حرام على روض نمونا بمائه
يجف بلا ذنب جنينا ولا عذر
ويختم هذا القصيد ببيت رائع المعنى بارع الأداء يتنفس الإخلاص الصادق، يقول:
جمالك في نفسي وذكرك في فمي
وشخصك في عيني مقيم وفي فكري!
وهذا الجميع بين صفاء الفكرة وجمال الديباجة وبين براعة الخيال وصدق العاطفة هو سمة كل شعر يشق لنفسه طريق البقاء ويحمل في ذاته عناصر الحياة، وقد امتاز شعر الشعراء النابهين بهذه السمة أمثال المتنبي، وأبي العلاء المعري، وشكسبير، وتنيسون، والبارودي، وشوقي، وحافظ، في طائفة من قصائدهم.
وديوان (أنداء الفجر) يضم كثيرا من أمثال هذه القصائد المقفاة الرصينة، ولكن يلاحظ إلى جانب هذه القصائد المقفاة نوع جديد من القافية المزدوجة أو شبه الطليقة تظهر نزوع الشاعر إلى الطلاقة وإلى التحرر من عبودية القافية الواحدة، وهذه الطلاقة تعطي في كثير من الأحايين مسحة جميلة للتعبير الشعري. فإنا لنرى أن طائفة من قصائد هذا الديوان تعلن الثورة على القافية الواحدة كما يتجلى ذلك من قصيدة «الطائر الجديد» التي أتى في كل بيت منها بقافية مغايرة، وقصيدته «بنات الخريف» التي نوع القافية فيها. ورأينا أبا شادي يلجأ أيضا إلى القافية المزدوجة في كثير من قصائده التي نذكر منها «وحي المطر» و«القطة اليتيمة» و«الوساوس» و«الطائر الرقيب» و«الإكسير» و«أنداء الفجر». وهذا الميل إلى الطلاقة والتحرر من عبودية القافية في سن باكرة يحمل بذور ثورته التي تجلت اليوم في شعره المرسل، ذاك الشعر الذي كان هو وعبد الرحمن شكري من رواده، وتجلت أيضا في شعره الحر الذي كان هو أول من أدخله في الشعر العربي، وهذا الميل إلى التحرر من القافية هو الذي أثار هائجة المحافظين فزعموا أن هذا التحرر يذهب الموسيقى ويضيع النغم. وهذا القول صادر عن جهل بأبسط المعارف الموسيقية: فإن آلات الأوركستر مثلا لا يلزم أن تكون كل الأصوات المتصاعدة منها منسجمة النغمة بل قد تكون بعض الأصوات غير منسجمة ولا منغومة، والعبرة بوحدة الأصوات التي تكون النغم الموسيقي. فإذا فهمنا هذا الأساس أمكننا أن نفهم عدم ضرورة القافية الواحدة، ما دامت القافية المنوعة تكون وحدة موسيقية منسجمة، ويكفي أن يخرج من كل بيت صوت موسيقي ولا يلزم أن يكون في كل بيت نغمة موسيقية.
فالموسيقى ولا شك توجد في القافية المنوعة، ومن الملحوظ أن أعلام الشعر البارزين كانوا من أنصار الطلاقة في النظم ومن زعماء القافية المحررة. وقد لجأ الكثير منهم إلى القافية المنوعة إذا آنسوا أن المعنى قد تفسده القافية الواحدة أو أحسوا أن القافية الواحدة تخمد العاطفة وتطفئ الانفعال. ونعرف من شعراء الغرب الذين لم يهتموا بالنغمة الموسيقية الشاعر الفرنسي الحساس «ألفرد دي موسيه» الذي لجأ في بعض الأحايين إلى الشعر المرسل ووجه إلى محبي القافية الواحدة من جماعتي الرومانتيكيين والبرناسيين عبارته الحادة الساخرة: «لا تنظروا إلى ردائي وأحذيتي بل انظروا إلي وجها لوجه، انظروا إلى وجهي وحاولوا أن تقرأوا فكري من أعماق عيني.»
ولكنا نجد في كل زمان ومكان جماعة التقليديين والمحافظين والحفريين لا يحبون هذه الطلاقة لا في اللفظ ولا في المعنى ولا في القافية، ولا يميلون إليها جميعا، ونعرف من هؤلاء في فرنسا المسيو دي بانفيل الذي كان يرى أن تفكير الشاعر هو القافية، وأن الشاعر لا رأي له، وإنما الشاعر هو من يؤلف القوافي ذات النغمات الموسيقية! ويتجاوب مع هذا التقليدي المريع جماعة المحافظين في مصر، وأولئك جميعا يكفرون بالفكرة ولا يعرفون موسيقاها ... أولئك لن تعمر أعمالهم أكثر من تعمير رنينهم في الآذان الأسيرة، بل أولئك جعلوا - مع الأسف - من الشعر صناعة وأفقدوه رسالته المقدسة التي جاء من أجلها وهي تثقيف الشعور وتنبيه الفكر وشحذ الانفعالات وتهيئة الطمأنينة للروح، وأولئك قد شنوا حربا شعواء على شعراء الشباب المجددين واستقبلوا بصيحات الغربان قصائد المجددين الذين يرون الجمال والموسيقى في الفكر وفي انسجام الترتيل. ولقد حملوا على شكري حملة غير شريفة، وها هم الآن يوجهون سهامهم إلى أبي شادي القوي المراس، وإلى غيره من الذين ينادون بالشخصية في الأدب وبالطلاقة والحرية والذين يهتمون بالفكرة ويدخلون الألفاظ الشعرية الجديدة والأخيلة الطريفة في أساليبهم الشعرية ويلبسون قصائدهم مسحة من الجاذبية الحبيبة لذوي النفوس المتصوفة والطبائع السمحة. وسوف تذهب هذه الصيحات الناعبة أدراج الرياح، وسوف يتجاوب الناس بشعر المجددين لأنه الشعر الطبيعي ولأنه القائم على تفهم روح الأشياء وعلى العاطفة الشعرية والتأثر الصادق والفكرة العزيزة، والزمن كفيل بأن يعيد المتعنتين إلى مهيع الصواب وسبيل الإنصاف، فيتجاوبون مع نفوس المجددين ويستمعون إلى مقياس أبي شادي الصائب في الحكم على الشعر حين يقول:
كن أنت نفسي واقترن بعواطفي
ناپیژندل شوی مخ