ومع ذلك يختلف الطراز ويتنوع فيما وراء الباب الرخامي الثخين المؤدي إلى القصر، ويرتفع بالقرب من تاج المدخل شبه القوطي مقدم كنيسة القديس مرقص القائم على الطراز الشرقي الخالص، ومما لا مراء فيه أن البيزا التي هي ضرب من رداه الرقص الكبيرة قد أنشئت ليرقص فيها ألوف الأزواج معا، وهي محاطة بمبان طويلة أخرى تدعمها أعمدة قليلة الانتظام مجتنبة بذلك كثرة النمطية موكدة رسمها بقيامها عند مقدم الكتدرائية ذات القباب الكثيرة، وينتصب عموديا في نقطة واحدة بناء ميدان القديس مرقص، المستوى الأفقي، وذلك أن قبة الجرس الصغيرة تعلو نحو السماء أمام إحدى زوايا الكتدرائية، وفي أيامنا يمكن أن يصعد في البرج بمصعد، وفي الماضي كان ذلك يبلغ بالفرس على ميل لولبي داخلي، ولا تجد برجا آخر ينعم على ذروته بمثل ما لهذا البرج؛ وسبب ذلك أن البندقية هي المدينة الوحيدة القائمة على البحر والواقعة أمام انحدار جبال الألب، وأنها بعيدة بعض البعد منه فيستطيع الإنسان أن يحيط بجميع المنظر كما في إطار واسع.
وتجاوز السقوف ألوف المداخن كما لو كانت أبراجا صغيرة معدة لحماية الأهالي، وتتشابك خطوط سود كثيرة فيتألف منها تيه، وهذه هي قنوات ضيقة تقوم فوقها جسور حجرية صغيرة صاعدة هابطة كظهر الحمار حتى يمكن السفن المشحونة أن تمر من تحت قناطرها، ولها بهذه الضرورة العملية خلاص من نمطية الخطوط المستقيمة. والآن، خارجا، تبدو الجزر لأعيننا في وضح النهار، وللسائح أن يجد في تعلم أسمائها المنسجمة مع الأهداف الخفية التي سخرت لها، وذلك لما يلوح من تأليف جميع ما تقدم جزءا من أسطورة قديمة.
ومع ذلك ليس جميع ذلك متحفا ولا معرضا، وتنعش نفحة حياة عصرية كل ذلك، على أن يقع بأبطأ من هزجنا المعتاد، فالحياة في تلك المنطقة الوحيدة من الدنيا تأبى تلك السرعة الخادعة التي تحرم عصرنا سمته الروحانية، ومن شأن الأوتاد التي تغرز في الماء لتبنى عليها البيوت أن تولد في الروع ذلك الانطباع، وهذه الأوتاد، المحاطة بنباتات مائية ضاربة إلى خضرة ومثبتة لها من غير أن تكسرها، قائمة تحت البيوت، وأمام القصور الكبيرة، جملا مترجحة بين الأربعة والعشرة، فتمثل دور التماثيل الداعمة. وهكذا يتجلى تاريخ البندقية مقدارا فمقدارا فيذكر ما ازدهرت به في قرون رخائها من سناء وثراء وسلطان وجمال، ويخيل إلى الناظر أن البحر مع أعماقه يرمز إلى كيان مجتمع قائم هنالك، كما في كل مكان، على أركان فاترة محتبكة بنباتات طفيلية خضر كثيرة، إلى مجتمع يمكنه أن يقاوم زمنا غير قصير مع سرعة عطبه.
وإذا ما خرج من تيه القنوات ووجد في ميدان الأعياد الكبير بعد مجاوزة كثير من الجسور المحدبة، سهل التنفس ونسي الثمن الذي أداه أحد شعوب البحر المتوسط في ذلك المكان قاصدا التمتع بالحياة.
وتتكاثر الطيور بين جميع تلك الأبراج وبين جميع تلك الجسور والقباب والقنوات، ولا أحد يعرف في هذه المدينة البحرية، التي لم تكن جزيرة، هل الحمائم التي تأتي من البر أكثر سعادة هنالك من النورس
2
الذي يجيء من البحر، وإذا ما ضل نورس سمين بين الحمائم الزرق السمر التي كانت أجدادها تبني وكنات
3
لها منذ عشرة قرون في تلك الزوايا تجمعت هذه الحمائم في الساحة مذعورة مهانة حتى يبتعد الطائر الكبير الغريب خافقا جناحيه نحو البحر.
2
ناپیژندل شوی مخ