99

اتیاف من حیات می

أطياف من حياة مي

ژانرونه

صديقتي العزيزة «أكتب إليك، وإني لأشعر - أني زيادة على تفريطي في الكتابة إليك إلى الآن - ربما اخترت الفرصة الأبعد ملاءمة لمحادثتك؛ فإني أراني من حرج الصدر بحيث أخشى أن ينم كتابي عن حالي التي ربما غلوت كعادة الشباب في تصورها من خلال الحديث.

ولكن لم لا أكتب في هذا الوقت، والإنسان أحوج ما يكون لصديقة حين يعوزه الاكتفاء بنفسه عن الأغيار، والاستقلال باحتمال آلامه الحسية والمعنوية؟ أليس في ذلك الإثبات التام للحاجة إلى الصداقة، والنتيجة الطبيعية أن المرء بطبعه «آلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف»؟ أظن الأمر كذلك، وعلى هذا السند أعتمد في الإقبال عليك ومحادثتك لحظة من الزمان، أصرف بها عن نفسي همها، وأقوم بأداء الدين الذي التزمت به لديك. وخير من هذا كله أغتنم لذة استحضار شخصك المحبوب، وذكرى مجلسك الذي يملأ القلب اغتباطا، ويسعد كل ملكات النفس.»

ثم ينتقل في هذا الخطاب إلى الحديث عن القضية المصرية، فيقول: «... ليطمئن قلبك عن قضيتنا، يجب أن أسارع أمام هذه اللوحة السوداء إلى إخبارك أنه لا شيء يعترض حسن سير القضية، وإننا مسافرون إلى لندره في ظرف أسبوع، فمن هذه الجهة كوني مرتاحة البال.»

وقد كان لطفي السيد في ذلك الوقت متفائلا بنجاح القضية المصرية، وهو كعادته طول حياته متفائل، ولقد صح تفاؤله في نجاح هذه القضية بعد عدة سنوات، وتحققت نبوءته - في العهد الأخير - بالجلاء التام والحصول على الاستقلال التام؛ ولذلك أخذ يتحدث إلى الآنسة «مي» في هذا الخطاب عن احتمال الألم، والظهور بمظهر المغتبط المتفائل، فيقول: «أليس رواء المغتبط أحسن في نظر الناس من رواء المحزون أو المستحق للعطف؟! أليس من أدب الاجتماع ألا يكون المرء سببا في اتصال الألم، بل إنقاله بالعدوى من نفسه إلى نفس غيره؟!

أف لهذا الإنسان، ولكنه لا يستحي، وأنا أيضا إنسان، ومع ذلك أستحي من إبداء الشوق المبرح إلى لقائك. وأرجوك ألا يخدعك قولي، فتظنين أني فوق الإنسان العادي، كلا، فلطالما أصليت صغار الطير نارا حامية من بندقيتي، لا لآكل بل لألعب بالنفوس البريئة التي هي مثلي لها حق في الحياة!

من الحمق أن أطيل القول في هذه المعاني إليك، إليك أنت التي قد لا تلعبين بالنفوس الصغيرة ، ولكنك تلعبين بالنفس الكبيرة . إني حرمت قتل الطير من زمان غير قريب، فهل تحرمين على نفسك يا «مي» القاسية أن تسيئي إلي بإعراض ترينه هينا وأراه عسير الحمل قتال الأثر؟! وبهذه المناسبة أقول إن الآنسة «مي» حرمت على نفسها طول حياتها أكل الطيور رأفة منها وشفقة، أما خطابها عن حفلة تأبين فتحي زغلول فقد نشر في الصحف، فلم يجب عليه كتابة لطفي السيد لأنه كما يقول كانت على حق!»

الخطاب الخامس

كانت الحكومة المصرية قد أعلنت عن انتخاب أعضاء اللجنة التشريعية في خريف سنة 1913، وكان أحمد لطفي السيد في ذلك الحين رئيسا لتحرير صحيفة «الجريدة»، وقد رشح نفسه لعضوية هذه الجمعية عن دائرة بلدته «برقين». وسافر إلى هذه الدائرة للدعاية الانتخابية، ولكن ذلك لم يشغل قلبه عن ذكرى «مي» في جميع تنقلاته وأسفاره بين الناخبين، فبعث إليها من «برقين» خطابا بتاريخ 16 نوفمبر سنة 1913 جاء فيه ما يأتي:

سيدتي «خرجت أمس من قرية اسمها «أم الدباب» على بعد ساعتين اثنتين، كنت أزور أهلها زورة انتخابية. ولم أكن كغالب الأحيان في جمع من أصحابي، بل كنت ثالث ثلاثة، خادمي وحصاني، خرجت منها مع بزوغ القمر، أسايره، هو يعلو على الأفق، كلما ارتقى ميله قطعت أنا من الأرض ميلا، وإني على هذه الحال ساكت، وحصاني الهزيل خفيف الحركة ينهب الأرض نهبا، بخطى خفيفة لا يكاد يسمع وقع حوافره على الطريق، وظله نحيف مثله يسليني النظر إليه مرة، وقياس ميل القمر مرة أخرى.

وليس فيما حولي من الأشياء في ذلك السكون الشامل، والنوم العميق ما يلفت نظري بوجه خاص، وإني لكذلك إذا بي أنتبه من لهوي إلى ما أنا فيه من هم ناصب وتعب مستمر أقدر شقاءنا في هذه الحياة، فما كادت ترجع نفسي من تقديرها، وتفرغ من الموازنة بين اللذة والألم، وبين السعادة والشقاء قائمة بأن ما نحن فيه ضلال، وإن كفة الشقاء راجحة على كفة السعادة الموهومة!

ناپیژندل شوی مخ