كان الفتى ضليعا شديد النشاط قوي الذكاء. له رأي في كل شيء عن وثوق بعلمه أو بحدسه، ولذلك كان شديد الاستهزاء بالناس إذا خالفوه. فإذا اشتد أحدهم معه فالويل كل له من لسانه البذيء، ومن ثم كان لا يستطيب مجلسه أحد، ولا يطيل الحديث معه إلا أمثاله في خلقه من الحمالين، وعمال الأسواق، ومع ذلك فقد كان عريض الدعوى، يقول: إن أباه كان من أهل الثراء في منوف، وإن له أملاكا ورثها عنه في جزيرة أبشادي، وأنه إنما جاء إلى الإسكندرية ليتعلم الطب، وكان ما يكسبه من النسخ وتزيين الكتب والنقش المموه بالذهب معينا له على هذه الدعوى الكاذبة. فهو لم يكن إلا ابن خادم من خدام الكنيسة في منوف فلما مات أبوه ضمه المطران إلى الكنيسة، وهناك تعلم القراءة والكتابة، وطمع أن يكون شماسا، لولا ما جرى من قتل المطران وهروبه به هو إلى الدير.
على أنه كان فوق هذا كثير الارتياد لأماكن اللهو السافل في الإسكندرية، يتظاهر فيها بالثراء فيما كان ينفق في الخمر وفي الميسر حين أنه كان في الواقع ينفق مما يبتزه ابتزازا من خليلة كانت له في بعض المواخير، وإذا كان العالم من أخيار الناس بعيدا عن أن يتسمع أو يسمح لأحد بالوشاية فيه، بل ولا أن يصدق ما كان يرويه له ضباط الشرطة من سيئاته؛ لأنه كان يراه هادئ الطبع مكبا على العمل لا يتكلم معه إلا بصوت خافت، ولا إن حادثه؛ لينظر إليه معاينة - فقد احتضنه، وعمل بطرس من ناحيته على دوام هذه الثقة؛ لينتفع بجواره، ونسخ ما لديه من نفائس التأليف فكان يسعى في خدمته، ويرعى مصلحته.
وإذ كان الأستاذ مترملا من زمن بعيد، ثم زادت وحشته بعد سفر الحارث بهرميون ولمياء فقد خطر له أن يستأنس بالمجاور في داره فعرض عليه أن يخصص له في جانب البستان غرفة مما ألحق بمكتبته ينزل فيها ويقيم، وأن يكون أمين مكتبته بأجر مقدر فتفضل بطرس بالقبول! ولكنه التمس، أو بالأحرى اشترط، أن يسمح له بارتياد كنائس الرب؛ لكي لا ينقطع عن موارد الهدى والتقى! ومن ثم أصبح من قوزمان بمثابة «سكرتيره» الخاص، إلا أنه كان قد اقتطع لنفسه كل ما يحتاج إليه من الزمن لارتياد مباءات الخنى لا لالتماس موارد الهدى.
الفصل السادس والثلاثون
حارس الأمير
كان للقائد تيودور شقيق نيقتاس أمير الديار المصرية من قبل هرقل جانب من القصر الكبير في الإسكندرية يشغله من يوم أن فتحها أخوه في سنة 610 ولكنه كان على اتصاله بالقصر مستقلا عنه، وكان له باب كبير لم يفتح منذ سافر تيودور على رأس الجيش الذي أرسله نيقتاس مددا لجيوش هرقل في الشام، وآخر صغير في خلفه يحرسه جندي مسن اسمه لوكاس كان في خدمة القصر منذ كان يسكنه والي مصر تيودور بن ميناس في عهد الإمبراطور موريقوس المقتول حتى أصبح الباب يعرف بسم الحارس نفسه، فيقال: باب لوكاس، لا القصر الصغير ولا منزل تيودور، وإنما بقي لوكاس هناك حتى في أيام فوقاس رعيا من الوالي لرجل خدم القصر مدة طويلة بأمانة وإخلاص، ولما جاء نيقتاس أقره من جديد في عمله بعد ما كبر وشاخ، ولكنه أمر أن يعزز بواحد من حرس القصر، وسمح للوكاس أن يقيم في الغرف المجاورة للباب بعد وفاة زوجته وقتل أولاده في الحروب والثورات، وإن كان قد بقي له حفدة كانوا يزورونه من آن لآن.
بلغت العربة بهيلانة وورقة عند هذا الباب فترجلت وترجل، وكان لوكاس جالسا على كرسي هناك يحادث حفيدا جاءه زائرا على العادة فمستنزفا ما يكون معه من النقود؛ لأنه كان من الممثلين الذين يعملون في دار التمثيل، وهي إذ ذاك معطلة بسبب الحرب وأخبارها السيئة، وركود الحياة في المدينة، وكان الجد يحبه؛ لظرفه ومبالغة الفتى في رعايته وتعمد تألفه، ولذلك كان في ذلك الوقت يعطيه معه؛ ليسعده جزاء إسعاده وزيارته إياه، ولذلك لم يلتفت إلى العربة ولا إلى من نزل منها، حتى إنه لما لفت إليها استمر ينظر إليهما، وإلى ملابسهما الغريبة وهو على حاله من انشغال القلب بحفيده المحبوب فلم يتبين هيلانة، ولم يعرفها حتى نادته باسمه فتنبه، ولكنه مع ذلك استمر جالسا، وقال: كأني بمولاتي هيلانة تناديني! قالت: نعم يا لوكاس، قال وقد نهض: يا رحمة الله! أنت هنا! قالت: نعم. قال: معذرة إليك يا مولاتي ما ترقبت حضورك، والواقع أنه كان قد سمع بقتل زوجها وبلغه مقتلها هي وولدها، ولكنه لم يشأ أن يثير هذه الذكرى المؤلمة ساعة اللقاء فتظاهر بجهله، وعمل على مداراة عواطفه التي ثارت لدن رؤية سيدته، وقال لحفيده: اذهب يا أنطونيوس ونبه الخصي الذي في خدمة القهرمانة إلى مقدم مولاتك فانصرف أنطونيوس مسرعا، ونهض لوكاس إلى سيدته يدلف نحوها متجلدا، ويقول: مرحبا بسيدتي، ولكن ما هذه الثياب التي أنت فيها؟ قالت مجارية الرجل في مظاهره: ثياب الصحراء! تركت كل متاعي من الدنيا في بيت القدس، وجئت فارة بنفسي من القتل في حماية هذا السيد العربي إنه يعرف الرومية كأهلها. فحياه لوكاس بإكرام، ورد ورقة التحية بمثلها، وقالت هيلانة: أنزله عندك أكرم مكان، واجعله في رفقته أحد أولادك. أليس هذا أنطونيوس حفيدك؟ قال: بلى يا سيدتي. قالت: لقد كبر! ليكن في رفقة السيد ورقة يريه المدينة ويعنى به. قال: سيكون كولدي يا سيدتي . مرحبا بك في دارك.
