هارون. - ماذا تقصدين؟ - المال عندهم ليس كل شيء. متى أحسست بهم؟ متى همك أمرهم؟ حتى حين كان واحد منهم يمرض لم تكن تعنى به. - ألا أحب أولادي؟ - هارون ربما كانت هذه أول مرة أسمع منك فيها كلمة الحب. - أعوذ بالله! إلى هذا الحد. - لو عرفت الحب ما كنا اليوم في هذا البيت.
وعلت حمرة الغيظ وجه هارون وأطرق هنيهة، تذكر فيها كل ما كان منه نحو أبيه وما كان من أبيه نحوه، وقام عن مجلسه متجها إلى غرفته، وانحدرت بعض دمعات من عيني حميدة جففتها، ثم قامت إلى التليفون وطلبت أباها: بابا هل أنتم في البيت بعد الظهر؟ - أنا موجود ولا أدري إن كانت والدتك ستخرج أم لا. - أنا أريدك أنت. - أهلا وسهلا. •••
روت له ما وقع من هارون، وحين بلغت من القصة اسم عبد المجيد زين الدين صاح سعدون: قلت من؟! - عبد المجيد زين الدين، أتعرفه؟ - سبحانك يا رب وما أعجب تصريفك! اغفر يا رب! - ماذا يا أبي؟ - طبعا رفض هارون. - منذ سمع اسم عبد المجيد هذا. أهو رجل سيئ يا بابا؟ - بل من أحسن الناس وأشرفهم وأكرمهم وأكثرهم محافظة على كرامته، وبيني وبينه حب كبير وتقدير متبادل، ربما من الصعب أن يكون بين اثنين في الدنيا. إنه من أقرب الناس إلي وأنا من أقرب الناس إليه. - صحيح والنبي؟! -
صلى الله عليه وسلم . بل أقل من الصحيح. إنه بالنسبة لي أكثر من أخ. - شرح الله قلبك يا بابا، وربنا يبقيك ويطيل عمرك. - اذهبي إلى بيتك ولا تفاتحي هارون في شيء، واتركي الأمر كله لي. •••
ناپیژندل شوی مخ