عندئذ قال «يوري» إنه يريد التدخين، وغادر الدار من فوره، وإني لعلى يقين أنه إنما خشي أن تخذله قواه فينفجر باكيا أمام هذه الفتاة.
وقلت لها: «أي عزيزتي، لا تستسلمي لليأس، أنا عليم بصعوبة الأمر، لكنك إذا أحببت أطفالك كان لزاما ألا تيأسي من الجهاد، أحضري أطفالك إلى المائدة، فإن معي وصديقي شيئا من الطعام جئنا به من المدينة، وستشاركوننا - أنتم جميعا - طعام العشاء.»
عاد «يوري» ووضعنا على المائدة كل ما كان لدينا من زاد، وأكلنا - أنا و«يوري» - قدرا ضئيلا؛ لنبقي للآخرين أكثر ما نستطيع، ونظر الأطفال إلى لحم الخنزير والسمك المقدد والسكر والشاي بعيون فازعة، وطفقوا يلتهمون الطعام التهاما شرها سريعا، كأنما أوجسوا خيفة أن يختفي عن أبصارهم بغتة كما هبط عليهم بغتة، وبعدئذ أرقدت الأم صغارها، ثم أخذت في الحديث.
قالت: «لن أحدثكم عن الموتى، فأنتم بذلك عالمون لا ريب، لكني سأحدثكم عن أنصاف الموتى وأشباههم، فهم أبعث على الأسى؛ ففي «بتروفو» مئات يتضورون من جوع، وليت شعري كم من هؤلاء يلاقون حتوفهم كل يوم، وكثير من الناس قد هدهم الهزال بحيث لم يعودوا يغادرون ديارهم، فتمر علينا عربة آنا بعد آن لتجمع أجساد الموتى، ولقد أكلنا كل ما استطاعت أن تصل إليه الأيدي، أكلنا الهررة والكلاب والجرذان والطير، وسترون إذا ما أصبح الصباح أن الأشجار قد عريت عن قشورها، فقد أكلنا كذلك هاتيك القشور، بل أكلنا كذلك روث البغال.»
وقع مني هذا الكلام - فيما أرجح - موقعا أظهرني في هيئة الفزع المرتاب. «نعم، أكلنا روث البغال، بل إنا لنعترك عليه؛ لأن فيه أحيانا حبوبا كاملة من غلال.»
كانت هذه أول مرة يزور الريف صديقي «يوري»؛ فخشيت أن يشتد اضطرابه لوقع هذه المفازع في نفسه لأول مرة، فطلبت إلى المرأة أن تمسك عن روايتها، وأصرت أن نأوي جميعا إلى مخادعنا لننام، لكني و«يوري » لم ننم إلا غرارا، وسرنا أن أصبح الصباح.
فلما أن بلغنا «القسم السياسي» بعد شروق الشمس بوقت قصير، لم نجد هناك سوى الخبير الزراعي لمزرعة الدولة، وتبين أنه صديق قديم؛ لأنه كان طالبا في مدرسة الزراعة ب «آراستوفكا» فضمني ضم الصديق لصديقه، وسألته عن زميله «ياشا جرموف» الذي كان قد زاملني في العمل في المصنع لبضع سنوات خلون. - «سيأتي بعد قليل، أأنتما مقيمان في «بتروفو» أم أنتما في الطريق إلى مكان آخر؟»
فأجبته قائلا: «سنواصل السفر إلى بلد ليس ببعيد، إنما نزلنا ها هنا لنقضي المساء ولنعرف الناس، وإني لأرجوك رجاء لعلك متفضل به علي، أي زميلي «باشماكوف» فهل لك أن تستغني لي عن شيء من زادك؟» - «هل تريده لنفسك؟» - «ليكن ذلك، وعلى أية حال سأدفع لك ثمنه.» - «تدفع لي! كأنما المال هو موضع الإشكال، اصحبني إلى الدار، وإنها لعلى مقربة من هذا المكان، لعلي مستطيع أن أستغني لك عن قليل.»
ولما كنا في طريقنا إلى داره، قال: «إني لعلى يقين أنك تريد الطعام لبعض هؤلاء الفقراء المناكيد، ولست على ذلك بلائم، لكن - أي زميلي «كرافتشنكو» - لن يرجى منك نفع لو أحللت الرأفة مكان السياط، إنه لا مندوحة لك عن تدريب نفسك على أن تطعم أنت حتى لو رأيت الجوع قد أشفى سواك على الهلاك، وإلا لما وجدت من الناس من يجمع لك الحصاد، فنصحي إليك كلما رأيت مشاعرك قد غلبت على حزمك، أن تقول لنفسك: «إن الوسيلة التي لا وسيلة سواها للقضاء على هذه المجاعة، هي أن نضمن المحصول الجديد.» ولا تحسبن أني قد هيأت نفسي لمثل هذا بغير عناء، فلست بالحيوان الذي يخلو من حنان.»
ومع ذلك فقد أعطاني قطعة من لحم الخنزير وزجاجة من زيت، وشيئا من الدقيق وكيسا صغيرا من رقائق الخبز ، فشكرته وحملت هذا كله إلى الدار التي كنا قضينا فيها المساء، فكأنما نزلت بالمرأة صاعقة أمسكت لسانها أن يتحرك بالشكر، وفررت من عرفانها لجميلي كأنما كان اعترافها بالفضل تقريعا أليما.
ناپیژندل شوی مخ