أدركت هيلانة من دموع تترقرق في عيني الرجل أنه عالم بما وقع لها، وأدركت كذلك سر سكوته عن السؤال عن زوجها وابنها، واقتضابه القول في الحديث معها، وكانت هي تتجلد كذلك تفاديا من موقف لا يجمل بها، فأمعنت في الاهتمام بشأن صديقها، والتفتت إلى الحوذي وهو حامل جوالقه، وأفسحت له الطريق ليدخل، وأشارت له بذلك، وتقدمه لوكاس فدخلت وراءهما؛ لتطمئن على منزل ورقة، وأشارت إليه ليدخل معها، وإذ رأت غرفة مفروشة وسريرا ومقعدا واستحبتها قالت: لا بأس بهذه الغرفة مؤقتا. ثم سألت الحارس عن رفيقه في الحراسة فقال: إن أهل القصر لم يعودوا يستطيعون تعزيزه بآخر كعهدهم قبل سفرها؛ لشدة الحاجة إلى الجند في الشام. قالت: لتكن هذه الغرفة غرفة السيد ورقة حتى حين.
وكان أنطونيوس قد عاد يخبر جده بأنه فعل كما أراد. فقالت هيلانة: فلنصعد إذن. ثم التفتت إلى أنطونيوس وقالت وهي تحاول كتمان عواطف قلبها المحترق: لقد كبرت يا أنطونيوس وصرت رجلا هماما كجدك كيف حالك؟ فانحنى أنطونيوس وقبل يدها وشكرها، والتفتت إلى ورقة تودعه وبها من الشعور المتضارب ما لا يستطاع تحليله، ولكنها كان على فرط ما يلذع قلبها من لهب الوجد والحسرة؛ لعودتها إلى دار لا تجد فيها من كانت الدار به جنة ودارا، تستشعر نوعا من الفجيعة؛ لاضطرارها إلى ترك ورقة الذي أصبحت ترى أن مرآه، وحديثها معه، واجتماعها به - هو الخيط الذي يربطها بالدنيا، ولذلك كانت عندما همت بالصعود إلى غرفتها يتقدمها الحارس لوكاس الشيخ، كأنما هي تقاد بالرغم منها إلى حكم ينفذ عليها، وبودها لو بقيت مع ورقة عند الحارس، أو أنها أصعدته معها، ولكن هذه الأمنية الأخيرة كانت أبعد الأمنيتين عن نفسها، لا لأنها لا تملك ذلك أو أنه لا يليق بها، بل لأنها تكره أن يكون وعاء ما تستشعره لورقة من العواطف المبهمة - هذه الغرف. عواطفها كانت تجنح إلى جو من الصحراء والوحدة والجبال، والشدة والمغارات؛ لتنعم بعطف هذا الفتى الذي لم تجد له شبيها فيمن رأت من الناس أو سمعت أو وهمت، وهي تصعد الآن باختيارها لتحبس وتدفن، وتحرم نور الشمس التي كانت تغمرها من ورقة بأشعتها المدفئة المسعدة: أستودعك الله يا ورقة إلى حين قريب جدا، ولكن حياة القصور غير حياة الصحاري، ومع ذلك فلن يطول فراقنا، ولا احتجابي عنك ولا مكثك هنا، ولكن قبل أن أصعد إلى غرفتي التي ما جئتها إلا لأسارع إلى أمر انتويته، وإلا لكسرت الأبواب ودخلت بيت أبي، أرجو أن تتقبل شكري. قال ورقة: سيدتي! إنك لتؤلمينني بهذا المقال. قالت: لن أطيل الكلام في هذا. لست مدينة لك بحياتي التي عملت على إنقاذها فهي أبخس شيء عندي، بل أنا مدينة لك بما لا أعرف ما هو، ولكني أعرف من أثره أني لا أطيق الغيبة عنك، أشعر أنك أصبحت لي في شقوتي التي تعرف كالنسيم للصدر، وكالنور للعين. أستودعك الله إلى لقاء قريب.
بكى الحارس عند ذلك بكاء غمر وجهه ولحيته، ولكنه لم يفصح عن حزنه؛ لكيلا يفجر في قلب سيدته مرجل حزنها الذي كان باديا له من وراء حديثها، ولذلك تقدمها في سكوت، وصعد درج السلم معها إلى مستقر عزها الراحل، وشقائها المقيم. •••
ناپیژندل شوی مخ