هذه هي الدولة التي دافع عنها هؤلاء الجنود الذين قضت عليهم بسالتهم والذين استهانوا بحياتهم فقاتلوا قتال الشجعان وماتوا موت البسالة. وإني مقتنع بأن الذين لم يقتلوا على قدم الاستعداد متأهبون لأن يبذلوا نفوسهم في هذا السبيل. ولهذا السبب تبسطت في بيان المزايا الوطنية لكي أبرهن لكم بأوضح ما يمكن أننا في حربنا الراهنة نخاطر بأكثر مما تخاطر به أمة ليس لها هذه المزايا الوطنية الثمينة، ولكي أبين لكم مقدار ما يستحقه هؤلاء الجنود من الشكر والحمد اللذين قدمناهما لهم. وهذا الاحتفال الذي تحتفل به الدولة وتعلن فيه ثناءها وحمدها إنما مرجعه إلى بسالة هؤلاء الجنود ومن يماثلهم من الرجال، وهذا الثناء قد يمكن أن نعده مبالغا فيه إذا نحن أغدقناه على غير هؤلاء الجنود من الأثينيين، فهذا الموت الذي قد انتهوا إليه أكبر شاهد على جدارتهم، وعلينا دين يجب أن نوفيه بتكريم الرجال الذين أرصدوا حياتهم للقتال عن أوطانهم مهما كانوا أحط من غيرهم في مضمار الفضائل ما داموا قد حصلوا على فضيلة البسالة فإن مأثرتهم الأخيرة تمحو جميع مساوئهم السالفة؛ لأنها تشمل جمهور الأمة، بينما المساوئ لا تعدو العدد القليل. ولسنا نجهل أنه لم يحجم أحد من هؤلاء عن الخطر مؤثرا الملاذ التي تجتنى من عيشة السلام الوفيرة، كما أنه لم يضن أحد بحياته غرورا بالأمل بأن الفاقة الراهنة قد تزول ويأتي مكانها الرخاء والسعة. كلا، إنما كانت تستعر في قلوبهم شهوة واحدة؛ ألا وهي الانتقام من أعدائهم. لقد فروا من لومة الجبن وتصدروا لصدمة المعركة ثم حملوا وهم لا يروعهم روع وقد عقدت آمالهم النصر لهم فوقعوا، وهكذا أدوا الواجب الذي يدين به كل شجاع لبلاده.
وأما أنتم الذين لم تقتلوا فشأنكم أن تصلوا إلى الآلهة لكي يكون حظكم خيرا من حظ هؤلاء، ولكن عليكم أن تحتفظوا بهذه الروح وتلك الحماسة اللتين تقاتلون بهما عدوكم. ولست أحتاج إلى بيان فائدة هذا في خطبة مثل هذه فإن أي إنسان يتلهى بالألفاظ يستطيع أن يقول لكم ما تعرفونه أنتم من قواعد مجاهدة العدو. ولكني أدعوكم إلى أن تجعلوا عظمة أمتكم قبلة أفكاركم، فإذا أدركتم هذه العظمة فاذكروا أنها نيلت بالأبطال الشجعان، برجال عرفوا واجبهم واستحوا من العار وكانوا إذا ما أخفقت جهودهم خافوا الفضيحة على بلادهم فلم يضنوا بشيء من شجاعتهم. إنهم أهدوا حياتهم إلى الجمهور ونالوا منه الحمد الذي لا يبلى، ولكل منهم ضريح عظيم، ولا أعني ذلك الضريح الذي يضم رفاتهم الرميمة؛ وإنما أعني ذلك الذي يضم شهرتهم وذكرهم، وهو ضريح يذكر كلما ذكر الشرف، فهذه الأرض بأجمعها ضريح عظماء الرجال. (2) خطبة الديموستينيس
كان ديموستينيس (382-322 ق.م.) خطيب أثينا بل زعيم خطبائها، وكان قبل أن عرفه جمهور أثينا رجلا خاملا ضعيف البنية خائر الصوت ليست لحركته لباقة ولا في لسانه طلاقة الخطيب، فلما اعتزم الخطابة «أخذ يقوي رئتيه وصوته بالصياح وهو يصعد في الجبال الوعرة، أو كان يقف على شاطئ البحر فيرفع صوته فوق صخب الأمواج. وتغلب على عاهة النطق بأن كان يمارس الكلام وفي فيه حصى، وتعلم أصول اللباقة ورشاقة الحركة بأن كان يقف أمام مرآة وهو يخطب.»
قال عنه فنيلون: «إننا لا نفكر في كلماته بل نفكر في الأشياء التي يقولها، فهو يبرق وهو يرعد بل هو سيل يجرف كل ما أمامه، فلا نستطيع أن ننتقده أو نعجب به لأننا قد فقدنا حكمنا على مشاعرنا.»
وقد كانت مهمة ديموستينيس التي عاش من أجلها ومات في سبيلها إيقاظ ضمير الأمة الإغريقية وتنبيهها إلى الخطر الذي يحيق بها من فيلبس والد الإسكندر المقدوني الذي كان ينوي ضم بلاد الإغريق إلى مملكته، وكان قد رشا خطباء أثينا لكيلا ينددوا بأغراضه فسكتوا وأبى ديموستينيس أن يرتشي ويخون وطنه. وقضى حياته وهو يحرض الأثينيين على مقاتلة فيلبس حتى دس له هذا الملك من يطارده، ففر إلى أحد المعابد، وهناك تناول السم بيده ومات.
