اسرار قصور
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
ژانرونه
حبي فدى حريتي الشخصية
وجاءت الإمبراطورة أوجيني أولا إلى سراي طلمه بغجه لزيارة والدة السلطان والسلطانة الأولى قرينته والدة نجله الأكبر يوسف عز الدين أفندي، ومن ثم سارت إلى جراغان لزيارة السلطانة مهرى التي كانت نائلة حظوة السلطان، فجاءت بقية السلطانات بنات عبد المجيد وغيرهن من العائلة السلطانية يستقبلن الإمبراطورة عندها وبمعيتها تزلفا إليها واكتسابا لرضاها، وجاءت السلطانة علية وبمعيتها سراريها وبينهن عائشة هانم التي لما أبصرتها مهرى تقدمت إليها وأخذت تقبلها ناسية مقامها، وسألتها كيف عادت، فوقعت في يد حماتها، أما عائشة فلم ترد جوابا، وقد دهشت لما شاهدت صديقتها القديمة فيما هي عليه من العز والفخر، وفكرت بحالها وكيف مضى عليها سنتان تقاسي ألم فراق حبيبها تحت سلطة امرأة قاسية غليظة الفؤاد، وكيف ساعد الحظ صديقتها فصارت سلطانة، ونالت أكثر مما تمنت من الحب والعز والعلى والفخار، وكيف تقلب الدهر فصير الأمة سلطانة والحرة أمة.
وأخذت السلطانة مهرى يد صديقتها وقادتها إلى غرفة مجاورة تستطلعها خبرها وما حدث لها، فأخذت تقص عائشة على مسامعها ما جرى لها منذ نالت هي حظوة السلطان ... إلى آخر ما كان من شقيقها حسن بك. فقالت مهرى: ولكن هذا السلوك عجيب من مثل حسن بك، وقد بدأت أفهم الآن سبب صمته أخيرا لما كنت أسأله عنك وعن أحوالك ... أواه من الحب ... كيف يدفع الإنسان إلى ارتكاب المنكرات، ولكن سامحيه يا عزيزة، فهو لا شك يحبك كثيرا. - ولكنني أقسمت يا ذات الجلالة ألا أكون عروسا إلا لصلاح الدين. - إذن لا تزالين على حبك. - كحبك لجلالة السلطان. - ثقي بأنني كنت جاهلة كل ما أتيته، وإلا لما تأخرت البتة سعيا وراء إنقاذك ... ألم أنجيك قبل اليوم من علي (الخصي) ... ولكن لم لم تطلبي مقابلتي؟ - ليس الدنو منك من الهنات الهينات، فالصعوبات والموانع أكثر مما تظنين، وزيدي على ذلك العزة والأبهة، فكيف يتسنى لجارية أسيرة مثلي الدنو إليك والاقتراب منك، ولولا هذه الصدفة الخارقة العادة كزيارة سلطانة الفرنسيس لما أسعدني الحظ بالتشرف برؤيتك. - ولكن صلاح الدين قد عاد الآن، وسيفرغ جهده، ولا شك في استمالة رضى السلطانة ... فخفضي عنك يا عزيزة، وثقي أن لك بي صديقة مخلصة، وأنا التي قلت لنعمت هانم إن من الصعب إزواجك من صلاح الدين يومئذ؛ حيث كان يعرضكم جميعا لانتقام السلطانة علية؛ فضلا عن أن الخصي كان يتجسس والدة خطيبك، وهي ولا شك كانت السبب في شقائك على الرغم منها. - لا مولاتي وألف لا ... حب نعمت هانم لا يقل عن حبها لابنها ووحيدها، وقد أرادت أن تفديني بروحها لو تمكنت من إنقاذي من يد الظلمة الطغاة ... ثم استدركت قولها فقالت من أيدي خدمة السلطانة ... - ولكن الحمد لله قد تيسرت لي رؤيتك في هذا النهار. - مولاتي أقبل قدميك، وأرجوك أن تحنني قلب السلطانة علي ... أنقذيني من عذابي لا تدعيهم يقسروني على الزواج من حسن بك ... أنقذيني أنقذك الله من كل ضير.
وترامت عائشة على قدمي مهرى تقبلهما، فتأثرت الشركسية لما رأت صديقتها القديمة منطرحة بين قدميها، فأنهضتها وطيبت خاطرها، ووعدتها بالمساعدة، فاطمأن فؤادها قليلا.
وفي الساعة السادسة مساء أقبل الزورق الخاص يتلألأ مقلا الإمبراطورة، فلما وصل إلى سلم سراي جراغان امتلأت النوافذ من السراري يشاهدن تلك الزائرة العظيمة الغريبة، وهكذا تسنى لعائشة أن تشاهد من وراء ستار شفاف حبيبها صلاح الدين الذي كان بمعية الإمبراطورة، وكان مرتديا ثيابه الرسمية المذهبة يقدم برشاقة باريسية ذراعه للسيدات اللائي كن بمعية الإمبراطورة؛ فلم تمتلك نفسها من البكاء لما شاهدت مليك فؤادها على بضعة خطوات منها، وهو لا يمكنه مشاهدتها والدنو منها، بين أن النساء الأوروبيات يكلمنه بحرية ويصافحنه، فتنهدت من قلب قرحه الهوى، وقالت: «آه، يا ليتني كنت أوروبية.»
