وبما أن مملكتي قشتالة وليون مرتفعتان، ويتألف منهما مركز إسبانية الشمالي الغربي وتفصلهما جبال شاهقة عن المحيط الأطلنطي، فإنهما حاربتا في القرون الوسطى مملكة أرغونة السهلية الممتدة من جبال البرانس حتى الوادي الكبير والمشتملة على منطقة قطالونية الحاضرة تقريبا، وكان يفصل بين قشتالة وأرغونة من ناحية الشمال مملكة نبرة المتاخمة لغسقونية الفرنسية، ومن هنا أتت جميع الأسماء الجميلة التي خلدت بأغاني الشعراء الجوالين، ككونتات رونسيفو وروسيون وكأمراء بمبلونة وبربنيان وطركونة.
ومع ذلك كان جميع جنوب شبه جزيرة إسبانية؛ أي ما يعدل نصفها تقريبا، ملك المغاربة حوالي سنة 1200، وكان هؤلاء القوم مزيجا من العرب والبربر الذين حاول الإسبان في ثلاثة قرون طردهم على غير جدوى، وبهذا يفسر عدم تسامح الإسبان الديني كما تفسر مظالم محاكم التفتيش واضطهاد اليهود الذين كانوا ذوي مناصب مهمة لدى المغاربة . وعلى من يود أن يدرك السبب في سهولة حل هذه المسائل في إيطالية على الرغم من الغزو الأجنبي، وفي أنه كان لها نتائج بالغة الشؤم في إسبانية، أن يعرف أن العدو القومي في إسبانية كان عدوا دينيا أيضا، وأن الحياة الذهنية في إيطالية كان يمكن أن تتفتح عن نهضة شبه وثنية لما ليس هنالك من حاجة إلى غور بعيد في دين عام شامل غير مجادل فيه، وعلى العكس تبصر هذا الدين، الذي كان لا بد من الدفاع عنه في إسبانية، قد دخل دائرة التعصب.
وما انفك فرسان الإسبان يستلهمون مشاعر خالصة واندفاعات دينية بسبب هذا الإيمان، ويمثل السيد بانفعالاته صورة مثالية بالغة حيوية كالتي يمثلها دون كيشوت بسخريته بعد حين، ومع ذلك لم يكن كلا الرجلين عنوان البطل الإسباني القومي. ويرد هذا الشرف إلى دون جوان الذي قام بأروع عمل تاريخي بين الكافرين، ويقام لروحه قداس في نوفمبر من كل سنة في جميع إسبانية منذ صار يحترق في جهنم، ومن هنا يلوح أن الأفضل لسلامة الروح أن تغوى نساء كثير أكثر من أن يظفر برجال غير قليل.
وقد أصاب إسبانية خير كبير من اعتداء الأجنبي، وذلك لاتحاد الإسبان ضد الغازي خلافا لما اتفق للطليان. وكان بعض أهل قشتالة وأرغونة عدوا لبعض فوحدا في سنة 1236 جهودهما نزعا لقرطبة من أيدي المغاربة، ولا اتفاق بين المصادر التاريخية حول إحصاء ما أدى إليه المغاربة والكنيسة من تخريب، ويظل مئات الألوف من الهلكى مجهولا في تاريخ الحروب، وتدل الأرقام دلالة باردة على المصير، ونقرأ في كتب التاريخ، كما نقرأ في صحيفة ما، أرقاما مع كثير من الأصفار من غير اكتراث لما يدل عليه ذلك.
وعلى النقيض تجد ذوات القيم التي تفنى مع الرجال تسجل في ذاكرتنا، فإذا قرأت مثلا أن جميع الشعب البزنطي لبس ثياب الحداد حزنا على فقدان هيلانة المرمرية، وإذا ما رئي استنساخ لأتينة الضائعة أو لرنبرانت المحترق، وإذا ما سمع حديث عن قصائد زائلة لأرسطو وملتون، وإذا ما ذكرت مكتبة الإسكندرية والبارتنون وكنيسة رينس؛ أي هذه الآثار التي أبيدت بالنار أو بالمدافع، فإن ألم الأعقاب من أجل زوال هذه الأوابد يظل حيا حارا قرونا كثيرة، والواقع أنه يؤسف على الآثار الخالدة أسفا أعمق مما يؤسف على الآدميين الهالكين.
