وكل هنا دوار أو غير موجود، ولم تسطع دولة أن تسيطر على البر زمنا طويلا، وفي البحر كانت الصدارة للرومان بعد قرطاجة ثم غدت لإنكلترة بعد سقوط نابليون، وفي البر لا بد من توكيد كل معركة في جميع الجبهات حتى تكون حاسمة، ولكن مما يحدث في بعض الأحيان أن انتصار الأسطول يعين مستقبل دول عالمية، وقد وفقت رومة، الدولة البرية، لتكون دولة بحرية، وهذا الذي لم يتفق لفرنسة، وفي حرب وراثة العرش الإسباني تجاذبت إنكلترة رغبة المحافظين في الركون إلى أموالهم وطموح أصحاب السفن من أبناء الطبقة الوسطى، وطموح التجار، إلى البحار، ولم يحدث في غير وقت متأخر نزوع جميع الأمة إلى إقامة دولة بحرية.
أولا ينال في البحر دوما ما يحال في البر دونه بسبب كثرة الحواجز والأنهار والجبال والترع والقلاع؟ أولم تغلب أثينة الصغيرة دولة الفرس؟ أولم تقض إنكلترة، كما قضت هولندة الصغيرة، على الحلف القوي بين إسبانية والبرتغال وفرنسة؟ أولم تخز فينيسية الهيفاء الجبار التركي؟ وفي هذه الأحوال بلغت أعظم المقاصد فوق البحر، وفي نطاق ضيق على العموم، وأحسن من ذلك صدور عظمة جديدة عن كل دولة بحرية، وذلك لما توجبه من إثارة حب الاطلاع والتعطش إلى المجد، وذلك لما تتضمنه من تحد لمهارة أمم ما وراء البحار التي تتحرق لبلوغه، ولما قهرت صقلية رومة كان همها الوحيد أن تصبح دولة بحرية، وكان لا بد للفرس من السيطرة على البحر حتى يقهروا دول اليونان البحرية، ولم يتعلم مرفأ سرقوسة القوي أمر الملاحة الحقيقية إلا بعد تحاك بينهم وبين الكورنثيين، وإنما كان لدى الصقليين من كثرة الأرضين ما يصيرون به أصحاب دولة بحرية كبيرة.
ووجب على فرنسة أن تصنع مثل ذلك أخيرا، ومع ذلك، وعلى الرغم من المعارك والانتصارات التي تفرق بين الأمم الراغبة في الفتح، ترى البحر الصامت العقيم خط وصل بين الشعوب البعيدة، وناشرا للحضارات التي تذيع في البر بأبطأ من ذلك، والبحر، بأعماقه ومجاريه وأجوائه المختلط بعضها ببعض، يلوح أنه وجد لينقل حتى نهاية العالم سلعا في قعر السفن وأفكارا في أدمغة الملاحين وقلوبهم. وإذا كان الملاح يحب الغصب والسيطرة فإنه يريد التجارة والمبادلة ومحادثة الأجانب وملاعبتهم النرد أيضا، وهو يرغب قبل كل شيء في معرفة النساء الأجنبيات، ذوات العيون والشعور الغريبة واللابسات المزينات بأبدع طراز، وجلبهن لا عن قوة دائما.
والأحرار، لا المرتزقة، هم الذين جاوزوا البحار للحرب فيما مضى، وكما أن الصليبيين انتهوا إلى مواثيق غريبة بين الأمم البعيدة يرى أن الملاحة أسفرت عن وجود اتفاق دولي لا يقاوم، وقد قام بين رجال البحر من الصلات والصداقات ما يحول ضيق الأفكار والزهو والحذر دون وقوع مثله داخل القارات، وإن ريح البحر التي حملت بذور نباتات مصر إلى إيطالية هي التي نفخت ملايين الأشرعة، فمن تحت الأشرعة جلب الرجال في كل زمن أفكارا ومنتجات إلى أقصى السواحل.
