السير على الطريق السهلة
ابتدأ داء الكسل في لوسيا فكانت تفضل أن تذهب للتنزه أو تنام على أن تشتغل، والكسل باب الشرور، متى دخل قلب المرأة أضعفه عن كل نشاط وتقدم، وجرد بيتها أو كنسه من كل «جمال».
ولامتها بديعة على ذلك قائلة: يا عزيزتي إننا في بلاد تربتها نشيطة، فلا تتعب من إنماء المزروعات الجيدة وإعطاء الغلال والخيرات الكثيرة، وسماؤها جوادة فلا تمل من إنزال الأمطار صيفا وشتاء لإنماء المزروعات وإرواء الأرض لتعطي الخيرات والبركات للبشر، وعالمها عزوم نشيط حتى أصبح الشغل عنده هو الشرف، ولما كان لا يبغض أحد الشرف فلا يبغض الشغل في هذه البلاد التي يجب أن نحافظ فيها على آدابنا ونكسب منها نشاط أهلها ونحن الغانمون.
ولكن جواب لوسيا على كل نصيحة من بديعة كان «أن أمريكا حرية» وضاعف اغترارها بنفسها تهافت الشبان على مرضاتها. وكثيرا ما يكون الجمال سبب تعاسة المرأة التي ليس لها عقل يفوقه.
وفي المهاجرين تختلف حالة السوريين عنها في وطنهم؛ فبينما في الوطن يرقص الشبان بدور «غنجهم وترمقهم» عيون البنات، نرى في أمريكا الحالة بالعكس؛ لأن البنات في هذا المرسح راقصات، فالشاب السوري المهاجر يكاد لا يصدق أن يرى أية بنت ليقترن بها، وقلما يهتم بالحسب والنسب و«جاه العم والخال» مما هو رائج السوق في الوطن، وأقل من ذلك المال الذي صار يطلب من الشاب لا من البنت، ويمكن لبنت جميلة مثل لوسيا أن «تغمض عينيها وتكمش»، فأي شاب «طلع في يدها» يرضى بها إذا رضيت هي به، وهذا ما زاد الفتاة اغترارا بحالها وافتخارا بجمالها، لا سيما بعد أن تحول التفات الشبان كلهم إليها لعلمهم بأن لا نتيجة من بديعة وجميلة لتجنبهما الزائد.
وساعدت «السيدة موضة» على انتفاخ لوسيا إذ أمرت عليها يد التحسين والتجميل، فغدت بهجة للعين ونسيت تلك اليد التي ودعت بها رفيقاتها على «العين» فلم تعد تذكرهن ولا تذكرها ... كما أنها نسيت «بيت أبيها» ومعاملة خالتها لها، وكيف أنها كانت تحملها على الذهاب وراء المعزى لإيرادها ورعيها ... ولم تفتكر إلا في حاضرها إذا رأت ذاتها ملكة الدلال وربة الظرف وإلهة الجمال.
وكانت بديعة تنظر إليها بقلب ملؤه الإخلاص؛ لأنها كانت تخشى العاقبة إذ رأت بأن لوسيا «تقيس» أولئك الشبان وتقول عن هذا بأنه قصير وذاك قبيح، بينما الآخر جميل ولكنه فقير، وغيره حقير، وعلى هذا النسق حتى إنه لم يكن يعجبها أحد، ولكنها كانت تبتسم في وجوه الجميع وتقبل زياراتهم على السواء، وهي بسرها «تضحك عليهم»، وتفتخر بانتصارها على كل منهم وتسلط جمالها على عقولهم.
وغدا الشبان كما هي العادة يتسابقون إلى إهداء الهدايا النفيسة، والتنافس في أيهم تكون هديته أحسن من الآخر. ولعبت الغيرة بقلوب جميعهم حتى أوجدت التنافر فالتباغض بعدما كانوا أصدقاء أوفياء. ولا بغض كالذي يتسلط على قلب شاب يزاحمه آخر في حب فتاة. ولم تكن لوسيا تشعر بعظم وخطارة عملها الضار؛ لأنها لم تكن تعرف «الواجب» كبديعة، التي كانت تقول لجميلة عند اختلائها: لا شيء تفعله الفتاة أضر على الهيئة الاجتماعية من الأمر الذي تفعله لوسيا الآن، وهو ضار بالرجال والنساء؛ ضار بالأولين لأنه يعلم بعضهم الكسل والإسراف، ومن البديهي أن ذلك الشاب الذي يطمع بحبها ويلتذ معاشرتها لا يقدر أن يشتغل ما زالت هي منقطعة عن العمل، ولا يهمه المال بل يصرفه جزافا إكراما لذبول عينيها ومنافسة لغيره من الشبان الذين ينحون نحوه ويعم الضرر الكثيرين. وضار بالنساء لأنها تعطيهن المثل القبيح، ولا سيما لأولئك الفتيات اللواتي يكن أصغر منها سنا، إذ إنهن أول ما يفتحن عيونهن على العالم ينظرن برغبة ودهشة إلى أعمال الفتيات اللواتي يكن أكبر منهن سنا، ويحسبنها مرايا يجب أن تنعكس أشعتهن عليها.
ومن هنا تعلمين يا جميلة تأثير المرأة على الهيئة الاجتماعية إن في الخير وإن في الشر. فإن عمل امرأة واحدة يحسبه البعض لا يؤثر شيئا، هو بالحقيقة شبه حبة صغيرة تبذرها في عقول كثيرات من بنات جنسها، فتنمو ولا تلبث أن تصير شجرة كبيرة ويكبر نفعها أم ضررها بحسب طبيعتها.
وفي مساء أحد الأيام رجعت بديعة من شغلها قبل جميلة، فوجدت لوسيا في البيت تستعد للذهاب إلى حفلة رقص عمومية، وقد ارتدت بثوب لو رأته عليها إحدى وريثات الأمريكان لحسدتها عليه. فقالت لها مبتسمة وهي تكاد تتميز غضبا: لا مبالغة إذا شبهتك بالقمر؛ لأنك بهذا الثوب الناصع البياض، وهذا الوجه الجميل الفتان أبهى منه ضياء، فهل تنوين الذهاب إلى حفلة ما؟
ناپیژندل شوی مخ