الذي لا ترى له نظيرا في الأناجيل، ببأس روماني، والواقع أن بولس جرؤ على الذي قهره، بدلا من أن ينتف شعره تائبا نادما طالبا غفرانا، فوضع هذا السؤال الرجولي: «وماذا علي أن أفعل؟» وضعاف النفوس وحدهم هم الذين يصفون بولس بالواهم، والأطباء وحدهم هم الذين يصفونه بالمصروع. وكان بولس رومانيا رجوليا فطرح عنه جميع عوامل الانحطاط القاتمة، وصار من أنصار يسوع منذ أصبح نصرانيا.
وعلى ما كان من دفع بولس إلى الزواج بطبيعته المذكرة والتقاليد الربانية ظل عزبا مع أن بطرس قد تزوج، ولم ينفك بولس يحاط بالأصدقاء، ولكن مع مشاجرتهم في الغالب، وهو، إذا لم ينكر أصدقاءه الثلاثة الذين هم خير أصدقائه، فإنه أقصاهم على الأقل. وقد كان جميع هذا، وقد كانت صداقاته وتعصبه الحاقد في فتائه وإرادته المرهوبة دوما، مظاهر لخلق قوي أعد ليسيطر، وهذا هو السر في كون بولس قد بقي غريبا عن الطبيعة التي كان يسوع قريبا منها، وبولس كان حضريا حقيقيا، وبولس قد ولد في طرسوس وكان سعيدا في أنطاكية وأفسوس وكورنث ثم في عاصمة العالم.
أجل، لم تقع مغامراته ضد العناصر الهائجة والحيوانات الضارية، ولكن وراء جدر الحصون حيث كان ينزل في زنبيل، أو في ساحة المعابد وفي المجالس حيث كان يعرف اجتناب الضربات والحجارة كمناضل ماهر. وكان يعيش، في جميع نشاطه، من كد يده عندما أصبح هذا أمرا ضروريا، حتى إنه في أواخر عمره كان يكسب عيشه حائكا للبسط والخيام، وهذا إلى أنه لم يبد من الزهو ما يبديه من هم أقل منه ثقافة.
وكان بولس سياسيا ودبلميا في وقت واحد مع تدرج في المهارة، وكان يونانيا حقيقيا من هذه الناحية، ولما أبصر في تلك الليلة وجوها مستقصية من قضاة أثينة ظهر أستاذا حقيقيا عندما افتتح محاضرته مشيرا إلى العالم اليوناني، قال بولس:
تتهمونني بأنني رسول آلهة أجنبية، وبأنني أريد إدخالها إليكم! أفلا تعلمون الأمر الذي عجبت منه أكثر من غيره في أثناء بطالاتي بمدينتكم؟ وجدت مذبحا مكتوبا عليه: هدية إلى إله مجهول. إذن، أنتم تقدسون لما لا تعرفون؟ وكيف! أوعلي أن أثبت لأهل المصر الذي أنجب بأفلاطون وجود هذا الإله العلي الذي هو أعلى من الآلهة الألنبية الهزيلة؟! أنتم تحبسون أصنامكم في حجيرات معابدكم، ولا صور للإله الحقيقي، ثم إنه ليس إلها لأمة واحدة كزوس وأتينة اللذين يزدريان كل من هو غير يوناني، يزدريان كل البرابرة. إن جميع الأمم من أصل واحد، وقد وضع الرب شرارة نور في جميع الأمم لتستطيع أن تبحث عنه، وانظروا إلى ذوي البصائر منكم، انظروا إلى أوميرس وفيثاغورس وبندار، وانظروا إلى أصحاب الآثار الجميلة من متفننيكم، تجدوهم قد بحثوا عن الرب.
ومع ذلك لم تكف مهارته لإنقاذ النصراني في بلد إغريقي، ويعتريه وجد في نهاية الأمر، فيلوم هؤلاء الحكماء على جهلهم وعدم تأملهم وعلى ضلالهم ويهددهم بيوم الحساب الذي دنا وقته، ويقول: «وإني، أنا الماثل أمامكم، قد رأيت بعيني ذلك الرجل الذي عينه الرب، وقد اضطهده قومه، وقضوا بقتله كما فعل أجدادكم بسقراط النبيل، بيد أن الرب أيده كما أيده رسالته فبعثه بعد موته!»
وهذا يجاوز الحد، ويضحك القضاة ويغادرون مقاعدهم، ويسر الأجنبي أن يصل في ذلك المساء إلى مسكنه الهزيل في حي الخزافين من غير عائق وأن يصل في الليلة القادمة إلى كورنث، ويغدو المنظر الذي وصفناه من أساطير البحر المتوسط الكبيرة، منظر رسول يسوع أمام مفكري أثينة!
ومع ذلك لم يكن الأغارقة هم الذين اضطهدوا هذا اليهودي في أثينة أو كورنث؛ أي في المدن الرومانية، وإنما اليهود أنفسهم هم الذين كافحوا ذلك المذهب الخطر كما كافحه بولس فيما مضى. وقد أريدت معالجة الفوضى في الكنيسة الجديدة فكان في المجلسين المجتمعين في أورشليم مثل للمجامع الدينية القادمة بما وقع فيهما من خصام أزلي حول الأشكال، ثم عهد إلى بولس، بين نقاش عاصف، في حمل رسالته إلى شواطئ البحر المتوسط، فصار سفيرا لحكومة غير موجودة، وذلك كما يحدث في أيامنا، ويقضي السنين ال 15 الأخيرة من حياته مثل سفير حر، ويسجن في مشيبه بأورشليم سنتين مكبلا، ويسلمه اليهود إلى الرومان كما فعلوا بيسوع نفسه، وما كان من تشابه بين وضعه ووضع معلمه يظهر أنه وكد عزم هذا التلميذ المتعصب. ويزعم أن الحبر قيافا، الذي كان رئيسا للمحكمة التي حكمت على يسوع، قد لاح مجددا لهذه المحكمة فأرسل بولس إلى السجن الروماني في قيصرية.
وأثبت بولس الروماني في حالين مقدار جذب رومة له على الرغم من شعوره بأنه سيموت فيها، ولما سوغ أمر نفسه أمام اليهودي المثقف أغريبا قال هذا الأخير ساخرا: «كان يمكننا أن نطلق هذا الرجل لو لم يرفع دعواه إلى قيصر برومة.» ويبرأ بولس فيجتذبه ملك أو عفريت إلى العاصمة حيث يحكم عليه بالموت قاض تعب من جميع تلك المنازعات على أن يقتل بالسيف؛ أي كما يعدم الرومان.
ويلوح أن بولس كان خبيرا بالملاحة، والواقع أن الإصحاح السابع والعشرين من «أعمال الرسل» يبديه منقذا سفينة من زوبعة هائلة حين اقترابها من مالطة، وقد كان راكبا هذه السفينة مع مسجونين آخرين لينقلوا إلى رومة، ويعد الوجه الذي احترم به هذا الرجل المكبل واستشير به رمزا إلى توادع المعتقدات اليونانية والمعتقدات النصرانية للعمل معا على تسكين العناصر الهائجة، وعندما صار الإله الخفي مرئيا بين البروق والعواصف ركع الجميع على عجل وصاروا يدعونه من أجل حياتهم.
ناپیژندل شوی مخ