11
وليس من العجيب أن وصف الرب ويسوع كما صنع العالم اللاهوتي توما، وعلى العكس لم يبد ميولا عالمية في العالم السياسي حتى عصره، بل أظهر منازغ قومية، فقد كان دانتي يريد توحيد إيطالية، لا دولة للكنيسة، والمنفى هو الذي جعل منه شاعرا عالميا، وكان هذا حوالي الخمسين من سنيه، والذي يميزه من غيره، من أولئك الذين لخصوا في الشعر علمهم بالأمور البشرية والإلهية، هو هواه الحزبي الذي أرسل به أصدقاءه إلى الجنة وساق به أعداءه إلى جهنم ... وينفيه البابا فيحقد عليه أميرا للظلمات، ويغير عصره ومصيره الشخصي فيما وراء ذلك، ويجعل من نفسه، إذن، قاصا وبطلا لشعره، وهكذا يرتفع مبتعدا من الإنصاف الواجب الذي يكون المؤرخ به مملا لحمل الإنصاف هذا المؤرخ على الفتور والنمطية وعلى إخفاء وحيه متخذا وضعا خلقيا لقاض عالمي. وكان هذا اللاهوتي المزعوم، الذي نسي حكمه على الأمراء منذ زمن طويل فعاد لا يبالي أحد بهذا الحكم، من اضطراب القلب المخلص عن وجد إنساني ومن الاعتراف المؤثر بمزاياه ومعايبه ما يؤثر معه توجيه نظره إلى الله تأثيرا عميقا فينا.
ويقضي دانتي في منفاه أربع عشرة سنة، فيخبر بأنه يستطيع أن يعود إلى فلورنسة على أن يتوب من خطاياه علانية بأن يلبس في الكنيسة ثوب التوبة، وينم جوابه الجريء على ما فيه من عزة شاعر، وما كان ليعود إلى وطنه إلا عزيزا، وهو يمكنه، إلى أن يبلغ ذلك، أن يتأمل في الشمس والنجوم وأن يسبح في أفكاره العميقة، ويموت بعد خمس سنين في رافن من غير أن يرى مسقط رأسه مرة أخرى، وتكون الرابطة الوحيدة بين فلورنسة ومنفاه هدية من ذهب أرسلتها مدينة فلورنسة، بعد حين، إلى ابنته التي بقيت في رافن، وكان اسم هذه البنت بياتريس، وهو كاسم معشوقة دانتي المثالية، وكان الرجل الذي جاءها بهدية فلورنسة يدعى بوكاس.
وقليل ما قرئت آثار الفيلسوفين، اللذين هما من أبناء البحر المتوسط، خارج شواطئ هذا البحر، وقدر سان توما من قبل علماء اللاهوت على الخصوص، ولم يعرف دانتي بأكثر مما عرف فرجيل، وقد عرف دانتي أقل مما عرف أوميرس كثيرا، ولا يذكر العالم لتوما غير ردائه الأبيض وما يحمله من إكليل قديس، وفي العالم يبقى من دانتي ذلك الرسم الجانبي الخالد وتلك الصورة المشهورة لالتقائه بفتاة حسناء على جسر، ومع ذلك فإن كلاهما، كرجلين من أبناء القرون الوسطى، ظل حيا بعد ذهاب الملوك والحروب ومعاهدات السلم؛ وذلك لأنهما تقمصا أفكارا لا سلطانا.
ولا تجد غير عاهل واحد جمع بين الأفكار والسلطان، لا تجد غير إمبراطور ألمانية وملك صقلية فردريك الثاني من يمكن عده بحق كعبقري بين ملوك القرون الوسطى، ومن المحتمل أن كان أحد أباطرة الجرمان الثلاثة العظام، ومن قبله بأربعمائة سنة امتاز شارلمان، ومن بعده بثلاثمائة سنة امتاز شارلكن، بين خمسين من أمراء ألمانية، والواقع أنك لا ترى واحدا من هؤلاء الثلاثة من كان ألمانيا حقيقيا، فالأول كان فرنجيا، وكان الثاني نصف نورماني، وكان الثالث نصف إسباني.
