وسرت يصحبني «يوري» خلال القرية، فأحسسنا من جديد بضائقة تلم بصدرينا لما ساد المكان من سكون غير مألوف، وسرعان ما انتهى بنا السير إلى مكان مكشوف لا بد أن قد كان فيما مضى ساحة السوق، وفجأة أمسك «يوري» بذراعي وضغط حتى آلم، ذلك أن وقعت عيناه على جثث طرحى على أرض المكان، جثث لرجال ونساء وأطفال، سترت بغطاء رقيق من قش قذر، وقد عددتها سبع عشرة جثة، وبينا نحن واقفان نرسل البصر إذ جاءت عربة وأخذ رجلان يقذفان على سطحها بأجساد الموتى كأنما هي جذوع من حطب.
ذهب «يوري» إلى مزرعة الدولة ليهيئ للنقل أسبابه، وعدت أنا إلى «القسم السياسي»؛ لأتحدث مع «جروموف» فسر لرؤيتي سرورا كانت له في نفسه نشوة، فالزائر كائنا من كان يأتيهم من خارج حدود هذه المجاعة، يحل عندهم أهلا لأنه تذكرة لهم بأن الدنيا لم يزل بها أصقاع تجري فيها الحياة على نحوها المألوف، وأخذني إلى مزرعة الدولة، وهي نموذج لمشروع تملكه الدولة وتشرف على سيره، لا يشاركها في ذلك سواها، وفي مثل هذا الضرب من المزارع يؤجر المزارعون، وبهذا يختلف عن المزارع الجماعية التي يديرها المزارعون جماعة.
وبينا نحن سائران خلال حقول القمح والشعير التي لم يكتمل نضجها، قلت لزميلي: «ياشا، لقد كنت في ساحة السوق هذا الصباح، و...» - «نعم، أعلم ما تريد يا «فيتيا»، كم وجدت هذا الصباح؟ سبع عشرة جثة فقط! إن العدد ليزيد على ذلك أحيانا، وماذا ترانا صانعين إلا أن نجمع الأجساد لنواريها القبور! إن الحكومة قد استلبتهم كل غلتهم في الحصاد الماضي، والقليل الذي بقي لهم أجرا على عملهم أو الذي استطاعوا أن يخفوه، قد استهلكوه منذ أمد بعيد، إنها حال تبعث على الحزن والفزع، اصحبني إلى الدار لنمضي في الحديث، فقد طال بي الزمن الذي احتبست فيه أفكاري لنفسي طولا جاوز المعقول.»
إن حديث الموت من جوع حديث مملول، حديث معاد مكرور، وإنه لمما يبعث على الحسرة أن نستخدم الألفاظ التي تلوكها الألسن في الحياة الجارية، أن نستخدمها بنفسها حين نصف ما هو قطعة من الجحيم، فلم يكن ما قاله لي «ياشا» سوى ما كانت قالته لي الشابة الفلاحة في الليلة السابقة، وما شهدته بعيني في ساحة السوق، وقد أخذت بالفعل أتعود هذا الجو تملؤه المفازع، وكان ينمو في نفسي رويدا رويدا شعور دخيل بالمناعة إزاء الحقائق الواقعة، بحيث أشهدها ولا أتأثر بها، تلك الحقائق التي ما كدت أسمع عنها أمس القريب حتى تحطمت لسمعها قوائمي.
امتد بنا السمر حينا طويلا، وأخذ «جروموف» يصف لي الناس الذين سأزاول معهم مهمتي في القرى التي كلفت بالعمل فيها، ووعدني المعونة ما استطاع إلى المعونة سبيلا، ولوح بيده مودعا حين أقلتني مع «يوري» عربة صغيرة وضعتها مزرعة الدولة رهن أمرنا.
كانت الشمس آيلة للغروب والسماء ملطخة بالدماء، وسمعت الرجل الكهل الذي كان يسوق لنا العربة يوجه الحديث إلى جياده قائلا: «امضيا أيها الصقران الصغيران، امضيا بنا أيها العزيزان!»
وقدمت له لفيفة تبغ، فأحدث تبغها الجيد - فيما يظهر - نشوة في نفسه ومد ذراعه يقلب فيها تحت مقعده، وأخرج مزمارا من غاب، وطفق يغني ألحانا شعبية أوكرانية حزينة.
قال له «يوري»: «الظاهر يا أبت أنك تستمتع بعيش سعيد.»
فأجاب: «أي والله! كلنا ها هنا نعيش عيشة الأمراء، زوج واحد من السراويل لكل رجلين، وكل إنسان ها هنا حي حتى يموت، ليس منا فقراء ولا أغنياء، كلنا سائلون إحسانا، يا صقري الصغيرين عليكما بذلك التل! أخرجا ما لديكما أمام أهل الحضر! أي صغيري!»
فسألته: «ومن أنت يا جدي؟» - «ليس في هذا المكان من يجهل من أنا، كان الناس يطلقون علي «كوزما أفانوفتش» حين كانت لدي مزرعتي وحين كنت في وفرة من قوت، أما وقد أصبحت اليوم حوذيا، فهم ينادونني باسم «كوزكا»، لم يبق لي إلا هذا المزمار، فتراني أعزف عليه، لقد ماتت زوجتي العجوز في الشتاء الماضي، ماتت جوعا، وتزوجت ابنتي واشتغلت في المناجم، وأرسل اثنان من أبنائي مع أسرهم إلى سيبيريا، أرسلهم هناك الرفقاء ... ولعلهم إذ رأوني كهلا لا يخاف له بأس، استخدموني حوذيا في مزرعة الدولة ، لقد لبثوا طويلا يرفضونني ظنا منهم أني قد أدبر تلفا للمزرعة، ولكن فيم إتلافي لهم شيئا؟ لقد بت من الموت قاب قوسين.
ناپیژندل شوی مخ