وكثيرا ما كان أديب يراقب بديعة بانتباه زائد؛ إذ تجلس بعد رجوعها من شغلها وبيدها إما إبرة رقيقة تحركها بخفة ولباقة، وإما كتاب مفيد تنظر إليه وتطالعه، وكأن كل فكرها في عينيها حتى تضيع معنى من بين سطوره، وحتى يشرب دماغها فحواه فإذا فقدته لا تعود تأسف عليه؛ لأنها تكون قد وعته بفكرها على رأي أحد حكماء العرب. وكان ذلك الشاب المحب يتعجب من إيجاد بديعة شغلا لكل دقيقة من دقائق حياتها، وكيف أنها مع اشتغالها الزائد تجد فرصة في كل مساء للتمشي مع جميلة وأحيانا لوسيا أيضا - ومتى كان لها خاطر - مقدار ساعة أو ساعتين، وهذا مما كان يجعل وجهها نضيرا وصحتها جيدة دائما بالرغم عن مواثبة الهموم لها.
وبعد مرور تلك الشهور الصافية على الفتيات الثلاث ابتدأت أيام كدرهن؛ لأن لوسيا أخذت بإظهار البغض لبديعة ولجميلة، وكان أحب الأشياء إليها يصبح ممقوتا منها متى تكلمتا عنه أو فعلتاه.
وفي أول ابتداء داء «التأمرك المضر» في لوسيا ظهرت عليها أعراض «المعرفة أو التفلسف»، فكانت تروح بشيء وتجيء بآخر من أطباع وعوائد الأمريكان. وتخبر رفيقتيها عن أزياء وعوائد واصطلاحات تجري عليها الطبقة المنحطة من هذا الشعب العظيم، وهي معجبة بها ومستحسنة لها، وكانت بديعة تتعجب من كثرة اطلاعها على هذه الأمور في حين أنها هي مع جميلة تجهلها، ولم تدر بأن كلا يذهب مفتشا عما يناسبه ...
وكانت لوسيا تتكلم بأول الأمر عن تلك العوائد، وكأنها لما عرفتها وأحبت اتباعها أخرجت كلامها من حيز القول إلى حيز الفعل، فصارت تأتيها مسرورة حتى تبدلت أخلاقها تمام التبدل، وصارت تروح وتجيء أي وقت شاءت، وإذا عاتبتها بديعة تقول لها: «إن أمريكا حرية»، كلمة نقلتها من فتيات جاهلات من الشعب العظيم، وهذه آفته، وهي لا تدري بأن خرق حرمة الآداب وإتيان ضروب الخلاعة ليسا حرية حرية بالاعتبار؛ لأن من لم يكن مقيدا بقواعد الآداب لا يكون قط إنسانا نافعا.
وكانت بديعة تحاذر سوء عاقبة «تأمرك» لوسيا، وهي تحرق الأرم غيظا من بعض أعمالها، ولكنها بحكمة عرفت بأن الخشونة والغضب والبغض لا تجدي نفعا، وبأنه ليس كاللطف والمعاملة الحسنة لردع من ضل، وكانت كلما زادت لوسيا تمردا زادت بديعة معها لطفا وعليها أسفا.
ولم يكن لها من معين سوى جميلة الفتاة الحلوة التي كانت بسيطة الوجه حقيقة، ولكنها كانت «بارعة الجمال» عند من يفضل الجوهر على العرض؛ لأن التي تحصل كجميلة على نفس جميلة، تضيء من وراء ذلك الجسد الزائل وتبعث أشعتها من تينك العينين الفتانتين، لا تكون قط قبيحة.
ومع أنها لم تكن بعد بسمو مدارك وعقل وتهذيب بديعة، فإنها كانت قد اكتسبت منها كثيرا؛ لأنها عرفت كيف تستفيد من نصائح وآداب رفيقة مخلصة.
وما كان يثير غضب وحقد لوسيا بزيادة هو اعتبار العقلاء وثناؤهم على بديعة، وعوضا عن أن تنافسها كانت تجري على طريقة مناقضة لها وتحسدها وتضمر لها الشر.
وهذه آفة السوريين؛ فإن الحسد وإن يكن عاطفة غريزية في النفس، فإن له مجريين أحدهما لخير الحاسد والمحسود معا، بمنافسة الأول للثاني والكد والجد بالسير على طريقه ... والآخر ضار بالاثنين بمناقضة الحاسد لأعمال المحسود ثم السعي وراء أذيته، فيصطدم الاثنان مرارا ويسقط الحاسد في أكثر الأحيان، ويكونان بهذا اتبعا آية شمشون الجبار القائلة: «علي وعلى أعدائي يا رب.»
الفصل الخامس عشر
ناپیژندل شوی مخ