الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

الفصل الأول‏

الفصل الثاني‏

الفصل الثالث‏

الفصل الرابع‏

الفصل الخامس‏

الفصل السادس‏

الفصل السابع‏

الفصل الثامن‏

الفصل التاسع‏

أنا

أنا

تأليف

عباس محمود العقاد

الفصل الأول

(1) أنا

الكاتب الأمريكي «وندل هولمز» يقول: إن الإنسان - كل إنسان بلا استثناء - إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة.

الإنسان كما خلقه الله ... الإنسان كما يراه الناس ... والإنسان كما يرى هو نفسه ...

فمن من هؤلاء الأشخاص الثلاثة هو المقصود بعباس العقاد؟!

ومن قال إنني أعرف هؤلاء الأشخاص الثلاثة معرفة تحقيق أو معرفة تقريب؟!

من قال إنني أعرف عباس العقاد كما خلقه الله؟

ومن قال إنني أعرف عباس العقاد كما يراه الناس؟

ومن قال إنني أعرف عباس العقاد كما أراه، وأنا لا أراه على حال واحدة كل يوم؟

هذه هي الصعوبة الأولى، ولا أتحدث عن غيرها من الصعوبات.

ولكني أضربها مثلا واحدا من أمثلة كثيرة، ثم أختصر الطريق، وأنتقل إلى الموضوع من قريب.

إنني لن أتحدث - بطبيعة الحال - عن «عباس العقاد» كما خلقه الله ...

فالله - جل جلاله - هو الأولى بأن يسأل عن ذلك ...

ولن أتحدث - بطبيعة الحال - عن «عباس العقاد» كما يراه الناس، فالناس هم المسئولون عن ذلك ...

ولكن سأتحدث عن عباس العقاد كما أراه.

وعباس العقاد كما أراه - بالاختصار - هو شيء آخر مختلف كل الاختلاف عن الشخص الذي يراه الكثيرون من الأصدقاء أو من الأعداء ... هو شخص أستغربه كل الاستغراب حين أسمعهم يصفونه أو يتحدثون عنه، حتى ليخطر لي في أكثر الأحيان أنهم يتحدثون عن إنسان لم أعرفه قط، ولم ألتق به مرة في مكان.

فأضحك بيني وبين نفسي وأقول: ويل التاريخ من المؤرخين ...

أقول: ويل التاريخ من المؤرخين؛ لأن الناس لا يعرفون من يعيش بينهم في قيد الحياة، ومن يسمعهم ويسمعونه، ويكتب لهم ويقرأونه، فكيف يعرفون من تقدم به الزمن ألف سنة، ولم ينظر إليهم قط، ولم ينظروا إليه؟!

فعباس العقاد هو في رأي بعض الناس - مع اختلاف التعبير وحسن النية - هو رجل مفرط الكبرياء ... ورجل مفرط القسوة والجفاء ...

ورجل يعيش بين الكتب، ولا يباشر الحياة كما يباشرها سائر الناس.

ورجل يملكه سلطان المنطق والتفكير، ولا سلطان للقلب ولا للعاطفة عليه!

ورجل يصبح ويمسي في الجد الصارم، فلا تفتر شفتاه بضحكة واحدة إلا بعد استغفار واغتصاب.

هذا هو عباس العقاد في رأي بعض الناس.

وأقسم بكل ما يقسم به الرجل الشريف أن عباس العقاد هذا رجل لا أعرفه، ولا رأيته، ولا عشت معه لحظة واحدة، ولا التقيت به في طريق ... ونقيض ذلك هو الأقرب إلى الصواب.

نقيض ذلك هو رجل مفرط في التواضع، ورجل مفرط في الرحمة واللين، ورجل لا يعيش بين الكتب إلا لأنه يباشر الحياة؛ رجل لا يفلت لحظة واحدة في ليله ونهاره من سلطان القلب والعاطفة، ورجل وسع شدقاه من الضحك ما يملأ مسرحا من مسارح الفكاهة في روايات شارلي شابلن جميعا ...

هذا الرجل هو نقيض ذاك ...

ولا أقول: إن هذا الرجل هو عباس العقاد بالضبط والتحقيق، ولكني أريد أن أقول: إنهم لو وصفوه بهذه الصفة لكانوا أقرب جدا إلى الصواب، ولأمكنني أن أعرفه من وصفه إذا التقيت به هنا أو هناك، خلافا لذلك الرجل المجهول الذي لا أعرفه بحال!

مكان التواضع واللين

إنني لا أزعم أنني مفرط في التواضع.

ولكنني أعلم علم اليقين أنني لم أعامل إنسانا قط معاملة صغير أو حقير، إلا أن يكون ذلك جزاء له على سوء أدب.

وأعلم علم اليقين أنني أمقت الغطرسة على خلق الله؛ ولهذا أحارب كل دكتاتور بما أستطيع، ولو لم تكن بيني وبينه صلة مكان أو زمان، كما حاربت هتلر ونابليون وآخرين.

وأنا لا أزعم أنني مفرط في الرقة واللين.

ولكنني أعلم علم اليقين أنني أجازف بحياتي، ولا أصبر على منظر مؤلم أو على شكاية ضعيف.

فعندما كنت في سجن مصر رجوت الطبيب أن يختار لي وقتا للرياضة غير الوقت الذي تنصب فيه آلة الجلد لعقوبة المسجونين.

فدهش الطبيب، ظن أنه يسمع نادرة من نوادر الأعاجيب ...

وقال لي في صراحة: ما كنت أتخيل أن أسمع مثل هذه الطلب من العقاد «الجبار».

وأصبت في السجن بنزلة حنجرية حادة حرمتني النوم وسلبتني الراحة، ولم تزل هذه النزلة الحنجرية عندي مقدمة لأخطر الأمراض كما حدث قبل نيف وعشرين سنة، ونجوت منها يومئذ بمعجزة من معجزات العلاج والعناية وتبديل الهواء، ومن أجل هذه النزلة الحنجرية ألبس في الشتاء تلك الكوفية التي علقتها الصحف الفكاهية في رقبتي لا تحل عنها في صيف أو شتاء، ولا في صبح أو مساء، حتى أوشكت أن تكون من علامات تحقيق الشخصية قبل الملامح والأعضاء.

وكانت زنزانة السجن التي اعتقلت بها على مقربة من أحواض الماء، شديدة الرطوبة والبرودة، يحيط بها الأسفلت من أسفلها إلى أعلاها، ولا تدخلها الشمس إلا بإشارة من بعيد.

فعرض المحامون أمري على المحكمة وحولته المحكمة إلى النيابة، ودرسته النيابة مع وزارة الداخلية ومصلحة السجون، وتقرر بعد البحث الطويل نقلي إلى المستشفى، وإقامتي هناك في غرفة عالية تشرف على ميدان واسع وحديقة فسيحة، وتتصل بالداخلين والخارجين أثناء النهار، ويتردد عليها الأطباء والموكلون بالخدمة الطبية من الصباح إلى الصباح.

فرج من الله، وأمنية عسيرة التحقيق تمهدت بعد جهد جهيد!

فصعدت إلى المستشفى وأنا أعتقد أن الخطر الأكبر قد زال أو هان، ولكني لم ألبث هناك ساعة حتى شعرت أن الزنزانة المغلقة أهون ألف مرة من هذا المكان الذي أصغي فيه إلى أنين المرضى، وشكاية المصابين والموجعين، ثم غالبت نفسي ساعة فساعة، حتى بلغت الطاقة مداها ولما يطلع الفجر من الليلة الأولى، وإذا بي أنهض من سريري وأنادي حارس الليل ليوقظ ضابط السجن ويعود بي إلى الزنزانة من حيث أتيت، ولتفعل النزلة الحنجرية وعواقبها الوخيمة ما بدا لها أن تفعل.

أنا أعلم من نفسي هذا، وأعلم أن الرحمة المفرطة باب من أبواب العذاب في حياتي منذ النشأة الأولى، وأعلم ما أعلم عن تلك العواطف التي يتحدث بها بعض الفضوليين ولا يعرفون منها غير التصنع والتمثيل، وتدميع العيون، وتبليل المناديل، ثم أسمع جبلا من هذه الجبال البشرية يذكر الرحمة وما إليها، كأنها حلية لا يزين الله بها إلا أمثاله، ولا يعطل الله منها إلا أمثال عباس العقاد ... فماذا يكون حكمي بعد هذا على آراء الناس في الناس؟!

لن يكون إلا قلة اعتداد برأي من الآراء يحسبونها الكبرياء وليست هي الكبرياء، ولكنها موقف من لا يبالي أن يعتقد من يشاء ما يشاء.

كرامة الأدب والأدباء

إلا أن الناس معذورون بعض العذر في شبهة الكبرياء هذه، وإن كانوا لا يطالبون أنفسهم بأقل مجهود في تصحيح هذه الشبهات.

فقد أراد الله - وله الحمد - أن يخلقني على الرغم مني متحديا «تحديا خصوصيا» لكل تقليد من التقاليد السخيفة التي كانت ولا تزال شائعة في البلاد المصرية والبلاد الشرقية على العموم.

أنا أطلب الكرامة من طريق الأدب والثقافة، وأعتبر الأدب والثقافة رسالة مقدسة يحق لصاحبها أن يصان شرفه بين أعلى الطبقات الاجتماعية، بل بين أرفع المقامات الإنسانية بغير استثناء.

أفي ذلك عار؟! أفي ذلك موجب للحقد والضغينة؟!

كلا! بل فيه مأثرة وفيه فضل جديد على عالم الأدب في هذا الشرق المسكين الذي كان أدباؤه لا يرتفعون عن منزلة المضحكين، والندماء المهرجين على موائد الأغنياء والرؤساء، فإذا ارتفعوا عن هذه المنزلة قليلا أو كثيرا، فهم لا يرتفعون بفضل الأدب والفن، بل بفضل وظيفة يعتصمون بها، أو شهادة علمية ينتحلون سمعتها، أو ثروة يحسبون من أهلها، ثم يحترمون لأجلها على الرغم من كونهم كتابا وشعراء!

وها هو ذا إنسان يعرف حقه في الكرامة، ولا يعرف حقا لتلك الأصنام الاجتماعية تفرضه عليه.

صنم المال، وصنم العناوين العلمية، والشارات الرسمية، وصنم المناصب، وصنم الألقاب، كيف تتجاهلها يا هذا؟! وكيف تطلب الكرامة لنفسك من غير طريقها؟!

إن الأصنام لا تقنع بما دون العبادة، فكيف بالإعراض وقلة المبالاة؟! وكيف بالتحطيم والكفران؟!

جهنم الأرباب جميعا قليلة - قليلة جدا - في جانب هذا الذنب العظيم ...

وإذا بهذه الأصنام جميعا تدعوني إلى دفع الجزية المفروضة عن يد ونحن صاغرون، وإذا بها جميعا تعود خالية الوفاض غير محفول بما تعمل وما تقول.

قالت: أتريد لك حقا وكرامة؟

قلت: نعم ...

قالت: إذن كن غنيا وإلا فليس لك كرامة ...

قلت: كلا ... سأكون غنيا عن الغنى، ولي الكرامة التي أريدها ...

قالت: إذن كن صاحب لقب وعنوان ...

قلت: كلا ... سيعرفني العالم والأديب، وسأصعد في هذه السماء صعودا حيث تزحف الألقاب والعناوين.

قالت: إذن كن صاحب منصب، كن صاحب أحساب وأنساب، كن شيئا في طريقي، ولك المسعدة مني بعد ذلك في كل طريق.

قلت: سأمضي في كل طريق أريد المضي فيه، ولا حاجة بي إليك.

ثم دارت الأيام، والتقيت بالأصنام.

قالت في شماتة وهي تتساءل: كيف الحال؟

قلت: عال ... أنت تعلمين على الأقل أنني لم أدفع الجزية المفروضة، وأنت تعلمين على الأقل أنني لم أخسر شيئا يعنيني.

قالت: نعم ... ولكنك تعبت كثيرا، وخرجت آخر المطاف بسمعة الكبرياء والجفاء ...

قلت: يغفر الله لك أيتها الأصنام! أتعنين السمعة على الألسنة، والإشاعة في المجالس، وسوء القالة بين الفارغين؟! هذه أيضا صنم من الأصنام التي لا أعرف لها جزية تؤدى، فاكتبي جزيتها وجزيتك في حساب واحد، وانتظري بالأجل إلى يوم الدين!

ولا عجب أن تغضب الأصنام غضبتها التي تضيق بها اللحوم والدماء، ولكن العجب أن يغضب عبادها المساكين الذين لا يظفرون منها بطائل، وأعجب منه أن يغضب عبادها الحانقون عليها المتلهفون على الخلاص منها؛ لأنهم نسوا هذا، وأصبحوا يذكرون أن واحدا أفلح حيث يفشلون، فلماذا تمرد فاستطاع وهم يتمردون فلا يستطيعون؟!

ذلك هو الثأر الذي لا يغفر!

وذلك وأمثاله هو الأصل الأصيل في شبهة الكبرياء، أسوقه على هذا النحو الذي لا يشبه الاعتذار، وأفسره بهذا التفسير الذي لا يتضمنه طلب البراءة؛ لأنني أكره الاعتذار عن الحسنات حينما يتفاخر الناس بالسيئات والوصمات، وبحسبي أنني نازل عن حقي في الثناء؛ لما صنعت من جميل لكرامة الأدب والأدباء.

العزلة والانطواء

وعذر آخر للناس - وإن كان لا ذنب لي فيه - أن يذهب بعضهم من النقيض إلى النقيض في فهم رجل يعيش بينهم على قيد الحياة.

عذر هؤلاء أنني مطبوع على العزلة والانطواء على النفس في أحسن الأحوال وأسوئها على السواء.

ولا حيلة لي في ذلك؛ لأن أسبابه عميقة، يرجع بعضها إلى الوراثة، وبعضها إلى الطفولة الباكرة، وبعضها إلى تجارب الدنيا التي لا تنسى.

ورثت حب العزلة من كلا الأبوين.

وعرض لي حادث دون السابعة من عمري أتمثله الآن كأني حضرته منذ يومين، وهو حادث الوباء الذي كان معروفا باسم الهيضة، أو الهواء الأصفر في أسوان.

أقفرت المدينة شيئا فشيئا من سكانها.

مات كثيرون منهم ورحل آخرون، وخلا الشارع الذي أقيم فيه؛ فأغلقت الحكومة أبوابه، ولطختها بالعلامة الحمراء التي معناها أن هذا البيت قد زاره الوباء.

ومن لحظة إلى لحظة يتراءى في الشارع نعش عار يمشي من ورائه رجلان أو ثلاثة، وقد يكون بينهم وبين حمل هذا النعش مسافة الطريق، وتوصيلة أخرى من توصيلاته التي لا تنقطع طول النهار.

وبيتنا وحده فيه إصابتان ...

وليس في الشارع - إذا خرجت إليه - طفل واحد يحوم بين تلك البيوت المغلقة بالعلامة الحمراء.

وإذا نزلت إلى شارع النيل حيث كان يطيب لي التجوال على غير هدى، وجدته مقفرا من الناس، ومن حين إلى حين تعبر في النيل سفينة شاردة لا تجترئ على ملامسة الشاطئ؛ خوفا من العدوى، ويصيح منها صائح كلما لمح على المورد زميلا يسأله عن الخبر: كم المحصول اليوم؟

فيجيبه: مصري كامل ... أو مجيري ... أو بنتو ... أو نصف جنيه فقط في أسلم الأيام.

ما هذا المحصول؟! وما هذه العملة التي يحسبونه بها؟!

إنها تهكم المصائب الوجيع!

إنه عدد الموتى في ذلك اليوم: جنيه مصري كامل: أي مائة ميت، ونصف جنيه: أي خمسون، ولم أسمع قط ذكر الريال إلا في ختام الموسم الشنيع: موسم الحصاد!

صورة لا أنساها، ولا ألتفت إليها إلا تمثلت وحشتها وبلواها، وإليها - ولا شك - يرجع شيء من هذه الوحشة التي تحبب إلي الخلوة والانفراد ...

وتزيد عليها تجارب الدنيا التي لا تنسى، وخلاصتها: أن العواطف المزيفة أروج في هذه الدنيا من العواطف الصحيحة؛ فلا أسف إذن على رأي الناس في الناس، ولا اعتداد إذن بما يقال ومن يقول ...

الصداقة والعداوة

ما أسلفته لا أذكره على أنه فضائل محمودة، ولا على أنه رذائل مذمومة ... ولكنه صفات حقيقية وكفى.

ومن هذه الصفات الحقيقية التي أعهدها في نفسي أنني لا أميل إلى التوسط في الصداقة ولا في العداوة، فلا أعرف إنسانا نصفه صديق ونصفه عدو، وإنما أعرفه صديقا مائة في المائة، أو عدوا مائة في المائة، ولا تهمني مع ذلك عداوته إذا حفظها لنفسه ... ولكنه إذا تعقبني بها وأبى إلا أن يكشف عنها فهي الحرب التي لا توسط فيها كذلك: إما كاسر وإما مكسور، إلا أن يريحني احتقاره من عناء هذا وذاك ...

ومن هذه الصفات، أنني أمام الألفة أو العادة ضعيف لا أقدم على التبديل إلا بعد عناء طويل.

ومثل من أمثلة ذلك أن البيت الذي أسكنه قد تغير له أربعة من الملاك، وأنا الساكن فيه لا أتغير.

وإنني في مصر الجديدة، ودكان حلاقي في شارع محمد علي إلى الآن؛ لأنني منذ عشرين سنة كنت أسكن هناك.

وإنني كنت أشكو مرض الكلى قبل نيف وعشرين سنة، فأشار علي الطبيب باتباع نظام مخصوص في الطعام يناسب الحالة التي أشكوها، وقد زالت تلك الحالة بعد سنة واحدة، ولكني لا أزال إلى الساعة أجري على النظام الذي ألفته من جرائها، ولا أستطيب أن أعود إلى كل طعام!

ومن هذه الصفات أن الظنون عندي قوية السلطان، وعلة ذلك عندي معالجة التفكير المنطقي في كل شيء، فليس أسهل في المنطق من فتح أبواب الاحتمالات، أما إغلاقها - أو الجزم بنفيها - فلا يكون إلا ببرهان قاطع، والبراهين القاطعة قليل.

ومن هذه الصفات أن التجديد والمحافظة عندي يلتقيان في معظم الأمور، وعلة ذلك على ما أعتقد أنني نشأت بأسوان، وهي أعرق مدينة بين مدن مصر القديمة بموروثاتها التي لا تبلى، وهي في الوقت نفسه مدينة أوروبية في الشتاء، أو كانت كذلك يوم نشأت بها نشأتي الأولى، فأوروبا كلها كانت تتراءى هناك كل شتاء بملاهيها، وأزيائها، وعاداتها، ومؤلفاتها، وفنونها، واختلاف أقوامها.

وأنا أحب الأطفال جدا، وكان في منزلنا جماعة من الأطفال أكبرهم في السادسة من عمره، وهم جميعا أصدقائي، وكثيرا ما يصعدون إلى مسكني يسألونني، ويتحدثون معي ما شاء لهم الحديث.

أنا يأسرني الفن الجميل، حتى إنني أبكي في مشهد عاطفي أو درامي متقن الأداء، وأذكر أنني بكيت في أول فيلم أجنبي ناطق، وكان يمثله الممثل القديم «آل جولسون»، وكان مع «آل جولسون» طفل صغير يمثل دور الطفل الذي حرم من أمه، وظل هدفا للإهمال حتى مات ... وتأثرت من الفيلم وبكيت، ولم أستطع النوم في تلك الليلة، إلا بعد أن غسلت رأسي بالماء الساخن ثلاث مرات متتالية ... وأنا أستعين بغسيل الرأس بالماء الساخن على إبعاد الأفكار السوداء عني عندما تتملكني.

ومن صفاتي التي لا يعرفها الناس، أنني إذا عوملت بالتسامح لا أبدأ بالعدوان أبدا، وإذا هاجمني أحد فلا أرحمه، وقد قالت سارة عني ذات مرة: «إن من يظهر طرف السلاح للعقاد يا قاتل يا مقتول!»

ولدي صفة عجيبة أعتز بها أيما اعتزاز، وهي أن لدي حاسة سادسة لا تخطئ، ففي أحد الأيام - كنت بأسوان - سألت أخي فجأة عن صديق لي لم أكن قد رأيته منذ مدة، وفي المساء جاءتني برقية تنعى ذلك الصديق، وقد تبينت بعد ذلك أنه توفي في اللحظة نفسها التي تذكرته فيها، وقد تكررت مثل تلك الحوادث كثيرا حتى عرف عني أصدقائي هذه الصفة.

وأنا وفي جدا لأصدقائي من الأحياء والأموات، كما أنني وفي لذكرياتي، وأعتز بها كل الاعتزاز، وقد كنت شديد التعلق بوالدتي، وعندما كنت أزور أسوان كان أول ما أفعله هو أن أنزل من القطار وأهرع إلى غرفة والدتي، وألتصق بها ... فلما توفيت إلى رحمة الله لم أدخل غرفتها حتى الآن؛ كي لا أراها فارغة منها، حتى الشوارع التي كنت أغشاها مع صديقي المازني - رحمه الله - لم أستطع أن أغشاها بعد مماته، وصرت أتجنب ما يذكرني بفجيعتي فيهما حتى لا أحزن من جديد.

ولدت في أسوان

ولدت في أسوان يوم 28 يونيو سنة 1889، ولي إخوة أشقاء وغير أشقاء، فقد كان والدي متزوجا قبل والدتي، ثم ماتت زوجته، وبعدها تزوج أمي ... وكبير أشقائي أحمد، وكان يعمل سكرتيرا لمحكمة أسوان، وهو الآن على المعاش، وعبد اللطيف وهو تاجر، ولي شقيقة واحدة نحبها جميعا، وهي متزوجة تعيش في القاهرة إلى جواري، أما إخوتي غير الأشقاء، فهم جميعا أكبر مني سنا، وبعضهم يعيش في القاهرة، والبعض الآخر بأسوان.

بدأت حياتي الأدبية وأنا في التاسعة من عمري، وكانت أول قصيدة نظمتها في حياتي هي قصيدة مدح العلوم، وقلت فيها:

علم الحساب له مزايا جمة

وبه يزيد المرء في العرفان

والنحو قنطرة العلوم جميعها

ومبين غامضها وخير لسان

وكذلك الجغرافيا هادية الفتى

لمسالك البلدان والوديان

وإذا عرفت لسان قوم يا فتى

نلت الأمان به وأي أمان

وتدرجت في المدارس، ثم جئت إلى القاهرة للكشف الطبي عندما التحقت بإحدى وظائف الحكومة عام 1904، وكان عمري إذ ذاك 15 سنة، وكانت وظيفتي في مديرية قنا، ولم تكن اللوائح تسمح بتثبيتي؛ لأنني لم أكن قد بلغت بعد سن الرشد، ثم نقلت إلى الزقازيق، ثم كنت أول من كتب في الصحف يشكو الظلم الواقع على الموظفين، ثم سئمت وظائف الحكومة، وجئت إلى القاهرة، وعملت بالصحافة، وأخيرا عينت عضوا بمجلس الفنون والآداب ... كما عينت بالمجمع اللغوي. (2) أبي

هل يعرف أحد من أين لي باسم «العقاد»؟

لا أحد طبعا ... وهناك غير هذا أشياء كثيرة لا يعرفها الناس عني، أشياء قد تبدو غريبة، لكنني أقولها في هذا المقام.

أما اسم «العقاد» فأذكر أن جد جدي لأبي كان من أبناء دمياط، وكان يشتغل بصناعة الحرير، ثم اقتضت مطالب العمل أن ينتقل إلى المحلة الكبرى حتى يتخذها مركزا لنشاطه، ومن هنا أطلق عليه الناس اسم «العقاد»، أي الذي «يعقد» الحرير ... والتصقت بنا، وأصبحت علما علينا ... •••

قد تعجب إذ تعلم أن جدنا الأكبر من دمياط، مع أن الجميع يعرفون أنني من أسوان، وأن عددا من أبناء أسرتنا لا يزال يعيش في أسوان حتى اليوم.

وإني أتمثل «أبي» الآن في الصورة التي رأيتها ألفي مرة بل أكثر من ألفي مرة؛ لأنني كنت أراها كل يوم منذ فتحت عيني على الدنيا، إلى أن فارقت بلدتي بعد اشتغالي بالوظائف الحكومية ...

وتلك هي صورته على مصلاه، يؤدي صلاة الصبح، ويجلس على سجادة الصلاة من مطلع الفجر إلى ما قبل الإفطار؛ ليتلو سورا خاصة من القرآن الكريم، ويعقبها بتلاوة الدعوات.

وكان يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، ولكن جلسته في الصباح الباكر هي التي انطبعت في ذاكرتي إلى هذه الساعة؛ لأنها كانت أول ما أستقبله من الدنيا كل صباح.

ومن أجل الصلاة حدث بيني وبينه خلاف يوصف بالعصيان؛ فإنه - رحمه الله - كان يدين بالجد في الواجب، أو بالشدة في الجد، وكان يرى للطفل ما يراه للشيخ، إذا كان الأمر أمر فريضة، أو عمل محمود، أو عرف مأثور ...

من ذلك أنه كان يراني فيما دون الثامنة من عمري أجلس في المنزل بين قريباتي وخالاتي وجارات المنزل، فيصيح بي مستغضبا: عباس ... ماذا تصنع هنا بين النساء؟ ... تعال معي فاجلس بين أمثالك ...

ومن هم أمثالي؟! شيوخ فيما بين الأربعين والسبعين، كانوا يسمرون معه في «المندرة»، ويقضون الوقت في أحاديث الشيوخ عن السياسة تارة، وعن قضايا الأسر الكبيرة تارة أخرى، وقلما يمزحون أو يتفكهون إلا ثابوا إلى وقارهم كالمعتذرين ... وكانت السهرة تنقضي على أحسن حال إذا حضرها شيخ متحذلق معلوم فيه بعض الغفلة ... فيناوشونه بالأسئلة المحرجة، والدعابات المتناقضة ... ثم يعودون إلى ما كانوا فيه. •••

وقد أفادتني هذه الجلسات كل فائدة تأتي من التوقر قبل سن الوقار، وقلما يخلو من بعض الأضرار.

ولكن فائدتها الكبرى كانت - ولا ريب - معرفتي بالقاضي أحمد الجداوي - رحمه الله - فإنه كان من أدباء الفقهاء الذين عاصروا السيد جمال الدين، وأخذوا عنه دروس الحكمة والغيرة القومية، وكان قوي الذاكرة، واسع المحفوظ من المنظور والمنثور، يستظهر مقامات الحريري، وبديع الزمان، ودواوين الشعراء الفحول، ويطارح خمسة أو ستة من الأدباء في وقت واحد فيسكتهم دائما، ولا يسكتونه مرة واحدة. فكانت معرفتي به إحدى الدواعي التي حفزتني للمطالعة، والإقبال على الكتب والدواوين.

