فالتأبين في ذاته حديث في بلادنا، ومع ذلك يظهر لي أن الذي جعلنا لا نخصص ألواج السيدات لهن في هذا الاحتفال هو الغضاضة التي نجدها من أن ندعو النساء لحفلة، غضاضة مرجعها إلى العادة.»
ثم يختم هذا الاعتذار بقوله: «تلك الحال نرجو أن يذهب بها المستقبل القريب، وحسبنا أن نغتبط بهذه الروح الجديدة التي تدفع الجنس اللطيف عندنا للحرص على حقوقه، ونثبت للآنسة «مي» في ذلك سعيا مشكورا.»
وبعد ذلك سكت لطفي السيد، وسكتت هي كذلك سكوتا كاد يفضي بهما إلى المقاطعة. وبعد بضعة أشهر كان قد سافر إلى بني سويف، فهزه الشوق إلى الكتابة إليها، فكتب هذا الخطاب الذي يقول فيه بتاريخ 9 يونيه سنة 1915: «هو هذا، لا أكتب أبدا، أو أكتب كل يوم، أكتب لأخبرك إن ابنتي تلعب بالبيانو على المعنى العام، أو بعبارة أخرى تخبط تخبيطا لتذاكر «الجام»، وهي في ذلك تنسى أني أطالع في الحجرة المجاورة، لست غضبان منها بالذات، ولكني غضبان من جميع البنات لأجلها ولأجلك ولأجلهن. ومع ذلك جئت أشكوها إليك، لا لتغضبي منها، ولكن لأقيم بهذه الشكوى دليلا على مضايقة البنات لنا حتى «مي»، فليذهبن وليطالبن بحق الانتخاب الذي أخفت الحرب (الحرب العالمية الأولى) صوته، وليمرضن الجرحى في ساحات القتال، ليتخذن بذلك يدا عندنا نعرفها لهن في السلم، وليثبتن بدليل جديد أنهن أيضا ضروريات للعالم.»
وبعد أن يعاتبها عتابا خفيفا يشتد في بعض سطوره يقول: «ما لي وهذه اللغة الجافة التي ليست من دأبي - دأب رقة العواطف، وحسن المجاملة، وطيب العشرة. أظن أن هذه العصبية مسببة على أنه صعب علي منك أن تسكتي عني، لا لذنب آخر غير مقابلة سكوتي بالسكوت أو بالجفاء، وهذا خلق إن كان عادلا فهو على كل حال غير لطيف.
اكتبي لي، واكتبي كثيرا، وثقي بأنك كتابك لي أقرأه خير عندي من أكبر لذائذي في الدنيا وهي الطعام. ستضحكين مني. الله يبسطك، ولكن هذا هو الواقع من الأمر، ولست وحيدا في تقدير الطعام هذا التقدير العالي، في حين أن كل الناس حتى أقلهم عقلا، وأكثرهم تواضعا في الادعاء ينفر جدا من أن ينسب إليه أنه يحب الطعام، ولو كان في سره يقول: «بعد بطني الطوفان.» والواقع أن الطعام هو كل شيء. ألا ترين أن بني إسرائيل من قبل لم يشاءوا أن يعجزوا الله إلا بالمائدة، وأن الحواريين لم يجدوا ما تطمئن به نفوسهم إلى تصديق عيسى إلا بالمائدة؛ فالمائدة هي صوت الموسيقى وهي خطوط الجمال، وهي قوائم الشعر ولباب النثر، وهي كل شيء، ولو كان في العالمين والأميين شيء من الصراحة لقالوا معي إنهم يعيشون ليشهدوا أواني الطعام على مائدة الغداء أو العشاء.
كتابك عندي خير من هذا. لا أقول ذلك الكلام البارد الذي يردده جماعة المتشدقين، كتابك غذاء لروحي، أمسك. ها هم أولاء يعترفون معي بأن الطعام ألذ ما يكون؛ ولذلك جعلوا للنفس المجردة غذاء، خير ما يظنون من حسن الفكر أو لطيف المشاعر، حسن هذا، اتفقنا، اكتبي طويلا سواء كتبت أم لم أكتب، وعلي أنا أيضا هذا العهد، إن كان في القرن العشرين يجمل بالناس أن يوفوا بالعهود، ودومي لصديقك.»
الخطاب السابع
وقد استمرت الصداقة بين «مي» ولطفي السيد حتى قامت ثورة 1919، وكان لطفي السيد من زعمائها البارزين وأحد أعضاء الوفد المصري العاملين، وقد سافر هذا الوفد إلى باريس سنة 1920، ثم إلى لندن للسعي لحرية مصر واستقلالها ، وقد شاقه وهو في متاعب الجهاد الوطني أن يراسل أحب الناس إليه، ويفضي بما يخالج نفسه من آلام وأمال؛ فأرسل إليها في 15 أكتوبر سنة 1920 هذا الخطاب، يقول فيه:
صديقتي العزيزة «أكتب إليك، وإني لأشعر أني زيادة على تفريطي في أمر الكتابة إليك إلى الآن ربما اخترت الفرصة الأبعد ملاءمة لمحادثتك؛ فإني أراني من حرج الصدر بحيث أخشى أن ينم كتابي عن حالي التي ربما غلوت كعادة الشباب على تصورها من خلال الحديث.
هوني عليك الخطب، ولا تتعبي نفسك في تفرس أمر هذا السلم الجديد، فليس جديدا على الحي ما دام حيا أن يألم قليلا أو كثيرا حسب وقوع تصاريف القدر على مقتضى ما يريد أو على نقيض ما يريد. وليس جديدا على من يحاولون أن يقوموا إلى النهاية بأمر عام أن يعرض لأحدهم من الفروض أو التصورات ما يريبه.
ناپیژندل شوی مخ