لا نطيل فيما لقيت هيلانة من الوجد في دارها، ولا كيف لقيت من جئنها من نساء القصر للتعزية، ولا ما حدث حين وقف الأمير الخير نيقتاس يذكر سماحة أخيه، وما يلقى من الفجيعة فيه، وكيف أنه بالغ في إكرامها كما بالغ في عتابها على ما أبدت من الرغبة في الانتقال إلى بيت أبيها، ولا أنه أمر القهرمانة بإعداد بطانة لها من خير جواريها فهذا ما جرى.
ولشد ما كان إعجاب الأمير بورقة ونبله؛ إذ كانت تروي هيلانة له قصته معها حين كان يغسل جرحها وينزع عنها ملابسها، وأكبره الإكبار كله حينما روت له ما كان منه في الغار، ورده الخاتم، واحتفاظه بتنكرها حتى بعد أن لم يعد في الكتمان من مصلحة، وكيف كان يبيت في مواهن الليل في الصحراء يقظا؛ ليحرسها من أذى أشرار القافلة، ولا ينام إلا وهو سائر بها في الضحى أو في المقيل، وذكرت له من أخباره ما علمت من سبب هجرته من مكة ويثرب، وما كان يبدو منه في معاملته لصوص القافلة من الحزم والشدة التي تبينوها منه فهابوه، وهو فتى لا تزيد سنه عن الثانية والعشرين.
وكان نيقتاس في أيامه الأخيرة قد بدأ يشعر أن هناك ازورارا عنه من الناس، كأنما أوجسوا أن الدنيا توشك أن ينقلب حالها، فلم يعودوا في حاجة إلى دوام التظاهر بالولاء له، وكان قد علم بأن الفرس أعدوا عدتهم لغزو مصر
1
ولا بد أن تتجه نفوس اللؤماء إلى التقرب إلى الغزاة، ويفكر بعضهم في أن يعجل لهم برهان ولائه، ولا غرو أن يعملوا على أذاه كما عملوا مع كل من تقدموه من الولاة؛ إذ كانوا يأتمرون بالحكام ليقدموا رقابهم إلى الأعداء عربونا على الطاعة والولاء، وزاده شعورا بذلك ما رآه في المدينة من قيام الثورات في حي اليهود في الشرق، وفي حي رقودة المصري الصراح على من بقي من جند الروم في الإسكندرية بل وعلى كل رومي تسلفا لليوم الذي لا يرون فيه ظلا لمذهب الروم. فما إن ذكرت هيلانة له ما ذكرت عن ورقة حتى خطر له أن يجعله حارسه الخاص، وعززه في هذه الرغبة أن ورقة غريب عن الجانبين المصري والرومي. نعم إن المصريين كلهم عرب قدامى جاءوا في إثر عرب أقدم، ولكن الدين قطع صلتهم بأرومتهم حتى جهلوها، فلا ضير إذن من استخلاصه لنفسه، ولذلك أعلن هيلانة برغبته في رؤيته. فلما جاء رأى فتى أقل مظاهره ما ذكرت هيلانة، بل بدا لعينه منه صورة الفتى المقدوني الذي أعطاهم ملك مصر، إلا أنه في ثياب عربية، فتلقاه الأمير بتحية خالصة أملاها عليه إعجابه بالفتى؛ إذ وقف أمامه يحادثه بكلام متزن، ووقار ليس فيه أثر من آثار الادعاء أو الغرور، أو الجهل بالفروق، أو الشعور بما كان له من الفضل، ولا فيه مظهر من مظاهر الرهبة التي تعتري صغار الناس لدن لقاء الأمراء، وإن يكن يلقى الآن أميرا يملك مصر، وتدين له الدنيا من ربوع الشام إلى برقة إلى بلاد النوبة، فهو أعز من كل ملك، وأدعى أن تهتز النفس بحضرته، وحادثة نيقتاس يقول له: علمت يا فتى بما كان منك من البر بالأميرة والعناية بها، فلا أملك لقاء هذا إلا شكرك. قال شكرا للأمير، إن من نعم الله على الإنسان أن يمكنه من أداء حق الناس عليه. قال الأمير: وهل كان للأميرة عليك حق في شيء؟ قال: إن للناس في مروءة الناس حقا مشاعا من يقصر عن أدائه وهو قادر عليه سقطت مروءته وهزل. قال الأمير: ولكن من المجزي عن التقصير؟ قال: الله. قال الأمير: في الآخرة. قال ورقة: في الدنيا قبل الآخرة قال: كيف ذلك؟ قال: تتضع نفسه لدن كل حادثة قدرا، حتى إذا تلفت يرى نفسه لم يجد شيئا. جزاء الإنسان من مروءته النبل، ومن كان للناس، غير مسئول ولا متدخل فقد بلغ غاية المجد وإن لم يكن أميرا. قال الأمير: ولكن هذا قد يقتضيه دمه وحياته. قال: من يمت في مكرمة فقد عاش.