ومن أمثلة الجد الشديد في السيد الوالد - رحمه الله - أنه كان ينظر إلى «الصور» كأنها ألاعيب فارغة لا تليق بالعقلاء، فلم يتخذ له صورة قط، ولم يوافقني على شراء صورة من صور الفصول المدرسية التي كانت ترسم للمدرسة كل عام.

على هذه السنة من الجد الشديد أراد - رحمه الله - أن أواظب على الصلاة في أوقاتها قبل العاشرة من عمري، فكان أثقل ما أعانيه في ذلك يقظة الفجر في الشتاء، وهو الوقت الذي يرين فيه النوم على الأطفال، فلا يستيقظون إلا بعد جهد عنيف.

وصبرت على هذا الجهد العنيف مرتين أو ثلاث مرات أو أربع مرات، ثم تمردت دفعة واحدة، وقلت لمن جاء يوقظني: «اذهب عني، فلست بالمستيقظ ... ولست بالمصلي اليوم!»

وسمع أبي ما قلت فصاح بي: «ماذا تقول؟ ... أتقول إنك لا تصلي؟» ووثب إلى عصاه ...

فذهب بي الإصرار مذهبه، وقلت: «نعم!»

فصمت ولم يزد، وأعرض عني أياما لا يكلمني حتى تناسينا هذا الخلاف، وكنا مع ذلك نجلس إليه جميعا على الطعام في الصباح والمساء، وأحيانا في طعام الغداء. •••

وموضع الشدة في هذه المسألة أنني لم أكن أنفر من الصلاة، ولا من الفرائض الدينية، بل كنت أخف إلى المسجد بعض الأوقات، وأنشد على المئذنة أناشيد الجمعة الأولى، وظللت أنشدها بعد ذلك وأنظمها، ولا أذكر للمؤذن أنني نظمتها؛ لئلا يستصغرها ويرفض إنشادها، ولكن الشدة صدمتني لأنها كلفتني ما لا أطيق قبل الأوان، وجاءتني في معرض الإكراه والإلزام، وهي عبرة تساق للاستفادة منها في هذا المقام.

ولا أزال أذكر ملامح السرور التي رأيتها على وجه أبي حين أنشدته قصيدة من تلك القصائد التي كنت أنظمها في مدح النبي عليه السلام، فإنه تهلل واستبشر، ولعله تهلل واستبشر لنزعتي الدينية قبل براعتي في نظم الشعر أو تجويد الكتابة، ولا يلاحظ علي إلا أنني ختمت القصيدة بشطر أقول فيه على ما أذكر مشيرا إلى نفسي: «عباس من هو في الأشعار مدرارا.»

فقال: «إن الأباصيري أكبر مادحي النبي قد ختم مدائحه معتذرا عن التقصير، فافعل كما فعل، أو فاسكت عن الاعتذار وعن الإطراء.» •••

وكان - رحمه الله - يحتقر المال أن يطلبه بما يسوء في الضمير، أو يسيء إلى إنسان.

وقد كان في وسعه أن يجمع الثروة العريضة من وظيفته، فلم يكسب منها غير مرتبه، وما هو بالكثير. •••

كان أمينا «للمحفوظات» بإقليم أسوان، وكانت أسوان خارجة من القلاقل الجسام التي حاقت بها في حرب الدراويش، فمعظم أبنائها الأغنياء كانوا يتجرون في السودان، فانقطعوا هناك بعد انقطاع المواصلات، وذهبت الوثائق فلم يدر أحد ما ذهب منها وما بقي بدار المحفوظات، وتداولت هذه المحفوظات أيد كثيرة على غير انتظام في التسليم والاستلام ... وكثر المدعون للأرض والعقار؛ اعتمادا على ضياع الوثائق وغياب المالكين وموت بعض الوارثين، فلو شاء أبي في هذه الفترة أن يخفي ويظهر، وأن يقبل المساومة والإغراء، لقاسم الكثيرين فيما يدعون أو فيما يملكون، ولكنه أوصد هذا الباب فلم يطمع فيه طامع، وسلم دار المحفوظات لمن بعده، وهي مثل في الدقة والضبط وسهولة المراجعة والإحصاء. •••

ومن تقديراته أنه في احتقار المال الذي يكسب عن طريق الإساءة إلى الناس، أنه زجر أخي الكبير زجرا شديدا، حين علم أنه ينوي التبليغ عن بعض المتهمين في قضية جعلت للمبلغ فيها مكافأة قدرها خمسون جنيها - أو مائة جنيه - لا أذكر الآن على التحقيق.

وجلية القضية أن فتى من الشبان الوارثين بالقاهرة حضر إلى أسوان في الشتاء ومعه ألف جنيه، وكانت أسوان مرتاد السائحين والسائحات في موسم الشتاء، وفيها من أسباب الإنفاق والمتعة مطمع لأمثال ذلك الوارث، ومن يلوذون بالمبذرين والمسرفين، وسرق الوارث قبل أن يستنفد من الألف مائة أو مائتين، وانحصرت الشبهة في شاب موظف بالمحكمة، كان يسكن مع أمه وأبيه في بيت لنا مجاور للبيت الذي نقيم فيه، فراحت أمه إلى جارة لها تستجهلها، وتظن أنها لا تعرف ورق النقد الذي كان في الواقع غير معروف بين أكثر الناس، فاستودعتها لفافة من الورق هي جملة المبلغ المسروق، ولكن المرأة أطلعت زوجها على الخبر، وهو من كتاب العرائض المدربين؛ فعرف الورق وعرف سر القضية، وأخفى كل ما وصل إليه. •••

مثل هذا الخبر لا يخفى بين سكان حي من أحياء الريف؛ فعرفنا ما حدث، وعرفنا أن الوارث سمح بالمكافأة التي ذكرناها لمن يرشد إلى السارقين، ونظر أخي الكبير إلى القضية نظر الرجل العصري الذي لا يبالي أن ينتفع بالمال للتبليغ عن مجرمين، ونظر أبي إليها نظرة الجيل القديم يستعيذ من فضيحة الحرمات من أجل ما يبذره وارث سفيه ... فدعا بأخي أمامنا جميعا، وأقسم له أغلظ الأيمان لئن أقدم على التبليغ ليبرأن منه مدى الحياة، ولا يأذن له أن يمشي في جنازته بعد الممات.

وكان يحاسب نفسه على كل حصة من المال تجتمع في حوزته، وتفرض عليها الزكاة فيوزعها خفية، ويرسلني بها إلى بيوت بعض الفقراء الذين لا يتعرضون للسؤال، ولا يرد مسكينا يطلب الطعام من المساكين الذين يترددون على الأبواب.

وكان كثير العطف على ذوي قرباه، يزورهم في المواسم والأعياد، سواء منهم من كبر ومن صغر، ومن استغنى ومن افتقر، على ما كان في انتقاله إليهم من المشقة بعد أن جاوز الخمسين، وإذا استخلص منهم واحدا لسداد رأيه، وخلوص طويته، شاوره في الجليل والدقيق من شئون الأسرة، واعتمد على مشورته في كثير من الأحيان.

ولم يكن يغضب لشيء كما كان يغضب لكرامته وسمعة اسمه، ومن ذاك أنه كان له حمار ينتقل عليه من قرية إلى قرية، حين كان معاونا للإدارة، فلما استقر في المدينة باعه لبعض المكارين،

1

وكان الحمار مشهورا بالسرعة وهدوء الحركة، فكان المستأجرون يطلبونه ويقولون للمكاري: «هات حمار العقاد.» ثم اختصروا كعادتهم فأصبحوا يطلبونه فيقولون: «هات العقاد! هات العقاد.» فلما سمع بذلك عاد فاشتراه، وقبل المغالاة في ثمنه على غير حاجة إليه، واستبقاه يعلفه، ويتحمل ضجته حتى اشتراه من ينقله إلى قرية بعيدة لا يستخدمه فيها بالكراء! •••

ولم يكن مكثرا من القراءة في غير الكتب الدينية، ولكنه كان يحدثنا دائما عن تجاربه ومصاعب حياته، ويأبى علينا أن نستمع إلى أقاصيص العجائز وحكايات الأساطير.

على أنني وجدت في دواليب «المندرة»، بعد أن بلغت سن القراءة، أعدادا كثيرة من مجلة «الأستاذ» لصاحبها عبد الله نديم؛ فاتصلت بالحركة الوطنية قبل أن تنشأ في القطر صحيفة من صحفها الحديثة.

وجملة ما أذكره لذلك الأب الكريم، أنني مدين له بالكثير، وأنني لم أرث منه مالا يغنيني ... ولكني استفدت منه ما لا أقدره بمال ... (3) أمي

في سنة 1930 ذهبنا إلى الصعيد في رحلة انتخابية، وكان النقراشي - رحمه الله - قائد «التجريدة» كما سميناها يومذاك؛ لأن النقراشي كان كعادته يسير في ترتيب أعمالها، وتنظيم مواعيدها على خطة عسكرية لا تختل قيد شعرة، وكان نظامها يستلزم في بعض الأيام أن نستيقظ قبل الفجر لإدراك موعد القطار، فكان القائد اليقظ يسبقنا إلى البكور، ولا تمضي دقائق معدودات حتى تصبح التجريدة كلها على استعداد.

ونزلنا سوهاج فاسترحنا بمنزل الأستاذ محمد حسن المحامي، وجاءني الأستاذ يقول: «هل يتسع الوقت للقاء خالك؟» فالتفت إلى النقراشي أسأله، فقال: «نعم ... وزيادة.» •••

ثم عاد الأستاذ صاحب الدار يقول: «إن الزوارق حاضرة»؛ لأننا كنا ننوي أن نعبر النيل إلى أخميم، ونعود منها قبل إطباق الظلام، فسأله النقراشي: «أولسنا منتظرين حتى يحضر خال العقاد؟!»

قال الأستاذ محمد حسن: «ها هو ذا قد حضر، ولا يزال حاضرا، وإن شاء عبر النيل معنا.»

والتفت النقراشي إلى جانبي فرأى شيخا أبيض الوجه، أميل إلى الشقرة، وتوليت التعارف بينهما، فحياه النقراشي وهو يقول ضاحكا: «عجبا ... لقد كنت أقرأ في الكشكول والصحف الشتامة عن «بخيتة السودانية» أم عباس العقاد، وكنت أحسبهم يجدون فيما يكتبون، فخطر لي أنني أنتظر رجلا أسود أو قريبا من السواد حين جلسنا ننتظر خالك ... أما أن يكون رجلا أشقر له بقايا شعر أصفر، فهذا ما لم يخطر ببال.»

وسألني مازحا: «لماذا لم تكذب الخبر؟»

قلت: «إنني لم أكذب أخبارا أكذب من هذه، فما بالي أكذب نسبتي إلى أم سودانية؟ ليس في الأمر ما يوجب البراءة منه، والاهتمام بتكذيبه ... فكم أنجبت السودانيات من رجال يفخرون بالأمهات.»

لقد كانت أسرة «أمي» من أبويها جميعا كردية قريبة عهد بالقدوم من ديار بكر، وقد رأيت أحدهم لا تميزه من أمم الشمال في لونه وقامته، وقد بقي بعضهم إلى أيام طفولتنا نعاكسه حين ندعوه إلى أكلة «ملوحة» أو «ملوخية»؛ لأنهم لم يتعودوا أكلها، فكنت أقرأ الأكذوبة عن «بخيتة السودانية»، وقد وقر في نفسي أنها أبعد من أن تصدق، واقترنت هذه الأكذوبة بأكذوبة أخرى في ذلك الحين تروى عني أنني أهمل زوجتي، وأتركها تتسكع في الطرقات، ولم تكن لي زوجة قط حتى تتسكع في طريق أو في بيت! فلماذا أحفل بما يقال، وكله من هذا اللغو المحال؟!

ولكن هل كانت حكاية «السودانية» كذبا محضا من الألف إلى الياء؟ كلا ... ويا للعجب! فإن أجداد أمي جميعا قد تزوجوا في السودان، وكان جدها لأبيها وجدها لأمها في الفرقة الكردية التي توجهت إلى السودان بعد حادثة إسماعيل بن محمد علي الكبير، وهناك عاش عمر أغا الشريف قبل قدومه إلى أسوان، وهو جد أمي لأبيها، وأبوها هو محمد أغا الشريف الذي اختار «أطيان» المعاش في قرية من قرى الإقليم ...

الذي يتذاكره كبراء السن الأسوانيون عن عمر أغا الشريف أنه كان رجلا شديد التقوى، شديد القوة البدنية، يدرب أبناءه على الرياضة العسكرية كأنهم على الدوام في خدمة الميدان.

ولد له محمد وعثمان ومصطفى وحورية وفاطمة، وخطبت حورية وفاطمة فأراد أن يحتفل بزواجهما معا، ثم علم أن خطيب فاطمة لا يصلي، فأبطل الخطبة في اللحظة الأخيرة، وقال للوسطاء الذين حاولوا أن يصلحوا الأمر: إني لا أزوج ابنتي لتارك صلاة، ولا لمحدث نعمة، كلاهما يجحد نعمة الله ...

وشاعت حوادث «العبد» قاطع الطريق في الصحراء، وخافه الجند، وهابه تجار القوافل، فقال عمر لأصغر أبنائه مصطفى: أتسمع هذا وتترك ذلك العبد يعيث في الأرض فسادا؟! فما انقضى أسبوع حتى عاد مصطفى بالعبد مكتوف اليدين.

وقد مات مصطفى هذا على أثر ضربة من ضرباته أغراه بها فرط قوته، فإنه تصدى لثور هائج، فقمعه وألقاه على الأرض، فلم تنقض أيام حتى لقي نحبه، وقيل إنها حسد ... ولعلها كانت مزقة في داخل الجسم من ذلك الجهد العنيف ...

أما محمد أغا جدي لأمي فقد كانت فيه تقوى أبيه، وصلابته، وكثير من أنفته واعتزازه بكرامته، وقد كان يمزج هذه الأنفة بالعمليات، ولا يقصرها على القول أو السلوك.

ذهب إلى قرى الإقليم ليختار أطيان المعاش، فكان كلما سأل عن زراعة أرض، فقالوا له: إنها عدس أو فول ... قال: لا شأن لي بها، حسبنا من العدس والفول ما استوفيناه في السنجق، أي الفرقة العسكرية ... حتى جاء إلى أرض قيل له إنها تزرع قمحا أو شعيرا.

فقال: هذه أرضي: القمح لمحمد أغا، والشعير لحصانه! واختارها مع ما بينها وبين الأطيان الأخرى من فرق في الثمن يبلغ ثلاثة أضعاف!

ورثت أمي تقواها وسلامة بنيتها من أبيها وجدها، ففتحت عيني أراها وهي تصلي وتؤدي الصلاة في مواقيتها، ولم يكن من عادة المرأة أن تصلي في شبابها، إنما كانت النساء لا يصلين إلا عند الأربعين ...

ومما ورثته عن أبويها حب الصمت والاعتكاف ... كان الناس يحسبون هذا الصمت والاعتكاف عن كبرياء في جدي رحمه الله، وكانوا يقولون إنها «نفخة أتراك!»

لكنها لم تكن «نفخة أتراك» كما توهموا، بل كانت طبيعة تورث، وخلقة بغير تكلف، ولم أر في حياتي امرأة أصبر على الصمت والاعتكاف من والدتي، فربما مضت ساعة وهي تستمع من جاراتها وصديقاتها، وتجيبهن بالتأمين، أو بالتعقيب اليسير، وربما مضت أيام وهي عاكفة على بيتها أو على حجرتها، لا تضيق صدرا بالعزلة وإن طالت، ولا تنشط لزيارة إلا من باب المجاملة ورد التحية.

ومن المصادفة اتفاق والدي ووالدتي في هذه الخصلة، ولست أنسى فزع أديب زارني يوما وعلم أنني لم أبرح الدار منذ أسبوع، فهاله الأمر كأنه سمع بخارقة من خوارق الطبيعة ... إنها وراثة من أبوين يؤكدها الزمن الذي لا تحمد فيه معاشرة أحد ... إلا من رحم الله!

وقوة الإيمان في والدتي هي التي بنت فيها العزيمة ليلة احتضاري ...

نعم أيها القارئ الكريم ولا تعجب ... فقد احتضرت قبل نيف وثلاثين سنة، كما تخيل عوادي في تلك الليلة، فإذا بالوالدة هي الإنسان الوحيد الذي يتحامل على نفسه إلى جانب سريري ليقنعني أنني بخير ... وتنطوي على ذلك ساعات وهي على عزيمتها، حتى جاء الطبيب أخيرا وأنبأهم أنه عارض غير ذي بال، فإذا بالمحتضر قد نجا، وإذا بالمؤاسية قد سقطت مغمى عليها.

وكانت الوالدة لا تنكر من شئوني شيئا إلا الورق ... نعم: ما هذا الورق؟ الورق الذي لا ينتهي!

هذا الورق الذي لا ينتهي هو الذي يمرضني، وهذا الورق الذي لا ينتهي هو الذي يصرفني عن الزواج، وهذا الورق الذي لا ينتهي هو سبب الشهرة ...

ووالدتي أيها القارئ من أعداء الشهرة تتطير بها، ولا تغتبط بها لحظة إلا تشاءمت لحظات.

هذه الشهرة هي التي «تشيل غارتك» ... أي تجعلهم يتحدثون عنك، وما تحدث الناس عن أحد وسلم من ألسنة الناس!

وقلت لها ذات يوم: «لو وجدت لي زوجة مثلك تزوجت الساعة ...» ولم أكن مجاملا والله ولا مراوغا ... فإنني لا أنسى كمال تدبيرها لبيتها منذ صباها، وكنا بفضل تدبيرها هذا ننتفع بالجورب حتى بعد أن يرث ويبلى ... فإنه يصلح عندئذ كرة محبوكة! ... ويغنينا عن شراء الكرات التي لا تحتمل أقدامنا مثل احتمالها.

ولقد توفي والدي وهي في عنفوان شبابها، وكان لي أخ صغير، فتوفرت على تربيته وتركت كل شاغل غير طفلها هذا وأبنائها الكبار.

ولقد ورثت منها كثيرا إلا القصد في النفقة، وتدبير المال، وحسبي بحمد الله ما ورثت منها. (4) بلدتي

صفاء في جو المكان قلما تشوبه غاشية، وامتلاء في جو الزمان قلما تخلو منه زاوية ... تنتقل فيها من عصر إلى عصر كما تنتقل فيها من حارة إلى حارة، وترجع في تاريخ مصر إلى أقصى الماضي فتلقى لها تاريخا مثله!

هي بلدة خالدة! بل هي بلدة مخلدة! لأن معالم الخلود في الهياكل والتماثيل مستعارة من محاجرها، فهي كالزمن حين تهب الخالدين مادة الخلود ... تلك هي بلدتي أسوان، ولم تكن قط شيئا هملا في عصر من العصور ...

كانت على أيام الفراعنة مفتاح الجنوب، ومثابة التجارة بين جانبي الوادي القديم، وملتقى القوافل بين جوانب الوادي جميعا، وصحراء المغرب والمشرق من البحر الأحمر إلى بحر الظلمات، صاحبت الأرباب منذ عرف الناس الأرباب ... فأقيمت فيها الصلوات لإله النيل، وأقيمت لإزيس وأوزوريس، وأقيمت «ليهوا» رب الجنود، وتلاحقت فيها أديرة الرهبان من أتباع السيد المسيح، وصوامع النساك من أتباع محمد عليه السلام ...

وفد إليها «هيرودوت» و«سترابون» من آباء التاريخ، وكان أبو التاريخ يقول عن كهانها: إنهم كانوا يسخرون به كما يسخر الرجل الكبير في حديثه إلى الطفل الصغير! ... وذكرها «حزقيال» في نبوءات التوراة، وعرفها الشاعر الآبق دعبل، كما عرفها الشاعر رهين المحبسين أبو العلاء:

أسوان أنت لأن الركب وجهتهم

أسوان أي عذاب دون عيذاب

وبين أسوان وعيذاب، كان طريق حجاج المسلمين منذ اضطربت بلاد أبي العلاء بالفتن والثورات، وتحول قصاد بيت الله إلى هذا الطريق.

وفيها من ذكرى العلم، كما فيها من ذكرى الحرب والسياسة، فعرفت فيها أصدق الأرصاد عن محيط الأرض قبل ميلاد السيد المسيح بأكثر من مائتي سنة ... كما عرفت فيها أصدق الأرصاد عن جرم الشمس بعد المسيح بقرابة ألفي سنة ... ولا تزال في جزيرتها بئر يدلونك عليها، ويقولون لك: إنها البئر التي نظر فيها «أراتوستين» علامة زمانه في علوم السماء حين قاس زاوية الأرض من الإسكندرية إلى أسوان ...

واتصلت فيها أسباب العلم من عهد الفراعنة واليونان إلى عهد الإسلام ... فقال «كمال الدين جعفر بن ثعلب» في القرن الثامن الهجري: «قد خرج من أسوان خلائق كثيرة لا يحصون من أهل العلم والرواية والأدب ... قيل إنه حضر مرة قاضي قوص، فخرج من أسوان أربعمائة راكب بغلة للقائه ...» كناية عن العالم؛ لأن البغلة كانت ركوبة العلماء ...

وكانت إلى ذلك العهد تسمى «الثغر»؛ لأنها تزدحم ازدحام الثغور الحافلة بطلاب العلم، وطلاب التجارة، وطلاب اللهو والفراغ ... وفيها يقول كمال الدين:

أسوان في الأرض نصف دائرة

الخير فيها والشر قد جمعا

تصلح للناسك التقي إذا

أقام والفاتك الخليع معا

وقد تغيرت تواريخ الدول، وتعاقبت حكومة بعد حكومة، ولا تزال أرضها هي أرضها، وسماؤها هي سماءها، ومناظرها هي ما كانت عليه من نمط فريد بين مناظر الطبيعة المصرية، لا تشاهد في بلد من بلاد مصر ما تشاهده فيها من جزر وجنادل وتيارات وصخور في الماء والصحراء، تجمع من الألوان ما تجمعه المعادن والجواهر، وتحكي الذهب والفضة والشبه كما تحكي الزمرد والمرجان والياقوت، وذهب من جنادلها ما ذهب، فقام في مكانها الخزان، وتلفتت مصر تترقب من لدنها مطامع الضياء كما كانت من قبل تترقب منابع الماء.

ولدت فيها بمشيئة القدر، ولو أنني ملكت الأمر لولدت فيها بمشيئتي؛ لأنها الموطن الذي يستفاد منه خير ما آثرته لنفسي من النظر إلى الحياة ... فليس مما أحبه لنفسي أن يحصرني الحاضر في نطاقه، ولا أن يحويني الخير الأرضي في حدوده ...

أدعو إلى الإنسانية في الأدب، وأنظر إلى «العالمية» في المستقبل، وأحب مصر والشرق، ولكني لا أحب ضيق الأفق في عصبية وطنية أو شرقية ...

وفي أسوان رأيت التقاء التاريخ الماضي بالحاضر الذي نعيش فيه، فالمتحف فيها والبيت يتقابلان، والتاريخ فيها حي يرزق، ويتنفس الهواء؛ لأنه ماثل شاخص في الأحياء، والحياة فيها تتسربل بقداسة التاريخ العريق؛ لأنها صورة منه تتجدد مع الأجيال. وفي أسوان رأيت التقاء المشرق والمغرب، ودرجت وأنا أشهد الحضارة الأوروبية في كل جنس من أجناسها، وكل ناحية من أنحائها.

وفي أسوان - من أهل أسوان فضلا عن الغرباء عنها - عصبة أمم صغيرة يتجاور فيها من ينتمي إلى الفراعنة، ومن ينتمي إلى العرب، ومن ينتمي إلى البجاة، وتسأل عن نسب الأسرة فيدلك عنوانها على أصل من الفرس، أو من الترك، أو من المجر، أو من البوشناق، أو من العباسيين، أو من العبيديين؛ لأنهم جميعا وفدوا إليها مع قوافل التجارة، أو مع سرايا الجيوش، أو مع اللائذين الناجين بأنفسهم من تقلب الدول، وتنازع الحكومات ...

فإذا ذكرت أسوان بلدتي جاز لي أن أذكرها فأقول مدرستي؛ لأنني - كما أسلفت - أدين بالإنسانية في الأدب، وبالعالمية في السياسة، وبالوطن الذي تتسع له آفاق الفكر، وآفاق الشعور ... ولعلي قد تنفست هذه الدروس من هواء الموطن قبل أن أقبسها من صفحات كتاب ... (5) طفولتي

يقال إن الذاكرة ملكة مستبدة، ويراد بنسبة الاستبداد إلى هذه الملكة العقلية أنها تحفظ وتنسى على غير قانون ثابت، فتذكر الأمور على هواها، ولا تذكرها بقدر جسامتها واقتراب زمانها، وقد تحتفظ بأثر صغير مضى عليه خمسون سنة، وتهمل الأثر الضخم، وإن عرض لها قبل شهور أو أسابيع.

هذه الدعوى التي يدعونها على الذاكرة الإنسانية غير مكذوبة من أساسها، وفيها ولا ريب ما يوجب الشبهة، إن لم نرد أن نقول: ما يوجب الثبوت واليقين.

كل ما أراجعه من معاهد الطفولة بأسوان يصلح أن يكون شاهدا لاتهام الذاكرة بهذه المحاباة، إلى أن يثبت أنها محاباة استبداد وهوس، على أسلوب ابن عباد:

لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت

يداه بالجود حتى شابه الديما

فإنها خطرات من وساوسه

يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما

فمن هذه المحاباة أن بعض معاهد الطفولة يذكرني بأشياء رأيتها في الثالثة من العمر، وأشياء رأيتها في السابعة، وغيرها رأيتها في التاسعة والعاشرة، ولا أحتاج في استعادتها وإحيائها بتفصيلاتها إلى جهد عسير، بل أراها أمامي تتمثل بألوانها وأشكالها ومناسباتها كأنها من مشاهدات العيان منذ ساعات.

وإنني - مع هذا - لأجتهد بما وسعني من الجهد أن أغالب النسيان المطبق في أمور لم يمض عليها غير سنين، ثم أذكرها - بعد إعنات الفكر - فتظهر لي كأنها ملتفة بغواشي الضباب، بين الكثيف منه والرقيق ...

لكنني أعود إلى أسباب هذه المفارقات، فلا أكاد أعتقد أنها محاباة على أي معنى من معاني المحاباة، ودعنا من قول القائلين إنها وساوس ابن عباد في الهوس والاستبداد.

