214

زما ورقې ... زما ژوند (لومړی برخه)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

ژانرونه

يأتي الصبح ولا نعرف شيئا. لا أحد في الكون يعرف الحقيقة إلا الله والسيد الرئيس. هكذا قال يوسف إدريس لشريف عبر أسلاك التليفون، يضحك ويقهقه بصوت يهز الأسلاك. أيوه يا شريف محدش عارف حاجة، البلد على كف عفريت، فاكر حريق القاهرة في يناير اثنين وخمسين، الحكومة والإنجليز حرقوا البلد عشان يضربوا العمل الفدائي في القنال، أنا متوقع حرايق في البلد مش حريق واحد، الجماعات الإسلامية دي عملها السادات عشان يضربنا يا شريف، عشان يضرب اليسار كله، وطبعا معاه الأمريكان، أنا باسمع اسمي في الميكروفونات فوق الجوامع، الجوامع دي كلها بنتها الحكومة بفلوس أمريكا، عشان يتخلصوا منا يا شريف، أنا عارف إن الحكومة والأمريكان عاوزين يخلصوا مني أنا بالذات؛ لأن مقالاتي في الأهرام أخطر من المقالات في صحف المعارضة، عاوزين يقتلوني يا شريف. - مش أنت لوحدك يا يوسف، فيه ناس كثير عاوزين يقتلوهم أكثر منك، لو كانت الحكومة عاوزة تتخلص منك كانوا شالوك من الأهرام يا يوسف. - أيوه يا شريف، لكن أنا عارف إن الحكومة سايباني أكتب عشان تكون عندنا معارضة وديموقراطية، لكن المسألة تطورت وخلاص مش عاوزين أي معارضة، على فكرة أنا سمعت اسم نوال، مش عارف إزاي يهدروا دم امرأة؟ - زي ما بيهدروا دم الرجل يا شريف. - لكن المرأة غير الرجل يا شريف. - مش فاهم. - في الصعيد مثلا دم الرجل هو المطلوب في الثأر، وفي السياسة أيضا دم الرجل هو المطلوب. - ليه يا يوسف، هو الرجل فقط اللي عنده دم؟!

كان الجدل يدور بين شريف ويوسف عبر أسلاك التليفون، يضحك يوسف بصوت عال، تهتز الأسلاك مع قهقهته ويتحول الحديث من السياسة إلى المرأة.

كان يوسف إدريس زميلا لأحمد حلمي في كلية الطب وأحمد المنيسي وفؤاد محيي الدين وغيرهم من الطلبة، لماذا بدا أحمد حلمي مختلفا عن الجميع؟! الصوت الهادئ المنخفض، الكلام القليل، الخطوة فوق الأرض الواثقة غير المتسرعة؟ العمل في صمت دون ضجة، في الاجتماعات في المدرج الصغير كنت أراه جالسا في الصف الأخير، يتنافس زعماء الطلبة على الميكروفون وهو في مكانه جالس، يدقون بقبضة اليد على المنصة ويلقون الخطب، يثرثرون بأصوات عالية وهو صامت، يتكلمون في وقت واحد يقاطعون بعضهم بعضا، وإذا تكلم أحمد حلمي صمت الجميع.

حين التقيت لأول مرة بشريف حتاتة عام 1964 تذكرت أحمد حلمي عام 1951، برزت ملامحه من العدم، الجبهة العريضة، والشعر الأسود الغزير، الحاجبان الكثيفان، العينان، الأنف، الصوت، المشية فوق الأرض، الكلام القليل والعمل في صمت، مات أحمد حلمي بعد أن عاد من الحرب مهزوما، ماتت الروح قبل أن يموت الجسد، كان يحقن نفسه بالسم لينسى الخيانة، مات شهيد الوطن مثل أحمد المنيسي دون أن يقام له حفل تأبين.