قال يحرض الأثينيين على قتال فيلبس:
إن بينكم أيها الأثينيون من يعتقد أنه يمكنه أن يربك الخطيب بقوله: «فماذا نفعل إذن؟» وعلى هذا السؤال أجيب: «لا تفعلوا شيئا مما تفعلونه الآن، وافعلوا كل شيء لم تفعلوه.» وإنه لجواب حق وصدق، ولكني سأزيدكم إيضاحا، ولعل أولئك الذين يسارعون إلى السؤال يسارعون أيضا إلى العمل، فاذكروا أيها الأثينيون أولا أنه من الحقائق التي لا مراء فيها أن فيلبس قد نكث عهودكم وأعلن الحرب عليكم، فدعونا إذن من التثالب عن هذا الموضوع. ثم اذكروا أنه عدو أثينا الألد، عدوها الذي يكره أرضها وأسوارها، بل يكره أولئك الذين يغتبطون منكم بأنهم قد نالوا حظوة عنده.
فإن أخشى ما يخشاه فيلبس وأمقت ما يمقته هو حريتنا، هو نظامنا الديمقراطي، فلكي يقضي على هذه الحرية وهذا النظام يهيئ فيلبس جميع شراكه ويدبر جميع تدابيره. أوليس يجري على مبدأ واحد في كل أعماله هذه؟ إنه يعرف تمام المعرفة أنه لو أخضع بلاد الإغريق كافة وعمها بفتوحاته فإنه يظل غير آمن عليها ما دامت ديمقراطيتكم صحيحة لم تمس. وهو يعرف أنه لو أصابته هزيمة من تلك الهزائم التي تقدرها الأقدار لبني الإنسان فإن جميع هذه الأمم التي قرنها عنوة إلى نيره تسارع إلى الانضواء إليكم. أفي العالم ظالم يجب رده؟ هاكم أثينا! أفي العالم أمة مقهورة تحتاج إلى رد حريتها إليها؟ هاكم أثينا ما أسرعها إلى الإسعاف! ففيم نعجب من فيلبس إذا كان لا يطيق صبرا على هذه الحرية الأثينية التي تقف موقف الجاسوس ينظر إلى شروره وآثامه؟ فأيقنوا أيها المواطنون أنه عدوكم الذي لا هوادة عنده، وأنه إنما يعبي جيوشه ويهيئ عدده وينصب أشراكه لكي يقاتل أثينا.
فماذا عليكم أن تفعلوا باعتباركم رجالا عقلاء قد اقتنعتم بصحة هذه الحقائق؟ يجب عليكم أن تنفضوا عنكم هذا السبات القاتل وأن يتبرع كل منكم بنسبة ما يملك وأن تطلبوا من حلفائكم أن يتبرعوا ثم تستعدوا للاحتفاظ بالجنود المسلحين حتى إذا كان فيلبس قد تهيأ لغزو الإغريق وإخضاعهم يكون لديكم جيش تمدونهم به وتخلصونهم منه. ولا تخبروني عن المتاعب والنفقات التي يحتاجها هذا العمل، فإني لست أنكرها، ولكن اعتبروا الخطر الذي يتهددكم واعتبروا مبلغ ربحكم فيما إذا انضممتم للدفاع عن قضية الوطن إلى سائر الإغريق منذ الآن. والحق أنه لو أكد لكم أحد الآلهة أن فيلبس لن ينالكم بأذى إذا بقيتم وادعين في مقامكم لا تحفلون بما يعمل فإني أقول لكم والسماء تشهد علي أنه من الهوان ومن الصغار ومما هو دون كرامة دولتكم ومجد آبائكم أن تضحوا مصالح وطن الإغريق بأجمعه لكي تنالوا أنتم الراحة لأنفسكم.
أجل، إنه لخير لي أن أهلك من أن أشير عليكم بهذا، فليفعل ذلك من يشاء غيري، واستمعوا لأقواله إذا أردتم، أما إذا كنتم تحسون مثل ما أحس وترون كما أرى أنه كلما امتدت فتوحات فيلبس كان في ذلك تقوية لعدونا وشدا لأزره علينا حين نضطر عاجلا أو آجلا إلى مكافحته فلم تترددون وأي اضطرار تنتظرون؟ فهل هناك ما يخشاه الأحرار قدر ما يخشون سقوط الشرف؟ فهل أنتم في انتظار هذا؟ ألا إنه قد وقع بنا الآن ما تنتظرونه وإن عبئه ليكدنا ويبهظنا. لقد قلت «الآن» ولكن الحقيقة أنه قد وقع منذ زمان ولازمنا وجها لوجه. إلا أن هناك اضطرارا آخر قد احتفظ به لنا للمستقبل: هو اضطرار الرق والجلد والصفع، فهل تنتظرون هذه الأشياء؟ ألا لا قدرت الآلهة! إن النطق بهذه الكلمات مهانة وذل. (3) خطبة لشيشرون
ناپیژندل شوی مخ