فكل ما تذكرته قبل العاشرة فهو من ذكريات «الانتباه الأول» ... ومن نوع الحوادث التي تأتي وحدها متميزة بين غيرها، ولا تأتي مع حوادث «الوتيرة»، والسياق المتكرر المملول ...

في الثالثة من عمري

كنت في الثالثة يوم جربت رحلتي النيلية للمرة الأولى، وكانت السفينة تضطرب بين الشاطئين، ويضطرب معها الشراع الذي يحاول أن يستقبل مهب الريح على غير جدوى، وكان بيننا وبين ضريح ولي الله الذي نقصده لوفاء نذر الفدية، والزيارة أكثر من عشرة أميال، فوقفت السفينة على الشاطئ الشرقي، وخرج النواتية يطبخون طعامهم تحت نخلات هناك، وكانت لي في تلك الطبخة حصة القهوة التي تعودت أن أشربها ملونة بلون البن، مشبعة بالسكر، كأنها تعلة من تعلات الفطام.

ليس من استبداد الذاكرة - إذن - أن يثبت هذا المنظر في الثالثة، وأن تزول بعده عشرات المناظر من الرحلات النيلية أو البرية، التي تمر على وتيرتها مع تيار الحوادث والأخبار ...

وكنت في السابعة يوم عصف وباء الهيضة (الكولرا) بأسوان، وكاد الحي الذي نقيم فيه أن يخلو من سكانه بين مصاب وميت ومهاجر، ومعتكف يحاذر زبانية الحجر الصحي محاذرة السائر آجام السباع ...

ويرن في أذني إلى الساعة صياح النواتية إذ يعبرون النيل ويسألون: كم أسعار اليوم؟ فيجيبهم زميل من المرسى المهجور يفهم معنى السؤال، ويعلم أنهم يسألون بهذه الكناية وما شابهها عن عدد المصابين من أول النهار: جنيه مصري؛ أي مائة ...

بنتو ... أي ثمانين ...

بندقي ... أي خمسين ...

وهكذا حتى هبط السعر إلى الريال «الشنكو»، والريال المجيدي، «وأم خمسة»، أي القطعة ذات الخمسة قروش!

منظر آخر لا نظن أن الذاكرة تحابيه، ولا نظن محاباتها إياه - إن صحت الشبهة ضربا من الاستبداد.

منظر فتاة

وأجمل المناظر التي تحتفظ بها الذاكرة من ذخائر العاشرة - وما دونها - منظر فتاة أوروبية هيفاء لفت نظري أنها تسير في وسط المدينة - على غير عادات السائحين والسائحات - وتدير على خصرها حزاما «أو مشدا» لا يزيد قطره على بضعة قراريط ... وتخطر في الطريق الوعر كأنها تلمس أغصان الشجر بقدمي قطاة.

ولم أكن أفهم يومئذ أن نحافة الخصر جمال محبوب، ولكنني فهمت أنه أعجوبة نادرة، وتبعت الفتاة الهيفاء حول منعطفات الطريق، ولا أعلم لماذا أتبعها، ولا يدور في خلدي خاطر غير الاستزادة من هذا المنظر العجيب، الرشيق.

لو أنني مصور لاستطعت اليوم أن أصور هذه الفتاة من الذاكرة، فلا أخطئ منها لمحة يثبتها المصور على قرطاسه، ولست أذكر اليوم نقوش كسوتها، ولكنني إذا أثبتها بجملتها لم تخالف ما يثبته المصور من نقوش الكساء على البعد، ويقنع به الناظرون.

ولمن أراد من علماء «السيكولوجيا والبداجوجيا» أن ينعت هذه المحاباة بما يحلو له من أوصاف الاستبداد. ولكنني - بعد هذه السنين الطويلة - أستغفر لهم ذنوبهم إلى الذاكرة، وأقول إنها ملكة مظلومة على الغاية من العدل والديمقراطية، إن كانت محاباتها كلها على مثال هذه المحاباة ...

الإنشاء في المدرسة

بدأت الكتابة بموضوعات الإنشاء في المدرسة، وقد يكون في الإشارة إليها شيء يهم الناشئ المتطلع إلى التأليف؛ لأنه يعلم منه مبلغ فعل التشجيع حين يتلقاه الناشئون من ذوي مكانة ملحوظة في العلم والحياة العامة.

كانت المفاضلة بين شيئين هي المحور الغائب على موضوعات الإنشاء في أيامي بمدرسة أسوان، أيهما أفضل المال أو العلم؟ الذهب أو الحديد؟ الصيف أو الشتاء؟ الرأي أو الشجاعة؟ السيف أو القلم؟ الحرب أو السلم؟ إلى أشباه هذه المفاضلات.

وكان من عادتي أن أختار أضعف الجانبين حتى اخترت الجهل مرة في مفاضلة بينه وبين العلم! ... وكان لنا أستاذ فاضل «هو الشيخ فخر الدين محمد» يحمد هذا الاختيار على أن يكون من قبيل مرانة القلم، ويعرض كراستي على كبار الزوار بين ما كان يعرضه من كراسات التلاميذ، فلما زارنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ذات شتاء أراه الكراسة فتصفحها باسما، وناقشني في بعض مفاضلاتها، ثم التفت إلى الأستاذ، وقال ما أذكره بحروفه: «ما أجدر هذا أن يكون كاتبا بعد ...»

ونطق «بعد» بضم الدال غير واقف على السكون، ولم أزل أذكر ذلك حتى عللت به وقوف زعيمنا «سعد زغلول» على أواخر الكلمات محركة غير ساكنة، وقلت: إنها «مدرسة واحدة» تحرص على تحريك أواخر الكلمات؛ أنفة من الهرب على حد قول القائلين: «سكن تسلم ...» فهم لا يهربون من الحقيقة، ولا يحرصون على السلامة.

وأبالغ إذا قلت: إن كلمة الأستاذ الإمام هي دون غيرها التي حفزتني إلى الكتابة، ولكنها كانت ولا ريب حافزا قويا بين الحوافز الكبرى، وجاءت بعد عزيمة سابقة فأعانتها، ودفعت عنها عوارض التردد والإحجام.

أما ظروفي المادية «عندما كنت صغيرا أتعطش إلى قراءة الأدب»، فلم تكن ظروف ثراء مهما نقتصد في حدود الثراء، ولكنها كذلك لم تكن ظروف ضنك وفاقة، ولا ظروف شعور بالحاجة إلى الضروريات.

كان أبي وأخي الأكبر موظفين يعيشان في بيت واحد ، وكان مرتبهما معا بضعة عشر جنيها وهو مقدار لم يكن بالقليل في ذلك الحين، وكنت الطفل الوحيد بالمنزل إلى أن ولدت أختي، فلم تكن في تربيتها كلفة؛ لأن تعليم البنت في أسوان لم يكن معروفا قبل نموها إلى سن التلمذة ...

فنشأت أحسب أنني غير محتاج، وأنني أجد من راحة المعيشة ما لا يجده الكثيرون من زملائي.

مكتبة بخمسين قرشا

على أن الرزق الذي يتيسر للضروريات لا يتيسر لشراء الكتب عن سعة، وأحمد الله أن شراء الكتب عن سعة لم يكن لازما في أيام صباي للاطلاع على أوائل المعرفة الأدبية، بل على المعرفة الأدبية في مراحلها المتقدمة.

فلا أحسب أن المكتبة التي اشتريتها بنقودي في صباي زاد ثمنها على خمسين قرشا أو نحو الخمسين.

كان الكتاب من الطبعة الأزهرية يباع بقرشين أو ثلاثة قروش، ويشتمل أحيانا على ثلاثة كتب بين المتن والحاشية والتذييل ...

وكانت هذه الكتب تباع في دكان إلى جانب المدرسة مع أصناف العطارة والحبوب ولوازم أهل الريف، ومنها ما كان يرتفع إلى خمسة قروش أو إلى عشرة قروش كالمقامات والدواوين.

ولم يكن «مصروفي» يزيد على خمسة مليمات في اليوم إلا ليدرك خمسة قروش في الأسبوع، أتسلمها كل يوم خميس، فلا أشتري بها مأكولا أو فاكهة، ولا أذهب بها إلى ملعب البهلوان إن كان بالمدينة ملعب منها، وهي لا تقيم فيها بل تزورها غبا كل بضعة أشهر ...

فإذا كان معي ثمن الكتاب اشتريته لساعته، وإلا أعطيت العطار قرشين بعد قرشين حتى يتم الثمن المطلوب.

وبهذه الطريقة قرأت العقد الفريد، وثمرات الأوراق، والمستطرف، والكشكول، والمخلاة، ومقامات الحريري، وبعض الدواوين.

ولم تكلفني المكتبة التي اشتريتها - كما قلت - إلا أقل من جنيه واحد، وقد يزيد ثمنها على نصف الجنيه بقليل ...

بعض من كل

لكن هذه الكتب هي مقتنياتي التي اشتريتها بنقودي في أسوان، ولم تكن هي كل ما قرأته في فترة التلمذة وما بعدها، بل كانت لي وسائل إلى كتب أخرى من غير طريق الشراء.

فقد كان أبي يقرأ كتب الفرائض والعبادات، وبعض كتب التاريخ، ولا سيما تاريخ السيرة النبوية، وتراجم الأولياء الصالحين. ومع هذه الكتب كنت أجد عنده مجموعة كبيرة من أعداد صحيفة «الأستاذ»، وصحيفة «الطائف» لعبد الله نديم، وصحيفة «العروة الوثقى» لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ...

وكان أخوالي يقرأون كتب التصوف والأدب الديني، ولا سيما كتب الغزالي، ومحيي الدين بن عربي، وطائفة من المتصوفة المتأخرين.

ولم تكن مكتبة المدرسة مفتوحة يومئذ للتلاميذ، ولا كان فيها من كتب الأساتذة ما يملأ رفين أو ثلاثة رفوف من دولاب، وكانت مجلة المقتطف إحدى المجلات التي تصل إليها من وزارة المعارف العمومية، فأذن لي الناظر في التردد عليها والاستعارة منها، والاعتماد عليها في تحضير المناظرات والمطارحات ...

وساعدني - من المصادفات التي لا تتيسر في كل حين - أن أسوان كانت يومئذ مرتادا لمئات السائحين كل شتاء، وكان فيها فندقان كبيران، وفنادق أخرى دونهما في العظم والوجاهة تزدحم بالسائحين من أقطار العالم، فتعودنا أن نرى فيها كل شتاء مكتبات عامرة بالمراجع التاريخية، والقصص، والصحف، والمجلات الأدبية والفكاهية، ولم يكن من العسير علينا أن نحصل على بعضها بالثمن المستطاع، بل كان يتفق أحيانا أن يزور مدرستنا أناس من علية السائحين، ومعهم أبناؤهم وبناتهم يطلبون عنواناتنا لتبادل الرسائل، ويبعثون إلينا بالهدايا من الكتب التي تعجبهم، ويقدرون أنها تعجبنا، ولا أنسى أحد السائحين - وكان إنجليزيا مسلما يسمى «ماجور ديكسون» - يوم جاءني منه بعد عودته إلى بلاده كتابان: أحدهما: ترجمة القرآن، والآخر: كتاب كارليل عن الثورة الفرنسية ... وهو الوحيد الذي اختار لي هذا الاختيار، ولا أزال أذكره كلما توسعت في القراءة، فعلمت أنها تقوم في الأغلب الأعم على هذين القطبين من المطالعة: أصول العقائد، وفلسفة الثورات الاجتماعية من وجهة البطولة والأبطال.

هذه الندرة من الكتب التي تيسرت لي أيام التلمذة وما بعدها علمتني دستورا للمطالعة أدين به إلى الآن، وخلاصته: أن كتابا تقرؤه ثلاث مرات أنفع من ثلاثة كتب تقرأ كلا منها مرة واحدة. (6) ذكريات العيد

من العيد تعلمنا أن الطفل الصغير «شيء مهم» في البيت، أو أننا نحن بذواتنا «أشياء مهمة » ... لأننا أطفال ...

تبتدئ تهنئات العيد في مدن الريف بعد مغرب الشمس من يوم الوقفة، وتكون مقصورة في ذلك اليوم على الجارات القريبات من المنزل؛ لأن الغالب عليهن أن يذهبن صباح العيد مبكرات إلى «القرافة» لتفريق الصدقة على أرواح الأموات.

وتدخل الجارات واحدة بعد الأخرى يرددن صيغة لا تتغير، تنتهي بهذا الدعاء: ... يعود عليك كل سنة بخير ... أنت وصغيريك وصاحب بيتك والحاضرين والغائبين في حفظ الله.

وقبيل المغرب، تكون عملية التغيير وتوزيع الملابس الجديدة على صغار البيت قد ابتدأت على يد الوالدة في نشاط وسرعة، ولكن - وهذا هو العجب - في غضب وشدة، وأحيانا في سخط وصياح: تعالى يا ولد ... اذهب يا مسخوط ... الحق ادخل الحمام ... مع تسبيحة أو اثنتين من قبيل: إن شاء الله ما لبست ... إن شاء الله ما استحميت!

ولقد تعودنا هذا الموشح كل عيد على قدر ما تعيه الذاكرة في سن الطفولة، وأكثر ما يكون ذلك حين تزدحم الجارات، وحين تكون أقربهن إلى الدار على استعداد للشفاعة، وترديد الجواب المألوف في هذه الأحوال: «بعد الشر ... بعيد عن السامعين!»

وقد خطر لي يوما أن هذا كثير على عملية التغيير، فرفضت الكسوة الجديدة، وذهبت صباح العيد إلى منزل جدتي بثوبي القديم.

وكان من تقاليد العيد أن ترسل رءوس الذبائح إلى الجدات: أم الأب، أو أم الأم، من كانت منهما على قيد الحياة، وأم الأب مفضلة إذا كانت الجدتان تعيشان.

فلما دخلت منزل جدتي «أم أمي» وهي ضريرة: سمعت الأطفال يعجبون لأنني لم ألبس جديدا في العيد، فقربتني الجدة العطوف إليها، وسألت في شيء من اللهفة: ما الخبر يا ولدي؟ لماذا لم تلبس ثوبك الجديد؟ ألم يحضروا لكم ثيابا جديدة؟! - بلى ... إنهم قد أحضروها، ولكنني أبيت أن آخذها من يد بنتك ... لأنها تشتمنا وتزعق فينا ...

فابتسمت وهي تعرف بنتها حق المعرفة، وصاحت: بنتي؟! وكيف كانت القصة؟ فأعدت عليها القصة مرددا كلمات السخط التي أغضبتني، فسألت: أكان أحد من الجيران عندكم في تلك الساعة؟

فحسبت أنها تطلب شهودا على الواقعة، وقلت لها : كثيرات ... فلانة ... وفلانة و...

فلم تمهلني أن أتم أسماء جاراتنا اللاتي تعرفهن، وجعلت تربت على كتفي، وتقول: «وأنت العاقل يا عباس تقول هذا؟! ... إن أمك لا تبغضك ولا تدعو عليك، ولكنها تصرف النظرة ...»

وفهمت معنى «تصرف النظرة» بعد شرح قليل، وخلاصتها: أن رؤية الأم في مساء العيد بين أطفالها الفرحين المتهللين بالعيد تفتح أعين الحاسدات اللاتي حرمن الأطفال، ولا يحتفلن «بتغييرات» العيد هذا الاحتفال، فإذا شهدن أمارات السخط بدلا من الفرح والرضا بطل الحسد، وسلم الصغار وأمهاتهم من عيون الحاسدات. •••

لأول مرة أشعر بأن الطفل في البيت «قنية نفيسة» يحسد عليها الأمهات والآباء، وما كنت أفهم قبل ذلك إلا أنه من «غلب الحياة أو هموم المعيشة»، وأنه هو - في شعوره بنفسه - شيء صغير يتطلع إلى اليوم الذي يساوي فيه هؤلاء الكبار، ويحسب في زمرة الناس المعدودين! ...

وكان ذلك «درسا» في تفسير القرآن، وتفسير الكتب المدرسية ...

فقد كنت أذهب مع أبي إلى المسجد القريب يوم الجمعة، فأسمع الفقيه يقرأ في سورة الكهف:

المال والبنون زينة الحياة الدنيا ، فلا أدري كيف تكون زينة، ونحن نتطلع إلى أيسر سلعة من سلع الزينة الغالية؟

وكان من قطع المحفوظات التي كتبناها في المدرسة قصة نسميها «قصة المرأة البائخة»، هذه خلاصتها:

امرأة زارت إحدى صديقاتها، فراحت صاحبة الدار تفاخرها بجواهرها وتفرجها عليها، ثم ذهبت صاحبة الدار ترد الزيارة لصاحبتها، وتسألها: أين جواهرك لأتفرج عليها؟ واستمهلتها هذه ساعة إلى أن حضر ولداها من المدرسة، فاستدعتهما إلى حجرة الاستقبال، وقالت للضيفة المدلهة بجواهرها: ها هما جوهرتاي ... وليس لهما ثمن تحتويه خزائن الأموال.

وكان جوابا مخيبا للآمال، ومسقطا للقصة كلها في موازين النقد عندنا نحن الأطفال، أو نحن الجواهر التي لا تقدر بالمال!

ونخرج من ذكريات الطفولة إلى تجارب الحياة، فنعلم الآن - فلسفيا واجتماعيا ونفسيا - أن الطفولة هي قوام العيد كله، فلولا الأطفال لما استطاع المجتمع أن يوقت الفرح مقدما بميقات معلوم في يوم من الأيام، ولكن هات للمجتمع أطفالا يفرحون بالكساء الجديد واللعب المباح، وأنت الكفيل بفرح المجتمع كله على الرغم منه ... إذا صح الفرح بالإرغام وهو صحيح في شريعة «الديكتاتوريين» الصغار، فليس في استطاعة كبير أن يعصي سلطان الفرح وهو ينظر إلى صغار فرحين.

ومن العيد تعلمنا مفارقات النفوس في الأسرة الواحدة، علما يسبق كل ما عرفناه بعد ذلك من قوانين الوراثة في ذمة السيكولوجيين والبيولوجيين.

تعودنا أن نزن الأقدار في بيئتنا «العائلية» بمقدار العيدية التي كانت تتفاوت من خمسة قروش على الأكثر إلى خمسة مليمات على الأقل.

وكان لنا من الأقارب، والمعارف غير الأقارب، ذخيرة وافية للرقابة النفسية من الإخوة الأشقاء.

أخوان شقيقان يتشابهان أقرب الشبه في الملامح والأزياء، هذا يمنح القروش الخمسة، وذاك لا يزيد على الخمسة مليمات، وهذا بشوش مازح، وذاك عبوس صارم، وهذا ثرثار لا يفرغ من الحديث، وذاك صموت نزر الكلام ...

ولكنا - مع الإيمان بصحة الميزان الذي يفرق بين خمسة قروش وخمسة مليمات - قد تعلمنا مبكرين أن النقود ليست هي الميزان الوحيد لأقدار المعيدين ...

إذ كان من أولئك المعيدين صديق للأسرة لا يبذل مليما، ولا يسكت مع هذا عن مسألة العيدية بحذافيرها مداراة لإفلاسه ... بل يلقانا مبادرا بطلب العيدية منا، ونفهم منه - بداهة - أنه يمزح، ولا ينتظر منا أن نعطيه، ولا ننتظر منه أن يعطينا.

إلا أنها فاتحة للمعايدة لا بد منها، ثم تتبعها أدوار متلاحقة من الفوازير والألغاز الحسابية أو اللغوية، وأدوار أخرى من محاكاة القطط والكلاب والخرفان والحمير.

ولم نكن نحن نطلب «عيدية» من أحد يبذلها أو لا يبذلها، ولكن أبانا - رحمه الله - كان حريصا على أن يحذرنا من طلب العيدية خاصة من هذا الصديق؛ لأنه «على قد حاله» كما كان يقول، فكان هذا الصديق «الذي على قد حاله» على رأس القائمة بين المنتظرين من المعيدين، وكنا نميزه بالحصة الوافية من ضيافة الأعياد: قرفة، وكعك، وبقايا المكسرات من رمضان ...

وقد كان في ذهني درس من دروس العيد يوم قرأت مذهب «أبي العلاء» في ظلم الضعفاء والأقوياء، فرحبت به، ولم أستغربه وهو غريب لا تقدر على هضمه معدة الطفولة، كقوله:

ظلم الحمامة في الدنيا وإن حسبت

في الصالحات كظلم الصقر والبازي

ففي إحدى زيارات العيد، علمت أن «سعادة المأمور» بجلالة قدره مظلوم، يظلمه بهلوان أو شبيه بالبهلوان، من أصحاب الأراجيح.

وكانت لعبة الأراجيح أحب ألاعيب العيد إلى الأطفال، وقد أقيمت على ساحة قريبة من المنزل قبل الوقفة بأيام، ثم فوجئنا بحلها، ورفعها من مكانها، وقيل إنها حلت ورفعت بأمر سعادة البك المأمور.

وشاعت التعليقات من قبيل قولهم:

رجل مستبد يظن أن الإدارة هي التحكم في خلق الله ...

رجل فظ ينكد على الأطفال الصغار في موسم اللعب والفرح ...

رجل غليظ القلب يقطع أرزاق المساكين الذين على باب الله ...

ويأتي هذا الرجل الموصوف بكل هذه الصفات للتعييد على الوالد الذي كانت تربطه به رابطة العمل في ديوان واحد؛ إذ كانت دار المحفوظات يومئذ تشغل المكاتب التي تجاور مكتب المأمور.

فلم نخف إلى استقبال الرجل «المستبد الفظ الغليظ» إلا حين علمنا بعد هنيهة أنه في الواقع هو الرجل المظلوم.

وكأنه سيق إلى التحدث عن قصة الأراجيح، فقال: إنها حلت ورفعت؛ لأنها قد ظهر بعد فحصها أنها مفككة اللوالب و«الصماويل»، وأن حادثا حدث فيها، وتهشم من جرائه ثلاثة أو أربعة أطفال من أبناء البلدة التي كانت فيها قبل وصولها إلى أسوان، ووجدت الورقة التي يحملها صاحبها وعليها تعهد منه بأن يصلح خللها قبل إدارتها، ولكنه لم يصلح هذا الخلل، ولم يكن من المأمون على حياة الأطفال أن تدار وهي بتلك الحال ...

كم من حاكم مظلوم، وكم من محكوم ظالم!

وكم من حجة للقائلين:

لو أنصف الناس استراح القاضي

وبات كل عن أخيه راضي

وإن لم يخل من الحجة قول القائلين: لو أنصف القاضي استراح الناس ... نعم ... وكم للعيد من دروس تمر بالصغار والكبار، ولا ندري متى تصلح للعظة والاعتبار!

الفصل الثاني

(1) أساتذتي

كان زعيم مصر الكبير سعد زغلول - رحمه الله - يعد من مزايا نظام التعليم في الجامع الأزهر على عهده، أنه كان نظاما يسمح للطالب أن يختار أساتذته، ويجلس في الحلقة التي يروقه أن يجلس فيها ...

وهي مزية لا شك في نفعها للمعلمين والمتعلمين؛ لأنها تنوط مكانة الأستاذ بعمله واجتهاده، ولا تقيد التلميذ بفرصة واحدة في درس من دروسه، وليس في هذا النظام ضرر على الأخلاق ما دام طلب العلم هو الغرض الخالص للأساتذة والتلاميذ.

ومما أحمد الله عليه أن أساتذتي جميعا قد اخترتهم بنفسي، ولم يفرضهم علي أحد يملك سلطة التعيين والفصل دون غيره؛ لأنهم كانوا جميعا مؤلفين مشهودا لهم برسوخ القدم في صناعة التأليف، أقرأ منهم ما أشاء في المرحلة الأولى من مراحل التعليم الدراسي، أفدت منهم غير قليل، ولكنني كنت في استفادتي منهم على اختيار يرجع إلي، ولا يرجع إلى البرنامج المقرر أو النظام المفروض.

في المرحلة الأولى

استفدت في مرحلة التعليم الابتدائي من أستاذين اثنين على اختلاف بينهما في طريقة الإفادة، فإن أحدهما قد أفادني وهو قاصد، والآخر قد أفادني على غير قصد منه، فحمدت العاقبة في الحالتين.

كان أحدهما الأستاذ الفاضل مدرس اللغة العربية والتاريخ الشيخ محمد فخر الدين، وكان «الإنشاء» صيغا محفوظة في ذلك الحين كخطب المنابر، وكتب الدواوين، ولكنه كان يبغض الصيغ المحفوظة، وينحى بالسخرية والتقريع على التلميذ الذي يعتمد عليها، ويمنح أحسن الدرجات لصاحب الموضوع المبتكر، وأقل الدرجات لصاحب الموضوع المقتبس من نماذج الكتب، وإن كان هذا أبلغ من ذاك، وأفضل منه في لفظه ومعناه.

وكان درسه في التاريخ درسا في الوطنية ... فعرفنا تاريخ مصر، ونحن أحوج ما نكون إلى شعور الغيرة على الوطن والاعتزاز بتاريخه؛ لأن سلطان الاحتلال الأجنبي كان قد بلغ يومئذ غاية مداه ...

أما الأستاذ الآخر، فقد كان أستاذ حساب وهندسة ورياضة، ولا داعي لذكر اسمه في هذا المقام، كان يؤمن بالخرافات وشفاعات الأولياء، وكان محدود الفهم في دروسه، ولا سيما المسائل العقلية في درس الحساب، وقد كانت هذه المسائل شائعة في ذلك الحين، ثم أبطلوها بعد ذلك؛ لأنهم زعموا أن القدرة على الحساب شيء والقدرة على فض المغلقات العقلية شيء آخر، وقد أصابوا من ناحية وأخطأوا من ناحية؛ لأن القدرة على فض المغلقات ألزم اللوازم لإتقان العلوم الرياضية خاصة، وإتقان العلوم الأخرى على العموم ...

وكان يتردد على مسجد يعتكف في زاويته رجل من المشهورين بالولاية وصنع الكرامات، فدعانا جميعا - نحن تلاميذ السنة النهائية - إلى صلاة المغرب معه في ذلك المسجد؛ للتبرك بالرجل الصالح، وتلقي النصائح منه فيما نحن مقبلون عليه من امتحان قريب.

وجاء دوري في تلقي النصيحة، فقال لي الرجل: «أما أنت فعليك باللغة الإنجليزية ...»

وعجبت وعجب زملائي من هذه النصيحة؛ لأنني كنت من المتقدمين في هذه المادة على الخصوص، وكنت أقرأ فيها بعض الكتب الأدبية وأنا في السنة الرابعة الابتدائية، ولكن زملائي فسروا هذه النصيحة بسر الولاية ... فلعل الرجل يعلم من سر الامتحان في تلك السنة ما لا يعلمون.

فلما اجتمعنا بالمدرسة في أول حصة للحساب، قال الأستاذ الرياضي: «تذكر نصيحة الشيخ يا فلان؟»

قلت: «إن الشيخ لم يقل شيئا!»

