وعادت شورا تندبه قائلة: «لقد سكت قلبه ولكن ساعته كانت لا تزال تدق، الساعة التي تملأ كل خمسة أيام، والتي كان بيتيا يفخر بها.»
ولعل سبب مقتله أن جماعة من اللصوص أرادوا أن يسرقوا أموال المصرف، فاغتصبوا مفاتيحه من بطرس، ثم بدا لهم أن يقتلوه ليتخلصوا من شاهد عليهم، وربما كانوا ممن يعرفهم عمي، ولعلهم بعدئذ خارت عزيمتهم، فلم ينفذوا ما أرادوا من السرقة.
وعدنا إلى بلدنا محزونين تتشعبنا الهموم، ولم يفق جدي من أثر الكارثة التي حلت به من جراء موت ابنه الأصغر، فقضى نحبه بعد أشهر قليلة، ولحقت به زوجته بعد زمن قصير.
كانت ضيعة إلين بالقرب من كربينو على نهر الدنيبر من أغنى الضياع وأكثرها جمالا في ذلك الإقليم، فقد كانت تضم آلافا مؤلفة من الأفدنة الخصبة التربة تنتج القمح، ومساحات واسعة من أرض الكلأ والغابات وبساتين الفاكهة، كما كان فيها كثير من الإصطبلات ومصانع الألبان الواسعة، وكانت تخترقها الطرقات المرصوفة بالحصباء، تظللها الأشجار، وتلتقي عند القصر العظيم الذي كان يسكنه أصحاب الضيعة في غابر الأيام، وينعمون فيه بمباهج الحياة، وكان النهر في تلك البقعة بخلع على الضيعة شيئا من هدوئه وجلاله، فقد كان يشق طريقه أسفل الصخور الصلدة الوعرة، وكأن الطبيعة قد أجهدت نفسها لتخلع على هذا الركن من أركان الريف كل ما فيها من تباين، وتكسوه حلة من الجمال لا يكاد يوجد لها مثيل.
فلما قامت الثورة قسمت معظم الأراضي على الزراع الذين كانوا يعملون فيها، ولكن قلب الضيعة نفسها، ويشمل خمسمائة فدان من الأرض المنزرعة، والبستان العظيم، وبركة لتربية السمك، وقصر إلين نفسه وغيره من الأبنية؛ كل هذه قد جعلت في بداية عام 1919م مزرعة تعاونية لصناع المدينة، واستقرت فيها نحو مائة أسرة جيء بها من إيكترنوسلاف، وكانوا يطلقون عليها اسم النبات، وهي كلمة روسية معناها «قرع الأجراس».
وكان آل كرافتشنكو من بين هذه الأسر، وبقينا أربع سنين أو نحوها حتى بلغت السابعة عشرة من عمري نتخذ المزرعة التعاونية موطنا لنا، والحق أن أبي كان من الذين وضعوا أساس هذا المشروع، وهو الذي جاء إليها بعدد كبير من عمال المصنع الذي كان يعمل فيه، وحبذ سوفيت الإقليم هذه الفكرة وقسم الأرض، وأمد الوافدين ببعض ما يحتاجونه من الأدوات والماشية زيادة على ما كان باقيا منها في الضيعة القديمة.
أما في المدينة نفسها فقد كاد الإنتاج أن يقف لقلة المواد الغفل، وعز الطعام حتى أصبحت تهددها المجاعة، وأخذ الناس يهاجرون إلى الريف لعلهم يجدون فيه ما يرد عنهم غائلة الجوع، وكانت المجاعة الروحية هي الأخرى من أسباب هذه الهجرة، فقد كان بعض المهاجرين يتوقون لأن يحققوا في إحدى المزارع التعاونية ولو قليلا من الأحلام التي كانت تتراءى لهم في سني حماستهم الأولى للثورة، وكانوا يأملون أن يكون «قرع الأجراس» نذيرا يذكر الناس بالمثل الأعلى للأخوة الذي نسوه في غمرة نزاعهم واقتتالهم، حين أخذ الشيوعيون يستعينون بالجاسوسية للقبض على الناس جماعات، وإعدامهم رميا بالرصاص لأتفه الأسباب.
ودعي والدي أكثر من مرة للانضمام إلى الحزب الشيوعي، ولكنه لم يلب الدعوة، وكان يقول في شيء من الغلظة إن معدته لا تهضم الطغيان والإرهاب وإن استظلا بالراية الحمراء، ورأى رجالا من المال ومن أرباب الفكر ممن ظلوا طوال حياتهم بمنأى عن النزاع مع القيصر ينضمون إلى الحزب الشيوعي بعد أن بدا لهم أن السلطة الدائمة ستئول إليه، ووضع بعضهم لأنفسهم سيرا ثورية خيالية، ولكن هذا كله لم يفد إلا في تقوية عزيمته على أن يبقى مجاهدا حرا في الكفاح لإصلاح شئون العالم.
وجاء صناع المدن إلى المزرعة ممتلئين غيرة وحماسة، بلغت حد الاستخفاف بالأخطار، وكان همهم الأول بطبيعة الحال أن ينتجوا القوت ليطعموا منه أهلهم، ولكنهم كانوا يريدون فوق ذلك أن يبرروا بإنتاجهم تضحيتهم الأولى في سبيل القضية السياسية، وكان الزراع الأولون من أهل مزرعة إلين وما جاورها يسخرون من صناع المدن المنعمين الذين انقلبوا زراعا ، ويقولون هازئين: «سنرى الآن كيف يفلح الشيوعيون أرضنا.»
وكانت سخريتهم اللاذعة صادرة من قلوب طيبة، ومنطوية على صداقة ساذجة، كما كان الكثيرون منهم يأتون إلينا ليرشدونا ويقدموا لنا المعونة في كل عمل من أعمالنا الزراعية، ولم يظهر هؤلاء الفلاحون تبرمهم من هذه التجربة، بل كانوا يأخذون الزراع الجدد في كنفهم ويبسطون عليهم شيئا من الرعاية غير الرسمية، ويرعون لهم حق الجوار، وكثيرا ما كانوا يأتون إليهم حين تشتد الحاجة إلى الأيدي العاملة، ويمدون لهم يد المساعدة؛ ولهذا كانت السنة الأولى سنة رخية ناجحة بفضل هذه المعونة، وبفضل الخبراء الزراعيين الذين جاءوا من مدرسة إرستفكا الذائعة الصيت، وإن لم تكن هذه المدرسة قريبة من المزرعة التعاونية.
ناپیژندل شوی مخ