ولد فردريك الثاني (1194-1250) في أنكوني على البحر المتوسط، وقد سمي باسمين عند ولادته، سمي فردريك وروجر حتى يذكر، ما دام حيا، جديه: باربروس الألماني وروجر الثاني النورماني، وكاد الحلم الألماني في السيادة العالمية، الذي اتجه نحو إيطالية للمرة الأولى، أن يحقق لدور قصير في عهد والد فردريك، وكان هذا الذي هو من آل هوهنشتاوفن قد تزوج ابنة روجر ليضم تراث هذا الأخير؛ أي إيطالية الدنيا وصقلية إلى إمبراطورية أبيه الألمانية وأن يحيط بالدولة الإيطالية الوحيدة التي ظلت مستقلة؛ أي بدولة البابا، وذلك ليجعل منها دولة تابعة، غير أن موته قبل الأوان قضى على جميع مشاريعه.
ولم تعش امرأته الصقلية بعده غير عامين، وظل فردريك البالغ من العمر أربع سنين وحيدا، ولم ينشأ فردريك هذا من قبل إمبراطور سيد للعالم، بل من قبل بابا كان يهيمن على العالم. وكان البابا إينوسان عازما على كسر الحصار الذي يحيط بدولته، وكان ينوي أن يزرب آل هوهنشتاوفن في تراثهم بصقلية وأن يحمل على انتخاب سليل أسرة مالكة أخرى بألمانية.
ويسفر توالد العروق عن إنتاج رجل باهر مرة أخرى، وكان فردريك المراهق يقف نظر حاشيته، ولم يرب فردريك في بيئة من البطائن، وذلك أن الحرب الأهلية التي اشتدت في إيطالية ألقت بهذا الفتى، المرهوب والمهدد مناوبة، في سواء الفوضى والاضطراب، وفي البؤس أيضا، ومن ذلك أن كان هذا الوارث لإمبراطورية عالمية يتناول وجباته في كل أسبوع من مائدة أسرة متوسطة في بلرم، وكان يؤسر من قبل الألمان تارة ومن قبل النورمان تارة أخرى فيذهب ضحية الحزب القابض على السلطة أيا كان، ويود مقاتلة الجرمان ومغامروهم أن يجربوا حظهم نحو الجنوب وفق عاداتهم، وكان لا بد لهم من ذلك الرهين الثمين وصولا إلى أغراضهم، وكان الطلاينة يمقتون هؤلاء الدخلاء الألمان الذين لم يكن عندهم ما يفعلون في بلدهم غافلين عن أنهم حفدة لغرباء، وأنهم ممزوجون بنورمان وعرب، وأنهم لم يقبضوا على صقلية إلا بحق الفتح.
ونبصر في نقود رديئة الضرب رأس فردريك الثاني، نبصر شابا عبقريا حمسا كابن الجنوب رزينا كابن الشمال حريصا على الحياة محبا للاطلاع متعطشا إلى السلطان، ويمكننا أن نتمثل رأسه فتبدو لنا طرافته أكثر من ظرافته، وتبدو لنا شقرة شعره وقصر بصره؛ أي يبدو لنا موضوع صالح ليصور من قبل أعدائه تصويرا هزليا، قال أحد المعاصرين: «لا يساوي الإمبراطور فردريك في سوق النخاسة أكثر من مائتي درهم.»
وقد تزوج أميرة أرغونية ابنا للخامسة عشرة، وأصبح أبا في السادسة عشرة من سنيه، فلما بلغ الثامنة عشرة تنكر كمجرم فار فجاوز البحر وجبال الألب ليسترد تراثه من خصمه في الشمال، وتمضي بضعة أعوام فيظهر سيد ألمانية، ويبلغ السادسة والعشرين من عمره فيصير إمبراطورا رومانيا غير مستعين بالبابا، وينتخب ابنه الفتى ملكا ألمانيا درءا لكل احتمال ، ويزمع الاحتفاظ بالمملكتين، الشمالية والجنوبية، ويحظى بموت البابا الأكبر فيعد خلف هذا البابا بحرب صليبية قبل تتويجه في مقابل نيله مملكة القدس، ويؤجل هذه الحرب في أحوال غريبة فيجد البابا ذريعة لإعلان حرمانه. وفي تلك الأزمنة كان على كل بابا أن يقاتل آل هوهنشتاوفن الذين يملكون شمال إيطالية وجنوبها والذين يمتد سلطانهم بين دانيماركة وصقلية، وما كان هذا الهوهنشتاوفني ليرضى بأن يتنزل عن ذرة من حقوقه المكتسبة.
ناپیژندل شوی مخ