قال وهو يحوقل وزملائي يأخذهم الوجل، ومنهم كثيرون بقيد الحياة: «كيف لم يقل شيئا؟! ... ألم ينصحك بالاجتهاد في اللغة الإنجليزية؟!»

قلت: «نعم؛ فعل ... ولكنه سيظفر بالسمعة في علم الغيب أيا كانت النتيجة، فإن نجحت قيل إنها بركة لنصحه، وإن أخفقت قيل إنه قد عرف هذا فحذرني منه.»

فما زاد الأستاذ على أن قال: «دع هذا الضلال هداك الله.»

ولكن الدرس الأكبر - الدرس الذي أحسبه أكبر ما استفدته من جميع الدروس في صباي - كان بصدد مسألة حسابية من تلك المسائل العقلية ... كنت شديد الولع بهذه المسائل لا أدع مسألة منها بغير حل مهما بلغ إعضالها ...

وكان الأستاذ يحفظ منها عددا كبيرا محلولا في دفتره يعيده على التلاميذ كل سنة، وقلما يزيد عليه شيئا من عنده ...

وعرضت في بعض الحصص مسألة ليست في الدفتر، فعالجنا حلها في الحصة على غير جدوى، ووجب في هذه الحالة أن يحلها الأستاذ لتلاميذه فلم يفعل، وقال على سبيل التخلص: «إنما عرضتها عليكم امتحانا لكم؛ لتعرفوا الفرق بين مسائل الحساب ومسائل الجبر، وهذه من مسائل الجبر؛ لأنها تشتمل على مجهولين!»

لم أصدق صاحبنا، ولم أكف عن المحاولة في بيتي، وقضيت ليلة ليلاء حتى الفجر وأنا أقوم وأقعد عند اللوحة السوداء حتى امتلأت من الجانبين بالأرقام ... وجاء الفرج قبل مطلع النهار، فإذا بالمسألة محلولة، وإذا بالمراجعة تثبت لي صحة الحل، فأحفظ سلسلة النتائج وأعيدها لأستطيع بيانها في المدرسة دون ارتباك أو نسيان.

قلت: «لقد حلت المسألة.»

قال الأستاذ: «أية مسألة؟!»

قلت: «المسألة التي عجزنا عن حلها في الحصة الماضية.»

قال: «أوصحيح؟! ... تفضل أرنا همتك يا شاطر ...»

وحاول أن يقاطعني مرة بعد مرة، ولكن سلسلة النتائج كانت قد انطبعت في ذهني لشدة ما شغلتني، وطول ما راجعتها وكررت مراجعتها.

وانتظرت ما يقال ...

فإذا بالأستاذ ينظر إلي شزرا وهو يقول: «لقد أضعت وقتك على غير طائل؛ لأنها مسألة لن تعرض لكم في امتحان!»

وإذا بالزملاء يعقبون على نغمة الأستاذ قائلين: «ضيعت وقتنا ... ما الفائدة من كل هذا العناء؟!»

كانت هذه صدمة خليقة أن تكسرني كسرا، لو أن اجتهادي كان محل شك عندي أو عند الأستاذ أو عند الزملاء، أما وهو حقيقة لا شك فيها، فإن الصدمة لم تكسرني بل نفعتني أكبر نفع حمدته في حياتي، وصح فيها قول نيتشه: «إن الفضل قيمته فيه لا فيما يقال عنه، أيا كان القائلون.» ولم أحفل بعدها بإنكار زميل أو رئيس. •••

كان أساتذتي جميعا ممن اخترتهم بنفسي ...

نعم! ... ولكنني أحب أن أستثني أستاذا واحدا كان حضوري عليه من اختيار أبي لا من اختياري، وذاك هو الشيخ أحمد الجداوي - رحمه الله - كان الشيخ أحمد من أبناء أسوان، وحضر العلم في الأزهر، وزامل الأستاذ الإمام «محمد عبده» على أيام السيد جمال الدين.

وتولى القضاء في قنا، ثم تولى إدارة التعليم في السودان، ثم نشبت الفتنة المهدية، فهجا «محمد أحمد» بقصيدة نونية نشرتها الحكومة في جميع الأقطار السودانية، ومنها على ما أذكر قوله:

يا ذا الذي حسب الضلال هداية

ما أنت إلا مبتلى بجنون

فجعل المهدي جائزة لمن يأتيه برأس «الكويفر» الجداوي حيا أو ميتا، وبادرت الحكومة بإبعاده إلى أسوان عند استفحال الثورة مخافة عليه، فأقام في بلده، وفتح بيته الواسع لإلقاء الدروس الأدبية والدينية، وكان الرجل في عمله على النهج القديم، ولكنه كان على دأب تلاميذ الأفغاني جميعا نهما بالمعرفة، يطلب منها كل ما استطاع طلبه، ولو لم يكن من سلكه ولا اتجاهه.

من ذاك أنه تعلم اللغة الإنجليزية في شيخوخته على المرحوم نعوم شقير باشا، وكان يومئذ شابا ناشئا يعمل في قلم الترجمة بمعسكر الجيش، وقد ذكره نعوم باشا في كتابه عن السودان ...

ومن ذاك أنه تعلم الشعوذة، وألعاب السينما، وحيل الحواة حتى برع فيها ...

ولم يكن أعجب من مفاجآته حين يتكلم إلى أحد الضباط الإنجليز باللغة الإنجليزية، أو حين يجتمع بالموظفين والأعيان لمشاهدة «حاو» ماهر يبهرهم بألعابه، وكان «الحواة» يكثرون يومئذ في أسوان لازدحامها بالطارئين عليها، فيقف الأستاذ ويشمر عن أكمامه العريضة، ويفحم «الحاوي» المسكين في صميم فنه، أو يضربه بعصاه! •••

كان هذا النابغة الألمعي أوسع من لقيت محفوظا في الشعر والنثر.

كان يطارح وحده خمسة أو ستة من القضاة والمدرسين والأدباء.

والمطارحة هي أن تأتي ببيت من الشعر فيأتي مطارحك ببيت يبدأ بحرف القافية في البيت الأول ... فإذا اجتمع خمسة أو ستة من الأدباء كان لكل منهم أن يقترح بيتا، وكان الشيخ الجداوي هو الذي يرد عليهم جميعا ... فيسكتون في النهاية وهو لا يسكت، ولا ينضب معينه، وكان كثيرا ما يتعمد التعجيز؛ فيذكر في رده بيتين أو ثلاثة أبيات أو أربعة.

وكان يحفظ مقامات الحريري والهمذاني، ويلقيها أحيانا موقعة مفسرة، فيأخذني والدي معه إلى بيت الشيخ؛ لأنه كان من أصدقائه ومحبيه، أو يدعوني إلى حضور المجلس إذا زارنا الشيخ كما كان يفعل أحيانا.

ومن خصائصه أنه على قدرة فائقة في نظم الشعر المؤرخ، أو الشعر الذي يجتمع من حروف كل شطرة فيه أو كل بيت فيه تاريخ سنته. وقد نظم في استقبال الخديو عباس - عند مروره بأسوان في طريقه إلى السودان - قصيدة كبيرة في كل بيت منها تاريخان.

ولم يكن مجلسه كله مقامات ودروسا ومطارحات، بل كان من طرائفه أنه يعرف ألعاب الحواة ، ويبتدع الملح والفكاهات، وكان مولعا بشيخ معمر جاوز الثمانين اسمه «علوب»، لا يفتأ يناوشه ويستثيره ويحرك غيظه؛ ليستمع إلى ردوده الساذجة التي لا يبالي فيها بكبير ولا صغير.

ومن دعاباته معه أنه كان يقسم له لئن وصل من مكانه إليه قبل أن يفرغ من عد «خمسة» ليعطينه قطعة بخمسة ...

وقطعة بخمسة في ذلك العصر شيء مهول عند «علوب».

ثم يأخذ القاضي الجداوي في العد، فيطيل نفسه «بالواحد» حتى تستغرق ثواني كثيرة، والسلحفاة تطمع في الوصول من أول المجلس إلى آخره إذا استمر العد على هذه النغمة، فيتحرك الطمع في صدر «علوب».

ويدس قدميه خفية في النعال ليفاجئ القاضي بالجري إليه قبل أن يفرغ من عده.

فما هو إلا أن يخطو خطوتين أو ثلاثا، وينطلق في جلاله ووقاره عاديا مهرولا حتى يسرع القاضي، فيأتي على بقية الخمسة عدا في نفس واحد.

فيحوقل الشيخ، ويصيح به: «والله ما أحسبك تعلمت الفتاوى الشرعية إلا لتأكل على «علوب» هذه الخمسة القروش.»

وربما تمادى القاضي في إطماعه عمدا فيستمر في عده على النغمة الأولى حتى يصل إليه «علوب»، ويكسب الرهان، ويعترف له القاضي بالهزيمة، ويأتي دور التسليم بعد البحث في الجيوب من اليمين والشمال، و«علوب» واقف بالانتظار ...

ويطول البحث في الجيوب و«علوب» ضاحك متهلل ضحك الشماتة والانتصار، ثم يصيح به القاضي وقد أطال لهفته، وأثار طمعه: «خذ يا شيخ، بارك الله لك فيما أعطاك.»

ويدس في يده شيئا فيرتاع «علوب»؛ لأنه يحس في يده خمسة مليمات لا خمسة قروش.

ويأتي دور القاضي في الشماتة والنكاية، ويعود إلى الفتاوى الشرعية التي يكرهها «علوب» فيقول له: قطعة بخمسة يا صاحبي، يعني خمسة مليمات، أتحلف بالطلاق أن القرش التعريفة لا يسمى قطعة بخمسة يا «شيخ علوب»؟ ... إن حلفت فلك خمسة القروش التي تريدها، ولكن - يا «شيخ علوب» - حاسب قبل اليمين ... كم مؤخر صداق «الولية» يا أبا العلاليب؟!

وهكذا تنقضي مجالسه في سرور وفائدة وإيناس، ولا أدري على التحقيق كيف تعلم ألعاب الحواة وأشباهها من الحيل الحسابية والسينية، ولكني لاحظت عليه أنه لا يرى أمامه بابا للمعرفة إلا تطرق إليه، ومن ذلك أنه تعلم الإنجليزية؛ لأن مجلسه كان يجمع بعض الأدباء المحيطين بها، ومنهم المرحوم نعوم شقير الذي كان يومئذ مترجما بمعسكر أسوان، فانتهز هذه الفرصة ليتعلم عليه الإنجليزية، ويعلمه درسا في الآداب العربية ...

وليس الشغف بالمعرفة على هذا النحو بالخلق المستغرب من تلاميذ جمال الدين، فلولا حبهم للمعرفة ومخاطرتهم في سبيلها لما عرفوه.

وقد حببت مجالس الجداوي الأدب إلى نفسي لأول مرة، ورغبت أن أتخذه فنا أضرب فيه بسهم، كما ضرب فيه الأستاذ، وصرت من ذلك الحين مهتما بحفظ الشعر، ومطالعة كتب الأدب.

ومما يلذ ذكره أنني لما أغرمت بالأدب أخذت أتمرن على نظم الشعر، وساعدني في ذلك مباراتنا المدرسية التي كان الناظر يعقدها لنا في إلقاء الشعر العربي، حتى كنت أستعيض عن محفوظاتي الشعرية بأبيات أنظمها من تلقاء نفسي، وكانت أول أبيات نظمتها - وأنا لم أتجاوز الحادية عشرة - هذه الأبيات التي أذكرها هنا على سبيل الفكاهة:

علم الحساب له مزايا جمة

وبه يزيد المرء في العرفان

النحو قنطرة العلوم جميعها

ومبين غامضها وزين لسان

وكذلك الجغرافيا هادية الفتى

لمسالك البلدان والوديان

وإذا علمت لسان قوم يا فتى

نلت الأمان به وأي أمان!

الشيخ محمد عبده

والشيخ محمد عبده في اعتقادي أعظم رجل ظهر في مصر وما جاورها منذ خمسة قرون، أثره في نفسي من أقوى الآثار ...

وقد أعجبت به؛ لأنني سمعت بذكره في مجلس الأستاذ الجداوي مرات، وكان محبوبا في بلدتي أسوان على الرغم من الضجة التي شنها عليه حساده، والجاهلون بفضله.

وذلك لأنه توسط في قضية متشعبة الأطراف شغلت المدينة والإقليم كله أكثر من عشر سنوات؛ حتى سماها ظرفاء المدينة قضية دريفوس ... وكان أحد الطرفين فيها رجلا سريا مفرط الذكاء، شديد العناد، خبيرا بحيل المقاضاة، وأساليب المراوغة والتأجيل، وإعادة النظر، وإهمال التنفيذ، وكان الطرف الآخر رجلا من المهاجرين إلى السودان الذين عادوا إلى وطنهم مفتقرين بعد الثورة المهدية، فلما بحث عن بيوته وأمواله وجدها في يدي ذلك السري الذكي العنيد، ولم يجد معه دليلا حاضرا يعينه على المقاضاة، ولولا العداوة بين ذلك السري الذكي العنيد وبين أسرة أخرى في المدينة لما استطاع الإنفاق على القضية سنة واحدة.

ومع هذا عز على الأسرة القوية إثبات حقه، وأوشكت القضية أن تنقلب عليه، لولا أن هداه نائب أسوان في مجلس الشورى إلى الشيخ محمد عبده، فقص عليه قصته، واستفز نخوته، فتولى القضية بنفسه، وخاطب فيها زعيمنا الكبير سعد زغلول رحمه الله، بعد أن تحولت إليه، فحكم فيها حكما فاضلا هز الإقليم بأسره، وتحدث به الكبار والصغار في كل مجلس وفي كل قرية، وغلبت هذه السمعة الحسنة التي تكلل بها اسم الشيخ محمد عبده في أسوان على كل تهمة باطلة من تهم الحساد الذين افتروا عليه الزندقة والإلحاد.

ومن حظي الحسن أنني سمعت به في تلك الأيام فراقني أن أقتدي به في غيرته على الحق، ونجدته للضعيف، وقلة اكتراثه للقيل والقال، واطلعت على معظم ما كتب في شئون الدين والدنيا، ولكنني أعجبت بخلقه فوق إعجابي بعلمه، فإن الاقتداء بخلقه نافع لكل إنسان كائنا ما كان مذهبه في الدراسة والتفكير، ولكن العلوم والمعارف تتعدد بين فريق وفريق من الناس، فلا ينتفع المرء إلا بمن يماثله في معارفه وعلومه.

وأنا مدين بخطتي في السياسة الوطنية لإعجابي بالشيخ محمد عبده ومريديه.

فإعجابي به هو الذي أعظم في نفسي الثقة بسعد زغلول يوم كان الفتيان من عمري كلهم أنصارا لمصطفى كامل وعبد العزيز جاويش، وأتباعا لهما في الحملة على سعد زغلول.

ولما اشتدت هذه الحملة ذهبت إلى سعد في ديوان المعارف لأستطلع رأيه، وأسمع حجته على حضور، وقلت في خطابي إنني أثق به لأنني أثق بأستاذه، ودخلت المكتب فاستقبلني واقفا، وأشار إلى كرسي أمامه فجلس وجلست، وسألني: «أعرفت الشيخ محمد عبده؟»، قلت: «نعم! ... قرأت رسائله وتفسيراته، وترجمة حياته.» قال: «أين؟ ... أفي الأزهر؟» قلت: «لا ... بل في أسوان، قدمني إليه أستاذي فناقشني في علومي المدرسية، وبعض الآراء العامة، ثم سمعت منه بشرى طيبة ...»

قال: «ماذا سمعت منه؟»

قلت: «التفت إلي الأستاذ، وقال وهو يربت على كتفي: ما أجدر هذا أن يكون كاتبا بعد!»

فتبسم الباشا وقال: «أرى أن نبوءة الإمام تتحقق.» واستطرد إلى كلام عن الشيخ يثني عليه.

وهكذا ترتسم لنا في بواكير الصبا مناهج السياسة التي نقاد بها، ونقود بها غيرنا مدى الحياة.

شيطنة التلاميذ

ولا أحسب أن أحدا يتكلم عن أساتذته إلا انتظر منه القارئ شيئا عن «شيطنة» التلاميذ مع الأساتذة.

وللقارئ حق ...

فما خلت قط علاقة تلميذ بأستاذ من تلك «الشيطنة»، ولم أكن أنا من أبطال «الشيطنة» المدرسية ... ولكنني كنت أستطيبها، وأشجع عليها حين تقع في موقعها، ولا أطيل في سرد النوادر، فهي كثيرة تكفي هنا واحدة منها على سبيل المثال ...

كان معلم الخط في مدرستنا من أبرع الخطاطين في البلاد العربية، ولكنه كان رجلا غريب الأطوار، يهتاج لأقل خطأ، فيشتم التلميذ المغضوب عليه شتما يناله هو قبل أن ينال التلميذ؛ لأنه يبدأ كل شتيمة بقوله: يا ابني ... ثم يكيل الشتائم كيلا، فإذا هي كلها مردودة إليه.

وكان التلاميذ يهجونه لشتمهم وشتم نفسه على هذا النمط الغريب، ومنهم تلميذ خبيث أعيى أساتذته وأهله خبثا في جميع سنوات الدراسة، يملك أهله مطاحن بخارية توشك أن تحتكر طحن الغلال في المدينة.

ولم يكن من الميسور طحن مقطف من القمح في اليوم الذي يرسل فيه إلى المطحنة؛ لأنها كانت تكتظ بالمقاطف وأصحابها؛ فيبيتون إلى جوارها في بعض الأيام ...

واغتنم معلم الخطوط فرصة وجود هذا التلميذ في فصله، فجعل يستدعيه إلى المنزل ظهر كل خميس ليحمل الطحين إلى مطحنة أهله ويعود به في اليوم نفسه ...

وما أدراك ما يوم الخميس؟! ... إنه هو اليوم الذي ينتظره التلميذ بنافد الصبر ليسرح ويمرح، لا ليخزن نفسه في مطحنة تعج بأصوات الآلات وأصوات الطاحنين.

وصبر التلميذ الخبيث أسبوعا وأسبوعين وثلاثة أسابيع، ثم نفد صبره، وعول على استنجاد خبثه ... وهو لا يخذله حيث يتخابث في غير طائل، فكيف بالخبث الذي ينقذه من هذا البلاء؟!

وجملة القول أنه باع المقطفين بأبخس ثمن، ولم يذهب في يومها إلى المطحنة، ولا رجع إلى بيت الأستاذ.

وقبل حصة الخط جمعنا وهو لا يملك نفسه ضحكا، فحدثنا بما حدث ... فدخلنا الفصل ونحن نتلهف شوقا إلى ما يكون!

وكان التلاميذ يتعلمون الخط يومئذ في كراسة مذهبة تسمى «المشق»، على رأس كل صفحة منها نموذج مطبوع، تحته نموذج مفرغ بالنقط، تحته فراغ لكتابة التلميذ ...

ولا أذكر ما هو النموذج الذي كان مكتوبا في رأس الصفحة ذلك اليوم ... ولكنني أذكر أنه كان مبدوءا بحرف «ميم».

وجاء دور التصحيح، فذهب التلاميذ واحدا بعد واحد إلى منصة الأستاذ، فجعل لا يلتفت إليهم إلا قليلا، ولا يشتمهم على عادته في كل تصحيح؛ لأنه على ما يظهر كان يدخر «الشتيمة» كلها لتلميذ واحد، هو ذلك التلميذ الخبيث. - أهذه «ميم» تكتب يا ابني يا ابن ال ...؟!

قالها قبل أن يضع التلميذ كراسته أمامه ... فنظر التلميذ الخبيث إلى أستاذه متجاهلا، وهو يسأل: «أي ميم يا أفندي؟! إنني لم أكتب ميما!»

وكانت الكراسة قد استوت أمام الشيخ فنظر فيها، فرأى أن الخبيث قد تخطى الصفحة إلى التي بعدها عن عمد أو سهو ...

فلم يسكت الشيخ بل راح ينطلق في شتمه لهذا السبب الجديد، وقال له: «وتتخطى الصفحة أيضا يا ابني يا ابن ال ...»

ثم ضحك على الرغم منه ...

فنجا الخبيث بهذه الضحكة من العقاب، ومن سخرة الطحين في كل خميس ...

رحمهم الله جميعا، وأطال بقاء الأحياء منهم ...

إنهم كانوا أساتذة نافعين: نافعين بما علمونا من دروس، ونافعين بما علمونا من أطوار بني آدم، ونافعين بما قصدوه وما لم يقصدوه ... (2) ثلاثة أشياء جعلتني كاتبا

إنني أومن بكلمات التشجيع التي يتلقاها الناشئ في مطلع حياته ممن يثق بهم ويعتز برأيهم، فيمضي إلى وجهته على يقين من النجاح.

وأومن بالظروف وفعلها في تمهيد أسباب النجاح، وتيسير البدء في طريقه، ثم المثابرة عليه إلى غاياته القريبة والبعيدة.

وأومن بالرغبة في الوجهة التي يتجه إليها الناشئ، والعمل الذي يختاره، ويحس من نفسه القدرة عليه، والاستعداد له مع الاجتهاد، والتذرع بالوسيلة الناجعة.

أومن بها مجتمعات، ولا أومن بها متفرقات.

أومن بالتشجيع والظروف والرغبة تتلاقى معا، وتتوافق في الخطوات الأولى ... ولا أومن بها متفرقة يتيسر بعضها ويتعذر سائرها في مستهل الطريق.

فكلمات التشجيع إذا امتنعت الظروف المواتية قلما تفيد، وكلمات التشجيع مع مؤاتاة الظروف تضيع كلها عبثا إذا امتنعت الرغبة في نفس الناشئ، ودل امتناعها على نقص الاستعداد أو على الرغبة في عمل آخر يضل عنه حتى يهتدي إليه في ظرف من الظروف.

واتجاهي إلى الصحافة - أو إلى الكتابة على الأصح - قد تلاقت فيه كلمات التشجيع مع مؤاتاة الظروف، والرغبة الكامنة في الطوية من أيام الطفولة، ولا أقول من أيام الصبا أو الشباب؛ لأنني عرفت أنني أحب الكتابة، وأرغب فيها قبل العاشرة، ولم أنقطع عن هذا الشعور بعد ذلك إلى أن عملت بها، واتخذتها عملا دائما مدى الحياة.

كان أستاذنا في اللغة العربية والتاريخ الشيخ فخر الدين محمد الدشناوي يعرض كراساتي التي أكتب فيها موضوعات الإنشاء على كبار الزوار لمدرسة أسوان، وكان كبار الزوار لهذه المدرسة أكثر عددا وأعظم شأنا من كبار الزوار لمدارس القطر كله؛ لأن أسوان كانت قبلة العظماء والكبراء من جميع الأرجاء في موسم الشتاء.

واطلع الأستاذ الإمام الشيخ «محمد عبده» على إحدى هذه الكراسات، فقال: «ما أجدر هذا أن يكون كاتبا بعد! ...»

فكانت هذه الكلمة أقوى ما سمعت من كلمات التشجيع، ولكنها جاءت بعد سنوات في القراءة، ومحاولة الكتابة، وإصدار الصحف التي تطبع على «البالوظة» ... ولا يقرؤها أحد غيري وغير تلميذين أو ثلاثة من الزملاء ...

كان والدي - رحمه الله - من أنصار الحركة العرابية، وتعلمت الأبجدية وكتابة الحروف الأولى وأنا أرى بين يدي أعداد مجلة «الأستاذ»، وغيرها من مجلات عبد الله نديم، ومعها أعداد قليلة من «أبو نضارة»، والعروة الوثقى، ونشرات الثورة التي كانت توزع في الخفاء.

وكنت أسمع على الدوام أخبارا في سير الكتاب الذين يصدرون هذه الصحف، ولا سيما عبد الله نديم.

فأصدرت يوما صحيفة باسم «التلميذ» محاكاة لصحيفة «الأستاذ»، وافتتحتها بمقال عنوانه: «لو كنا مثلكم لما فعلنا فعلكم» معارضة لمقال النديم المشهور: «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا» يعني بها الأوروبيين.

واقترنت بهذه الظروف رغبة ملحة في القراءة والكتابة، بل في النظم والنثر المسجوع بعض الأحايين.

ولعل المرة الأولى التي عرفت فيها أنني أكتب ما يستحق التنويه بين الأقران قد عرضت لي من قبيل المصادفة وأنا في السنة الثانية الابتدائية، وكان مدرس الخط والكتابة عندنا الخطاط المشهور الشيخ مصطفى عاصم رحمه الله، وهو والد زميلنا أحمد عاصم «بك» الذي أصبح بعد ذلك من رجال التربية المعدودين ...

طلب منا الشيخ مصطفى أن نكتب بالخط النسخ كلاما من عندنا نصف به المدرسة التي نتعلم فيها، ولم تكن دروس الإنشاء مقررة علينا في تلك السنة، ولكنه أراد أن يجعلها درسا من دروس الخط بكتابة من عندنا غير كتابة «المشق» المرسوم.

ونسيت هذا الطلب لأنه «نافلة» لا يدخل في باب المقررات، فلما التقيت قبل دق الجرس بزملائي سألني أحدهم: «هل كتبت ما طلبه مدرس الخط؟» فتذكرت ذلك الطلب «النافلة»، وبدا لي أن كتابته خير من إهماله، وأخرجت كراسة التجارب فكتبت صفحة من صفحاتها في هذا الموضوع.

وكان من المفاجآت لي وللزملاء الصغار - الذين علموا كيف كتبت ذلك الموضوع بعد تنبيههم إياي - أن المدرس لم يقرأ في الفصل غير ذلك الموضوع! وغار الزملاء، فقال بعضهم: إنه يا أفندي كان ناسيا، وذكرناه به في اللحظة الأخيرة ...

وظنوا أنهم يهبطون بدرجة الإنشاء في تقدير الشيخ، فإذا هو يضاعف التقدير، ويقول لهم: إن هذا أدل على الإجادة وحسن الاستعداد.

وبلغت السادسة عشرة وأنا أعمل في وظيفة حكومية، وكان علي أن أنتظر سنتين قبل التثبيت؛ لأن الوظائف الدائمة لا تثبت قبل الثامنة عشرة!

فخطر لي ذات مرة أن أريح نفسي من هذا الانتظار، وأن أتوفر على إصدار صحيفة أسبوعية باسم «رجع الصدى»، واتخذت مستشاري لهذا العمل «كتبيا» بحي الأزهر كنت أشتري منه الكتب الأدبية بأرخص الأثمان؛ لأنها كانت مطبوعة - كلها - على الورق الأصفر، وبعضها مرجوع يباع بنصف الثمن، ولا يزيد ثمنه على بضعة قروش.

