وقول المتنبي: [من الطويل]
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة ... كما نثرت فوق العروس الدّراهم (١)
استعارة، لأن «النثر» في الأصل للأجسام الصغار، كالدراهم والدنانير والجواهر والحبوب ونحوها، لأن لها هيئة مخصوصة في التفرق لا تأتي في الأجسام الكبار، ولأن القصد «بالنثر» أن تجمع أشياء في كفّ أو وعاء، ثم يقع فعل تتفرّق معه دفعة واحدة، والأجسام الكبار لا يكون فيها ذلك، لكنه لمّا اتّفق في الحرب تساقط المنهزمين على غير ترتيب ونظام، كما يكون في الشيء المنثور، عبّر عنه بالنثر، ونسب ذلك الفعل إلى الممدوح، إذ كان هو سبب ذلك الانتثار، فالتفرّق الذي هو حقيقة «النثر» من حيث جنس المعنى وعمومه، موجود في المستعار له بلا شبهة.
ويبيّنه أن «النّظم» في الأصل لجمع الجواهر وما كان مثلها في السلوك، ثم لمّا حصل في الشّخصين من الرجال أن يجمعهما الحاذق المبدع في الطعن في رمح واحد ذلك الضرب من الجمع، عبّر عنه «بالنّظم»، كقولهم: «انتظمها برمحه»، وكقوله: [من الكامل] قالوا: وينظم فارسين بطعنة (٢) وكان ذلك استعارة، لأن اللفظة وقعت في الأصل لما يجمع في السّلوك من الحبوب والأجسام الصغار، إذ كانت تلك الهيئة في الجمع تخصّها في الغالب، وكان حصولها في أشخاص الرجال من النادر الذي لا يكاد يقع، وإلا فلو فرضنا أن يكثر وجوده في الأشخاص الكبيرة، لكان لفظ «النظم» أصلا وحقيقة فيها، كما يكون حقيقة في نحو الحبوب، وهذا النحو لشدة الشّبه فيه، يكاد يلحق بالحقيقة.
ومن هذا الحدّ قوله: [من الطويل]
_________
(١) البيت في ديوانه. الأحيدب: جبل، والنثر: التفريق، يقول: فرقتهم على هذا الجبل مقتولين، ونثرتهم نثر الدراهم على العروس، فتفرقت مصارعهم على هذا الجبل، كما تتفرق مواقع الدراهم إذا انتثرت، وهذا من محاسن أبي الطيب، وقد أشار بهذا إلى أن سيف الدولة تحكّم في الروم قتلا وأسرا ونثر جيشهم فوق هذا الجبل نثرا. التبيان ٢/ ٣٠١.
(٢) الشعر لبكر بن النطاح في أبي دلف العجلي، وهو في قصة ذكرها صاحب الأغاني ١٩/ ١٠٩، وتمامه:
قالوا: وينظم فارسين بطعنة ... يوم اللقاء ولا يراه جليلا
لا تعجبوا فلو أن طول قناته ... ميل، إذا نظم الفوارس ميلا
1 / 49