134

بحر متوسط

البحر المتوسط: مصاير بحر

ژانرونه

لاح شراع جديد منذ زمن طويل، وجاء هذا الشراع من جزيرة العرب التي لا تلمس البحر المتوسط، والتي كانت لا تستطيع الوصول إليه بالقناة المرمولة في ذلك الحين، فقد خرجت قبائل بدوية، لم تجاوز شواطئ المحيط الهندي والبحر الأحمر، من الظلام بغتة لتدخل مسرح التاريخ. والعرب، على خلاف جيرانهم الفنيقيين الذين لم يكونوا غير ملاحين، وعلى خلاف اليهود الذين لم يكونوا ملاحين قط، بلغوا البحر المتوسط بما تم لهم من فتوح في البر، والعرب قد فتحوا بلادا ساحلية كبيرة في زمن بالغ من القصر ما لا يصدق، ولم تكن الفترة بين ظهور العرب في سورية وفتحهم الإسكندرية غير بضع سنين.

ومع ذلك فإن هذا الغزو الأجنبي الجديد، الذي يشعر بنتائجه في ألف سنة تقريبا، قد بدأ بمقاصد ووسائل تختلف عن مقاصد الجرمان ووسائلهم اختلافا تاما، ويتردد في وصف العرب بالبرابرة لمساعدتهم على قيام الحضارة في البحر المتوسط مساعدة مثمرة، وكذلك ليس من المناسب إطلاق كلمة «الكافرين» عليهم ما استعملوا هذا الوصف نفسه تجاه النصارى، وعالم الذهن هو الذي كان يفصل بين الأمتين، بين العرقين: غزاة الشمال وغزاة الجنوب.

كان كلا الشعبين بدويا، غير ذي كلام مكتوب تقريبا، غريبا عن تمدن البحر المتوسط الذي كان يجتذبه، ومع ذلك كان يظهر من العرب دوما شعراء ورجال قريض حماسيون حتى قبل أن يستطيعوا تسجيل شعرهم. وكان العرب يفدون ليقتبسوا طبائع جديدة وليتعلموا أمور الذهن، وكان البرابرة، على النقيض، يزدرون هذه وتلك، وفتح العرب بلادا وشادوا ممالك، وجلب العرب معهم لسانهم ودينهم إلى بلاد مجهولة حيث اختلطوا بأهلها، فظهر في التاريخ عنصر منتج إذن.

ولم يستطع الجرمان غير نشر توحشهم، ولم يسطع الجرمان نشر لغتهم، وقد زالت ممالكهم بسرعة كالتي أقاموها بها؛ وذلك لأنهم لم يأتوا بشيء جديد من الثقافة ولم ينتحلوا شيئا مفيدا، وبهذا يفسر أمر ما لا نزال نراه من الآثار العربية التي لا يحصيها عد على شواطئ البحر المتوسط الشرقية والجنوبية والغربية على حين لا ترى أثرا من أصل جرماني.

ويولد محمد بعيد موت جوستينيان، وهو يشابه جوستينيان أكثر من مشابهته ألاريك وجنسريك، وكان كجوستينيان مفكرا وجنديا وفيلسوفا وقطبا سياسيا، وكان ذا نفس وجدية مع ما عليه من حكمة شاملة، ويشابه جوستينيان أيضا في كونه جامعا لمبادئه الخلقية أكثر من أن يكون مبدعا لها، وتضيف تعاليمه، غير المنجزة، قليل شيء إلى ما استعاره من النصارى واليهود، ويوكد صلته الوثيقة بإبراهيم وموسى وعيسى الذين رأى أن يديم عملهم، وكانت أفكاره الجديدة أقل مما لدى عيسى، ولا تجد في مواعظه ما هو حديث جوهرا، ولا تتألف نحلة من تعاليمه بل أساس لقواعد حكيمة حول الحياة العملية.

وإذا ما أغضينا عن الشكل مقابلين بين التعاليم الخلقية، وجدنا، مع الدهش، أن كلتا الديانتين، الإسلام والنصرانية، متحدة كيانا تقريبا؛ ولذا يصعب علينا أن ندرك أمر ما كان من حماسة الصليبيين ومن تلاعن الخلفاء والبابوات ومن تنازعهم حتى الموت نصرا لمبادئهم المتماثلة جوهرا حول الألوهية، وما المبادئ الأساسية - «الله واحد، أحب قريبك، ساعد الضعفاء، احتقر الغنى، ستحاكم وتجازى في الآخرة» - إلا واحدة في كلا الدينين، حتى إن محبة العدو قال بها النبي المجاهد كما قال بها النبي المسالم. والواقع أن محمدا ذهب إلى أن أعظم الفضائل في زيارة الرجل من همزه، وصفحه عمن سبه، وإلى أن المؤمنين إخوة، وإلى أن العبد مساو للخليفة في الجنة.

حتى إنك تجد في الرواية الإسلامية أبوية تكاد تكون كاملة، أفلا يشابه عرش الخليفة الخزفي رمز الخشوع في النصرانية؟ وهل عيسى أو محمد هو الذي قال: «إذا رفع الرجل بناء فوق سبعة أذرع نودي: يا فاسق إلى أين تذهب؟»

أوتوجد كلمة أجدر بموسى وعيسى من هذه: «إنما الأعمال بالنيات»؟

ويمضي ألفا عام على موسى وألف عام على أفلاطون وستمائة عام على عيسى فلا يأتي محمد بجديد كهذه الصيغة جزالة، وأقل من ذلك ما أتاه عن الرب مبدأ جديدا.

وفيما ترى أصل الثلاثة الآخرين من بلاد البحر المتوسط جاء محمد من البادية، وقد عرف موسى وعيسى البادية أيضا ما دامت البادية قريبة من وادي النيل والأردن، وفي البادية تاه موسى زمنا طويلا، تاه نحو أربعين عاما، ومحمد وحده هو الذي لم يغادر البادية ولم ير البحر، ومحمد قد عاش في مكة خمسين سنة، وبين مكة والمدينة اثنتي عشرة سنة تحت شعاع الصحراء المحرقة، وقد جعله شفيف الأمسية الأحمر والأصفر وجفاف ذلك الهواء الخالي من الملح أكثر منطقا واعتدالا من الأنبياء الثلاثة الآخرين.

ناپیژندل شوی مخ