وكان السلطان قد أعد للإمبراطورة مائدتين؛ الأولى: أوروبية محضة صحفها من معمل «سفر» الشهير، ومناشفها من معمل «أساكس»، وكئوسها البلورية من «بوهيميا»، والطعام على اختلاف الألوان والأشكال من الطبخ الإفرنسي، وكانت المائدة الأخرى شرقية محضة مؤلفة من أطباق كبيرة فضية منقوشة أبدع نقش موضوعة على «إسكملات» مرصعة بعرق اللؤلؤ، والخوان من الحرير المقصب، والصحف من ذهب خالص، وحول الأطباق مساند مخملية مطرزة بالقصب، فتقدمت السلطانة مهرى وخيرت الإمبراطورة بين المائدتين، فاختارت الشرقية تلطفا منها ورغبة في معرفة الغريب، وجلست وحاشيتها من حولها وراء الأطباق على الأرض، وجلست السلطانات حول المائدة الأوروبية على الكراسي، وقد سررن جميعهن مما أكلن وشربن.
ثم قامت الإمبراطورة إلى قاعة كبرى تدخن التبغ التركي المعطر، وتشاهد الرقص الشرقي وتسمع الغناء التركي، وكانت البرنسس نازلي هانم كريمة المرحوم البرنس مصطفى فاضل باشا مؤسس حزب تركيا الفتاة ترجمانها، وهي تحسن التكلم بأكثر اللغات الأوروبية.
وفي الساعة العاشرة دخل السلطان الحرم، فهرعت السلطانات لتقبيل ثوبه، وكان في ذلك المساء بشوشا طربا، وزاده سرورا إطناب الإمبراطورة بكرمه وفخامة قصره، وخصوصا بجمال نسائه، وحسن ضيافته، وأكثرت من مديح جمال السلطانة مهرى، فأراد السلطان أن يري الإمبراطورة أن مهرى لم تتميز بجمالها فقط، بل إن الغناء من جملة محاسنها، ومن ثم التفت إلى مهرى وطلب إليها أن تنشد فامتثلت للحال، ولكن خانها صوتها لسوء حظها في ذلك الوقت فلم تحسن الغناء، ولربما كان ذلك من تأثرها أو لسبب آخر فلم يسر السلطان منها ، وشعرت هي باستيائه منها، ورغبت في التعويض فاستدعت صديقتها عائشة، وكان صوتها مطربا للغاية، وطلبت إليها أن تنشد نشيدا عربيا، وأتتها باثنتي عشرة راقصة مصرية، فطربت الإمبراطورة من اللحن العربي، وسرت من رشاقة الرقص، وعاد السلطان إلى بشاشته.
ثم أديرت القهوة والأشربة، وقدر لعائشة إذ ذاك أن تقدم إلى السلطان فنجانه، فحملت إليه الطبق الذهبي، وجثت أمامه على قدم واحد، وأمعن السلطان فيها النظر فإذا هي بارعة الجمال، فأخذ الفنجان يشربه على مهل، وهو يقلب فكره قائلا إني شاهدت هذا الوجه الفتان، ولكن قد غاب عني الزمان والمكان، ولاحظت مهرى والسلطانة علية افتتانه بجمال عائشة وانجذابه لها، فذابت مهرى حسدا وغيرة، وطارت السلطانة علية فرحا وسرورا، ثم أعاد السلطان الفنجان وشكرها خلافا لعادته؛ وللحال عزمت مهرى أن تزوج عائشة من صلاح الدين، وتقصيها مع زوجها إلى إحدى الولايات؛ لتبقى بعيدة عن أعين السلطان. وقالت السلطانة علية: الحمد لله قد اجتذبت السلطان، فتلك خير وسيلة للانتقام، والحصول على الرضى والإنعام، واستطالت مهرى تلك الحفلة ولا سيما لما رأت أن السلطان يكثر من الالتفات نحو عائشة، فلما انتصف الليل قامت الإمبراطورة تريد الانصراف، فشيعها السلطان حتى زورقها، ومن ثم ركب هو زورقه قاصدا طلمه بغجه من غير أن يرى السلطانة مهرى ...
فقلقت مهرى، وقالت على مسمع من السلطانة علية: نحن بالاسم سلطانات وبالفعل إماء ترفعنا لحظة وتسقطنا لفتة، فطوبى للسلطانات الأوروبيات إذا لبسن التاج مرة أمن عليه من السقوط، فأجابتها: لا، لا نزال نحن أسعد منهن حالا. نعم إن سعادتنا تتوقف على رضى رجل واحد لا يتبع إلا هواه، ولكن الأوروبيات يتعلقن برضى الشعب كله، فلم تفهم مهرى ماذا تريد بقولها. ولم يؤثر هذا الكلام بها، ولما انصرف الجميع كتبت إلى شقيقها حسن ما يأتي:
ناپیژندل شوی مخ