كل ذلك يفعله النحل وأنتم عنه غافلون، وهل ذلك لشهوة من الأبناء يبتغيها، أو ثمرة يجتنيها، أو حاجة يقضيها؟ كلا والله، فعل ذلك بغريزته، إنه عبرة لكم وتعليم، الإنسان أضعف في ذلك غريزة، وأكبر عقلا، فهلا رفع نفسه إلى مرتبته، وترقى إلى درجته، فاعتبر كل أمة من أممه شخصا، وحلت الأمم في الإنسان، محل الأفراد في الحيوان، وحاطت الأمة غيرها برعايتها، وعطفت عليها عطف النحلات على أبنائها، وإلا فما الفارق إذن بينكم وبين النحلات، تلد وأنتم تلدون، وتربي وأنتم تربون، الفرق أنكم أوسع إدراكا، وأرقى شأنا، فلتربوا الأمم كما تربون الذرية، وليكن سائر الإنسان على سطح الكرة الأرضية، ككوارة واحدة ، وإلا فلتكبروا على عقولكم أربعا لوفاتها.
النحل بلغت النهاية في الرعاية، ورقت أعلى صفة في الهندسة، ووكل لغريزتها تشكيل أبنائها، وبناتها، ونظام ذريتها. والإنسان حرم هذه الغريزة، ومنع هذه الفضيلة. وتكفلت الفطرة بتشكيل الذكران والنسوان، ونظام عددهما، وتقارب مقدارهما، وقيل للإنسان: ضع كل امرئ في درجته، وأقم كل أمة فيما أعدت له. قسمنا لك الذكران والنسوان، وعدلنا في تعدادهما، وتقسيم الغرائز النافعة على أفراد نوعهما، ففتش عن الغرائز، وابحث عن الطبائع، واستعن بكل من الأفراد والأمم على ما خصص له بفطرته، وما هيئ له بغريزته، تقول الحكمة الإلهية للإنسان: وكلنا للنحل أمر بدايته، وعليها أعناه، ولم نبح له أن يتخطى حدها ويتعداه، وقد أحكمنا لك أمر البداية، فتول أنت شأن النهاية. فقلت له: وما الحكمة الزاهرة؟
الحكمة الزاهرة
فقال: لقد أحسن علماء التشريح والنفس، عرفوا تقسيم الأعمال الإنسانية، والحركات الحيوانية، فألفوها موزعة على أجزاء المخ، منظمة مرتبة، والناس عنها غافلون.
للعين مرآتها في مؤخر الدماغ، وللأذنين مرآتاهما في الصدغين متخالفتين بحيث ترتسم آثار الأذن اليسرى جهة اليمين، وآثار اليمنى جهة اليسار.
عرفوا أن أعصاب الحركة أقرب إلى المقدم والجبهة حول الشق الداخل في الدماغ، الذي اكتشفه العلامة «رولاندو» الألماني، ومعها الأعصاب المحركات للسان، أدركوا كيف كان للغات لوح منقوش نحو وسط الدماغ، وللحروف المكتوبة لوح محفوظ نحو أعلاه، لوح الكتاب مخلوق وهو عند العامة غير مكتوب، وعند المتعلمين مكتوب.
كل ذلك عرفه العلماء بالتجربة، وأدركوه بالتمرين، هكذا بحثوا في أنواع الحيوان، من سمك يعوم، وحمام يطير، وصقر يصيد، وقرد ذي تقليد، وإنسان ذي بيان.
لو زل المخيخ الذي خلف المخ لاختل سير الإنسان، وزاغ، ودار على نفسه في مشيته، وضل في أعماله. رتبت أحوال الإنسان على الدماغ، فمؤخره لنظام العين، ومقدمه لسائر الحركات، عجب عجاب، حقيقة أدركها الطبيعيون، فيا ليت شعري، ماذا فعل الحكماء والسياسيون، أنتم والله نائمون غافلون.
يا حكماء الأمم، ماذا فعلتم، ماذا أدركتم، ماذا فهمتم، حرام عليكم حرام، لكم عقول فأين نتائجها، وآذان فأين مدركاتها، وأبصار فأين غاياتها، الإنسان غافل نائم ساه مسكين. يا حكماء الأمم، يا عظماء الرجال، خبروني أليس الإنسان كله كشخص واحد ؟ وهل الفطرة التي نوعت الأعمال في الدماغ، ووزعت الإدراك، والحركات على أنحاء المخ، يغفل مبدعها، ويأنف صانعها أن يقسم الأعمال الإنسانية، على سائر الآدميين، من سكان الكرة الأرضية؟
جهل الناس! إن جهل أمة، أو ضعفها، راجع بالضعف على الباقين، إنما الأرض كالجمجمة، والناس على سطحها موزعة عليهم الأعمال، توزيع القوى على سطح الدماغ، تعاونت قوى الدماغ، فهل تعاونت الأمم على أديم الأرض تعاون قوى الدماغ على ظاهر المخ، ألا إن الناس صالحون فرادى، ضالون جماعات. فقلت: وما الحكمة الجميلة؟
ناپیژندل شوی مخ