196

زما ورقې ... زما ژوند (لومړی برخه)

أوراقي … حياتي (الجزء الأول)

ژانرونه

كلمة «موظفة» أو «موظف» ترن في أذني محملة بالإهانة، لها تاريخ سيئ منذ طفولتي، كان يكفي أن يقول أبي: فلان «موظف» لأدرك أنه ممسوح الشخصية، مسحوق بالعبودية، واجبه الطاعة مثل النساء في بيوت الزوجية.

منذ الفراعنة يحتل «الوزير» مركزا مرموقا في الدولة، كلمة «وزير» تخلع القلوب، تخلخل المفاصل، إذا ابتسم الوزير في وجه موظف ابتسمت له الدنيا والآخرة، وإن كشر الوزير في وجه أحد كشرت له الأرض والبشرية والسموات السبع.

أصبحت أجلس إلى مكتبي في الوزارة بلا عمل، كان الوزير غاضبا علي، غضب الجميع لغضبه، أصبحت المنبوذة من بوذا المقدس، لا أحد يبتسم في وجهي لا أحد يقرئني السلام.

كان يشاركني غرفة المكتب مدير الإدارة، الدكتور إبراهيم الشربيني، تربطه بالوزير علاقة خاصة، زمالة قديمة في نقابة الأطباء أو شيء من هذا القبيل، أصبح الدكتور إبراهيم الشربيني شخصية هامة في الوزارة، يجلس إلى مكتب ضخم يبتلع نصف مساحة الغرفة، في النصف الآخر مكتبي الصغير يشبه منضدة المطبخ، يجاوره مكتب آخر صغير يجلس إليه طبيب من أعوان الدكتور الشربيني اسمه الدكتور صلاح، تربطه بالدكتور الشربيني علاقة خاصة، يتقرب الموظفون إليهما بسبب علاقتهما الشخصية بالوزير، يزدحم المكتب بالزوار طوال النهار، لا يوجد بالغرفة إلا كنبة جلدية واحدة تكفي أربعة أشخاص، بقية الضيوف يقفون على أقدامهم أمام مكتب الشربيني، يتصايحون ويضحكون ويقهقهون، أعلاهم صوتا هو المدير الدكتور الشربيني، يتطرق الحديث إلى نقابة الأطباء والانتخابات القادمة، يلقي عليهم الدكتور الشربيني خطبة رنانة عن الميثاق الاشتراكي الجديد لعمل النقابة والوزارة.

كان وجودي بالمكتب مثل عدم وجودي، لا ورقة واحدة تصل إلى مكتبي من عند المدير، فهو يعمل كل شيء وحده، يتلقى وحده البريد من مكتب الوزير والإدارات الأخرى، لا يشرك معه إلا صديقه الدكتور صلاح، وأنا جالسة إلى مكتبي أتفرج على ما يحدث.

بدأت أكتب القصص القصيرة في المكتب، إلا أن الأصوات العالية تقطع حبل التفكير، ورنين جرس التليفون فوق مكتب الدكتور الشربيني لا يكف عن الرنين، والساعي عم حسين يدخل ويخرج حاملا فناجين القهوة، يشربها الضيوف وهم واقفون، منهم أساتذة في كلية الطب، يريدون مقابلة الوزير، لا أحد يمكنه ترتيب اللقاء إلا صديقه الحميم الدكتور إبراهيم الشربيني، أهم الشخصيات التي تفد إلى مكتبنا هي مذيعة التليفزيون، شابة كاملة الزينة والماكياج، تتأرجح فوق الكعب العالي، تقلب الراء إلى غين مثل صديقتي بطة، تدخل من باب الوزارة كالأميرة، يحف بها الموظفون والسعاة، يترك الدكتور الشربيني الضيوف جميعا ويصعد بها إلى مكتب الوزير، يدخل بها إلى الوزير مباشرة من الباب الرئيسي الأخضر دون المرور على مدير مكتبه، يطرد الوزير أعضاء اللجنة الطبية إن كانت هناك لجنة، تدخل كاميرات التليفزيون، يضع الوزير الماكياج، يبتسم للشعب المصري وهو يدلي بالتصريحات الهامة عن المشروعات الصحية الاشتراكية الجديدة.

مكتب الوزير في حالة طوارئ، اللمبة الحمراء مشتعلة فوق الباب الرئيسي، والباب الفرعي، مدير مكتب الوزير يمنع الدخول: «السيد معالي الوزير عنده تسجيل في التليفزيون.» كلمة التليفزيون ترن في الجو مهيبة شبه مقدسة، كلمة جديدة دخلت قاموس اللغة العربية منذ شهور قليلة، لم يكن يمتلك جهاز التليفزيون في مصر إلا الأثرياء والوزراء ورئيس الجمهورية، كان ذلك منذ سبعة وثلاثين عاما، اليوم أصبح التليفزيون في كل بيت في المدن والقرى، بما فيها بيت زينب ابنة عمتي في كفر طحلة، في مدخل الدار الترابي يتربع التلفزيون كالإله فوق منضدة خشبية، مغطى بمفرش من القماش السميك، لا يقربه أحد إلا رب الدار، يعود على حمارته من الحقل عند الغروب، من خلفه البقرة والماعزة، يجلس في مدخل الدار بعد العشاء يدخن الجوزة، يمد يده ويفتح التلفزيون، ترمقه عيون النسوة وهن جالسات على الأرض، البقرة أيضا تطل برأسها من باب الزريبة وتتفرج على التلفزيون .

بعد موت الدكتور النبوي المهندس خلفه في مقعد وزير الصحة عدد من الوزراء بلغ عددهم ستة حتى غادرت الوزارة، لم يكن الواحد منهم يختلف كثيرا عن الدكتور النبوي المهندس، وتكرر الصدام بيني وبين كل وزير جديد حتى خرجت نهائيا من الوزارة في أغسطس 1972م، حملت أوراقي وغادرت مكتبي لآخر مرة، عند الباب الحديدي الخارجي للوزارة توقفت لحظة، استدرت لألقي بصقة على المكان، كالسجين يطلق سراحه بعد اثني عشر عاما داخل الزنزانة. ••• - الوظيفة في الحكومة مقبرة يا نوال.

هذه عبارة أبي قبل أن يموت بأيام قليلة، بلغ الستين من عمره وأحالوه إلى المعاش، فرد ذراعيه عن آخرهما كأنما يفردهما لأول مرة، كأنما كان حولهما قيد حديدي: «أنا تحررت بعد ثلاثة وثلاثين سنة سجن، أخيرا عندي وقت أقرأ وأكتب.»

كان جالسا في الصالة داخل الروب دي شامبر، اشتريت له هذا الروب من عمر أفندي، صوفه ناعم لونه رمادي ثمنه أربعة عشر جنيها، أول مبلغ يتجمع في درج مكتبي بالعيادة، كان الشتاء باردا، شهر فبراير عام 1959م، خرجت من عيادتي إلى محل عمر أفندي، في جيبي الأربعة عشر جنيها، المبلغ كبير جمعته من المرضى، مزيج من السعادة والألم، أيمكن أن أبيع الصحة للناس بالفلوس؟

ناپیژندل شوی مخ