قال لي الكتبي الناصح: إياك أن تفعلها وتترك خدمة «الميري» من أجل هذه الصناعة الملعونة!

ولم تمض ساعة حتى شهدت بعيني أنها في الحق صناعة ملعونة كما قال، أو كانت على الأقل ملعونة إلى ذلك الحين!

على مقربة من المكتبة مطبعة صغيرة تطبع فيها صحيفة أو اثنتان من الصحف الأسبوعية، ويقف فيها «مدير الصحيفة» ينتظر الوكيل الذي أرسله إلى المشتركين للتحصيل وسداد حق المطبعة من محصول الاشتراكات.

وحضر الوكيل.

مخلوق أشعث أغبر ليس على بدنه كسوة من قطعة واحدة، ولحيته مرسلة بغير قصد منه؛ لأنها معلقة على قرش واحد يؤديه للحلاق، ولا سبيل إليه ... وبادره المدير قائلا: ماذا صنعت؟ ...

فأخرج له إيصالا معادا من أحد المشتركين، وقال له: إن صاحب هذا الإيصال قد أنبأني أنه سدد الاشتراك لك قبل الآن، وعنده إيصال بالسداد.

قال المدير: وأين الإيصال الآخر؟ ...

قال الوكيل: قطعه الرجل ورماه في خلقتي! ...

فانتهره المدير وهو يضربه، وقال له: مستحيل! ... إن هذا الرجل ممن يخافون من الكتابة عنهم خوف البرد، ومسألة بنته أو أخته معروفة يخشى منها الفضيحة ... فلا تقل لي أنه قطع الإيصال ورماه في خلقتك الشريفة ... بل قل إنك قبضت الاشتراك، وسكرت به كعادتك ...

وكانت بقية الفصل خناقة لا أدري كيف انتهت؛ لأنني لا أحب منظر «الخناق» ... فتركتها وأنا أردد قول الكتبي الناصح: إنها صناعة ملعونة وايم الله! •••

بعد هذا كانت علاقتي بالصحافة علاقة الكتاب من «منازلهم» ...

فكنت أكتب إلى «الجريدة» التي أشرف على تحريرها الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد، وكتبت قبلها إلى صحيفة «الظاهر» التي كان يصدرها «أبو شادي» المحامي، وإلى صحيفتي «المؤيد» و«اللواء»، ونشر أول ما نشر لي من الشعر في إحداها، وأذكر أنه في صحيفة «اللواء».

وإنني لأقرأ الصحف ذات يوم إذا بالأستاذ «محمد فريد وجدي» يعلن عن صحيفة يومية ينوي أن يصدرها باسم الدستور، ويطلب مخاطبته في شئون الصحيفة، ومنها شأن التحرير.

فتناولت ورقة في المقهى التي كنت أجلس بها بحي شبرا، وكتبت إليه خطابا أرشح فيه نفسي للاشتغال بتحرير الدستور، ولم يمض يومان حتى جاءني الرد منه بالقبول، فذهبت إليه حيث اختار مكتب الصحيفة الأولى بدار مطبعة «الواعظ» لصاحبها الأستاذ محمود سلامة بدرب الجماميز، وعدت لأستقيل من وظيفتي الحكومية، وأبدأ حياتي الصحفية المنتظمة، ولم أزل أعمل في تحرير «الدستور» حتى اضطرت إلى التوقف عن الصدور.

وإنني لأحمد الله أن كانت بداية عملي المنتظم في الصحافة مع رجل كالأستاذ وجدي - رحمه الله - قليل النظير في نزاهته، وصدقه، وغيرته على المصلحة القومية، واستعداده للتضحية بماله وراحته في سبيل المبدأ الذي يرعاه، ولا يتزحزح عنه قيد أنملة، فقد عطل صحيفته وبين يديه عرض سخي من جماعة «تركيا الفتاة» التي أرادت أن تتخذ منها لسان حال لها في مصر والشرق باللغة العربية، وهذا غير العروض السخية التي توالت عليه من جانب «المعية الخديوية» ... فأقدم على تعطيل الصحيفة لكيلا يخالف عقيدة من عقائده السياسية مرضاة لهؤلاء أو هؤلاء، وباع كتبه ليؤدي حساب العمال والصفافين والموظفين مليما بمليم.

أحسن الله ذكراه في مثواه.

وأكثر الله بين الصحفيين من ينحو في هذه الصناعة «المباركة» منحاه. (3) هجرت وظائف الحكومة «الاستخدام رق القرن العشرين.»

كان هذا عنوان مقال كتبته في «الجريدة» حوالي سنة 1907 وأنا في وظيفتي الحكومية، وكنت يومئذ على أهبة «الاستعفاء» منها للاشتغال بالصحافة ...

ومن «السوابق» التي أغتبط بها وأحمد الله عليها أنني كنت - فيما أرجح - أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة، وخطل الرأي عند الأكثرين، بل ربما كانت حوادث الاستقالة أندر من حوادث الانتحار ... ولو ظفرنا اليوم بإحصاء ثابت لحوادثهما معا منذ بدأت عندنا الوظائف الحكومية إلى أوائل القرن العشرين لتحقق لنا أن الاستقالة من الوظيفة كانت أندر من الانتحار، ولا يخرج هذا عن حيز المعقول؛ لأن الوظيفة كانت معيشة وشرفا ومزية اجتماعية، ولأن عدد الموظفين الذين تسجل عنهم حوادث الاستقالة أقل من عدد الجمهرة الكبرى التي تسجل عنها حوادث الانتحار، ولعلنا لو أخذنا في العددين بالنسبة المئوية لما اختلفت دلالة الإحصاء.

كان الشرف كله يومئذ منوطا بالوظيفة الحكومية، وكانت كلمة القائلين: «إن خدمة الميري شرف» مثلا سائرا في كل طبقة من طبقات الأمة، ويضارعه في الشيوع قول القائلين: «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه» وهو القول القاطع الذي شاع وظل شائعا إلى عهد قريب.

وليس في الوظيفة الحكومية لذاتها معابة على أحد، بل هي واجب يؤديه من يستطيع، ولكنها إذا كانت باب المستقبل الوحيد أمام الشاب المتعلم فهذه هي المعابة على المجتمع بأسره، وتزداد هذه المعابة حين تكون الوظيفة - كما كانت يومئذ - عملا آليا لا نصيب فيه للموظف الصغير والكبير غير الطاعة وقبول التسخير، وأما المسخر المطاع فهو الحاكم الأجنبي الذي يستولي على أداة الحكم كلها، ولا يدع فيها لأبناء البلاد عملا إلا كعمل المسامير والآلات في تلك الأداة. •••

وأعود فأقول مرة أخرى: إن نفوري من الوظيفة الحكومية في مثل ذلك العهد الذي يقدسها كان من السوابق التي أغتبط بها، وأحمد الله عليها ... فلا أنسى حتى اليوم أنني تلقيت خبر قبولي في الوظيفة الأولى التي أكرهتني الظروف على طلبها كأنني أتلقى خبر الحكم بالسجن أو الأسر والعبودية؛ إذ كنت أومن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين.

وقد اشتغلت بوظائف كثيرة في المديريات، ومصلحة التلغراف، ومصلحة السكة الحديد وديوان الأوقاف، ويلحق بها - أي بهذه الوظائف - عملي في تعلية الخزان؛ لأنه كان بمثابة الوظيفة الحكومية في ذلك الحين.

وأذكر أنني تقدمت للامتحان في «نظارة الحقانية» يوم كان الكاتب المشهور في زمنه «أحمد سمير» رئيسا من الرؤساء الكتابيين فيها، وكان موضوع الامتحان حسابا وترجمة وإنشاء عربيا، سئلنا فيه أن نكتب تاريخ حياتنا؛ فكتبت تاريخ حياتي في الوظائف الحكومية قبلها، ومهدت له بمقدمة عن الوظائف، وما ينبغي لها من الإصلاح، ونظر الأستاذ أحمد سمير في ورق الإنشاء أمامنا، فقال: «يظهر أن خوجة هذا الطالب كان من المجاورين الحناشيص في اللغة العربية ...» ثم أتم القراءة، فقال لي بعد أن دعيت باسمي: «ومن لنا بأنك تبقى عندنا أكثر مما بقيت عند غيرنا ... أنت يا بني تريد إصلاح الوظائف كلها، ونحن مش قدك، والله العظيم!»

فقلت له: «والآن تستطيع أن تعتبر ورقة الطلب ورقة استعفاء، ما دامت هذه طريقتكم في الامتحان.» •••

ولو أنني أردت أن أسجل تجاربي في تلك الوظائف جميعا لما وسعتني المقالات؛ فإنها مما تستوفيه الكتب المطولات.

ولكنني أذكر هنا تجربة أو اثنتين من مهازلها ومآسيها، ويقاس عليها غيرها من هذا الباب، وغير هذا الباب ...

كانت الرسائل تسمى يومئذ «بالإفادات» ...

وكانت «للإفادة» صيغة مقررة مكررة لا تختلف من الديباجة إلى التقفيلة كما كانوا يسمونها، وكان من نماذجها ترتيب الألقاب من «حميتلو» إلى «رفعتلو» إلى «سعادتلو» إلى «عطوفتلو»، بين ملاحظ البوليس وناظر المالية الذي كنا تابعين له في أقسامنا المالية بالمديريات ...

فإذا قلت «صاحب الحمية، أو صاحب العطوفة» بدلا من «حميتلو» أو «عطوفتلو» بطلت الإفادة، ووجبت إعادتها من جديد.

وكذلك تبطل الإفادة إذا ختمتها بعبارة غير عبارة التقفيلة المعهودة، «وهذا ما لزم عرفناكم به أفندم.»

وتتخلل الإفادة قوالب تعبيرية أو «كليشيهات» على هذا المثال لا يجوز فيها التبديل ولا التقديم ولا التأخير.

وأكتب عشرين أو ثلاثين إفادة دفعة واحدة، فإذا هي تعاد إلي «لتصحيحها وكتابتها مرة أخرى بالأسلوب المعهود». •••

ويتكرر هذا مرة بعد مرة، ولا متسع من الوقت لكتابة الإفادات جميعا، فضلا عن كتابتها وتغييرها بلا سبب غير هذا الجمود على الأسلوب العتيق.

ويتفق يوما أن أدخل على «الباشكاتب» بالإفادات المشطوبة فأجده منفردا في المكتب، وتزين لي «شقاوة» التلمذة أن أعبث بالرجل عبثا لم يكن يخطر له على بال، وبخاصة هذا الباشكاتب الذي اشتهر في مديريات القطر بالحزم والمهابة والدراية بأصول الإدارة، وأساليب المكاتيب.

قلت له في كل بساطة: «يا أيها الحمار الأزعر ... أمثلك يصحح الكتابة العربية، وأنت لا تعرف منها غير الهجاء، وكتابة (العرضحالات)؟!»

ولم يصدق الرجل أذنيه، وظن أنه أمام مجنون لا يؤمن أن يبطش به ويعتدي على حياته، فقفز من كرسيه إلى خارج الحجرة ينادي الفراشين والموظفين المساعدين، ثم ذهب إلى مكتب وكيل المديرية يشكوني إليه؛ لأن المدير (محمد محب باشا) كان غائبا عن البلد ، وينوب عنه «محمد خليل نائل بك» الذي كان معروفا في ذلك الوقت بأنه رجل «رياضي» بحبوح قبل أن تشيع كلمة ال «سبورت».

ويدعوني الوكيل فأقول له مقسما أنني ما خاطبت الرجل إلا بما يستحقه من الاحترام. ويبتسم الوكيل الظريف، ثم يقول للبك الباشكاتب: دعه لي ... فإنني سأنظر في أمره «بما يستحقه».

وما كاد الباشكاتب يولي قفاه حتى ضحك الوكيل وكاد أن يقهقه، ثم اصطنع العبوس وهو يقول: اسمع يا بني ... شغل الحواة في المدارس لا ينفع هنا في الوظائف، ولو ثبت عليك أنك تطاولت على حضرة الباشكاتب لكان جزاؤك الفصل العاجل، فلا تعد إليها مرة ثانية.

وقد علمت بعد ذلك أن الباشكاتب قد استكبر على مهابته المشهورة أن يذاع عنه أن موظفا صغيرا قال له: «يا حمار» ... فلم يذكر للوكيل إلا بعض ما قيل!

وتجربة أخرى في هذا الديوان نفسه أننا كنا نعمل في بقسم المكلفات - أي تدوين الملكيات الزراعية - أيام فك الزمام، وليس أكثر من هذه الأيام من العقود الواردة من المحاكم ومن الأقاليم، فلا طاقة للموظف بإنجاز العمل مرة واحدة فضلا عن إنجازه مرتين.

وأقرر ... نعم أقرر، وأقولها الآن وأنا أضحك كما يضحك القارئ وهو يتصفحها ...

أقرر عددا من العقود أنجزه كل يوم ولا أزيد عليه ولو تراكمت الأوراق على المكتب كالتلال.

ومن هذه العقود عقد أذكر تماما ... أنه كان لأمين الشمسي باشا والد السيد علي الشمسي الوزير السابق المعروف، مضت عليه أشهر وهو بانتظار التنفيذ في الموعد الذي قررته لنفسي، وجاء الباشا يسأل عنه، فرأيته لأول مرة ورأيته لا يغضب ولا يلوم حين تبينت له الأعذار التي استوجبت ذلك القرار. •••

وإذا كان هذا قليلا من كثير من تجاربي في وظائفي الحكومية، فلا أحسب القارئ المعاصر يعجب لاستقالتي منها واحدة بعد واحدة ...

غير أنني أقول اليوم كما أقول كلما ذكرت أمثال هذه التجارب ...

وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .

1

وهكذا مرت بي تجارب الوظائف على خير لا شك فيه، فلولا اشتغالي بالمديريات بين قنا، والزقازيق، والفيوم، ولولا تنقلي فيها بين أعمال تتصل بالملكيات الزراعية، وأخرى تتصل بمساوئ الأوقاف، وغيرها بالمواصلات ومشروعات الأبنية والمقاولات، لفاتني كثير، بل كثير جدا، من العلم بحقائق بلدي ومواطن الإصلاح فيه.

ولو اطلعتم على ما في الغيب لاخترتم الواقع.

ولعلي لم أكن أختار هذه الوظائف بعينها، ولكنني أختار أن أعرف ما عرفت من حقائق وطني بالثمن الذي «تستحقه» ... وهي تستحق الكثير.

الفصل الثالث

(1) قلمي

من ذكريات المدرسة التي أستعيدها الآن لمناسبتها، حادث شجار عنيف بين تلميذين على قلمين من أقلام الكتابة العربية، يدعي كلاهما أن أحد القلمين قلمه، ويرد الآخر إلى صاحبه.

أكان النزاع على القلم المطلوب من أجل قيمته الغالية؟ ...

كلا ... فإن قيمة القلمين معا لم تكن تزيد على ثلاثة مليمات أو أربعة؛ لأنهما من أقلام البوص التي كانت توجد يومئذ في جميع الأسواق.

فلم يكن النزاع بين الزميلين لغلو الثمن، وإنما كان لنفاسة أخرى غير نفاسة المال، وهي أن القلم الذي تنازعا عليه كان من الأقلام التي براها الأستاذ وقطها بيديه، فهو صالح لتجويد الخط، وضمان بعض الدرجات في الامتحان!

كان ذلك يوم كان القلم ثمرة من ثمرات الطبيعة، وكان لكل قلم شخصية ممتازة بما يكتبه من نوع الخط، ثلثا كان، أو نسخا، أو رقعة، أو حرفا من الحروف الديوانية أو الفارسية ... ويوم كانت لكل قلم شخصية ممتازة يستمدها ممن براه، وقطه، وهيأه للكتابة، وقلما يحسن ذلك غير أستاذ خبير بالأقلام، وبما تخطه الأقلام.

كان ذلك على التقريب شأن كل قلم في المدرسة، وفي غير المدرسة، فكان قلم البوص هو القلم المعتمد بين التلاميذ، وبين الموظفين، وبين الكتبة في كل مكان.

أما اليوم فلا «شخصية» للأقلام؛ لأنها جميعا من صنع «الفابريكة» التي تخرج مصنوعاتها بالألوف، وعشرات الألوف!

إنها «نمر» مرصوصة في صناديق، وكل قلم فيها ككل قلم بلا اختلاف في غير علامة «الفابريكة» أو قدم القلم وجدته ... وفيما عدا ذلك فالأقلام جميعا سواء! •••

وكنت في المدرسة من المعدودين بين المتقدمين في الخط، فلم تكن درجتي فيه تقل عن الدرجة العليا بأكثر من درجتين أو ثلاث.

ولكنني لم أكن من المتقدمين في صناعة البري، والقط، وتنويعها على حسب الحروف والخطوط ... وكنت أعول في هذه الصناعة على الأستاذ، وأحتفظ بأقلامه طوال العام، فلما تركت المدرسة لبثت برهة أنتفع بأقلامي المدرسية، ثم عدلت عنها مضطرا إلى الريشة المعدنية، ولم أزل أكتب بها في الدواوين، حتى اشتغلت بالصحافة، ووجدت الكلفة في الاستملاء، وحمل الدواة إلى كل جهة أذهب إليها، وأحتاج إلى الكتابة فيها ...

ولم يكن من اليسير أن أحصل على قلم «مداد» أو قلم «أمريكاني» كما كان يسمى في تلك الأيام، فلجأت إلى استخدام القلم الرصاص.

وأتعبني القلم الرصاص؛ لأنه ينقصف، ويؤلم الأصابع بضغطه، ويترك فيها مثل علامة السجدة في جباه المصلين، ولكنها علامة لا تنفع أصحابها كما تنفع علامة السجدة من ينتفعون بها في سوق الرياء!

فما هو إلا أن تيسر لي ثمن القلم المداد، أو القلم «الأمريكاني»، حتى استبدلته بأقلام الرصاص، وما زلت أكتب به إلى اليوم.

واتفق أنني عملت في عدة صحف صباحية على التوالي، فظهر لي أن المداد الأحمر «أريح» للنظر في ضياء الليل، فهو المداد الذي استعملته إلى عهد قريب ...

هل احتفظت بقلم من أقلامي هذه أو غيرها لمناسبة خاصة تهمني ذكراها؟ ...

نعم ... احتفظت بأقلام ثلاثة، كان لاحتفاظي بكل منها سبب وتاريخ، وكان كل منها باينا لصاحبيه في سببه وتاريخه ...

قلم منها احتفظت به لأنه كان هدية من إنسان أعزه، وكان قد كتب به قصيدة من شعري في وصف ليلة على النيل، ثم أهدى إلي القلم، والصحيفة المكتوبة بخطه.

وقلم ثان كتبت به الفصول الأولى من كتابي عن «ابن الرومي»، ثم أدركني وأدركه شؤم الرجل، وسوء طالعه، فدخلت السجن، ودخله معي حيث قضى فيه تسعة أشهر، ولكن في مخزن الأمانات!

وقلم آخر أخرجته لخصم من خصومي السياسيين، وأقسمت له لتسقطن الوزارة النسيمية قبل أن ينبري هذا القلم ... وقد كان من أجود الأقلام المعروفة «بالكوبية» أهديت بصندوق من نوعه، فجعلت أرواح في الكتابة العجلى بينه وبين القلم المداد.

أين هذه الأقلام الآن؟ هل هي محفوظة كما احتفظت بها في أوانها؟

كلا ... مع الأسف، فليس عندي منها اليوم قلم واحد؛ لأنها ضاعت بسبب وتاريخ، كما كان لها في الاحتفاظ بها سبب وتاريخ.

القلم الذي أهداه إلي إنسان عزيز عاد بعد فترة من الوقت، فأصبح في حياتي غصة لا تطاق.

فحملته ذات ليلة، وحملت معه الصحيفة التي كتبها بيد ذلك الإنسان العزيز، ووهبته للنيل في الموضع الذي وصفته بذلك القصيد!

والقلم الذي صاحبني في السجن، أفرجت عنه، وأصررت على أن أتم به الكتاب الذي شرع معي في تأليفه.

ثم أدركه نحس «ابن الرومي» مرة أخرى، فامتدت إليه يد سارق لا بد أنه حبس بعد ذلك ...! إذا جرى «ابن الرومي» على عاداته، سامحه الله!

فإنني على ما أظن قد عثرت بالقلم عينه، وإن خطر لي في ذلك الحين - ولا يزال يخطر لي الساعة - أنه شبيه به مشابهة الزميلين في صنعة واحدة ...

ولقد رثيت القلم المسروق بقصيدة أقول في مطلعها:

زاملني في السجن ذاك القلم

وناله ما نالني من قسم

ومنها أقول:

أما وقد فارقتنا يا قلم

وصالح اليأس عليك الألم

فخير ما أرجوه ألا ترى

في كف خوان ولا متهم

ولا تخط الجهل في صفحة

أبيض ما فيها سواد الحمم

ولا تكن يا قلمي آلة

تشتمني باللغو فيمن شتم

بدأت في الأوج فلا تنحدر

إلى حضيض الذل في المختتم

ثم عثرت بقلم «مرجوع» من لونه، ونقشته، وعلامته، فاشتريته وقلت فيه:

شبيه القلم المفقو

د في لون وفي حجم

وفي البائع والشا

ري وفي الصنعة والرسم

ستغنيني إذا استغني

ت بعد الروح بالجسم

أو استغنى بتمثال

فؤاد الأب والأم

ولكنني أعطيته لمن طلبه في الإسكندرية، وذهب به إلى الشاطئ فضاع! ...

أما القلم الذي راهنت به على الوزارة النسيمية، فقد احتفظت به زمنا بعد سقوط تلك الوزارة، ثم التبس علي بفضلات من أقلام أخرى تشبهه، فلم أشأ أن أحتفظ بنسخ متعددة لا أدري أيها الجدير بالاحتفاظ، وتركته مع شبيهاته لما يصيبه من صروف الأقدار.

وقيل لي كثيرا: «احتفظ بهذا القلم أو ذاك؛ لأنك كتبت به هذا الكتاب أو ذاك ...» فلم أجد معنى للاحتفاظ بقلم تغني عنه في عملي، وفي نظري أقلام. (2) لماذا هويت القراءة

أول ما يخطر على البال حين يوجه هذا السؤال إلى أحد مشتغل بالكتابة أنه سيقول: إنني أهوى القراءة لأنني أهوى الكتابة!

ولكن الواقع أن الذي يقرأ ليكتب وكفى هو «موصل رسائل» ليس إلا ... أو هو كاتب «بالتبعية» وليس كاتبا بالأصالة. فلو لم يسبقه كتاب آخرون لما كان كاتبا على الإطلاق، ولو لم يكن أحد قبله قد قال شيئا لما كان عنده شيء يقوله للقراء.

وأنا أعلم فيما أعهده من تجاربي أنني قد أقرأ كتبا كثيرة لا أقصد الكتابة في موضوعاتها على الإطلاق، وأذكر من ذلك أن أديبا زارني، فوجد على مكتبي بعض المجلدات في غرائز الحشرات، فقال مستغربا: وما لك أنت والحشرات؟! ... إنك تكتب في الأدب وما إليه، فأية علاقة للحشرات بالشعر والنقد والاجتماع؟!

ولو شئت لأطلت في جوابه ... ولكنني أردت أن أقتضب الكلام بفكاهة تبدو كأنها جواب وليس فيها جواب ...

فقلت: نسيت أنني أكتب أيضا في السياسة!

قال: نعم نسيت والحق معك! ... فما يستغني عن العلم بطبائع الحشرات رجل يكتب عن السياسة والسياسيين في هذه الأيام!

والحقيقة - كما قلت مرارا - أن الأحياء الدنيا هي «مسودات» الخلق التي تتراءى فيها نيات الخالق كما تتراءى في النسخة المنقحة، وقد تظهر من «المسودة» أكثر مما تظهر بعد التنقيح. فإذا اطلع القارئ على كتاب في الحشرات، فليس من اللازم اللازب أن يطلع عليه ليكتب في موضوعه، ولكنه يطلع عليه لينفذ إلى بواطن الطبائع وأصولها الأولى، ويعرف من ثم كيف نشأ هذا الإحساس أو ذاك الإحساس، فيقترب بذلك من صدق الحس وصدق التعبير، ولو في غير هذا الموضوع.

كذلك لا أحب أن أجيب عن السؤال كما أجاب قارئ التاريخ في البيت المشهور:

ومن وعى التاريخ في صدره

أضاف أعمارا إلى عمره

فليست إضافة أعمار إلى العمر بالشيء المهم إلا على اعتبار واحد، وهو أن يكون العمر المضاف مقدارا من الحياة لا مقدارا من السنين، أو مقدارا من مادة الحس والفكر والخيال، لا مقدارا من أخبار الوقائع وعدد السنين التي وقعت فيها؛ فإن ساعة من الحس والفكر والخيال تساوي مائة سنة أو مئات من السنين، ليس فيها إلا أنها شريط تسجيل لطائفة من الأخبار، وطائفة من الأرقام.

كلا ... لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرا في تقدير الحساب ...

وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة.

والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد؛ لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب ...

فكرتك أنت فكرة واحدة ...

شعورك أنت شعور واحد ...

خيالك أنت خيال فرد إذا قصرته عليك ...

ولكنك إذا لاقيت بفكرتك فكرة أخرى، أو لاقيت بشعورك شعورا آخر، أو لاقيت بخيالك خيال غيرك ... فليس قصارى الأمر أن الفكرة تصبح فكرتين أو أن الشعور يصبح شعورين، أو أن الخيال يصبح خيالين ...

كلا ... وإنما تصبح الفكرة بهذا التلاقي مئات من الفكر في القوة والعمق والامتداد.

والمثل على ذلك، محسوس في عالم الحس والمشاهدة، ومحسوس في عالم العطف والشعور.

ففي عالم المشاهدة يجلس المرء بين مرآتين فلا يرى إنسانا واحدا أو إنسانين اثنين، ولكنه يرى عشرات متلاحقين في نظره إلى غاية ما يبلغه النظر في كل اتجاه.

وفي عالم العطف والشعور نبحث عن أقوى عاطفة تحتويها نفس الإنسان فإذا هي عاطفة الحب المتبادل بين قلبين ... لماذا؟ لأنهما لا يحسان بالشيء الواحد كما يحس به سائر الناس ...

لا يحسان به شيئا ولا شيئين، وإنما يحسان به أضعافا مضاعفة، لا تزال تتجاوب وتنمو مع التجاوب إلى غاية ما تتسع له نفوس الأحياء.

هكذا يصنع التقاء مرآتين، وهكذا يصنع التقاء قلبين ... فكيف بالتقاء العشرات من المرائي النفسية في نطاق واحد؟

وكيف بالتقاء العشرات من الضمائر والأفكار؟

إن الفكرة الواحدة جدول منفصل.

