وكانت حياة الشبان في هذه المزرعة مليئة بكل ما يدعو إلى النشاط ويستثير المشاعر، وأحببت أنا العمل وحياة الريف وشعور الزمالة مع رفاق مثلي. وقلق آباؤنا من جراء إهمال تعليمنا، وحاولوا أن يعوضونا عن ذلك الإهمال بشيء من التعليم الناقص، ولكن أحدا منا لم يكن يشاركهم في فزعهم هذا، وكنا نقضي الفترات القصيرة التي نخلو فيها من عملنا المجهد في السباحة وصيد السمك والتجديف والألعاب الرياضية وارتياد الأقاليم المجاورة لنا، ووجدت أن المجال واسعا لإشباع حبي للخيل، وهو حب متأصل في كأنه جاء معي إلى العالم من يوم ولدت. وكان يسرني أن أقدم المعونة إلى جراشف سائس الخيل في المزرعة، كما كانت حياة الزراع تستهويني، فاتخذت منهم أصدقاء لي أقضي في بيوتهم كثيرا من الليالي مع من كان من أبنائهم وبناتهم في مثل سني.
ولم تكن الحرب الأهلية بعيدة عنا بطبيعة الحال، وكم من مرة سببت الاضطراب لحياتنا، وكم من مرة أوشكت أن تمحو مزرعتنا التعاونية من الوجود، ولشد ما كنت أنا وقنسطنطين نفخر بأنا قد كبرنا وأصبح في مقدورنا أن نشترك في الوحدات المسلحة التي أنشأها أبي وغيره من الزعماء للدفاع عن مزرعتنا، بل إن أخي الأصغر أوجين نفسه قد تعلم وقتئذ استخدام الأسلحة النارية، وكانت هذه القرية مسرحا للمعارك بيننا وبين المغيرين من الحمر أو البيض أو العصابات الأخرى التي لا لون لها من قطاع الطرق، الذين كانوا يغيرون على المزرعة يطلبون الطعام والغطاء والخيل نفسها في بعض الأحيان، وكان التظاهر بالقوة مضافا إلى استعدادنا لأن نقتسم مع الوافدين ما نستطيع الاستغناء عنه من مواردنا سببا في نجاة المزرعة من هجمات كبريات العصابات النهابة الجوالة.
ومن حوادث ذلك الوقت حادثة لا تمحى أبدا من ذاكرتي، فقد كنت في صباح أحد الأيام أرعى الخيل على نشز من الأرض استطعت بفضله أن أرى الحادث الذي أصفه للقراء واضحا أمامي كأني أرقبه على شاشة في دار خيالة. خرج جماعة من الفرسان تبلغ عدتهم حوالي ثلاثمائة معظمهم من القوزاق وغيرهم من الروس البيض، خرجوا فجأة من الطريق الرئيسي يركضون فوق حقول القمح متجهين نحو النهر، وجاءت في إثرهم جماعة أخرى من الحمر أكثر منهم عددا تطاردهم مطاردة عنيفة. وضيق الحمر الخناق على البيض فلم يجد هؤلاء سبيلا للنجاة إلا بالاندفاع إلى ماء النهر من فوق الجرف الصخري، وحاولوا أن يعبروا النهر سباحة ولكن مطارديهم نصبوا مدافعهم الرشاشة على حافة الأجراف الصخرية وحصدوهم عن آخرهم.
وتكررت هذه الحادثة بجميع تفاصيلها تقريبا بعد شهر واحد من ذلك التاريخ أو أقل، مع فارق واحد، وهو أن الحمر في هذه المرة هم الذين دفعوا إلى النهر من فوق الأجراف الصخرية، وأنهم هم الذين قتلوا واحدا بعد واحد حين كانوا يحاولون العبور إلى الشاطئ الآخر، وألفنا نحن رؤية أجسام الموتى تقذفها المياه إلى أرض الضيعة أو قريبا منها حتى لم نعد نذكر هذه الحوادث.
