به الفرق عليهما، حتى إنه لو رام تركهما إلى خلافهما مما لا تجنيس فيه ولا سجع، لدخل من عقوق المعنى وإدخال الوحشة عليه، في شبيه بما ينسب إليه المتكلف للتّجنيس المستكره، والسجع النّافر. ولن تجد أيمن طائرا، وأحسن أوّلا وآخرا، وأهدى إلى الإحسان، وأجلب للاستحسان، من أن ترسل المعاني على سجيّتها، وتدعها تطلب لأنفسها الألفاظ، فإنها إذا تركت وما تريد لم تكتس إلا ما يليق بها، ولم تلبس من المعارض إلا ما يزينها. فأمّا أن تضع في نفسك أنه لا بدّ من أن تجنس أو تسجع بلفظين مخصوصين، فهو الذي أنت منه بعرض الاستكراه (١)، وعلى خطر من الخطأ والوقوع في الذّمّ، فإن ساعدك الجدّ كما ساعد في قوله: «أو دعاني أمت بما أو دعاني»، وكما ساعد أبا تمام في نحو قوله: [من الطويل]
وأنجدتم من بعد إتهام داركم ... فيا دمع أنجدني على ساكني نجد (٢)
وقوله: [من الكامل]
هنّ الحمام، فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهنّ حمام (٣)
فذاك، وإلّا أطلقت ألسنة العيب، وأفضى بك طلب الإحسان من حيث لم يحسن الطلب، إلى أفحش الإساءة وأكبر الذنب، ووقعت فيما ترى من ينصرك، لا يرى أحسن من أن لا يرويه لك، ويودّ لو قدر على نفيه عنك، وذلك كما تجده لأبي
_________
(١) أي: بجانب الاستكراه، والمقصود ذم تكلف التجنيس وطلب التحسين وتعمده واستكراه اللفظ عليه دون أن يقتضيه المعنى، وتنقاد له النفس، ويستلذه الحسّ؛ وليس معنى ذلك أن اختيار التجنيس وأشباهه من المحسنات مذموم إذا كان موافقا للمعنى، مطابقا للمقتضى، فإذا حضرك لفظان أحدهما يوافق المعنى بلا تجنيس، والآخر يوافقه مع زيادة التجنيس أو التحسين؛ فإن حق البلاغة والفصاحة هنا اختيار اللفظ الذي هو آنق في السمع، وأوفق للنفس والحسّ؛ فإن التحسين والتزيين المطابق لا يخفى أنه يقع من البلاغة بمكان، وأنه هو الذي يجذب النفس إلى المعاني، ويهون عليها ثقل اللفظ ورتابته.
(٢) البيت في ديوانه: ١٢٠ من قصيدة قالها في مدح موسى بن إبراهيم الرافقيّ ويعتذر إليه، وقبله:
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعدي ... ومحّت كما محّت وشائع من برد
والبيت في الإيضاح: ٣٣٧، تحقيق د. عبد الحميد هنداوي.
أنجدتم: سكنتم نجدا. إتهام داركم: اتخاذها في تهامة. أنجدني: ساعدني وعاوني.
(٣) البيت لأبي تمام في ديوانه: ٢٦٣، عن قصيدة في مدح المأمون، وقبله:
أتحدّرت عبرات عينك أن دعت ... ورقاء حين تصعصع الإظلام
لا تنشجينّ لها فإن بكاءها ... ضحك وإن بكاءك استغرام
العيافة: زجر الطير. والحمام: الموت. استغرام: أي: داع للغرام وهو الهلاك.
1 / 21