أما الأفكار المتلاقية فهي المحيط الذي تتجمع فيه الجداول جميعا، والفرق بينها وبين الفكرة المنفصلة كالفرق بين الأفق الواسع والتيار الجارف، وبين الشط الضيق والموج المحصور.

وقد تختلف الموضوعات ظاهرا أو على حسب العناوين المصطلح عليها، ولكنك إذا رددتها إلى هذا الأصل كان أبعد الموضوعات كأقرب الموضوعات من وراء العناوين.

أين غرائز الحشرات مثلا من فلسفة الأديان؟

وأين فلسفة الأديان من قصيدة غزل وقصيدة هجاء؟

وأين هذه القصيدة أو تلك من تاريخ نهضة أو ثورة؟

وأين ترجمة فرد من تاريخ أمة؟

ظاهر الأمر أنها موضوعات تفترق فيما بينها افتراق الشرق من الغرب والشمال من الجنوب، وحقيقة الأمر أنها كلها مادة حياة، وكلها جداول تنبثق من ينبوع واحد وتعود إليه.

غرائز الحشرات بحث في أوائل الحياة.

وفلسفة الأديان بحث في الحياة الخالدة الأبدية.

وقصيدة الغزل أو قصيدة الهجاء قبسان من حياة إنسان في حالي الحب والنقمة.

ونهضة الأمم أو ثورتها هما جيشان الحياة في نفوس الملايين، وسيرة الفرد العظيم معرض لحياة إنسان ممتاز بين سائر الناس.

وكلها أمواج تتلاقى في بحر واحد، وتخرج بنا من الجداول إلى المحيط الكبير.

ولم أكن أعرف حين هويت القراءة أنني أبحث عن هذا كله، أو أن هذه الهواية تصدر من هذه الرغبة.

ولكنني هويتها ونظرت في موضوعات ما أقرأ فلم أجد بينها من صلة غير هذه الصلة الجامعة، وهي التي تتقارب بها القراءة عن فراشة، والقراءة عن المعري وشكسبير.

لا أحب الكتب لأنني زاهد في الحياة.

ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني ... ومهما يأكل الإنسان فإنه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة، ومهما يلبس فإنه لن يلبس على غير جسد واحد، ومهما يتنقل في البلاد فإنه لن يستطيع أن يحل في مكانين، ولكنه بزاد الفكر والشعور والخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمر واحد، ويستطيع أن يضاعف فكره وشعوره وخياله كما يتضاعف الشعور بالحب المتبادل، وتتضاعف الصورة بين مرآتين. (3) الكتب المفضلة عندي

هذا موضوع جليل، ولكن هل تعرف أنني أفضل قراءة كتب فلسفة الدين، وكتب التاريخ الطبيعي، وتراجم العظماء، وكتب الشعر؟

إنني أقرأ هذه الكتب وأعتقد أن العلاقة بينها متينة، وإن كانت تفترق في الظاهر؛ لأنها ترجع إلى توسيع أفق الحياة أمام الإنسان ... فكتب فلسفة الدين تبين إلى أي حد تمتد الحياة قبل الولادة وبعد الموت. وكتب التاريخ الطبيعي تبحث في أشكال الحياة المختلفة وأنواعها المتعددة، وتراجم العظماء معرض لأصناف عالية من الحياة القوية البارزة، والشعر هو ترجمان العواطف، فإنني أفضل من الكتب كل ما له مساس بسر الحياة. •••

وتسألني ما هو سر الحياة، فأقول على الإجمال إنني أعتقد أن الحياة أعم من الكون، وأن ما يرى جامدا من هذه الأكوان أو مجردا من الحياة إن هو في نظري إلا أداة لإظهار الحياة في لون من الألوان أو قوة من القوى ... والحياة شيء دائم أبدي أزلي، لا بداية له ولا نهاية ...

فإذا كنت تستطيع أن تعرف سر الله عرفت سر الحياة، ولكننا مطالبون بأن نحفظ لأنفسنا في هذا المحيط الذي لا نهاية له أوسع دائرة يمتد إليها شعورنا وإدراكنا. والكتب هي وسائل الوصول إلى هذه الغاية، وهي النوافذ التي تطل على حقائق الحياة، ولا تغني النوافذ عن النظر.

ومن جهة أخرى فإن الكتب طعام الفكر، وتوجد أطعمة لكل فكر كما توجد أطعمة لكل بنية، ومن مزايا البنية القوية أنها تستخرج الغذاء لنفسها من كل طعام، وكذلك الإدراك القوي يستطيع أن يجد غذاء فكريا في كل موضوع. وعندي أن التحديد في اختيار الكتب إنما هو كالتحديد في اختيار الطعام، وكلاهما لا يكون إلا لطفل في هذا الباب أو مريض، فاقرأ ما شئت تستفد إذا كان لك فكر قادر أو معدة عقلية تستطيع أن تهضم ما يلقى فيها من الموضوعات، وإلا فاجعل القابلية حكما لك فيما تختار؛ لأن الجسم في الغالب يغذيه ما نشتهيه.

ولا تغني الكتب عن تجارب الحياة، ولا تغني التجارب عن الكتب؛ لأننا نحتاج إلى قسط من التجربة لكي نفهم حق الفهم، أما أن التجارب لا تغني عن الكتب؛ فذلك لأن الكتب هي تجارب آلاف من السنين في مختلف الأمم والعصور، ولا يمكن أن تبلغ تجربة الفرد الواحد أكثر من عشرات السنين. •••

ولا أظن أن هناك كتبا مكررة لأخرى؛ لأني أعتقد أن الفكرة الواحدة إذا تناولها ألف كاتب أصبحت ألف فكرة، ولم تعد فكرة واحدة؛ ولهذا أتعمد أن أقرأ في الموضوع الواحد أقوال كتاب عديدين، وأشعر أن هذا أمتع وأنفع من قراءة الموضوعات المتعددة. فمثلا: أقرأ في حياة نابليون أكثر من أقوال ثلاثين كاتبا، وأنا واثق من أن كل نابليون من هؤلاء هو غير نابليون الذي وصف في كتب الآخرين.

أما تأثير كل من أنواع الكتب الثلاثة: العلمية، والأدبية، والفلسفية فهو أن الكتب العلمية تعلمنا الضبط والدقة، وتفيدنا المعارف المحدودة التي يشترك فيها جميع الناس، والكتب الأدبية توسع دائرة العطف والشعور، وتكشف لنا عن الحياة والجمال، والكتب الفلسفية تنبه البصيرة وملكة الاستقصاء، وتتعدى بالقارئ من المعلوم إلى المجهول، وتنتقل به من الفروع إلى الأصول.

وكل من هذه الأنواع لازم لتثقيف الإنسان، وتعريفه جوانب هذا العالم الذي يعيش فيه. وأنا أفضلها على هذا الترتيب: الأدبية، فالفلسفية، فالعلمية.

ولا يستطيع القارئ أن يحصر مقدار الفائدة التي يجنيها من كتاب، فرب كتاب يجتهد في قراءته كل الاجتهاد، ثم لا يخرج منها بطائل، ورب كتاب يتصفحه تصفحا، ثم يترك في نفسه أثرا عميقا يظهر في كل رأي من آرائه، وكل اتجاه من اتجاهات ذهنه، فأنت لا تعرف حق المعرفة «الطريقة» التي تضمن الفائدة التامة من قراءة الكتب، ولكن لعل أفضل ما يشار به - على الإجمال - هو ألا تكره نفسك على القراءة، وأن تدع الكتاب في اللحظة التي تشعر فيها بالفتور والاستثقال. •••

أما مقياس الكتاب المفيد فإنك تتبينه من كل ما يزيد معرفتك وقوتك على الإدراك والعمل، وتذوق الحياة، فإذا وجدت ذلك في كتاب ما، كان جديرا بالعناية والتقدير، فإننا لا نعرف إلا لنعمل أو لنشعر، أما المعرفة التي لا عمل وراءها ولا شعور فيها فخير منها عدمها، وعلى هذا المقياس تستطيع أن تفرق بين ما يصلح للثقافة والتهذيب، وما لا يصلح. (4) منهجي في كتابة المقالات

أكتب أكثر المقالات الصحفية للمجلات الأدبية باقتراح من الزملاء المشرفين على تحريرها، وأرحب بهذه الطريقة كل الترحيب؛ لأنني عرفت بالتجربة الطويلة أن محرر المجلة أولى باقتراح موضوعاتها، وأقدر على اختيارها، واجتناب التكرار فيها؛ إذ هو أعرف بمنهج صحيفته وأذواق قرائه، وبرنامج الأعداد التي تصدر منها مبوبة، أو مرتبة على حسب مواعيدها ... فهو يعفي الكاتب من مؤنة البحث عن موضوع يوافق هذه المطالب ويجهله - أكثر الأحيان - أو لا يعلم بتفصيلاته علم صاحب الدار.

فاقتراح موضوع المقال من قبل المجلة ييسر لمحررها أن يلاحظ مطالبها، ويعفي الكاتب من البحث عنها، وليس فيها مشقة على الكاتب في استجابة الاقتراح كائنا ما كان؛ لأنني - من وجهة نظري - لا أرى عنوانا من العناوين غير صالح للكتابة فيه، ولو على سبيل الاستطراد، وإبداء وجهة النظر في قلة صلاحه أو قلة جدوى الكتابة فيه، إن رأى الكاتب أنها لا تجدي في حالة من الحالات، أو في جميع الحالات. •••

أما المقالات الصحفية التي كتبتها في صحف يومية توليت تحريرها فقد كانت الصعوبة الكبرى في تقديم موضوع منها على موضوع، أو في تأجيل بعضها إلى ما بعد يومه ومناسبته؛ لأننا تولينا العمل الصحفي في إبان الحركة الوطنية قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، فلم يخل يوم من أيام كتابتنا الصحفية من خبر خارجي أو داخلي، يستدعي المبادرة بالتعقيب عليه، ولم تزل أعمال الإصلاح التي يشتغل بها ولاة الأمور، ويدعو إليها المصلحون الوطنيون سيلا متدفقا بالآراء والنصائح والمشروعات والبرامج على اختلاف المذاهب والنيات، بين أنصار الدعوة من جانب، ومعارضيها من جانب واحد، أو جوانب شتى، وكثيرا ما كانت الصحف اليومية تصدر في وقت واحد من النهار، وفيها ما يستلزم الرد عليه قبل فوات يومه، وقد يصدر بعض الصحف صباحا، ويتبعه الرد على ما فيه من طبعات المساء ... فقد كانت الصعوبة - كما تقدم - أن نؤجل موضوعا منها، أو نجمع ما بينها في وقت واحد، وقد يكون الجمع بين الموضوعين أيسر الأمرين، فينشر أحدهما بتوقيع صريح وينشر الآخر بتوقيع مستعار أو مختصر معروف. وربما لجأنا أحيانا إلى الاقتراع بين أسماء الموضوعات إذا تعذر نشر المقالين معا لسبب من الأسباب الفنية. •••

ولم تكن المقالات الأدبية أقل في موضوعاتها، وازدحام مناسباتها من مقالات السياسة في الصحافة اليومية وملاحقها الأسبوعية، فقد كان الأسبوع لا ينقضي على غير كتاب ينقد، أو قصيد يتبع بالتعليق عليه، أو خبر عن أديب مشهور في الثقافة الغربية يستحق الكتابة عن سيرته أو ذكراه، أو مناقشة مذهبه ومذهب مدرسته في مسائل الفن والفكر وما إليها، وقد يتسع المجال كل وقت لكتابة المقالات المتتابعة عن موضوع من موضوعات الأدب التي تتجدد مناسباتها ولا تحتاج إلى مناسبة خاصة لإعادة البحث فيها، ومن هذا القبيل مقالات الشعر والقصص والمبادئ الفكرية، وهي حاضرة في أذهان قرائها وعلى أقلام كتابها لا يستغرب ابتداؤها والعودة إليها في سن من السنين ولا في موعد من مواعيد الصحف والمجلات ما لم يكن هناك موضوع يشغل الأذهان لمناسبة عاجلة تميزه بالتقديم، فهو في هذه الحالة يختار نفسه للكتابة فيه، ولا يلقي على الكاتب مؤنة الاختيار. •••

هذا هو الغالب في أسباب اختياري لموضوعات المقالات والفصول، ولكن اختيار موضوعات الكتب يجري على غير هذه الطريقة في أهم موضوعات التأليف عندي، وهو موضوع التراجم والسير التاريخية أو الأدبية.

فالقاعدة في اختيار ترجمة ما للكتابة فيها أن تكون كتابتها لازمة لإبراز حق ضائع أو حقيقة مجهولة، وتستوي في ذلك سير العظماء والنوابغ من كل طراز، وفي كل طبقة من طبقات العظمة والنبوغ.

فالحافز الأكبر على تأليف كتابي عن «ابن الرومي» أنه مجهول القدر، مبخوس الحق، يصطلح على بخسه، والنزول به عن قدره جهل النقاد، وظلم الأغراض والأهواء، ورأيي فيه أنه أعظم شعراء العالم بلا استثناء في ملكة الوصف التصويري، والعاطفة الممثلة في قالب الحس والخيال، ولكن نقادنا يذكرونه، ويحسبون أنهم يتعطفون عليه إذا ألحقوه بشاعر كالبحتري أو ابن المعتز على غير مساواة، وهما بالقياس إليه كمن ينطق بحروف الهجاء في مجالس البلغاء. •••

ولقد كان إنصافه - مما أصابته به خرافة الجهل وخرافة الشؤم - حافزا يوشك أن يكون من حوافز الغيرة الدينية إلى جانب لذته الأدبية، وفضلت البدء به على البدء بتأليف غيره في موضوع النقد وتواريخ الآداب.

ولا يقال عن عظمة النبي - عليه الصلاة والسلام - إنه بحاجة إلى إنصاف أحد، أو دفاع في وجه ناقد ناقم يفتري عليه؛ لأنها عظمة القداسة التي تعلو على إنصاف المنصفين وافتراء المفترين. ولكنني كتبت «عبقرية محمد» للقارئ «الإنسان» الذي تضطره مقاييس الإنسانية العليا إلى تعظيم نبي الإسلام ولو لم يكن على دين المسلمين، وتوخيت في بيان خلائقه وأعماله أن تسقط عذر الخلاف في الدين لمن يحجم عن تقدير تلك العظمة جهلا منه بدين الإسلام أو بتاريخ النبوة الإسلامية، ولم أشأ أن أجعل الاعتراف بها موقوفا على صفة يدين بها المسلم لأنه مسلم، ويرفضها المخالف لأنه يرفضها بحكم العقيدة الدينية.

وممن أختارهم للترجمة عظماء الفرصة الذين بلغوا بالحيلة ما يلم يبلغوه بالقدرة الخالصة، وتوسلوا إلى منافعهم في أزمنتهم بتلك الوسائل التي نسميها اليوم بالوسائل «المكيافيلية»

1 ... فإن الغرض الأول من الترجمة التاريخية أن يعرف الناس الفارق بين حق الفرصة في زمن من الأزمان وحق القدرة في كل زمن، ومع اختلاف الفرص وعوارض الظروف، فلا ينبغي أن يأخذ عظيم الفرصة من التاريخ فوق ما أخذه من منافع عصره، وبخاصة حين يكون حكم التاريخ الكاذب جورا على خصومه، وتغطية لنقائض عصره. ولست أجد في نفسي باعثا قويا للكتابة عن العظماء الذين اتفقت لهم الفرصة والعظمة معا فاستحقوا المجد الذي نالوه، ولكن بشيء من المبالغة العاطفية أو مبالغة الظروف ومناسبات الحوادث؛ ولهذا أفضل الكتابة عن عبقرية خالد على الكتابة عن عبقرية صلاح الدين؛ لأن إنصاف صلاح الدين لا يحتاج إلى مزيد. •••

ومن حظوظ التآليف التي لها حكم كحكم الحظ في كل شيء، أنني أؤجل أحب الموضوعات عندي وقتا بعد وقت على أمل في اقتراب الوقت الموافق لتأليفها، فلا يقترب كما أريد مع توالي الأعمال، واعتراض المطالب العاجلة التي لا تحتمل التأجيل، وأحب الموضوعات عندي تلقى مني هذا التأجيل بعد التأجيل؛ لأن توفية الكلام فيها تستغرق الوقت الطويل، وتستلزم الإحاطة بجميع الأطراف، ولا يتم إجمال القول فيها - فضلا عن التفصيل - فيما دون المئات من الصفحات. وقد تأخرت من أجل هذا كتابتي عن أبي حامد الغزالي، وهو أحب المفكرين الإسلاميين إلي، وأقدرهم تفكيرا على الإطلاق، ولم يتيسر لي أن أكتب عن خليفته الأستاذ الشيخ «محمد عبده» إلا بعد أن أجمعت على اطراح التردد في أمره، وأقنعت نفسي بثلاثمائة صفحة تكتب في ترجمته، حيث كانت ألف صفحة دون الكفاية عندي لمثل هذا الموضوع.

إن الاقتراح يعمل في تأليف الكتب أحيانا عمل الاقتراح في تأليف المقالة الصحفية، وقد ألفت كتبي عن «سن ياتسن» و«شكسبير»، و«برنارد رشو»، و«فرنكلن»، و«عقائد المفكرين» وغيرها؛ تلبية للمقترحات التي وافقت رغبتي كما وافقت زمانها في إبانها، ولكنها كلها - من التراجم وغير التراجم ومن الموضوعات التي أختارها أو أوافق على اختيارها - لا تخرج عن مقصد واحد لا هوادة فيه، ولا يتجرد منه موضوع كتاب أو مقال: وهو إحياء الثقة بالروح الإلهي الخالد من لوثة المادة، ومهانة الإنكار العقيم، أو مهانة كل اعتقاد وخيم يغلب فيه عامل السلب والنفي على عامل الثبوت والإيجاب.

طريقتي في الكتابة

أما طريقتي في الكتابة، فإني أبدأ المقال وفي ذهني جميع أصوله، و«نقطه» مرتبة على الجملة حسب التسلسل المنطقي، ولكني إذا مضيت في الكتابة عرضت لي حاشية من هنا، أو لمحة من هناك، تطرأ في عرض الكلام، ولا تغير شيئا من جوهر المقال إلا أن تزيده جلاء في بعض الأحيان، أو تضيف إليه عنصر الفكاهة والتبسيط.

وأكتب في كل مكان خلا من الضوضاء، أما إذا لم تقيدني الضرورة بمكان معين فأكثر ما أكتب وأنا مضطجع على الفراش، وثلاثة أرباع مقالاتي السياسية كتبت كذلك، هذا في النثر، أما الشعر فيغلب أن أنظمه وأنا أتمشى أو أسير في الخلاء. •••

ويهمني كثيرا أن أعود إلى كلامي قبل الطبع لأصححه وأراه في صورته الأخيرة، إلا أن يعوقني عن ذلك عائق ... ومتى نظرت فيه قبل تسليمه إلى المطبعة فقد أحذف وأزيد عليه، ويندر جدا أن يمس الحذف أو الزيادة جوهر الموضوع ...

وإذا شطبت على الكلمة أثناء الكتابة عنيت بأن أطمسها طمسا تاما كأنني لا أريد أن تتراءى لنظري بعد ذلك، ويكثر الشطب إذا كنت مشغول الذهن منحرف المزاج، ويقل إذا أقبلت على العمل بنفس راضية وجسم مستريح، أما زمان الكتابة فشرطي الوحيد فيه ألا يكون بعد تناول الطعام.

وخطتي في المناقشة أن أعمد إلى أقوى الحجج بداءة فأجتهد في تقويضها، ثم أقفوها بأضعف الحجج، وقد أعود إلى ما فيه مساك من القوة، وربما كانت في هذه الخطة مفاجأة للقارئ، ولكنها مفاجأة لا تخلو - كما شاهدت بالتجربة - من تأثيرها المحمود. •••

وأفضل الكتابة منفردا لا يحيط بي أحد، ولم أكتب قط في الأدب خاصة ومعي آخر في الحجرة، إلا أن أملي عليه ما أقول، وهو جد نادر.

ولم أتعود أن أستعين بشيء من المنبهات التي يألفها بعض الكتاب أثناء العمل كالتدخين وشرب القهوة وما إليها، حتى أيام كنت أدخن ... بل لقد كنت يومئذ أترك التدخين حين أشرع في الكتابة. (5) منهجي في تأليف الكتب

منهجي في التأليف يلخص في كلمتين، هما: التقسيم، والتنظيم، وهما - كما سيرى - تختلفان بعض الاختلاف عن منهج التبويب والترتيب.

فعملي الأول عند تأليف الكتاب أن أتبين في ذاكرتي أقسامه الواسعة التي تحيط بأجزائه المتفرقة، فإذا فرغت من الإحاطة بها كتبت عنوان كل قسم على غلاف متوسط الحجم يتسع لعدة أغلفة أصغر منه إذا وضعت فيه ...

ثم أراجع في ذهني مصادر الأخبار والآراء والحوادث التي تتصل بهذه الأقسام ... وهي الكتب التي اطلعت عليها في المبحث المطلوب من جميع نواحيه، وقد أضيف إليها كتبا أخرى لم أطلع عليها، ولكنها مشتركة في مدار البحث أو معدودة من موسوعاته عند النظر في الاستقصاء، والمقابلة بين الوجهات والآراء ... •••

أذكر كيف ألفت - على سبيل المثال - كتابي في البحث عن العقيدة الإلهية، وهو الكتاب الذي أطلقت عليه اسم «الله»، ولاحظ بعض النقاد بعد صدوره أن الأحرى به من ناحية البحث العلمي أن يسمى «الإله»؛ لأن اسم «الله» عنوان لعقيدة خاصة في «الإلهية» لا يدين بها جميع المؤمنين بالربوبية، وكان موضع الخطأ في هذا النقد أن مدار البحث هو «الله» الذي انتهى إليه الإيمان ب «الإله» وهما بحثان مختلفان؛ لأن الوصول إلى فكرة «الإله» قد تم قبل ظهور العقيدة في «الله» بدهر طويل ...

ولا بد من تحقيق اسم الكتاب قبل الشروع في حصر أقسامه، فلو كان موضوع الكتاب «الإله» كما اقترح أولئك النقاد لاكتفينا في تقسيمه بدرجات التقدم مع العقيدة إلى أن ظهرت في التاريخ فكرة الربوبية على إطلاقها؛ لأن «الرب» يطلق على كل «إله» بغير تعريف، خلافا لاسم «الله»، فإنه هو «الإله» كما انتهت إليه غاية البحث في عقيدة الوحدانية. •••

أما والعقيدة المطلوبة هي العقيدة في «الله»، فالأقسام التي تناولها البحث هنا غير الأقسام التي يستوفيها البحث بمجرد الوصول إلى الاعتقاد بأي إله، وأي رب معبود ...

وقد كان من أهم هذه الأقسام: قسم عن نشأة العقيدة الدينية من مبدئها، وقسم عن الاعتقاد بالأرباب على إطلاقها، وقسم عن العقيدة الإلهية في أمم التاريخ الكبرى، وقسم عن العقيدة الإلهية في الديانات الكتابية، وقسم عن الإله في مذاهب الفلسفة قبل الديانات المشهورة، وقسم عن مذاهب الفلسفة بعدها وعن مذاهب الفلسفة بعد شيوع العلوم العصرية التي أطلق عليها اسم العلوم التجريبية، ثم ختام لهذه الأقسام لجمع أطرافها والتعقيب عليها. •••

وكان ابتداء التأليف في هذا الكتاب صيفا بمدينة الإسكندرية، فنقلت إليها مكتبة صغيرة مما قرأته قبل ذلك، وطلبت من مكتبة المعارف - وهي ناشرة الكتاب - أن تستحضر أكثر من مائة مرجع من المؤلفات الأوروبية، فلم يتيسر في ذلك الحين استيرادها ولم نجد في فرع الإسكندرية غير نصفها وبعض الكتب المطلوبة باللغة الإنجليزية منقولة إلى اللغة الفرنسية، وبدأنا المراجعة تصفحا واستعراضا لا نتوسع فيه إلا بمقدار ما يكفي للاستذكار، والتعليق، والعلم بما يلزم في كل قسم من الأقسام، وكادت أن تنقضي إجازة الصيف في هذا الاستذكار والتعليق.

فالعمل الأول على حسب هذا المنهج هو الإحاطة بأقسام الكتاب، وتخصيص غلاف مستقل لكل قسم منها، ويليه جميع المصادر اللازمة للرجوع إليها عند كتابة كل قسم من هذه الأقسام.

ويأتي بعد ذلك عمل التصفح والمراجعة، والغرض منه حصر المسائل المتفرقة، وتوزيعها على أقسامها. •••

فإذا مرت بي مسألة من تلك المسائل في المرجع الذي أتصفحه أثبت رقم الصفحة التي وردت فيها، وعرفتها بعنوانها المختصر، وألحقت بها إشارة تتضمن تعقيبي عليها بالموافقة أو الشك أو تعليق الرأي إلى موعده، ولم تزد هذه الإشارات على علامة كعلامة «صح» في الكراسات المدرسية، أو علامة كعلامة الاستفهام أو التعجب أو التضمين، أفهم المقصود بها ساعة النظر إليها، وتغنيني عن كتابة التعليق بالكلمات.

وتكتب كل إشارة من هذه الإشارات على قصاصة صغيرة، ثم توضع في الغلاف الخاص بها حسب أقسام الكتاب، وإلى نهاية التصفح والمراجعة في المصادر المجموعة بين يدي، فلا يبتدئ التأليف قبل الفراغ من حصر هذه المسائل المتفرقة في موضعها، وتيسير الرجوع إليها ساعة الحاجة ...

ثم تأتي بعد ما تقدم مرحلة تالية، وهي مرحلة التصفية والتنظيم.

وفي هذه المرحلة يعاد النظر إلى قصاصات كل غلاف على حدة؛ لإبقاء ما يظهر من مجموعة المسائل أنه جوهري ضروري لا غنى عنه لاستيفاء مقاصد الكتاب، وتنحية ما يظهر على نقيض ذلك أنه زيادة يستغنى عنها، وتكرار يدخل في خلال المقاصد الأخرى، ويلحق بها على هذا الاعتبار، ولا يندر في هذه الحالة تغيير عناوين الأقسام وتفريع المسائل إلى أبواب في القسم الواحد، كل باب منها منفرد بجانب من جوانب البحث يستقل بعنوانه وحدوده.

وقد يرى هنا موضع الاختلاف اليسير بين منهج التقسيم والتنظيم، ومنهج التبويب والترتيب ... فإن التبويب على منهجنا هذا ينطوي في التقسيم ولا يسبقه، بل لا يتأتى التفريع قبل الفراغ من تقرير الأصول.