كان زعماء الطلبة مثل زعماء الأحزاب السياسية، تعلموا منهم قواعد اللعبة، لم يستشهد منهم أحد، لم تسقط من أحدهم قطرة دم، أصبح فؤاد محيي الدين وزيرا للصحة ثم رئيسا للوزراء، كان في كلية الطب ضمن اليسار، عضو لجنة العمال والطلبة، وفي عهد عبد الناصر كان يخطب عن الاشتراكية والقطاع العام، وفي عهد السادات لم يعترض على شيء، جلس في مقعد رئيس الوزراء، يتلقى التوجيهات من السيد الرئيس، الانفتاح والرأسمالية والسوق الحرة والقطاع الخاص، ثم سقط في مكتبه ومات بالسكتة القلبية وهو رئيس الوزراء في عهد حسني مبارك.

التقيت بفؤاد محيي الدين لأول مرة عام 1951، في اجتماعات طلبة كلية الطب بالمدرج الصغير، تخرج قبلنا بعدة سنوات وتخصص في الأشعة، طويل القامة نحيف الجسم أنيق الملابس يشبه الطاووس، عيناه تتجاوزان كلية الطب إلى وزارة الصحة ومجلس الوزراء. التقيت به أكثر من مرة وهو وزير للصحة، كنا نتحدث في الأدب والإبداع، تتجاوز عيناه جدران مكتبه ويتنهد قائلا: كنت أتمنى أن أكون أديبا مبدعا مثلك ومثل يوسف إدريس. ثم يضحك، إيه رأيك يا نوال نتبادل المواقع، تبقي أنت وزير الصحة وأنا أديب مشهور في العالم زيك. أضحك وأقول له: إذا بقيت وزيرة الصحة لازم يرفدوني بعد أسبوع.

صوت أبي الميت كان يهمس في أذني، الوزير يأتي بقرار ويذهب بقرار ، والأديب لا أحد يعينه ولا أحد يعزله إلا قلمه.

لم يكن فؤاد محيي الدين صديقا، رغم حديثنا عن الأدب والفن، كان هناك حاجز زجاجي يقف بيني وبينه، ربما كنت أحس أن ميوله السياسية تحجب ميوله الأدبية، أن طموحه في المنصب العالي أكثر من طموحه الأدبي. يوم 25 نوفمبر 1981 كان لقائي الأخير بفؤاد محيي الدين، كان جالسا إلى جوار رئيس الدولة حسني مبارك فوق الكنبة المذهبة في قصر العروبة، إلى جواره محمد حسنين هيكل، ثم فؤاد سراج الدين، وشخصيات أخرى ممن أدخلهم أنور السادات السجن قبل اغتياله بشهر واحد. هذه الاعتقالات عرفت باسم مذبحة سبتمبر الأسود عام 1981، كنت واحدة من المسجونات، ثم أصدر حسني مبارك قرارا بالإفراج عن الدفعة الأولى من المسجونين بعد اغتيال السادات بشهرين، انفتح باب السجن في صباح ذلك اليوم وحملوني من الزنزانة داخل سيارة فولكس فاجن إلى قصر العروبة، حيث استقبلنا رئيس الدولة ورئيس الوزراء فؤاد محيي الدين.

كنت أرتدي حذائي الكاوتش، أخفيت داخله رسالة إلى رئيس الدولة أطالبه بالتحقيق في جريمة اعتقالي دون سبب إلا كتابة رأيي، قبل الاجتماع أخرجت الرسالة من حذائي وناولتها لرئيس الدولة، قرأها كلها حتى آخر سطر ثم قال لي: معلهش يا دكتورة نوال.

رنت كلمة «معلهش» في أذني غريبة، هل يضعونني في السجن دون جريمة ثلاثة شهور ثم يقولون لي معلهش؟ ألقى رئيس الدولة علينا خطبة عن نظامه الجديد في ظل الديموقراطية والحرية والقانون، علينا أن ننسى الماضي ونتطلع إلى المستقبل، قال بلغته هذه الحروف: بلاش ننبش القبور. وكان يعني أن ننسى فترة السجن، أن ننسى ما فعله السادات بنا، وأن ننتظر ما يفعله الرئيس الجديد.

ناپیژندل شوی مخ