81

بحر متوسط

البحر المتوسط: مصاير بحر

ژانرونه

وكان أغنى ملوك العالم القديم يجتذبون بالذهب كبار علماء العصر، وفي الإسكندرية يجرع حكيم الحكماء، إبيقور، الشمس والحكمة، وللمرة الأولى في التاريخ يسار بالعلم في طريق التقدم ويكافأ العلم الصرف الخالي من الأغراض العملية، ولا يفرض الأقوياء على أي شخص كان ما يجب أن يكتب أو يفكر فيه، فبذلك استطاع المصريون واليهود بعد زمن أن ينموا مبادئهم الهدامة بعض الإنماء ضمن نطاق تلك المكتبة، وكل ذلك مدين للإسكندر، وظل الروح وميناء الإسكندرية اللذان هما رمزا البحر المتوسط الكبيران أعظم ما أوجد.

وكانت السفن تشق عباب المحيط قبل الإسكندر، وصارت التجارة البحرية عصرية فلم تنلهما يد التعديل في عهده؛ وذلك لأن الإسكندر كان يرى الابتعاد عن المسائل البحرية، وهذا يفسر سرعة العطب في إمبراطوريته. ومنذ قرون قبل ظهوره كانت نسائج الصين الحريرية وحجارة الهند الثمينة وذهب السودان وعنبر بحر الشمال سلعا تجلب إلى موانئ البحر المتوسط الغنية، وكان الملح والشمع والعسل والقمح والذهب والعبيد سلعا تصل إلى بحر إيجه آتية من الشمال الشرقي مارة من البحر الأسود. وكانت ميله التي هي أغنى مرفأ في القرون القديمة تنافس صور وغيرها من المرافئ الفنيقية، لا دلتا النيل التي كانت، والتي لا تزال، غير منتظمة وغير سهلة للملاحة، ولم يكن للنيل، الذي هو أكبر الأنهار وأكثرها اتباعا للهوى، من الصلات بالبحر المتوسط غير تواريه فيه بعد جريان طويل، وذلك كالرائد الكبير الذي يموت بعد أن يعييه الهرم في أثناء سياحة يقوم بها في الخارج.

وبالنقود يستدل على حظوة البحر لدى الأغارقة وعلى كل ما يناسبه في زمن عادوا لا يكونون فيه سادته بلا نزاع، والنقود تتبع ذوق الزمن في كل مكان. ومما نراه على نقود إفيز وسرقوسة وإيجين وأبولونية وبوزئيدونية وغيرها من المدن الكثيرة، صور الدلفين والمرساة والسبيدج وثعبان البحر وطير البحر والسرطان، ويرى على قدح مشهور ديونيزوس فوق سفينة ذات سارية تنبت الكرمة وينضج العنب عليها وذلك مع لعب الدلافين حولها.

والبحر كان، ولا يزال، بلد الأغارقة الحقيقي، ويدل ما سجله إكزينوفون من هتاف مشهور على الروح الإغريقية الحقيقية، وذلك أنه لما أتى برجاله ال 10000 إلى البحر الأسود وأبصر الجنود البحر بعد عدة أعوام قضوها في المغامرات هتفوا قائلين: «البحر، البحر، والبحر أخيرا»، ولم يبق من تاريخ إكزينوفون الذي يفزع منه شبان الطلاب غير هذه الكلمة الصغيرة.

وكما كانت المرافئ الكبرى في القرون القديمة مراكز صناعية، كانت السفن تسير ضمن حدودها الصغيرة في البحر المتوسط، وذلك كما تصنع البواخر التي تصل بين شواطئ البحيرات الألبية. وكانت جميع المرافئ حربية حتى سنة 400 قبل الميلاد لما كان من تسلحها. وكانت القرصنة مباحة في القرون القديمة، وكانت تعد ضربا من الفروسية كالتجارة البحرية، ولم يكتشف الأغارقة إلا مؤخرا ما يمكن التجارة أن تأتيهم به، وهم في ذلك كلوردات الإنكليز الذين لم يبدءوا بإدارة المناجم والمصانع شخصيا إلا مؤخرا. وكان الأغارقة يسخرون في دور ازدهارهم التجاري حتى من المدن التي لا تتعاطى التجارة البحرية، وكانوا يجدون مثلا أن سكان سيم قد اكتشفوا مصيرهم على ساحل البحر بعد الأوان بثلاثمائة سنة.

