الخطاب الثالث
وعلى الرغم مما في رسائل لطفي السيد إلى الآنسة «مي» من عاطفة مشبوبة، فإنها تتخللها المعاني الإنسانية والخواطر الفلسفية؛ ففي 29 أبريل سنة 1914 بعث إليها خطابا عاطفيا من «برقين»، وكانت قد غضبت منه لأنه لم يدعها ولا غيرها من النساء لحفلة تأبين المرحوم فتحي زغلول، ثم سافر إلى بلدته وكان مرشحا نفسه لانتخاب الجمعية التشريعية، وأقيمت له حفلة استقبال، وقد جاء في هذا الخطاب:
صديقتي «سيقال إني مشغول بحفلة الاستقبال، ويعلم الله بماذا أنا مشغول، أكتب إليك تحت سلطان شعور أقرب ما يكون من مشاعر الحزن الصامت، حزن لا يعترف به لأنه غير معروف المصدر، ولا محدد الجهات، ولكنه مع ذلك حزن!
الطيور تغرد حولي من كل ناحية، وما هي إلا حمامتان وعصافير شتى أدفعها عن الدخول في «أودتي»، وهي لا تندفع ولا تخافني كأنها علمت بأني أنا شجي بها، تنتقل الحمامتان من فوق ستارة إلى ستارة أخرى، كأنهما تقولان لي: نحن أليفان سعيدان، وصديقان مجتمعان، فأين صديقك أنت؟! والواقع أن العصافير الصغيرة ترى بيتنا أفسح من أن يكون لنا وحدنا، فتريد أن تبني أعشاشها في الشبابيك، ونحن نطردها، وما أقلنا كرما، نحب الأثرة حتى مع هذه العصافير البريئة الصغيرة، ونحن مع ذلك ندعي من زمان أننا نحب الاشتراكية ونحب المساواة، ونتواصى ببر الضعفاء!
أنا لا أطرد العصافير إكراما لخاطر كنارك الصغير، ولا أهيج الحمام إكراما لما اشتهر به من معنى الوفاء في الصداقة وحسن العشرة.»
وبعد أن يستطرد في هذا الخطاب إلى وحشية الإنسان في محاربة العصافير وطرد الطيور وأكله لها، يقول: «هنيئا مريئا أيها الطاعم على حساب نظام الوجود، وضد مصلحة الفن، كأنها لا يسمع إلا نداء بطنه الجائع، أو كأن هؤلاء لهم بطون إظهار ألمه أشبه بالمستهتر في شهواته ولذائذه!
وإلى أية مرحلة من مراحل التدليل أريد الوصول بهذه المقدسات؟ ستقولين: لا شيء، إلا أني أعترف لك بأني أيضا لي من الاهتمام بأمر العواطف ما لجميع الناس، وأني لا أجد بأسا من أن أكتب إلى صديقة تفهمني جد الفهم، وأنا غير جذل القلب، ولقد ظفرت فعلا ببغيتي؛ فإني ما زلت أحدثك حتى شعرت اللحظة بسعة الصدر بعد ضيقه، وانبساط في حال النفس بعد تقبضها، ورغبة في إطالة هذا الحديث، وقد اطمأننت وأنت أمامي أخاطبك إلى أن في الإنسانية نفوسا طيبة حسب الإنسان أن يدخل في دائرة أشعتها النيرة حتى تنقشع عن نفسه ظلمات التطير، ويحتل مكانها نور التفاؤل والرجاء.
هنيئا للنفوس الطيبة التي قد يئس الغضب من التسرب إليها، وأصبحت حرما آمنا لا تقر فيه إلا الطمأنينة والرضا بالواقع من أمر الناس، خصوصا متى كان قد انقطع الرجاء من تغيير هذا الواقع!»
الخطاب الرابع
ولما قامت الثورة الوطنية سنة 1919 كان لطفي السيد من زعمائها وأحد أعضاء الوفد المصري، وقد سافر مع هذا الوفد سنة 1920 إلى باريس ثم إلى لندن للمطالبة بحق مصر في الحرية والاستقلال، فشاقه أن يراسل أحب الناس إليه وهو في غمرة الجهاد ومتاعب السفر؛ فبعث إليها عدة خطابات، منها هذا الخطاب الذي كتبه في باريس يوم 15 أكتوبر سنة 1920، وقد قال فيه:
ناپیژندل شوی مخ