في المرحلة الأولى
استفدت في مرحلة التعليم الابتدائي من أستاذين اثنين على اختلاف بينهما في طريقة الإفادة، فإن أحدهما قد أفادني وهو قاصد، والآخر قد أفادني على غير قصد منه، فحمدت العاقبة في الحالتين.
كان أحدهما الأستاذ الفاضل مدرس اللغة العربية والتاريخ الشيخ محمد فخر الدين، وكان «الإنشاء» صيغا محفوظة في ذلك الحين كخطب المنابر، وكتب الدواوين، ولكنه كان يبغض الصيغ المحفوظة، وينحى بالسخرية والتقريع على التلميذ الذي يعتمد عليها، ويمنح أحسن الدرجات لصاحب الموضوع المبتكر، وأقل الدرجات لصاحب الموضوع المقتبس من نماذج الكتب، وإن كان هذا أبلغ من ذاك، وأفضل منه في لفظه ومعناه.
وكان درسه في التاريخ درسا في الوطنية ... فعرفنا تاريخ مصر، ونحن أحوج ما نكون إلى شعور الغيرة على الوطن والاعتزاز بتاريخه؛ لأن سلطان الاحتلال الأجنبي كان قد بلغ يومئذ غاية مداه ...
أما الأستاذ الآخر، فقد كان أستاذ حساب وهندسة ورياضة، ولا داعي لذكر اسمه في هذا المقام، كان يؤمن بالخرافات وشفاعات الأولياء، وكان محدود الفهم في دروسه، ولا سيما المسائل العقلية في درس الحساب، وقد كانت هذه المسائل شائعة في ذلك الحين، ثم أبطلوها بعد ذلك؛ لأنهم زعموا أن القدرة على الحساب شيء والقدرة على فض المغلقات العقلية شيء آخر، وقد أصابوا من ناحية وأخطأوا من ناحية؛ لأن القدرة على فض المغلقات ألزم اللوازم لإتقان العلوم الرياضية خاصة، وإتقان العلوم الأخرى على العموم ...
وكان يتردد على مسجد يعتكف في زاويته رجل من المشهورين بالولاية وصنع الكرامات، فدعانا جميعا - نحن تلاميذ السنة النهائية - إلى صلاة المغرب معه في ذلك المسجد؛ للتبرك بالرجل الصالح، وتلقي النصائح منه فيما نحن مقبلون عليه من امتحان قريب.
وجاء دوري في تلقي النصيحة، فقال لي الرجل: «أما أنت فعليك باللغة الإنجليزية ...»
وعجبت وعجب زملائي من هذه النصيحة؛ لأنني كنت من المتقدمين في هذه المادة على الخصوص، وكنت أقرأ فيها بعض الكتب الأدبية وأنا في السنة الرابعة الابتدائية، ولكن زملائي فسروا هذه النصيحة بسر الولاية ... فلعل الرجل يعلم من سر الامتحان في تلك السنة ما لا يعلمون.
فلما اجتمعنا بالمدرسة في أول حصة للحساب، قال الأستاذ الرياضي: «تذكر نصيحة الشيخ يا فلان؟»
قلت: «إن الشيخ لم يقل شيئا!»
ناپیژندل شوی مخ