المعاني هي المحسوسات والمعقولات، وأنتم مستعدون جميعا لفهمها، فهل اختلاف لباسها، والعبارة عنها باللغات ينسيكم فطرتكم، ويجعلكم فرقا، وهل تكره ابنك وأخاك إذا ما لبسا غير لباسك أو تزييا بخلاف أزيائك، إن هذا إلا ضلال مبين، إنكم ما أدركتم سر دياناتكم، إن أفاضلكم وأشرافكم، وهم الأنبياء رأوا أن كل فريق منكم يسكن أرضا معلومة يتحدون على غيرهم، ويجعلون المكان عصبية، والقرابة سلاحا، ويتخذون المصاهرة والوطنية سلاحا يحاربون بهما من عداهم، فقام أنبياؤكم ينذرونكم سوء المنقلب، وقالوا: لا تعبدوا إلا الله وأحبوا سائر البشر، فأنتم إخوان لا يحجزكم عن الأخوة مكان، ولا تصدكم قرابة، فاتخذتم تلك الديانات والعقائد أسلحة تحاربون بها من خالفكم في عقيدة أو دين.
ولقد جعل الله عز وجل مصاهرة الأباعد ليتحد الناس، وليعلموا أنهم كبني رجل واحد، وامرأة واحدة، وحرم عليكم أخواتكم وبناتكم وكثيرا من محارمكم؛ لأنكم تحبونهم ويحبونكم بالقرابة، وحلل لكم أن تتزوجوا من الأباعد لتتواصلوا ويتكاثر الأحباب، فالقريب لقرابته والبعيد لمصاهرته، فلما أن فعلتم ذلك جعلتموها سلاحا تشهرونه على من عاداكم، كما اتخذتم اختلاف اللغات والديانات والأماكن، وذلك لما طبع على قلوبكم من الطمع والجشع، وسوء الملكة وتربيتكم في مدارسكم ومنازلكم، وأنتم في عذاب الخزي تعيشون.
الفصل السادس عشر
إيضاح مسألة الأقوى والأضعف وإننا نفعل فعل الحيوان
فلما أن سمعت منه ذلك امتعضت أشد الامتعاض، وقلت: والله لأدافعن، وأقاومن، ولا أدعه يعيرني بجنسي وإخواني، لقد سبنا سبا فاحشا، وسوف ينشر في مجلاتهم وجرائدهم، وأكون أنا سببا في سب هذا النوع الإنساني، واسوءتاه! ويا للعار! ويا للشنار! فقلت: كيف تقول إن الحيوان أرقى منا، ونحن نقرأ الحكمة، ونعرف الفضيلة، ونحكم بالعقل، ونقول الصدق، وفينا أشرف الحكماء، وأفاضل العلماء، والصالحون، والأدباء، والشعراء؟
فقال وهو يتبسم: انظر، فرفعت رأسي، إذا مقمعة من حديد مكسوة حريرا أبيض. فقلت: ما هذا؟ فقال: هذه آدابكم، وأخلاقكم وحسن معاشرتكم، إنكم ظالمون، لكنكم تدهنون، إذ يضرب بعضكم بعضا بمقامع من حديد بمكر وخداع، وكذب وزور، فتناولونهم المر مغلفا بالحلاوة، ويشربون العلقم في صورة العسل، وتسطو الأمة القوية على الضعيفة فتظلمها، وتسومها سوء العذاب، وهي تتظاهر لها بالمحبة والإخلاص، ففعلها مثال المقمعة، وقولها مثال الحرير الكاسي لها، وباطنكم الظلم وظاهركم العدل.
فما أسوأ أخلاقكم، ألا إن الآساد لأشرف منكم، فإن ظاهرها باطنها، وباطنها ظاهرها، دأبها الصدق، ودأبكم النفاق، فأخلاقكم فاسدة دنيئة ثعلبية، فليتكم لم تكونوا، وما أقبح سياستكم، وأشنع ظلمكم، إن الإنسان لظلوم كفار.
ثم قال: فائتني بغير هذا إن كنت من الصادقين. فقلت: إن طبيعتنا لا تتجاوز الناموس الأرضي، وكله إهلاك وتدمير، والأقوى يأكل الأضعف، فإذا سرنا على سننا المعهود فلا جناح علينا، ولا إثم، ولا تثريب، ألا ترى أن العصافير والقنابر والخطاطيف وغيرها تأكل الجراد والنحل والذباب والبق وما شاكله، ثم إن البواشق والشواهين وما شاكلها تصطاد العصافير والقنابر وتأكلها، ثم إن البزاة والصقور والعقبان تصطادها وتأكلها، ثم إذا ماتت أكلها صغارها من النمل والذباب والديدان، وهكذا سيرتنا، فإننا نأكل لحم الجدي والحملان والغنم والبقر والطير وغيرها، ثم إذا متنا أكلنا الدود في قبورنا والنمل والذباب وغيره، فيأكل صغار الحيوان كبارها، ويأكل كبارها صغارها، فعالمنا الذي عشنا فيه مسوق بطبعه إلى التغلب والافتراس، وأن يأكل بعضه بعضا، ويرجع آخره إلى أوله، وأوله إلى آخره.
عند ذلك رأيت حملة الأقلام والكتاب ومكاتبي الجرائد جميعا ينظرون إلي شزرا، وقامت ضجة بالمكان وتكلموا بلغة أجهلها، فسألت صديقي أن يترجمه فأحجم وقال: إنهم لا يعجبهم هذا القول، وقد عدوه رأيا ضعيفا، أساسه الوهم، وعماده الخيال، وسقفه الجشع والطمع وجهل الحكمة. فقال: أظن هذه أكبر حججكم، وأقوى أدلتكم، ولذلك كررتها وأعدتها، فافهمها حتى تعلم حقيقتها، ولا تحتج بها مرة أخرى.
إن ما ذكرته من أكل العصفور الجراد، وأكل الباشق العصفور، وأكل العقاب الباشق، ثم أكل الدود والنمل الباشق، وأكل العصفور الدود إنما ذلك تكوين لدائرة من دوائر وجودكم، فإنك تراه هكذا، دود عصفور باشق عقاب دود، وهكذا يرجع آخرها لأولها، وأولها لآخرها. إن هذا نظام طبيعي، وحكمة عجيبة، وجمال في النظام، كما دارت السنة فصارت ربيعا وصيفا وخريفا وشتاء، وكما تخلقون من ضعف، ثم يكون بعد ضعفكم قوة، ثم يكون بعد قوتكم ضعف، فترجع آخرتكم إلى أولاكم، وكما يتكون النبات من العناصر ويزهر ويثمر، ويعود مفرقا إليها ثانيا، وكما يغتذي النبات بالعناصر، والحيوان بالنبات، والإنسان بالحيوان، ويرجع الحيوان إلى التراب كرة أخرى، وهكذا رأى فلاسفة الأمة الإسلامية.
ناپیژندل شوی مخ