لم يملك الأمير من إعجابه بورقة وفرحه بأن يجد فيه أمنية نفسه إلا أن يلتفت إلى هيلانة، وكانت إذ ذاك تلتمع عينيها ببريق الزهو بصاحبها، والإعجاب كذلك به، ويقول لها: أتقولين إنه فتى كريم! ما أعجزك يا أختي عن تقدير الرجال! إنه للفتى النبيل. قال ورقة: شكرا للأمير وحمدا لله على حسن ظنه بي. قال: إن شئت فإني جاعلك حارسي ورفيقي. قال ورقة: هذا بعض برك أيها الأمير، أرجو أن أحسن اقتباله، وأجزيك عنه بمثله. قال الأمير: أنت اليوم في خاصتي برتبة أمير مائة، وسيكون لك في مرقدي من القصر مرقب مهيأ. إني في حاجة إلى بطل نبيل مثلك، ولكي تبدأ حياتك في القصر كرصفائك سآمر لك بمائتي هرقلي لا ردا لما أنفقت، فإني لا أريد أن أفسد مروءتك، بل تحقيقا لما قصدت، وسيجيئك الآن خائط القصر وخازن سلاحه؛ ليعدا لك ما يحتاج إليه شأنك في خدمتي من اللباس والسلاح، وأنت أيتها الأخت هيلانة، أكرمي فتاي فلم يعد فتاك، حتى تعد له غرفة بجواري. قالت: شكرا لأخي، حمدا لله. هذا ما أملته من فضلك لمن غمرني فضله، وسيرى الأمير من أمره أكثر مما رأى. قال نرجو الله أن يوفقه إلى الخير، والآن أستودعك الله يا أختاه إلى لقاء قريب، ثم التفت إلى ورقة فرأى في عينيه مقالة يريد أن يزجيها فقال له: هل من شيء تريد قوله يا ورقة؟ قال: رجاء يا مولاي الأمير. قال: ما هذا؟ قال: أن أتقلد سيفي العربي الذي صحبني منذ عركت مقابض السيوف، ففيه سر النصر، وأن أحتمل قوسي التي وهبني الله إياها إثر ما أنقذت الدنيا من شرور قرضاب، ولي فيها ذكريات أخرى. قال: لا بأس بما ترى، بل لعمري إن فيهما لعلما على فتاي النبيل، هل لك من أمنية أخرى؟ قال اثنتين ما أهونهما: ألا يؤبى علي زيارة مولاتي هيلانة؛ لأنها صلتي بالصحراء التي أستمد منها الحياة والسعادة، وذكرى الأهل والأحباب. قال الأمير: وهذا لك يا ورقة، بل هذا خير لنا وأعود بالخير، فما الثانية؟ قال: الثانية ألا تحملني على مشاركتك إذ أنا من جندك، في حضور صلاتكم في الكنائس؛ لأني أومن بغير دينها، وإن أكن أومن بالمسيح
صلى الله عليه وسلم
وبأمه مريم العذراء البتول. إني مسلم يا سيدي، أومن بواحد أحد لا شريك له. قال: هنيئا لك دينك ولي. ثم ضحك، وقال: لا أريد أن يشتغل حارسي وقت صلاتي في الناس بصلاة. أليس كذلك يا هيلانة؟ قالت: بلى وربي. أنت على حق. قال الأمير: هل من أمنية أخرى يا ورقة؟ قل فهذا وقت لا أملك فيه رد سؤال. فضحكت هيلانة ضحكة كريمة وقالت: ما أشد شكري للأمير، ولكني لا أظن أن قد بقي لديه شيء. قال الأمير: إذن فعلى هذا، ثم انصرف مودعا من هيلانة بأكرم مجالي الشكر والامتنان، وعادت إلى ورقة تهنئه وتشكره على تقاضيه من الأمير حق زيارتها، وكادت لفرحتها تتناول الفتى تقبله، ولكنها تنبهت فانحدرت إلى مجلسها، وفي فمها بقية من كلماتها التي كانت تسير بها عائدة من حيث ودعت نيقتاس.
الفصل السابع والثلاثون
هرميون ولمياء
ناپیژندل شوی مخ