وكانوا في الحين بعد الحين ينشئون أرصفة حسنة التخطيط ويعمقون أحواض مرافئهم؛ وذلك لأن حجوم سفنهم صارت تزاد سريعا. ومع أن هيرودوتس قد تكلم في القرن الخامس قبل الميلاد عن وجود سفن في النيل تبلغ الواحدة منها 130 طنا صنع من المراكب الحربية بعد نصف قرن ما يبلغ الواحد منها 262 طنا، كما صنع مركب واحد على الأقل يشابه القلعة العائمة بأبراجه وأقسامه العالية فانطلق من أثينة إلى سرقوسة كأنه من مدرعاتنا. ولم تبلغ السفينة التي سافر بها كريستوف كولونبس غير 150 طنا، مع أن سفينة «الإسكندرية » التي أنشئت في القرن الثالث قبل الميلاد فعدت أكبر سفن القرون القديمة، كانت 1050 طنا إذا ما نظر إلى وسقها.

وكان يقابل تلك الحجوم من السرعة ما يقضى منه العجب حتى في زمن محركات ديزل الحاضر. ومن ذلك أن فريقا من قراصين الفنيقيين كان يقطع ما بين رودس وصور في ثلاثة أيام، أي كان يقطع ثلاث عقد في الساعة الواحدة. ومن ذلك أن كان السفر حول صقلية يدوم أسبوعا واحدا بالسفن الشراعية، ولم يكن في هذه السفن من السكانات غير ما هو صالح للتوجيه والدنو من الساحل. ويرى أرسطو أن المركب التجاري الذي يتقدم بالجذافين هو كالحشرة التي تكون أجنحتها من الضعف ما لا تحملها معه. وكان الربابنة يستعينون بالقلوس،

125

التي ظلت تستعمل إلى وقت قريب، لإلقاء مراسي السفن الكبيرة في الخلجان، ومع ذلك فقد بكر في اتخاذ سلاسل رسو من حديد، ويظهر أن الإسكندر كان أول من استعملها؛ وذلك لأن سفنا مربوطة بقلوس قد حاصرت مرفأ صور فغطس في الماء جنود من هذه المدينة المحصورة وقطعوا قلوس سفن العدو، فهنالك استبدل الإسكندر سلاسل بها. ويمضي زمن طويل فيروي يوليوس قيصر أمر استعمال المراسي ذات السلاسل من قبل غوليي الشمال على أنه خاص بهؤلاء!

ولم تبدأ جغرافية البحر المتوسط إلا حوالي سنة 500 قبل الميلاد في الحقيقة. وكان العبريون والأرغنوت، ثم الملك سليمان، والشاعر أوميرس، يعتقدون أن الأرض قرص مبسوط محاط بالبحر المحيط مع عد الألنب مركزه. وقد انهار هذا الرأي عند ظهور الخرائط الأولى التي رسمت وفق الطبيعة، ومن دواعي الدهش أن صنعت هذه الخرائط من أجل أحد البرابرة، أن وضعها علماء اليونان من أجل الملك دارا. ومما وقع في ذلك الدور أن سار هملكون القرطاجي وشاطئ أوروبة الغربي فاكتشف الجزر البريطانية، غير أن الحكومة القرطاجية كانت من ضيق الأفق كإحدى الحكومات العصرية ما أنكرت معه كريستوف كولنبوسها مصرحة، عن حسد أو عن مكر، بأن الأطلنطي غير صالح للملاحة.

ناپیژندل شوی مخ