فلكل من المعاني وجهة هو موليها، وقصد الشاعر موكول إليه، غيره لا يجليها، إذ لم يعرف أنه بصدد الظرافة أو في مقام إظهار الحكمة والكرامة، أو كان التكلم بهذا المقال في مقام السفر والارتحال، حتى يحكم بحقيقة الحال، فلا محال إلا لاستيفاء الاحتمال، ويمكن تقوية الشارح المحقق بأن ما يحتاج إلى معرفة حال الشاعر فالحق فيه متابعة السابق الماهر، وهو الشيخ عبد القاهر الذي يغلب حسن الظن به، ويقرب أن يكون حاله عليه الظاهر، ومن الاحتمالات التي هي أبدر إلى الفهم ما خطر ببالي وهو أن الشاعر قصد إلى أن تحصيل المطالب بأن يكون في الاستغناء عنها كالهارب، وترى نفسك عنه معرضا، فتراه لك متعرضا، # ومن أكب على شيء فهو عنه يهرب، ومن أعرض فهو يقرب، ومن هذا حكم بأن الحرص شؤم، والحريص محروم، وقيل لو لم تطلب الرزق يطلبك، وفي حديث «زر غبا تزدد حبا» (¬1) منه شمة لمن له شامه، وإذا فرغت عن تحقيق معنى البيت فنقول: وبالجملة جعل سكب الدمع وهو البكاء كناية عما يلزم فراق الأحبة من الحزن، وأصاب لأنه واضح الانتقال، لأنه كثيرا ما يجعله دليلا عليه، ويراد به، وجعل جمود العين كناية عن السرور، قياسا على جعل السكب لمقابله، ولم يصبب لأن سكب الدمع قلما يفارق الحزن، بخلاف جمود العين، فإنه يعم أزمنة الخلو عن الحزن، سواء كان زمن السرور أو لا، فلا ينتقل منه إلى السرور، بل إلى الخلو من الحزن، وهذا وجه واضح للخلل في الانتقال إلى ما قصده، وإن خفى إلى الآن، وبه يندفع ما ذكره الشارح أنه يصح أن يراد بجمود العين خلوه عن الدمع مجازا، من باب استعمال المقيد في المطلق، ثم يكنى به عن المسرة لكونه لازما لها عادة، إذ عرفت أن الخلو ينفك عن السرور، لكنهم نظروا إلى أن جمود العين اشتهر في البخل بالدمع، بناء على اشتهار الجمود في البخل، حتى يقال للبخيل: جماد كقطام، ويقال جمد بمعنى بخل، ويستعمل الجمود في مقابلة الجواد حتى قال الحماسي (شعر):
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود (¬2)
فظنوا أن اشتهار الجمود في البخل يمنع الانتقال من المعنى الحقيقي إلى غيره فمثله ومثل غيره من المعاني المجازية كمثل الشمس والكواكب حيث تختفي مع الشمس ولذا قال: (فإن الانتقال من جمود العين إلى بخلها بالدموع لا إلى ما قصده من السرور) فتعرض لما ينتقل منه إليه، ولم يكتف بما يهمه من أنه لا ينتقل منه إلى ما قصده تنبيها على أن الخلل في الانتقال ربما يكون من كمال ظهور معنى آخر فيحول بين اللفظ والمقصود، لكنه يتجه عليه أن ما ذكر في صدر # البيت وقصد الحزن بالسكب قرينة واضحة على المقصود؛ فلا خلل في الانتقال.
مخ ۱۷۸