أما الترتيب فليس من أسرار الصناعة أن أقول إنني لست ألتزمه في جميع الأحوال، فموضوع البراهين القرآنية في الكتاب الذي نحن بصدده كان أول فصل كتب فيه، وموضوع الفلسفة اليونانية جاء - على ما أذكر - بعده في ترتيب الكتابة ... ولست أغفل الترتيب لغير سبب يستدعيه تنظيم أوقات العمل. ولكنني أنظر إلى الوقت الميسور لكتابة الفصل، وإلى الأيام التي أفرغ فيها للتأليف بين الأعمال الأخرى، فإذا كان أمامي ثلاثة أيام تركت الفصل الذي يحتاج إلى خمسة أيام أو عشرة أيام متوالية، وفضلت الابتداء بالفصل الذي يكفيه الوقت الميسور بغير انقطاع أو تأجيل. •••

وقد كان صديقنا المازني يقول: إن أسلوبه الاستطرادي لا يمكنه من بناء الدور الثالث في المنزل قبل الدور الثاني على حسب تعبيره ... ولكنني أعتقد أن تشبيه المراحل هنا بمسافات الطريق أقرب إلى الواقع من تشبيهها بطبقات البناء؛ لأن فصول الكتاب لا تقوم على اختلافها في العلو والارتفاع كما تقوم على اختلافها في الابتداء والانتهاء على خطوط الطريق، ومتى عرفت مسافات السير من الميل الأول إلى الميل الألف فلا فرق بين الابتداء بالتمهيد من الميل الأول إلى العشرين والثلاثين وبين الابتداء به من الميل العشرين والثلاثين، إلى ما بعد ذلك من المراحل والمسافات.

وإنما المهم هو التحقق من حدود كل مسافة بالنسبة إلى سائر الحدود، وهذا هو العمل الواجب قبل الشروع في الكتابة من مبدئها، فلا بد من الاطلاع على عناصر الكتاب عنصرا عنصرا في كل مبحث قبل كتابة فصل من الفصول.

وليس لكتابة المقالات منهج يخالف هذا المنهج في تأليف الكتب سوى الخلاف الضروري بين الإطالة والإيجاز، وبين التشعب ووحدة الموضوع، فكل فكرة في المقالة حاضرة قبل أن تكتب كلمتها الأولى، ولكن أفكار المقال غير تعبيراته، بل غير صبغته الفنية في أكثر الأحيان؛ لأن إشباع المعنى ساعة الكتابة قد يوحي بألفاظ العبارة التي تليها، وقد يكون للعاطفة صلة بأسلوب التعبير عن المعنى، فيشتد شعوري بها على قدر إشباعها وقوة أدائها، وربما تحول القلم من أسلوب الانفعال إلى أسلوب السخرية والتهكم، أو من أسلوب النقد إلى أسلوب التنديد والتفنيد، إذا ارتفعت نغمة المعنى وارتفعت طبقته أثناء الأداء، كما يحدث في أداء أصوات الغناء حيث تظهر آثار الفوارق العاطفية بين نغمة ونغمة، وبين توقيع وتوقيع مع وحدة النوطة الموسيقية. ويحدث هذا في فصول الكتب، كما يحدث في المقالات المنفصلة، فربما كتبت الفصل وعيناي مغرورقتان كما حدث في كتاب «أبي الشهداء»، وربما كتبت المقال وفي نفسي مغالبة عنيفة للبكاء كما حدث في مقالات الرثاء للمازني، والنقراشي، وغاندي، وسعد زغلول.

ولم أعالج كتابة القصة في غير قصة واحدة مطولة هي قصة «سارة»، وقصص قلائل من الحكايات أو الأماثيل القصار.

ورأيي في منهج القصة أن إبلاغ مؤثراتها النفسية إلى وجدان القارئ هو كل ما يطلب من كاتبها بغير قيد مرسوم، ولا اتباع لمذهب مدرسة خاصة أو فنان معلوم.

وقد قيل غير مرة إن «سارة» لا تجري على منهج القصة المتبع، ولم يقل أصحاب هذا الرأي ما هو المنهج المتبع الذي يعنونه، وما هو القانون الفني الذي يفرض على كل كاتب، ولا يسمح له بالتصرف فيه ...

وكل ما هنالك أن الناقد يلقي بهذا الرأي، وهو يعرض في ذهنه أساليب قصص مختلفة ويريد مني أن أوافقها جميعا في أسلوب قصة واحدة، وينسى أنني لا بد أن أخالف أسلوب عشرات من القصص إذا وافقت واحدا منها، بل ينسى أنه لم يكلف نفسه تعريف موضوع القصة في «سارة» قبل مطالبة الكاتب بالمنهج الذي يمليه عليه.

فقصة «سارة» ليست قصة حياة همام بطل الرواية، ولا قصة حياة سارة بطلتها، ولا قصة حياة أحد من المذكورين أو المذكورات فيها، ولكنها قصة العلاقة في فترة محدودة من الزمن بين فتى وفتاة، فلا منهج لها غير المنهج الذي يصور البواعث الظاهرة والباطنة التي عملت في تعريضها للشك والاضطراب، ثم انتهت بها إلى ختامها، ولم تبتدئ الرواية إلا حيث ينبغي أن تبدأ؛ لأنها بدأت بموقف الفصل بين دواعي بطل الرواية وبطلتها إلى استئناف علاقتهما ودواعيهما إلى القطيعة والانفصال، ومن هنا ينبغي أن يبدأ تساؤل المطلع عن طبيعة تلك الصلة، وطبيعة الدواعي التي ألحت عليها بدواعي التردد إلى خاتمة التردد على غير يقين ... •••

ولست أدعو كل قلم إلى اتباع هذا المنهج في وصف هذه العلاقة، ولكنني أدعو من شاء أن يقترح لها منهجا آخر يوافق النقاد والشعراء على أنه أصلح من منهجها لإبلاغ مؤثراتها النفسية إلى وجدانهم، ولا أحسبهم موافقين ...

وبعد، فما هو المقياس الذي يقاس به هذا المنهج، وكل منهج سواه؟

إنه هو ذلك المقياس المتفق عليه في خطوط المواصلات جميعا: وهو وقت السفر ومحطة الوصول. (6) ما لم أكتب وما أريد أن أكتب

إذا سألني القارئ ما الذي تريد أن تكتبه؟ وما الذي لم تكتبه عمدا أو لضرورة من ضرورات الوقت والحالة؟ فالجواب عن هذه الأسئلة قد يعرفه القارئ الذي يلم بعناوين كتبي وموضوعاتها؛ لأنه يعرف منها ما يهمني وما أستطيع أن أكتب فيه، ويعرف من ثم كيف يتم ما بدأته من تلك الموضوعات، وما الذي يحتاج منها إلى إتمام.

فالغالب على القراءة والكتابة عندي أنهما تتصلان بمسائل شاملة، يجمعها برنامج واضح يحيط بتفصيلاتها، وكلها تدور على مسائل الوجود والعقيدة والعظمة الإنسانية والفنون، وأكثر ما كتبت فيه من هذه المسائل يشير إلى أن بقيتها «تحت التأليف».

كتبت عن وجود الخير الأكبر، وهو الله خالق كل شيء ...

وكتبت عن وجود الشر الأكبر، وهو إبليس أو الشيطان، رمز الفساد في كل شيء؛ لأن الكون هو الخلق الأعظم في مجموعته الواسعة الكاملة، ولأن الإنسان هو أشرف المخلوقات التي نعلمها، وأقربها إلى الوجود الإلهي، وقد يراه المتصوفة أكبر من الكون كله كما قال شاعرهم:

وتزعم أنك جرم صغ

ير وفيك انطوى العالم الأكبر

لأنهم يرون أن وجود الكون بما رحب إنما هو وجود مادي مجرد من الروح والحياة، وليس فيه من مظهر روحي حي أشرف من الإنسان.

في هذا الباب إذن أريد أن أؤلف كتابا عن الكون وكتابا عن الإنسان، أشرح فيهما ما أفهمه وما أحسه من معنى وجود المادة، ومعنى وجود الفكرة أو الضمير أو الروح.

وقد ألفت عن الأنبياء فكتبت «عبقرية محمد»، و«عبقرية المسيح»، و«أبي الأنبياء إبراهيم».

بقيت «عبقرية موسى» الكليم.

وبقيت معها «عبقرية بوذا»، و«عبقرية كنفشيوس».

ذلك أني تبينت من دراسة تاريخ النبوءات أن أنبياء الأديان الثلاثة الكبرى - وهي الموسوية والمسيحية والإسلام - قد ظهروا في الشرق الأوسط بين الأمم السامية، وتفسيري لذلك أن النبوة لم تكن لتظهر في بلاد الدول المتسلطة؛ لأنها تخضع في شرائعها وآدابها لقوانين السلطان، وعرف الكهان، ولم تكن لتظهر في الصحراء؛ لأنها تخضع لقوانين النار والعصبية، ولكنها تحتاج إلى بيئة تجمع بين أحوال الدولة وأحوال البادية، وهي مدينة القوافل.

إن مدينة القوافل تعرف المعاملات العامة والمصالح المختلفة والشرائع التي تقوم على حقوق المتعاملين غير مقيدين بسياسة السلطان ولا بعصبية القرابة، وفيها - أي في مدينة القافلة - تتعرض الأخلاق للفتنة والغواية لكثرة المتقلبين على المدينة من المترحلين المتنقلين، وكثرة طلاب الكسب والارتزاق حيث تروج التجارة وتروج دواعي اللهو والمتعة ...

ففي هذه البيئة تتهيأ الأحوال النفسية والاجتماعية لظهور هداة الأديان ودعاة الإصلاح والإنصاف من الرسل والأنبياء؛ ولهذا ظهر إبراهيم في مدن القوافل بين «أور» في الفرات وبعلبك في سورية وبيت المقدس في فلسطين، وظهر موسى في مدين وما حولها، وظهر المسيح في الجليل، ثم في بيت المقدس، وظهر نبي الإسلام في مكة بعد أن ظهر أنبياء العرب حيث تقوم العلاقات وسطا بين شريعة الدولة وشريعة البادية.

وموسى - عليه السلام - هو ثالث الرسل العظام في السلالة السامية، بعد أبي الأنبياء إبراهيم.

أما «بوذا» و«كنفشيوس» فهما نوع آخر من أنواع الرسالة يقترب تارة إلى الشك، وتارة إلى تعليم الأدب والسلوك، وتفصيل البحث فيهما بقية لازمة بعد جلاء آيات النبوة في إبراهيم وبنيه عليهم السلام. •••

وقد تضاف هنا إضافة مناسبة ولكنها لا تخطر على البال لأول وهلة ... قد يقال: إن هذا شأن النبوة فيما مضى، فكيف يكون الإصلاح الديني بيننا في العصر الحديث ولا موضع هنا للبعث ولا للرسالة؟!

أقول إنه - حيث لا ينتظر البعث أو الرسالة - تنتظر الهداية على سنة النبوة، ولن تكون الهداية فيما أعتقد إلا بفضل «الشخصية الإنسانية» في صورة من صور الإلهام والتأثير بالقدرة المهيمنة على العقول والضمائر ...

كذلك كانت هداية جمال الدين، وكذلك كانت من بعده هداية تلميذه محمد عبده، وأحب ما أتمناه من موضوعات التأليف أن ألحق بعبقريات الإسلام كتابا عن عبقرية جمال الدين، وكتابا جامعا يترجم لهما في نسق واحد، ويترجم معهما ببعض الإيجاز لمن عمل على نهجهما في ديار الإسلام.

وقد ألفت عن «ابن سينا» وعن «ابن رشد»، وهما أكبر فلاسفة اللغة العربية في المشرق والمغرب.

وبقي كتاب عن «الغزالي» الفيلسوف الذي يصارع الفلاسفة، والفقيه الذي يؤدب الفقهاء، والمتصوف الذي يكشف عن عالم الخفاء، كما يكشف عن عالم الشهادة.

وليس في المشرق والمغرب من هو أرجح فكرا وأصفى عقلا وأقوى «دماغا» من هذا الإمام الجليل، ولولا اتساع الأفق الذي تدفعنا إليه الكتابة عنه لبدأت بترجمته ونقده قبل «ابن سينا» و«ابن رشد»، وغيرهما من حكماء المشرق والمغرب، ولعله مانع وشيك أن يزول؛ لأنه مانع يقتضينا واجبين معا، إذا كان العمل السهل يقتضينا واجبا واحدا لا موانع فيه ...

ولقد كتبت عن شعراء كثيرين.

كتبت المؤلفات المستقلة عن «ابن الرومي»، و«أبي نواس»، و«عمر بن أبي ربيعة»، و«جميل بثينة»، والفصول المتفرقة عن «المتنبي»، و«أبي العلاء»، و«دعبل»، و«بشار»، و«ابن زيدون»، و«ابن حمديس»، وغيرهم من المشارقة والمغاربة، ولا يزال في المجال متسع للمطولات عن أدب «أبي الطيب»، وأدب «أبي العلاء» على التخصيص.

وأريد أن أكتب ما يغني عن تفصيل الكتابة في الشاعرين الحكيمين، وفيمن عداهما من شعراء الأدب الغنائي، أو شعراء الرونق والجمال، وأحسب أنني أستغني عن ذلك اضطرارا، بكتاب يتناول موازين النقد في الشعر وفلسفة الجمال كما نطبقها على الفنون في صورتها التي تمتزج بالفكرة والعبارة النفسية على الإجمال، وشواهد هذا البحث من كلام الشعراء والبلغاء دليل يرجع إليه من شاء فيما تقوله فلسفة الجمال عن شعرائنا الحكماء وغير الحكماء.

وقادة الفكر بين أمم الحضارة - قديمها وحديثها - كتبت عن بعض منهم ولم أكتب عن بعض، وليس في الوسع ولا في النية أن أستقصيهم بقضهم وقضيضهم، فليكن خلاصة، أو عصارة لمذاهبهم وآراء المفكرين فيهم، وبها تتأدى حصتي الصغيرة من أمانة تحملها الأرض والجبال، والإنسان! ثم ماذا بعد هذا؟

سيرة «سعد زغلول» ظهرت في زمن لا تظهر فيه حقائق الحكم والمحكومين، فمن الخير أن تعاد، وأن يزاد عليها ما لم يكن يزاد في عهد أحمد فؤاد ...

وإلى هنا أراني ذكرت حقا ما لم أكتب، وذكرت طرفا أو أطرافا مما أريد أن أكتب، ولكن «ما أريد» يصدق عليه قول القائل: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.»

وسأريد ما يكون، وقد يكون ما لم أذكره وما لم أرده، وعلمه عند الله.

الفصل الرابع

(1) عرفت نفسي

وهل يعرف الإنسان نفسه؟

كلا، بغير تردد، فلو أنه عرف نفسه لعرف كل شيء في الأرض والسماء وفي الجهر والخفاء، ولم يكتب ذلك لأحد من أبناء الفناء ...

إنما يعرف الإنسان نفسه بمعنى واحد، وهو أن يعرف حدود نفسه حيث تلتقي بما حولها من الأحياء أو من الأشياء. والفرق عظيم بين معرفة النفس ومعرفة حدودها؛ لأننا نستطيع أن نعرف حدود كل مكان، ولكن لا يلزم من ذلك أن نعرف خباياه، وخصائص أرضه وهوائه، وتاريخ ماضيه، ولو قسنا كل شبر في حدوده.

والأحرى أن يقال: إن الإنسان يعرف الفواصل بينه وبين غيره، فيعرف مداها ولا يتعداه ...

وقد عرفت أنني أثق بنفسي وأعتمد عليها، ولكني أعتقد أنني وثقت بها من طريق النفي قبل وثوقي بها من طريق الثبوت، فقد كنت في بادئ الأمر أحسب أنني أنا المخطئ وحدي، وأن جميع الناس على صواب ...!

هناك اختلاف لا شك فيه فمن المخطئ ومن المصيب؟ أنا المخطئ إذن لا جدال ...

كنت في طفولتي أحب مراقبة الطير والحيوان، وكان فضاء بلدي - أسوان - يمتلئ في أوائل الشتاء وأوائل الصيف بأسراب الطير المهاجرة إلى إفريقية الوسطى أو القافلة من الهجرة، فاتفق أنني تتبعت سربا منها وهو يحط على الأرض ويرتفع عنها، حتى ضللت الطريق في الصحراء وعدت إلى المنزل بعد هبوط الظلام.

فلما سئلت وأجبت كان جوابي أضحوكة الكبار والصغار، وشاع بين أندادي في المدرسة، فتندروا به وأكثروا من السخرية به، والتعقيب اللاذع عليه؟

هم إذن على صواب ... وإلا فلماذا ضللت الطريق وحدي وراء ذلك السرب، ولم يحفل به غيري من كبير أو صغير!

وأقيم لقريب لي عرس في دار ريفية ذات فناء رحيب من تلك الأفنية التي تكثر في قرى الصعيد الأعلى، فاجتمع أهل القرية حول المشاعل الموقدة يصفقون ويهللون، وانحرفت وحدي إلى الفناء المعزول، فإذا الظلام الحالك قد أطلع في السماء كل كوكب يسري على ذلك المدار، فجلست على الرمل أتملى هذا المنظر الساحر، فريع أهلي إذ تفقدوني ولم يجدوني، وكنت في نحو التاسعة من عمري، فما أشعر إلا والمشاعل كلها قد تحولت إلى مكاني من الفناء، وأصوات الدهشة تنبعث من جميع الأفواه، حتى سئلت فأجبت، فانتقلت الدهشة منهم إلي، ودهشت أنا؛ لأنهم راحوا يقهقهون ولم أدر لماذا يقهقهون، ولولا أن اليقظة كانت ملء عيني لقالوا طفل حالم، أو طفل مخبول ...

إذن نحن لا نتفاهم، وخير لي أن أنطوي على جد نفسي وهزلها لأسلم من الضحك والسخرية إلى أن يغيرني الله، فأهتدي كما اهتدى سائر خلق الله ...

وإني لعلى هذا التوجس من البوح بما في نفسي، وعلى هذا الشك الشديد في جدها وهزلها، إذا بي أقرأ ما كتب عن بعض الشعراء ومحبي الطبيعة وهم يعتزلون العالم ليمتعوا النظر بصورة من تلك الصور السماوية، وإذا بي أقع على جزء قديم من «مجلة المقتطف» صدر في سنة 1899م، وفيه مقال عن الطائر الطنان ويليه مقال عن مناقير الطيور، وأقرأ في كليهما أن مراقبة الطير شغل شاغل لبعض العلماء والرحالين، وأن حركة الطائر وهو يتقدم ويتأخر أو يأكل ويشرب، أو يغني ويلعب، مسألة ذات خطر وليس سخرية لمن سخر ...

أكذاك هو؟

إذن يبسط أبو حنيفة رجله، ولا مبالاة ...!

وكان أبو حنيفة كما قيل يبسط رجله في حلقة الدروس؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يثنيها من مرض أو من إعياء ... فأقبل على درسه ذات يوم شيخ غزير اللحية، وقور المشية، هابه أبو حنيفة فثنى رجله على ألم، ثم أخذ في درسه عن موعد صلاة الصبح، فإذا بالشيخ يسأل: «وما العمل إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟» قال أبو حنيفة: «العمل أن أبا حنيفة يبسط رجله ويحمد الله!»

وقد بسطت رجلي وحمدت الله من ذلك الحين، وعلمت أن خطأ الكثيرين جائز، وأن سخريتهم لا تضير، فلم أحفل بتلك السخرية، ولعلي بالغت في قلة الاحتفال بها «وأخذت راحتي» جدا في بسط رجلي حيث أشاء.

لقد علمتني تجارب الحياة أن الناس تغيظهم المزايا التي ننفرد بها، ولا تغيظهم النقائص التي تعيبنا، وأنهم يكرهون منك ما يصغرهم لا ما يصغرك، وقد يرضيهم النقص الذي فيك؛ لأنه يكبرهم في رأي أنفسهم، ولكنهم يسخطون على مزاياك؛ لأنها تصغرهم أو تغطي على مزاياهم ... فبعض الذم على هذا خير من بعض الثناء، لا بل الذم من هذا القبيل أخلص من كل ثناء؛ لأن الثناء قد يخالطه الرياء. أما هذا الذم فهو ثناء يقتحم الرياء.

وود أبو حنيفة لو يصل رجله برجل أخرى ليبسطها كل البسط في وجه كل مذمة من هذا الطراز.

وعرفت أن الذين أسخطهم لا يرضيهم عني شيء، وأن الذين أرضيهم لا يسخطهم علي شيء، فلا فائدة إذن من اتقاء السخط ولا من اجتلاب الرضى؛ لأن الذين يسخطون علي يرجعون إلى خلائقهم التي لا تتغير، والذين يرضون عني يعرفونني من عملي الذي يرتضونه، ولا يريدون مني شيئا سواه.

وأعجب ما عرفته من أمر نفسي أنني أسيء الظن بالناس؛ لأنني أحسن الظن بهم ...

فأول ما يخطر لي على بال أن أتهم من يقترف عملا من الأعمال المنكرة بسوء النية وتعمد الإساءة؛ لأنني لا أحسب أن إنسانا عاقلا يقع في خطأ جسيم عفوا أو جهلا بالفرق بين الحسن والقبيح ...

فإذا ظلمته فقد يشفع لي أنني أظلمه في سبيل الإنصاف ...! •••

وعرفت أنني من أعجز الناس عن رفع حاجز واحد يقام بيني وبين إنسان، ولا سيما حاجز الكلفة والإعراض، فإذا تلقاني إنسان بمثل هذا الحاجز فلا اقتراب بيني وبينه أبد الدهر، وليس أشق على نفسي من تلك الزلفى التي يزدلف بها بعضهم لكسب صداقة أو تمكين علاقة ... فإن زال الحاجز وحده فهنالك يمتزج العقل بالعقل، والنفس بالنفس - طواعية وعفوا - كأننا في عشرة حميمة منذ سنتين .

وعرفت أنني أكره الهزيمة في كل مجال، ولكن يشهد الله إنني أعاف النصر إذا رأيت أمامي ذل المنهزم وانكسار المستسلم، ولولا أن هزيمتي أبغض إلي من هزيمة خصمي لأبغضت النصر الذي يفضي لا محالة إلى انهزام واستسلام ...

وأعرف أن العادة قوية السلطان على سليقتي وخلقي، ولا تعصمني منها إلا الثورة النفسية، وأشدها ما كان ثورة للكرامة أو الحقيقة كما أومن بها ... فكل بناء تبنيه السعادة ينهار فيما بين ليل ونهار إذا ثارت النفس لحقيقة محجوبة، أو كرامة مغلوبة، وقلما تكون للإرادة يد في الحالتين.

وأعرف أنني أعامل الناس والأشياء كأنهم معان مجردة في الضمير، لا كأنهم شخوص ومحسوسات ... فعشرة ملايين جنيه - مثلا - معناها عندي المتعة أو الترف أو السطوة أو الجاه. وطلبي لها يتوقف على حاجتي إلى تلك المعاني لا على حسابها بلغة الأرقام والمصارف والقصور والضياع ...

وأكره الظلم حين أكره الظالم، والشر حين أكره الشرير، والخبث حين أكره الخبيث ...

ولهذا يفوتني أحيانا أن أفرق بين كراهة المبدأ وصاحب المبدأ، ولا يسيغ طبعي ما يقال عن التفرقة بين العمل وعامله؛ لأن العمل لا يكون خبيثا وعامله من الأطهار!

وعرفت كثيرا من أمثال هذه الحدود، ولكنني لم أعرف كثيرا ولا قليلا مما تحيط به تلك الحدود ... فعرفت أن الفيلسوف سقراط كان يستعير لغة الكهانة حقا حين قال: «اعرف نفسك!»

لأنه كان كمن يطالبنا بمعرفة الغيب أو معرفة المجهول، وكلاهما من صناعة الكهان! (2) عرفت طريقي للنجاح

يعرف المعنيون بطبائع الطيور المهاجرة أنها قد تضل عمدا - أو على غير عمد - عن طريقها، فتضل عنه مرة أو مرتين أو ثلاث مرات على الأكثر، ويبدو عليها في المرة الأولى تردد طويل قبل الاستقامة على نهجها، ثم يقل هذا التردد في المرة الثانية، ثم يزول أو يكاد في المرة الثالثة، ولا يلبث الطير المهاجر أن يتجه إلى وجهته، ويستقيم عليها إلى أقصاها.

يصدق هذا على النفس البشرية، وهي تلتمس طريقها السوي في أوائل حياتها كما يصدق على الطيور المهاجرة، فتضل الطريق مرة أو مرات، ثم لا يلبث أن تعتدل على نهج تتحراه إلى أقصاه.

وهذا الذي حدث لي في أوائل صباي بين المناهج المختلفة التي اعتقدت أنني مهيأ للمسير عليها بالفطرة وهداية الظروف ... •••

خطر لي في مبدأ الأمر أنني مهيأ لحياة الجندية وأنني أبلغ أمنيتي من الحياة إذا بلغت مرتبة القيادة في جيش مصر، وطردت جيش الاحتلال، وبين زملائي في الدراسة من يذكر هذه الأمنية أو هذه الطليعة، ومنهم الأستاذ سيد جودت المهندس الكبير، واللواء محمود عسكر الذي اتجه دوني إلى الحياة العسكرية، وترقى فيها إلى غاية الدرجات التي يرتقي إليها الضابط المصري قبل سن الإحالة إلى المعاش.

ثم خطر لي أنني خلقت لدراسة علوم الزراعة والحيوان، فاقترحت على والدي أن أتمم الدراسة في كلية الزراعة العليا بدلا من التوظف بدواوين الحكومة.

ثم علمت يقينا أنني خلقت للأدب ولم أخلق لغيره، وأن التفاتي إلى الجندية والزراعة إنما كان التفاتا للأدب من طريق آخر: طريق الإنشاد الحماسي قبل المبارزة، وطريق الشغف بالأزهار وعامة الأحياء. •••

وكانت أسوان ميدانا لمختلف الجنود المصريين والسودانيين والإنجليز أيام حرب الدراويش، وكنا في المدرسة نؤلف الجيوش، ونتقاتل في الوقت المخصص للرياضة، وكنا نبدأ القتال بإنشاد الشعر الحماسي على سنة الفرسان الأقدمين كما قرأنا عنهم في كتب الملاحم والغزوات.

وشاقني أن أنظم الشعر لأنشده في هذه المواقف، فكان هذا في الواقع موطن هواي للجندية التي اعتقدت أنني خلقت لها، وللتقدم في صفوفها إلى مرتبة القيادة.

أما دراسة الزراعة فالذي حولني إليها شغفي بأزهار الحديقة المدرسية، وسائر الحدائق المحيطة بالمدينة الخالدة: مدينة أسوان.

