ومع ذلك لم يوفق هيرودس لاستمالة اليهود حتى حينما أقام هيكله الرخامي، وذلك لما في النسر الروماني الذهبي الذي يعلو المدخل من تدنيس للعيون، ولم يسطع الصدأ ولا المطر إزالة أثر النسر في زمن طويل حتى بعد نزعه. ومع كل ذلك كان أولياء الأمر من الرومان يشعرون باحترام عميق لهذا الشعب الصغير الشرس، ومن ذلك أن هيرودس لما مات فحول أغسطس بلاد اليهودية إلى ولاية رومانية نهائيا لم يضرب من النقود هنالك ما يحمل صورته مراعاة لعواطف السكان، ومن ذلك أن حظر دخول الهيكل اليهودي على كل جندي روماني وإلا عوقب بالقتل.
ويحاول الإمبراطور كاليغولا بعد زمن أن يقيم تمثاله في الهيكل فتسمو دولة اليهود الدينية إلى درجة فاجعة من العظمة، فقد قامت بإضراب قومي، وعاد لا يزرع حقله أحد، وأعلن الشعب بأجمعه أنه يفضل الهلاك على رؤية صورة الإمبراطور في الهيكل، ولم يلبث هذا أن صار ثورة شاملة، وبما أن الأمر روحاني فقد ظهر أناس من المجاذيب كان بعضهم حسن النية وكان الباقون من المشعوذين، وقد أظهروا أنفسهم من المسحاء الذين ينقذون بلاد اليهودية، ويمضي وقت كبير فيعود حفدة من طردوا إلى أورشليم ليبكوا أمام جدار قديم من هيكل الملك سليمان.
4
صار أغسطس وارثا، وعلى ما بذلناه من جهد في جعل وجهه الكريه يدنو من الكمال مستعينين بتماثيل كثيرة وبقطع من النقود، ينم هذا الوجه على رجل متثاقل محتال مراء مقرن الأعضاء كبير الفم طويل الذقن والأنف، وله من الملامح ما يدل على غلام ناضب قبل الوصول إلى سن الرجل، ومع ذلك كان من حيث العلائق الجنسية منتظما، وداعرا أيضا، ويعيش ستا وسبعين سنة، وتعرف سجيته بأحسن من ذلك من دراسة صورة امرأته ليفية الفاترة الولوع معا والتي تعد من أجمل صور نساء التاريخ، ولنا باختيار أغسطس إياها زوجا له ما يثبت إدراكه لأمور الغرام.
وكان عارفا بالرجال أيضا، ويا لكمال دهائه في خدع مجلس السنات! وكان يمثل دور صديق الشعب على الدوام، فيعتزل ليضرع إليه أن يعود إلى السلطان، وكان يواجه الهجمات فلا يغادر القاعة إلا عند احتدامها، وكان يكتم ثروته، وهو لم يبن قصرا إلا في مشيبه، وقد انتخب قنصلا ثلاث عشرة مرة، وقد انتخب ليكون إمبراطورا وحبرا مدى الحياة، وقد أدخل الإمبراطورية إلى التاريخ الروماني بالحيلة ومن غير انقلاب، وهو لم يلبث أن وجد في منصبه.
ويا للذي يبدى من الحذر والاحتراس والمراعاة تجاه ذوي الحرص والطموح! ويا للحكمة في الأعمال الكثيرة التي لا تجد فيها ما هو عظيم بالحقيقة! ويعد أغسطس أحسن مثال للسياسي الماهر الذي يمكن طول عهده أن يقوم مقام العبقرية فيبدو للأعقاب رجلا عظيما.
وهو لم يقتبس سلطانه من عبقرية قيصر فقط، بل استفاد من الدرس الذي تجلى في موت هذا الأخير أيضا، ولولا أواسط مارس ما صار أغسطس، وتثبت صورته وأخلاقه أنه لا يحمل قطرة من دم خاله، ومع ذلك كان دم قيصر المسفوك بخنجر القتلة على الكابيتول ضربا من الأوثان لخلفه. والواقع أن أغسطس اعتصم بمثل غاية قيصر باستدعائه نفسيا، وكانت هذه الغاية ملائمة لعظمة أخلاق قيصر الذي استطاع أعضاء السنات أن يحتملوا سلطانه لا روحه، وما كانت حكمة أغسطس الناعمة لتثير أحدا، وكانت مجاملته المصنوعة تبديه أعلى موظف في الدولة مع أنه كان الإمبراطور الأول في الحقيقة، وكان عمله الفني ملائما لمواهبه، ولم يكن عالما بفن الحرب، وكان يعتمد على جيشه اعتمادا تاما، ولم يخب أمله في قواده، وقد خاض جميع معاركه بواسطة هؤلاء القواد مع أن الإسكندر وقيصر فاقا جميع معاصريهما بعلمهما الحربي، ولم يكن للرجل ، الذي ألف جيشا دائميا، وكان له حرس يحميه في حياته الطويلة، نبوغ الجندي وقلبه.
ومع ذلك عرف أن يجد من يحتاج إليهم من الرجال، فقد كان أغريبا صديقه ثم صار صهره، وقد كان هذا من أروع الرومان، فينظر إلى بعيد بعينيه البعيدتي الغور، ولو ظهر في أيامنا لبدا مثال الطيار الكامل، أو مثل رائد القطب، ولو قابلنا بين التمثال النصفي لكل منهما لوجدنا أغريبا يختلف عن أغسطس اختلاف رجل العمل عن الرجل المتأمل. ومما يرى أيضا أخلاقه الواقعية المنتجة وأخلاق الآخر القائمة على الأثرة والحساب، ويبدو أغريبا لنا مثل ملك ويبدو لنا أغسطس مثل حامل الختم.
وما ظهر من روعة عهده الذي نال به اسم أغسطس؛ أي الجليل، يجعلنا ننسى أن هذا الإمبراطور قضى جميع شبابه؛ أي ما بين التاسعة عشرة والثانية والثلاثين من سنيه، في قتال خصومه السياسيين، وكان عليه أن يدفع ثمنا غاليا لينال تراثه، ثم كسب أغريبا معركة أكسيوم البحرية على الشاطئ الشرقي من البحر الأدرياتي.
وقد نال أغسطس إمبراطوريته بهزيمة امرأة، ومما يستحق الذكر أنه مدين بعرشه للحقد لا للحب.
ناپیژندل شوی مخ