واقبلي معي أن صفاء القلب قد تكدره فارغة، وأفرغ من الفارغة يوما أو بعض يوم. وها أنا ذا في هذه الحال هذه الساعة، ومع ذلك أكتب إليك، ومع ذلك أعلم بأن المجموعة الشمسية لا تزال بخير، وأنا عالمنا لا خطر يحيق به، وأنني شخص وفير الصحة على قدر ما أستطيع أن أكون وفيرها، وفي سعة من العيش لست محتاجا في شيء إلى عون من الناس، فالألم بعد ذلك ألم المتفكه من الألم، وربما كان من النفوس من خلق ليألم، ومن يوشك أن يخلقه لنفسه ألوانا من الآلام، وربما كنت من هذا القبيل على ما أظهر في مجالسي من المبالغة في سعة الصدر، ومما قد يظن بعضهم ألا أقيم وزنا للمشاعر ولا أهتم إلا بمقولات العقل ونتائجه! غير صحيح، بل فاسد وظلم للحقيقة شنيع!»
وقد كان لطفي السيد في ذلك الوقت متفائلا لسير القضية المصرية إلى النجاح؛ ولهذا أخذ يتحدث إلى الآنسة «مي» في هذا الخطاب عن احتمال الألم والظهور بمظهر المغتبط المتفائل، فيقول: «ألا ترين أن إظهار الجزع مصيبة، والجري فيه على منهج المسترسلين في أحزانهم مجاراة لقلة العقل، ومفارقة لغير النافع، أولا ترين أن الإغضاء عن مقابلة الشر بالشر في الأقوال وفي الأعمال ترفع يتفق مع مقام العقل الرفيع الذي يضبط حركات الشهوات. أليس أن رواء المغتبط أحسن في نظر الناس من رواء المحزون أو المستحق للعطف؟ أليس من أدب الاجتماع ألا يكون المرء سببا في اتصال الألم، بل انتقاله بالعدوى من نفسه إلى نفس غيره؟ أليس المبالغ في إظهار ألمه أشبه بالمستهتر في شهواته ولذائذه.»
ثم يختتم أحمد لطفي السيد خطابه بعد الحديث عن النجاح والفشل والناس وعن السياسة بقوله للآنسة «مي» وهو في باريس: «ولي من الثقة في صداقتك ومن الطمأنينة ما قد حدا بي إلى أن أخبرك أني كنت قبل أن أستمتع بحديثي معك مألوما أو غضبان، أو ما شئت فقولي، أولا يبعث هذا المعنى لنفسك ألا تتحرج في أن تذكر لي ما هي عليه؟ لست أطلب ما لا تريدين أن أعرف، فهذا لك، ولكن لي أيضا وأنا صديق أن أعلم بالإجمال إن شئت لا بالتفصيل: أسعيدة أنت؟ أحب وأحب كثيرا أن تكوني كذلك، ولا أظن أن نفسك الجميلة إلا سعيدة في كل ظرف، اكتبي لي طويلا وكثيرا، اكتبي على عنواني المسطور في صدر هذه الصحائف، وهم يرسلون كتبك المتتابعة إلي في لندره، وقدمي تحياتي لحضرة الوالد، وحضرة الوالدة، ودومي لصديقك.»
الخطاب الثامن
وكانت «مي» في تلك السنة - سنة 1920 - قد أصدرت لها مجلة المقتطف كتاب «باحثة البادية» فأرسلته إليه وهو مع الوفد المصري في لندن، فبعث إليها هذا الخطاب بتاريخ 24 أكتوبر سنة 1920، يقول فيه:
صديقتي «وردني كتابك، وإذ كنت في لندره أشغل ما أكون إلا عن ذكرى أويقات محاضرتنا الأولى التي كان الاقتضاب هو المعنى السائد عليها، أثارتها في نفسي عبارة إهداء كتابك، أو كتاب الباحثة، أو على الحقيقة، لا على المجاز وثبات نفسك الكبيرة الحساسة التي تجلت، فغطت بجلالها آثار صديقتك، بل آثار صديقي المرحوم (يقصد حفني ناصف والد الباحثة)، وظهرت أنت من حيث لا تريدين، بل من حيث أردت ألا يظهر لك شخصية فيما تكتبين ، تحاولين المستحيل إذ تحاولين أن يتضاءل النور الساطع أمام النور الضئيل. حسبي حتى لا أتهم بتمليق الكتاب، ولو بالحق استدرارا لعطفهم، واتقاء لشرهم.
ولقد علمني أستاذي وأستاذك (يعني القرآن) أن الله لا يحب كل مختال فخور، لا تبسمي يا «مي» من قولي، فأنا أحب الله، وأحب كثيرا أن يحبني، بل لا أعرف كيف يستطيع الحساس ألا يحب الله، أو يصبر على ألا يكون محبوبا من الله، حبا ليس له مظهر في الحياة الخارجية، وإن كان له في النفس أعلى مكان وأعزه، لا تدل عليها المسابح والتسابيح.
أتفلسف يا أستاذي؟ ستقولين ذلك، ولا يا ابنتي، ولكن عهدي معك أن أرسل قلمي على حريته يخط ما يرد في نفسي من الخواطر من غير احتراس ولا تكلف. وكم أنا سعيد بأن أراك قريبا، وأول زيارة لك بالضرورة، أو بعبارة أصح أول زيارة ترضيني!»
ثم ينتقل في هذا الخطاب الرقيق إلى تهنئتها بكتاب «باحثة البادية»، فيقول: «نسيت أن أهنئك على كتابك بكلام كويس، صحيح طويل، ولكن إلى الملتقى، وربما كان هو موضوع أول محاضراتنا الأولى، أيوم الثلاثاء هي؟
لا، أنا لا أحب كثيرا يوم الثلاثاء، لا لأني كما تظنين بالباطل لا أحب الشوام زواركم، ولكن أحب أن يكون الحديث دائرا على ما نريد، لا على ما تريد أية سيدة من السيدات التي يجلسن على الكنبات، ويتركننا على الكراسي؛ لهذا أحب أن أجلس على الكنبة مرتاحا، وأناقشك الحساب في كل ما تقولين، أهكذا؟ نعم هو كذلك، واعملي ما شئت أن تعملي فإني في حماية الوالدة، ولست معترفا بالحماية لأحد غيرها مطلقا، لأنني أظننا سننال الاستقلال!
ناپیژندل شوی مخ