وهل يحصد الناس وهم لم يزرعوا، وهل ينفع الدهان الجمل الأجرب على وبره، أو يحصد الناس الزرع بلا غرسه وبذره، فلتبذروا بذور المحبة في أفئدة الطالبين في مدارس الأرض شرقا وغربا، واغمروها في ماء المحبة العامة قلبا قلبا، وزجوها في نور الود في الصبا، ثم اجنوا بعد ذلك الثمرات، واعقدوا فيما بينكم عقد المودات.
ثم رفعت طرفي إذا حولي أمم لا يعلم إلا الله عددهم جاءوا من كل حدب ينسلون، لينظروا هذا الإنسان الصغير كيف يكون. فقلت: ماذا تريد هذه الدهماء؟ وما تبتغي الجماعة وهذا السواد المقبل؟ فقال: إنهم جاءوا ليروك. فقلت: ماذا يقولون؟ فقال: يقولون: إنكم قرود الإنسانية. فقلت: وما قرود الإنسانية؟ فقال: حيوان نصفه بهيم ونصفه إنسان، وأنتم الآن هكذا يا معشر بني آدم.
ولكن آنست مشهدا جميلا ما رأت عيني مثله، آنست النظام والترتيب، آنست الجمال والنور، آنستهم جميعا على الكراسي صفوفا لا يحصرها العد وهم لي ينظرون، ومن صغر جثتي وقصر قامتي وجهل أبناء جنسي يتعجبون، وعلمت أنهم عرفوا ما دار بيننا من الكلام بالجرائد العلمية، والمجلات الدورية، وقد عرفت في وجوههم نضرة النعيم.
فلما أن دنت الغزالة للغروب، تأهب القوم للوثوب، فلما أن أقبل الليل بجحفله وأسدل الظلام على النور أستاره وناء بكلكله، آنست اللامعات الدراري الحسان تتلألأ في جو السماء، وتبهر الأبصار بنورها الوضاء، شاهدت فيها جمالا لم أره، وحسنا لم أشاهده.
وبينما أنا إليها ناظر ولها مشاهد إذا فتاة تبهر القمر نورا والكواكب حسنا، ظاهرة في الجو ذاهبة جائية في الهواء، فنظرتها إذا عليها ملابس زرق سندسية صافية زهرية، وأخرى بنفسجية، لو رأيت ثم رأيت وجها مشرقا بدريا، طل من طوق حللها الزرق البهية كما يطل البدر الطالع من طوق الحلة الزرقاء السماوية، وهي تتغنى بأبيات وتنشدها بنغمات، كأنها المثالث والمثاني، بأبلغ الألفاظ وأرق المعاني، ما سمعت نظيرها على الكرة الأرضية من الآلات المطربة الشجية، لقد بهرني جمالها، وغشي على لبي غناؤها، فسمعت من نظمها ما ترجمته بالحرف الواحد.
يا أيها الناس اسمعوا مني وعوا، قارنوا سعادتكم ورفاهيتكم ومدنيتكم بما أوتيت حشرة أبي دقيق من الغبطة والسعادة، وما سخر لها من الكواكب بالضياء، والماء بالسقاء، والهواء بالتغذية، والإنسان بالخدمة، والحيوان بالمساعدة.
بم تفتخرون؟ إن أعظم ما أوتيتم من السعادة أن حفرتم الأنهار، وسقيتم الأشجار، وجنيتم الأثمار، وأدرتم الدولاب، فنسج اللباس، وخاط الجلباب، ورفع الماء، وطحن الحب، وخبز العجين، وجمعتم البخار، وأثرتم الكهرباء، فدفعا القطار، وأرسلا البريد في البحار، والقفار، ورويا الأخبار، وحللتم العناصر، وصنعتم منها أجنحة طرتم بها في جو السماء، ثم قهرتم الأعداء بالسلاح.
هذا جل ما أنتم به تفتخرون، وأعظم ما به تستكبرون، هذه ثمرات مدارسكم، وغرس كلياتكم وملخص عقولكم، وجهد فلاسفتكم، وعلم حكمائكم أجمعين، حشرة أبي دقيق دبت على الأرض، وطارت في الجو، وقد كسيت ريشا جميلا مزوقا بهيا للناظرين، ها أنتم ترونها تسكن القصور الخضر من الأوراق النضرات، والأزهار الباهرات، قد سخرت لها الشمس بضيائها، والقمر بنوره، والنجم بهدايته، مرسلات أضواءها إلى الأرض، تنمي النبات، وتجري الماء كما سخرت لكم، فأنتم وهي سواء، تأكلون وتشربون، ثم إنكم مسخرون بآلاتكم وعقولكم وكلياتكم، وما أوتيتم من معامل ومصانع وهندسة وحساب وآلات ميكانيكية «دولابية»، فبذلك تزرعون، وهن آكلات فرحات طربات، مسخر لها طلاب العلم وعلماء الكليات في مشارق الأرض ومغاربها.
قل لقومك يا إنسي إنكم عندنا لم تسبقوا حشرة أبي دقيق البهية الطلعة الحسنة المنظر، فإن زعمتم أنكم أرقى منها بعقولكم ومدارسكم وكلياتكم فخبرونا ما الذي بها صنعتم، وما الذي به عن الحشرة امتزتم، أكلتم وأكلت ، شربتم وشربت، لبستم ولبست، سخرت لكم العلوم والآلات وسخرت لها، خدمكم الناس والدواب طوعا أو كرها وخدمتموها، فما بالكم تفخرون، مشيتم على الأرض وركبتم القطار، وطرتم في الجو، هكذا الحشرة زحفت دودة ثم مشت بأرجل ثم طارت في الجو، فبم أنتم أيها الناس تستكبرون؟ أهذا منتهى مدنيتكم؟ إذا كان هذا رأيكم، فابكوا على عقولكم، وكبروا أربعا لوفاتها، وليكن اليوم آخر عهدنا بكم، أيها الناس الأرضيون.
ألا إنما فخركم الأعلى ومجدكم الأسمى، وسعادتكم العليا، وعزكم الأوفى، أن يتصافح الشرقي والغربي، والجنوبي والشمالي، والأسود والأبيض، ويكونوا إخوانا على سرر متقابلين، وليكونوا لبعضهم أحبابا فيسود السلام، كما أعان الطبيب الياباني العالم الألماني في اكتشاف دواء الزهري في هذه الأيام، فلولا تعلم اليابانيين ما برز منهم ذلك الطبيب الشرقي وساعده أخاه الغربي، إن في ذلك لآية لكم إن كنتم تعقلون، كلما كثر المتعلمون الصادقون اتسع نطاق السعادة.
ناپیژندل شوی مخ