3
تولي البشرية وجهها شطر الغرب، ونبحث عن النور ورسالته الصباحية عن إيمان وعزم، ومع ذلك نبتعد عنه مقدارا فمقدارا، وليست رمزا تلك السرعة التي نحلق بها فوق المحيط الهادئ ونلقى بها الشرق، فالحضارة لا تطير، وضياعها في طيرانها، وأصح من ذلك انتقال البشرية من البحر الأصغر إلى البحر الأكبر؛ أي من البحر المتوسط الشرقي إلى البحر المتوسط الغربي، ثم إلى المحيط الأطلنطي فإلى المحيط الباسفي، ولا عجب فالأغارقة كانوا لا يعدون بحرا لهم غير بحر إيجه الواقع شرق البحر المتوسط، وللملاح فيما مضى تحذير في المثل القديم القائل: «إذا ما جاوزت رأس إسبارطة فانس مسقط رأسك»، وما كاد أوليس يعرف البحر الأدرياتي ما كان هذا البحر عالما معاديا ممتدا غرب صقلية مملوءا بالرياح والمجاري الغريبة، وذلك مع استثناء قليل من القرطاجيين والأغارقة كانوا من الجرأة ما ابتعدوا به عن الشاطئ فاكتشفوا ساحل المحيط الأطلنطي. بيد أن مدلول هذا الساحل ووجود بحر هنالك أعظم من البحر المتوسط بمراحل من الأمور التي ظلت مجهولة لدى الجميع، حتى لدى النورمان الذين طافوا في أجزاء منه قبل كولونبس بخمسة قرون. وقد سهل على البحر المتوسط أن يعير نفسه من الملاحين الأولين في أسفارهم لما يشتمل عليه من مداخل كثيرة إلى داخل القارة. وإذا كنت لا تجد من البحار ما هو أغنى من البحر المتوسط بجزره، فإنك لا تجد ما هو أكثر منه فرضا وخلجانا، ويؤدي مضيق خليج بتراس إلى بلاد اليونان الوسطى وإلى البسفور وإلى أوروبة الشرقية. ونرى شبها عجيبا بين بحرنا المتوسط، هذا البحر الداخلي، وبحرين آخرين، فكما أن البحر المتوسط يصل بين أوروبة وأفريقية يصل بحر الصين الجنوبي بين آسية وأسترالية، ويتشابه كلا البحرين بجزره الكثيرة وشواطئه المعقدة، ويكاد بحر الأنتيل يقطع أمريكة من وسطها فلا يترك لها غير عصابة دقيقة هنالك. ولكن البحر المتوسط الذي هو بطل هذا الكتاب ذو صفة جوهرية يختلف بها عن ذينك البحرين، فهو بحيرة تغذيها ثلاثة مضايق كما لو كان غديرا.
وتعين الصفة الأساسية للبحر المتوسط، الذي يشابه بحيرة داخلية، تاريخه وحضارة الإنسانية وأخلاق أمم الساحل، وهي تبلغ في تعيينها ذلك درجة يسأل معها عن الناحية التي يكون مدينا لها بشكله الغريب. وهنا يتجلى لهو علماء الأرض الذين ألقوا بأنفسهم على رأس مجلدات تامة من اللعنة والوعيد، وتعدل هذه المناقشات أقاصيص التاريخ لغوا لخلوها من أساس ثابت يستند إليه، وما قبل التاريخ هذا هو افتراضي كما قبل تاريخ الأمم، وعلى العكس ينشر أثر الحوادث التي وقعت منذ خمسة وعشرين قرنا حول البحر المتوسط وفوقه معارف هي من القيمة ما لا نرى معه أن نتأخر في ظلام ما قبل التاريخ. وعندنا أن أقل معبد إغريقي أغنى معنى من حجارة دوردونية الشهيرة التي يجادل في أمرها ليعرف هل كانت مصقولة منذ خمسة عشر ألف سنة أو عشرين ألف سنة، وندع فخم الكلام جانبا فنعرض طبيعة البحر المتوسط على غير المتخصصين بأحسن إيضاح.
يرى أنه كان يوجد في العصر الجليدي سهل في محل البحر المتوسط مع وجود بحيرتين كبيرتين كثيرتي العمق كالبحر الميت واقعتين في الغرب والشرق، ولكن مع اتساع كبير، فلما ذاب الجليد فاضت تانك البحيرتان لتجتمعا ولتؤلفا بحيرة داخلية واسعة واحدة، وهل الأرض هي التي ارتفعت أو إن البحر هو الذي هبط في ألوف السنين؟ ومهما يكن من أمر فإن الأسداد، التي تؤلف آخر الحواجز فتفصل البحر عن البحار الأخرى، كنست إلى الدردنيل وجبل طارق، ويترك هذا الفيضان العظيم، الذي يذكر في جميع كتب الأساطير باسم «الطوفان»، بعض أجزاء جبلية قائمة فتبدو جزرا، ويغدو أرخبيل بحر إيجه ممثلا لذرى سلسلة جبال تنتهي في أقريطش، ومما حدث قبل ذلك الطوفان أو بعده ظهور ثغر وغضون في القشرة الأرضية ووقوع زلازل بركانية وخسف في قعر البحر الجديد، وفي الشمال يلوح سير شعبة عظيمة من البحر المتوسط مع المساند الخارجية لجبال الألب والكربات وبلوغها فينة وهنغارية، والقفقاس أيضا. وتعد الوهدة «السورية » التي تمتد إلى أواسط أفريقية الشرقية دليلا على ثورانات لاحقة كالوهدة الإغريقية وعدد غير قليل من الوهاد الوعرة التي يوجد في البحر اليوناني منها واحدة من أعمق ما في الكرة الأرضية من الهوى الواقعة تحت البحار.
ومن مستحاثات الحيوان التي لا تستطيع أية نظرية أن تبتدعها أو تبطلها، ما يتخذ أحسن برهان على ما بين أفريقية وبلاد البحر الراهن وجزائره من صلة قديمة. ومما وجد على جزائر بحر إيجه، التي كانت متصلة بالقارة فيما مضى، مستحاثات تدل على نزول دببة وذئاب من جبالها نحو الجنوب وعلى صعود وعاوع
14
ناپیژندل شوی مخ