فلما كانت قوة هذه النفس قوة غاذية مولدة، وجب بالاضطرار أن يكون أول ما نحدد الكلام فى الغذاء، من أجل أن انفصال هذه القوة من سائر القوى لا يكون بهذا العمل الذى هو الغذاء. وقد رأى أقوام أن الغذاء إنما يكون من الضد إلى الضد، إلا أن ذلك ليس يكون فى كل شىء ما خلا الأضداد التى يكون بعضها من بعض — وقد بينتها — كذلك قد تكون أشياء كثيرة من أضداد، وليس جميع الأشياء هكذا: من ذلك أنه يكون صحيح من سقيم. والأشياء التى زعموا أنها تغتذى بالتضاد ليس يظهر أنه يغذو بعضها بعضا بنوع واحد، وذلك أنا نرى الماء غذاء للنار، ولا تغذو النار الماء. وحرى أن يكون هذا فى الأجرام المبسوطة فيصير بعضها غذاء، وبعضها يغتذى. — فهذا القول مسئلة معاناة، لأن بعض الناس رأى أن المثل يغذو المثل ويربيه. ورأى آخرون — كما ذكرنا — خلاف ذلك أن الضد يغذو الضد، وهذه حجهم: زعموا أن المثل لا يألم من مثله، وأن الغذاء لا يكون إلا بالاستحالة، والنضج والاستحالة لا يكون من ضد إلى ضده أو إلى واسطة بين هذين. وأيضا أن الغذاء قد يألم من الشىء المغتذى به، وليس ذلك من قبل الغذاء، كما أن النجار لا يألم من الخشب، بل الخشب الذى يألم من النجار، وأما النجار فانه يستحيل من لا فعل إلى فعل. — وينبغى أن نعلم ما الغذاء: هل الغذاء آخر ما فيه الزائد فى البدن؟ أم الأول منه هو الغذاء؟ فان 〈بين〉 هذين فصلا. وإن كانا جميعا غذاء، وأحدهما ليس ينضج والآخر نضج، يمكن أن يسميا كلاهما غذاء: إلا أن الذى لم ينضج هو الذى يغذى الضد، والنضج منهما هو المثل الذى يغذو مثله. وبهذا اتضح ما قال الفريقان من صواب وغير صواب. فاذا لم يكن شىء يغتذى، ما خلا ذا الحياة، فلا محالة أن الجرم ذا الحياة الذى يغتذى، وأن الغذاء لذى النفس لا بالعرض.
مخ ۴۰