وقد حزن على زوال مكتبة قرطبة التي كانت في القرن الثاني عشر جامعة لحكمة البحر المتوسط، وقد مثل اليهود دورا كبيرا في هذا المركز الثقافي، ولكنهم اضطهدوا من فورهم، حتى إن ابن ميمون الذي هو أعظمهم فر مضطرا إلى فاس ثم إلى القاهرة، ومما قيل عنه إنه تعلم المذهب الإنساني في قرطبة وتعلم الإنسانية في أفريقية، ويفلس أخوه بعد حين فيضطر الفيلسوف إلى التكسب فيختار مهنة الطب ابنا للأربعين من عمره، ويمهر في الطب فيختاره السلطان طبيبا خاصا له، ويفسر ابن ميمون التلمود فيقابل بين تعاليم أرسطو والمذهب اليهودي كما صنع سان توما الأكويني مفسرا مذهب يسوع، ويسبق ابن ميمون عصره عدة قرون من حيث عبادة العقل والتسامح الديني.
وكان هذا التسامح من ناحية واحدة، فقد أقامت إسبانية آلة التعصب بمحاكم التفتيش التي هي أشد ما عرف التاريخ توحشا، وما كان الأغارقة ليعرفوا اضطهاد دين أجنبي، ولا ترى أثرا لمثل هذا الاضطهاد في غير القرن الرابع، وذلك بحرم يعقبه رد المحروم إلى السلطات الزمنية، ولم يصنع قسطنطين غير إحراق كتب الآريين والتلمود ثم كتب أرسطو، ولم يكن الملاحدة ليجازوا بغير حج قسري أو صوم أو مصادرة أموال، وذلك إلى أن هذه المصادرة كانت فاتحة أعمال تنم على الأثرة ما آل نصف الأموال التي تصادر إلى الكنيسة والنصف الآخر إلى القاضي.
ولم يبدأ بالعود إلى الطبائع الوحشية إلا بالتعذيب الذي اقترفته محاكم التفتيش، ويأذن البابا في تعذيب المتهم في سنة 1252 للمرة الأولى، ويعقب ذلك تعذيب الشهود الذي هو أعظم خطرا لإمكان إثبات أي شيء بهذه الوسيلة، ويثور الشعب ويقتل أحد قضاة محاكم التفتيش، ويمنع ألفونسو التعذيب، ويقول بالتسامح، فينال لقبا كريما، ينال لقب «الحكيم».
ويلتهب البابوات غيظا من هذا التسامح، ويحرض أحدهم الملك على العرب ، ويحرضه آخر على اليهود، ويعقد مؤتمر في فينة فترتفع أصوات بالشكوى من جهر المسلمين بنعم الله من فوق المآذن، وما عقد في القرن الرابع عشر من مجامع دينية أسفر عن إباحة أولى المذابح التي يعافها الشعب باطنا، ويعارض جميع الإكليروس الإسباني الملك المتسامح، فيقيم مواقد لإحراق الكتب في بدء الأمر، ثم يحرق أماكن العبادة، ويذبح من ليسوا نصارى.
ولا شيء يسود وجه الإنسانية أكثر من إكراه أناس على انتحال دين ليس دين آبائهم أو ليس دينا اعتنقوه عن عقيدة، وفي سلمنقة وحدها بلغ عدد من حمله الإكليروس الإسباني على العماد، حوالي سنة 1390، 11000 شخص، ويعد ما ذهب ضحيته جميع اليهود الذين رفضوا العماد من التقتيل والشغب فيما بين سنة 1450 وسنة 1470 نماذج لعصرنا الكئيب، ويسود اليهود «المهتدين» الذين دعوا فيما بعد ب «المارانوس»، كبير ارتباك، وذلك أن السبل مهدت لليهود بعد العماد كما بدا، فغدوا قادرين على تقلد أي منصب كان، وأن الحقد عليهم زاد بدلا من أن ينقص لظهورهم مزاحمين فيما بعد. أجل، بشر بصفاء الدم، غير أن هذا صار أصعب من قبل بعد العماد على نطاق واسع.
ناپیژندل شوی مخ