وحدث مرة بعد الحصاد الأول في ليلة من ليالي الخريف قبل أن يخيم الظلام أن كنت أنا وجراشف في أحد الإصطبلات، فأقبلت نحونا عربة من عربات الزراع يجرها جوادان وفيها أربعة رجال وامرأة، وكان الركاب والخيل جميعهم يكسوهم العثير ويتصبب منهم العرق، ونصب في مؤخر العربة مدفع رشاش، وكانت المرأة في نحو الثلاثين من عمرها وعلى شيء من الجمال، وكانت تعلق على ملابسها شارة الممرضات، أما الرجال فكان أحدهم يلبس ملابس المدنيين، واثنان منهم يرتديان الزي الرسمي للتشيكا وهم رجال الشرطة السوفيتية السرية الرهيبة، التي أصبحت تقذف الرعب في القلوب، ولما يمض على إنشائها إلا وقت قصير، وأما الرابع فكان رجلا بدينا غليظا يرتدي زي البحارة.
وعرفنا الرجل المدني بنفسه فقال إنه ليهومانوف، وهو نفس ليهومانوف الذي أصبح فيما بعد رئيس لجنة إيكترنوسلاف الإقليمية، وصاحب الأمر والنهي في ذلك الإقليم. وقال لنا إن سرية من البيض تتعقبهم، وإنهم في حاجة إلى خيل جدد تمكنهم من الهرب، وقال: إن الوقت لا يسمح لهم بأن ينتظروا حتى نستشير أحدا، وإن في وسعنا إن كنا نريد أن نسترد خيلنا أن نصبحهم إلى كمسكوى.
ورضينا بهذه الخطة، وسرعان ما كنا نحن السبعة في العربة نسوط الخيل ونندفع في الطريق مسرعين حتى لم يكن في وسعنا أن نتبين ما كان ملقى على الجانبين من جثث الموتى التي ظنناها حجارة وأنقاضا، وحدثنا ليهومانوف عنها فقال إن معظمها من جثث الحرس الأحمر، وإن واقعة حربية عنيفة حدثت في ذلك المكان في الأيام القليلة الماضية.
وكان البحار يصيح من حين إلى حين قائلا: «سنأخذ حقنا من أولئك الأنذال، سنقطع حواصلهم أبناء الكلاب.»
ولم تحدث لنا حوادث غير مستحبة حتى اجتزنا قرية أولي، وبدأت أظن أن معظم الخطر الذي كنا نريد النجاة منه خطر موهوم، فلما أن اجتزنا أولي انثنينا إلى طريق مجاور للنهر، ولم نكد نسير في هذا الطريق عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة على الأكثر، حتى طرق أسماعنا دق الطبول وركض خيل مقبلة من خلفنا، وأدركنا أن نحو اثني عشر رجلا كانوا يقتفون أثرنا، وكان في وسعنا أن نسمع صراخهم دون أن نتبين أقوالهم، وعرفنا من هذا الصراخ أنهم يأمروننا بالوقوف، وقفز بحارنا من مقعده إلى جانب المدفع الرشاش وهو يسب ويلعن، وأخذ يطلق منه الرصاص، وشاهدنا بعض من كانوا يطاردوننا يهوون عن ظهور الجياد، وأكبر الظن أن الذين بقوا منهم على قيد الحياة قد كفوا عن مطاردتنا.
ووصلنا كمنسكوى في تلك الليلة، ونزلنا في بيت صغير اتضح لنا أن من فيه يعرفون ليهومانوف، وكان مما قاله لي: «ستنام الليلة مع الممرضة في حجرة واحدة، فأنت لا تزال طفلا.» واختص جراشف والبحار بحجرة أخرى مجاورة لحجرتنا، واتفقا على أن يتناوبا حراسة العربية والجوادين، وخرجت من الحجرة بعض الوقت لأتيح للممرضة أن تأوي إلى الفراش، ثم عدت إليها وخلعت ملابسي في الظلام، ولم ألبث إلا قليلا حتى استغرقت في النوم.
ناپیژندل شوی مخ