وقد حولني إليها كذلك أن أسوان كانت معبر الطيور المهاجرة في أوائل الشتاء وأوائل الصيف، فلم تزل تلفتني هذه الظاهرة وتلفتني الظواهر الأخرى من قبيلها في طبائع الحيوان، حتى ظننت أنني خلقت للزراعة، ثم علمت الحقيقة من هداية وجداني، فأيقنت أن الولع بالشجر والطير إنما هو ولع بالوصف والتعاطف مع الحياة في شتى ظواهرها، فهو تمهيد للأدب وللهيام بالطبيعة كما يهيم بها الشعراء. •••

ولي أن أقول من باب المجاز القريب إلى الحقيقة إن حياتي الأدبية لم تخل من نضال الجندية، ولا من الغرس وتعهد الغراس الفكري من الجذور إلى الثمرات ...

فإذا سئلت: هل نجحت؟ وجب أن أبين في البداءة ماذا قصدت، ووجب أن يكون الجواب على وفاق المقصد المطلوب.

نجحت لأنني قصدت إلى العمل بالقلم، ووصلت في هذا العمل إلى نتيجة يحمدها الأديب العربي لنفسه، ويحمدها له قراؤه، ولا محل للدعوى والإنكار في هذا التقدير، فإنه مما يقدر بأرقام الحساب ولا يكتفى فيه بتقدير الآراء.

ولا أحسب أنني اعتمدت على المعجزات أو الغرائب في توفير أسباب هذا النجاح، ولكنني أحسب أنها أسباب طبيعية معروضة للعاملين في كل صناعة، يلتفتون إليها باستعدادهم لها، ويعينهم على الالتفات إليها نصح الناصح، وهداية الدليل. •••

أول هذه الأسباب الرغبة الصادقة في النجاح، فإنني لا إخال أحدا ينجح في عمل لا يرغب في نجاحه.

ويلي هذا السبب الأول أن يعنى العامل بعمله لذاته، لا للنتيجة التي يترقبها من ورائه، سواء كانت ربحا من المادة أو شهرة على الألسنة أو وجاهة في المجتمع أو التاريخ.

وأقرر هذه الفكرة تقريرا آخر حين أقول: إن الذي خلق للأدب لا يتحول عنه إلى منهج آخر من مناهج العمل؛ لأن هذا المنهج يعطيه الربح والشهرة والوجاهة حيث يفقدها أو يتعذر عليه بلوغها في منهج الأدب ... ولعلي لا أخطئ التشبيه إذا قلت: إن مثل الأديب في هذا كمثل الأب الذي يعرض عليه أن يختار ولدا غير ولده يطيعه، ويسره بالفلاح والتقدم حيث يخيب ولده ويعصيه، فإنه لن يقبل هذا العرض مع يقينه برجحان الولد الناجح المطيع من غير ذريته على ولده المخفق المصر على العصيان ...

وسبب لا يقل عن الرغبة الصادقة والعمل للعمل لا للنتيجة المترقبة منه هو الثقة بالنفس والاستخفاف بالعقبات، وبإنكار المنكرين عن جهل أو حسد، أو تباين في الرأي والخليقة. •••

ولو أنني سئلت أن أرتب أسباب النجاح بالنسبة إلي لبدأت بهذا السبب وأخرت بعده جميع الأسباب.

ولو أنني سئلت عن الفضل فيه هل هو للقدرة والتعليم والظروف أو هو للسليقة المطبوعة ، لقسمت هذا الفضل بينها قسمين متعادلين، وزدت قسم السليقة المطبوعة بعض الزيادة في معظم الأحوال.

وبحمد الله، أقول إنني نجحت فيما قصدت إليه، وأنتهي بذلك إلى عبرة هذا النجاح، فألخصه في عوامله الغالبة التي لا يخلو منها نجاح في صناعة من الصناعات، وتلك هي الاهتداء إلى استعداد الفطرة، ثم صدق الرغبة في تحقيق ذلك الاستعداد، وصرف الجهد إلى العمل دون النتيجة المرتقبة منه، وتعزيز الثقة بالنفس أمام الموانع والعقبات.

ومن الحق أن أتبع هذا بالتفرقة بين النجاح وبين تحقيق كل ما يراد، وكل ما يرجوه المرء من نفسه ويرجوه عنه الناس.

فما من أحد يحقق كل ما يريد وكل ما يراد منه، وإن كان أنجح الناجحين، وإنما يقاس النجاح بما أستطيع فعلا، وبما يستطاع حقا لو اتسع الوقت وأسعدت الظروف. (3) تعلمت من أوقات الفراغ

أوقات العمل تملكنا ...

ولكننا نحن الذين نملك أوقات الفراغ ونتصرف فيها كما نريد، فهي من أجل هذا ميزان قدرتنا على التصرف، وميزان معرفتنا بقيمة الوقت كله، وليست قيمة الوقت إلا قيمة الحياة ...

فالذي يعرف قيمة وقته يعرف قيمة حياته، ويستحق أن يحيا وأن يملك هذه الثروة التي لا تساويها ثروة الذهب؛ لأن مالك وقته يملك كل شيء، ويصبح في حياته سيد الأحرار.

إن أفرغ الناس هو الذي لا يستطيع أن يملأ ساعات فراغه، وعندنا في الشرق كثيرون، بل كثيرون جدا، من هؤلاء الفارغين.

على القهوات، وعلى أفاريز الطرقات، في الصباح وفي المساء، خلال أيام الصيف وخلال أيام الشتاء ...

في كل وقت وكل موسم وكل مكان ألوف من الشبان الأقوياء والرجال الناضجين يقضون ساعات الفراغ في لعب النرد والورق، أو في تعاطي الراح والدخان، أو في مراقبة الغادين والغاديات والرائحين والرائحات.

ليس هذا وقتا فارغا لأنهم مشغولون فيه، وليس هذا وقتا مملوءا لأنهم يملأونه بما هو أفرغ من الفراغ.

هذا ليس بوقت على الإطلاق ...

هذا عدم خارج من الزمان، خارج من الحياة!

وليس معنى «وقت الفراغ» أنه الوقت الذي نستغني عنه ونبدده ونرمي به مع الهباء، ولكن وقت الفراغ هو الذي بقي لنا لنملكه ونملك أنفسنا فيه، بعد أن قضينا وقت العمل مملوكين مسخرين لما نزاوله من شواغل العيش وتكاليف الضرورة.

قرأت مرة في تاريخ أمريكا الشمالية أن الإنجليز والفرنسيين تسابقوا على استعمار «كندا»، فنجح الإنجليز حيث أخفق الفرنسيون ... لماذا؟

زعموا في تعليل ذلك - وأصابوا - أن استعمار القفار من الأرض البور يحتاج إلى قضاء الأوقات الطوال في عزلة عن المدن الحافلة، وأن الإنجليز نجحوا في استعمار تلك الأرض؛ لأنهم يستطيعون أن يقضوا أوقات الفراغ منفردين منعزلين، وأن الفرنسي لا يطيق العزلة ولا يحتمل أن يفرغ لنفسه ولا يزال في شوق إلى المدينة لقضاء السهرات والأصائل بين الناس في الأندية والمجتمعات، فترك ميدان الخلاء لمن هم قادرون عليه ... •••

ويصدق علينا في الشرق ما يصدق على الفرنسيين، فإن الإنسان منا لا يستطيع أن يجد في نفسه ما يشغله ساعة فراغ، ولا يحس بفراغ من الوقت حتى يلوذ بالطرقات والقهوات.

ولا يهتدي بعد البحث الطويل في أعماق ضميره وأطواء دماغه إلى شيء يملأ به ذلك الفراغ.

إن كان قصارى ما أصاب الفرنسيين من هذه الخصلة أنهم أخفقوا في استعمار «كندا» ... فالأمر معنا أخطر وأعظم، فلعلنا لم نذهب فريسة الاستعمار إلا لأننا فارغون، وأننا لا نجد في نفوسنا ما ننطوي عليه!

قيل عن «أسبرطة» إنهم كانوا ينبذون الطفل الضعيف في العراء، وأنهم كانوا يمتحنون قوة الأطفال بوضعهم في إناء مملوء بالنبيذ، فمن بقي منهم مفيقا بعد هذه التجربة أبقوه واستحق عندهم التربية، ومن ظهر عليه التخدر والسبات أهملوه ونبذوه ...

ولو أنني أردت امتحان الأقوياء من الرجال لما تركتهم فترة في آنية النبيذ، بل تركتهم فترات في مكان مغلق يقضون فيه ساعات فراغهم، فمن صبر على هذه الساعات فهو رجل ملآن بقوة الفكر، وقوة الخلق، وقوة الاحتمال، ومن لم يصبر عليها فهو الفارغ الذي لا خير فيه. •••

ماذا نتعلم من ساعات الفراغ؟

نتعلم منها كل شيء، ولا نتعلم شيئا من الحوادث أو الكتب أو الأعمال إلا احتجنا بعده أن نتعلمه مرة أخرى في وقت فراغ ...

فالمعارف التي نجمعها من التجارب والكتب محصول نفيس، ولكنه محصول لا يفيدنا ما لم نغربله ونوزعه على مواضعه من خزائن العقل والضمير ...

ولن تتيسر لنا هذه الغربلة، وهذا التوزيع في غير أوقات الفراغ ...

إن معارف التجربة والاطلاع زرع في حقله ينتظر الحصاد والجمع والتخزين، ولا فائدة للحرث والسقي والرعاية ما لم تأت بعد ذلك ساعة التخزين ...

وهي ساعة الفراغ ...

ساعة هي ألزم لنا من ساعات العمل؛ لأن العمل كله موقوف عليها في النهاية، فلا ثمرة لأعمال الحياة بغير فراغ الحياة.

ولولا أننا نخشى أن يقدس الناس الفراغ لقلنا إن تاريخ الإنسانية من أوله إلى عهده الحاضر مدين لساعات الفراغ.

لقد عرف التاريخ الإنساني أقواما فارغين جنوا عليه بفراغهم أشنع الجنايات، ودفعوا به إلى الحرب تارة وإلى الفتنة تارة أخرى؛ لأنهم وجدوا أمامهم متسعا من الفراغ يعيشون فيه.

ولكننا - حتى مع هذا - لا نستغني عن ثمرات ذلك الفراغ جميعا دون أن نجازف بالجانب الصالح النافع من تاريخ الإنسان.

ماذا يبقى من تاريخ الإنسانية لولا الفارغون الذين اتسعت أوقاتهم للبذخ والترف بين الحلي والحلل في ظلال القصور؟

من كان يجوب الأرض ويمخر عباب البحر ليجلب الحرير والبهار، والحجر النفيس، والحجر الذي تبنى به الصروح؟

من كان يتعلم الملاحة؟ من كان يتعلم صناعة السفن؟ ومن كان يتعلم النسيج؟ من كان يستخرج اللآلئ، أو يبحث عن شذور الذهب والفضة؟ من كان يرسل القوافل، ويحذق فنون التجارة؟ من كان يرصد النجوم، ويدرس حركة الأفلاك في السماء؟

من كان يعرف هذه الأعمال التي يعيش عليها الملايين لولا ذلك الفراغ الذي تقدم به الزمن في تواريخ الأمم!

لقد كان فراغا ذميما في أكثر نواحيه، ولكنه على مذمته قد أفادنا درسا خالدا لا يصح أن ننساه. ذلك الدرس الخالد هو حاجة الناس جميعا إلى أوقات الفراغ، فهو شيء لا غنى عنه في حياة أمة، ولا في حياة أحد ...

وحبذا قضاء الفراغ كله فيما هو خير، ولكننا إذا خيرنا بين الفراغ بخيره وشره، وبين ضياع الفراغ كله لاخترنا أهون الشرين.

إن العقلاء من أصحاب الأعمال يطلبون اليوم متسعا من الفراغ لعمالهم بعد أن كان طلب الفراغ مقصورا على العمال.

فالعامل الذي يتسع وقته للرياضة ينشط لعمله بعد عودته إليه.

والعامل الذي ينفق بعض الوقت ينفق بعض المال؛ فتدور الحركة حركة البيع والشراء في الأسواق.

حسبة من حساب الحرص لا من حساب الإسراف، وحسبة يرضى عنها علم الاقتصاد ولا يغضب عليها علم الأخلاق.

والاقتصاد الأعظم بعد هذا وذاك هو الذي تعلمناه ونتعلمه من تاريخ الإنسانية من أوله إلى عهده الحاضر.

لا بد من فراغ!

ولا بد من فراغ نحفظه!

والفراغ الذي نحفظه هو الذي يحفظنا؛ لأننا نستخلص فيه خير ما ندخره من غربلة التجارب والمعارف والعظات. (4) أحرج ساعة في حياتي

إنها كانت ساعة من ساعات كارتر البوليس السري المشهور؛ ذلك أني كنت مدة الحرب العالمية الأولى «ناظر المدرسة الإسلامية بأسوان»، وكان عندنا إذ ذاك مدير متأله طالما كابد الأهالي من غطرسته شرا. وصادف أن وقعت حادثة إلقاء القنبلة على السلطان حسين كامل فنجا منها، واحتفلت البلاد بنجاته، وكان حقا علينا أن تحتفل مدرستنا بهذه المناسبة، فلما أعددت العدة لهذا الاحتفال دعوت سعادة المدير لحضوره، ولكنه لم يقبل، فاحتججت عليه في ذلك فكان جوابه أن طوق المدرسة بخيله ورجاله، فرفعت عنه تقريرا إلى السلطان حسين ... فلما وصل عظمته استدعى المدير إلى القاهرة وأطلعه على شكواي. ويظهر أنه أنبه تأنيبا شديدا؛ إذ ما عاد المدير حتى استدعاني ... فلما حضرت إلى مكتبه جلست على أحد المقاعد التي فيه، فما كان منه إلا أن انتفض قائلا: «قف أمامي يا أفندي» فلم أملك أمام تلك الفظاظة إلا أن أقول له: «ولأي شيء هذه الكراسي المرصوصة التي اشترتها الحكومة للجلوس في هذا المكتب؟» فبهت الرجل من هذه الإجابة ... ولكنني تركته وانصرفت، فتهيج الرجل، وأمر أعوانه باللحاق بي، فلما رجعت إليه جعل يهددني بالنفي إلى «مالطة» وأنا أعلم أن النفي إلى «مالطة» إذ ذاك معناه الإعدام؛ لأن صحتي كانت لا تسمح لي بتحمله، ولكني لم أعبأ بذلك وقلت له: «افعل ما تريد.» وانصرفت.

وكان مفتش الداخلية إذ ذاك في أسوان، وكنت في هذه المدة تحت المراقبة ... وكان يلازمني عسكري بوليس أينما ذهبت نهارا، فإذا جاء الليل وقف على باب داري خفيرا إلى الصباح، وهكذا دواليك ... فما إن وقعت تلك الحادثة بيني وبين المدير حتى أخذ يشدد علي المراقبة، وكتب خطابا إلى رئيس جمعية المدرسة بفصلي، ثم جعل يرسل التقارير ضدي إلى الداخلية، ويزعم أني أقوم بتهييج الأهالي. واستقر رأيه هو ومفتش الداخلية على نفيي إلى «مالطة»، ولكن قبل أن أنتظر موافقة الداخلية دبرت طريقة للخروج من أسوان. ففي ذات يوم، وضعت «عفشي» في قفة من قفف الطحين، وغطيته بطبقة من القمح، وأرسلت القفة إلى بيت أحد أقاربي بالبلدة، وهناك وضعوا «العفش» في «شنطة» وأخذها أحدهم إلى المحطة الثانية التي تلي أسوان، وفي اليوم الثاني كلفت صديقا لي بأن يقطع تذكرة من محطة أسوان إلى الأقصر.

بقي أمر خروجي أنا من المنزل مع هذه المراقبة الشديد التي تستمر صباحا ومساء ... فلم أجد وسيلة إلا تكليف أحد أقاربي بإحداث «شكلة» مع أحد المارة بقصد إبعاد الخفير عن البيت - وقد كان - وفي أثناء اشتغال الخفير بالمتنازعين خرجت ورفيق لي إلى ظاهر البلدة؛ حيث كنا أعددنا الحمير للركوب في المساء ... فما إن ركبنا حتى حثثنا السير إلى المحطة الثانية. فلما وصلنا إليها وجدنا حامل التذكرة المذكورة، فأخذتها منه واعتليت القطار. ولسوء الحظ وجدت في المركبة التي دخلتها معاون بوليس أسوان مسافرا لكتابة محضر حريق في «كوم أمبو» فأحرجت، وكانت تلك الساعة ما بين محطة أسوان، ومحطة كوم أمبو هي أحرج ساعة في حياتي، ولكنها مضت بخير، ووصلت إلى القاهرة بعد أن انتقلت إلى قطارين آخرين بقصد التمويه على إدارة أسوان؛ حتى لا ترسل من يلحق بي في الطريق، ولما حضرت إلى القاهرة أخذت أقابل ولاة الأمور في شأني. وبينما كنت أقابلهم للشكوى من المدير كان هو يكتب إليهم التقرير إثر التقرير، ويزعم أني أقوم في ذلك الوقت بتحريض الناس ، وتهييجهم في أسوان؛ مما أدى إلى افتضاح كذبه وإحالته إلى المعاش. (5) كنت شيخا في شبابي

كنت شيخا في الشباب، فلا عجب أن أكون شابا في الشيخوخة ... قياس منطقي غير صحيح كما يظهر لأول وهلة ...

فإذا كانت الشيخوخة قد بكرت إلى الفتى في إبان شبابه، فالمعقول أن يصبح شيخا قبل الأوان، وأن يأتي عليه السن، وليست فيه بقية من الشباب ...

هذا هو المعقول، ولكن لأول نظرة كما تقدم ...

أما بعد نظرة أو نظرات، فالمعقول غير هذا على التحقيق.

المعقول بعد النظرة والتجربة أن الشباب المرح المندفع في شرته وعنفوانه يبعثر قواه عاجلا، ويستنفد رأس ماله سريعا، فيخطو إلى الشيخوخة خطوات واسعات كأنه يسير إليها بكل قوة الصبا والفتوة!

إن الشباب الذي يحس الشيخوخة قبل أوانها يتأنى ويتئد، فلا يصل إلى شيخوخته في الأوان ...

وهذا هو المعقول في القياس.

وهذا هو المعقول؛ لأنه هو الواقع الذي أعلمه من نفسي كيفما كان حكم القياس ...

نعم ... لقد كنت شيخا في الشباب، وأصح من هذا أن أقول: بل كنت شيخا في الطفولة الأولى قبل أن أجاوز سبع سنوات.

ولا أطيل في وصف العوارض والبدوات التي تدل على أطوار الشيخوخة في تلك السن المبكرة، فإن طورا واحدا يغني عن عشرات الأطوار، وحسبي أن أذكر أنني لم ألبس قط بنطلونا قصيرا، وأصررت كل الإصرار على رفضه مع فرحي بالملابس الجديدة المجهزة لدخول المدرسة مع زملائي وأقربائي، وقد كنت من أصغر التلاميذ سنا في السنة الأولى الابتدائية، وكانوا جميعا بالبنطلونات القصيرة ما عداي، فقد أصبح إيجاد البنطلون الطويل لمن كان في مثل سني مشكلة تجارية في المدينة الصغيرة، لو لم يسعفني طول القامة الذي جعلني أطول من لداتي بنحو سنتين!

هذا المثل يغني عن أمثال ... •••

وأحسب أن هذا الشعور قد لازمني في كل مرحلة من مراحل حياتي، وأحسبني أشير إليه حين قلت أخاطب الشيب وأنا في السادسة والعشرين:

دون الثلاثين تعروني وما انصرمت

إلا كما تنقضي الأعوام في الحلم!

قل لابن تسعين لا تحزن فذا رجل

دون الثلاثين قد ساواك في الهرم

إذا ادكرت شبابا في النعيم مضى

لم يدكر من شباب كان أو نعم

وما انتفاعي وقد شاب الفؤاد سدى

إن لم تشب أبدا كفي ولا قدمي

وليس ما يخدع الفتيان يخدعني

كلا، ولا شيم الفتيان من شيمي

وهو الصحيح، فلم تكن شيم الفتيان قط من شيمي، وأعي بها اللهو والغي والتمادي في طلب المتعة والسرور، وهذا التحفظ الذي لم يفارقني فترة في حياتي هو «القصد» الطبيعي الذي حفظ لي ثروة الفتوة، فجاوزت الستين وأنا أعمل عملي في العشرين، وفي الثلاثين، وفي الأربعين، وقد أزيد عليه ...

وهذا هو المقياس الصحيح لدوام قوة الشباب، ولكنه مقياس واحد من عدة مقاييس، يكثر تردادها في مثل هذا المقام.

فعندهم مقياس الشعور، وأصحاب هذا المقياس يقولون ما معناه: عمرك شعورك أو أنك تبلغ العمر الذي تحس أنك بلغته، فأنت في الثلاثين إن شعرت شعور ابن الثلاثين، وأنت في الستين إن شعرت شعور ابن الستين، وإن كانت تذكرة ميلادك تقول إنك لم تبلغ نصفها من السنين ...

وعندهم مقياس القلب والهوى، وأصحاب هذا المقياس يقولون إنك شاب إذا كانت الفتاة تسعدك وتشقيك، وكهل إذا كانت تسعدك ولا تشقيك، وشيخ إذا كانت لا تسعدك ولا تشقيك.

أي إنك شاب ما دمت تنخدع بالهوى، وما دمت تطلبه، فإن أصبحت لا تنخدع به ولا تطلبه، فقد جاوزت الشباب، وجاوزت الكهولة بعد الشباب.

وشاعرنا العربي على هذا المذهب حين قال:

يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا

وقد يكون شباب غير فتيان

وعندهم مقياس الهمة والطموح، وأصحاب هذا المقياس يحسبون المرء شابا ما دام له مطمع في المجد والعظمة، فإن ونى وقنع فهو هرم الهمة وإن كان فتى الأيام ...

وعندهم من يقول إن الخمسين شباب الشيخوخة وشيخوخة الشباب ...

ولكنها كلها مقاييس عامة لجميع الناس، وإنما المقياس الخاص ما يقيسك بنوع عملك، أو شغل نفسك الذي لازمك في كل الأعمار، فإذا استطعت في الستين عملا كنت تقدر عليه وعمرك عشرون أو ثلاثون سنة، فأنت في شيخوخة يمازجها الشباب، ومهما يقل أصحاب مقياس الشعور، أو أصحاب مقياس القلب والهوى، أو أصحاب مقياس الهمة والطموح، أو أصحاب مقياس الخمسين ...

والمقياس الواحد الذي أقيس به جهدي في جميع أدوار حياتي هو النهم إلى المعرفة، فإنني لا أذكر سنا لم أكن فيها أحب أن أعرف، وأن أقرأ وأن أختبر، وأن أفيد من كل ذلك توسعة في آفاق الشعور.

صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم تخيلني في بعض كتبه قد دخلت الجنة، وذهبت أطوف في أرجائها عسى أن أرى وجهة مكتبة أقف أمامها، وأتأمل عناوين الكتب فيها، فلما طال بي المطاف، ولم أجد مكتبة ولا كتبا ضجرت منها، وطفقت أقول: «ما هذا؟! ... جنة بغير كتب؟!»

وصديقنا الحكيم لم يبالغ في تخيله؛ لأنني فعلا لا أستطيع أن أعيش في جنة لا أطلع فيها ... نعم لا أطلع فيها، وليس من الضروري أن أقرأ في كتاب ...

وأود أن ألفت القارئ إلى هذا الفارق المهم جدا في نظري بين القراءة والاطلاع ...

فقد يقرأ الإنسان ولا يطلع، وقد يطلع ولا يقرأ، فالقراءة هي إحدى وسائل الاطلاع، وليست هي وسيلته الوحيدة.

ولماذا لا نطلع في الجنة؟

يجب أن نطلع في الجنة قبل غيرها؛ لأن المكان الذي تسكنه وتحب أن تسكنه هو أحق الأمكنة أن تطلع عليه وتعرف كل ما قيل فيه، وكل ما خطر بالبال عنه، وكل ما خامر به النفوس - غير نفسك - من خوالج الغبطة، والشوق، والرغبة، والاستطلاع.

يجب أن نطلع في الجنة؛ لأن الساعة الحاضرة فيها لا تكفينا، ومن حقها علينا أن نعرفها ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وأن نحيط فيها بشعورنا وشعور الآخرين الذين اختبروها غير خبرتنا، وشهدوا منها غير ما شهدناه ...

فإن لم تكن لنا وسيلة إلى ذلك غير الكتاب فليكن الكتاب في الجنة، ولا يعقل أن تنقص الجنة حيث تكمل المدن العامرة في هذه الدنيا.

ويقول قائل: أقراءة في الجنة؟! إذن أنت سوسة كتب يا صاح!

كلا أيها القائل، وهذه غلطتك الكبرى، فإن سوسة الكتب هو الذي يعيش في الكتب كما يعيش السوس، وأما الذي يقرأ الكتاب ليوسع حياته في العالم، فالكتاب عنده طريق إلى عالمه، أو هو نظارة يكبر بها نظره ليضاعف رؤيته، فهو من صميم الحياة، وليس بالصومعة التي تعزل ساكنها عن الحياة ...

وأيا كان الرأي في طلب المعرفة فالواقع أنها هي المقياس الذي أعرف به ما بقي لي من الشباب؛ لأنها هي العمل الواحد الذي حصل بالأمس، ويحصل اليوم، وسيحصل غدا إلى أن يشاء الله. •••

وأحمد الله، لم يتغير من ذلك شيء إلا قوة النظر على طول القراءة، فليس في طاقتي اليوم أن أثابر على القراءة أكثر من ساعة واحدة، ثم أستريح هنيهة قبل أن أعاودها، وقد كانت تطول في إبان الشباب بضع ساعات متواصلات.

وأحمد الله مرة أخرى؛ لأنه نقص يقابله عوض حسن، فالساعة اليوم أبرك من ساعات، مع المرانة على التحصيل، وعلى الكتابة والتسجيل.

ولا أراني صنعت معجزة إذا احتفظت بهذا القسط من الشباب؛ لأنه حظ يصيبه من شاء، وأخال طريقتي في إصابته من أيسر الطرق للجميع ...

فلي وقت للعمل، ولي وقت للرياضة، ولي يوم كل أسبوع أكف فيه عن كل عمل، وكل قراءة حتى مطالعة الصحف وفض رسائل البريد، ولي مواعيد للطعام والنوم لا تختل في يوم، ولي قاعدة عامة تشمل العمل والرياضة، والطعام، والجد واللهو، والبطالة، وهي التوسط بين الإفراط والتفريط ...

وقبل ذلك كله كانت لي شيخوخة في مقتبل الشباب.

ولم يخل شبابي من الشيخوخة، فمن الحق ألا تخلو شيخوختي من الشباب.

الفصل الخامس

(1) أصدقائي وأعدائي

لي بحمد الله أصدقاء ...

ولي كذلك أعداء بحمد الله ...

وأحمد الله على الأصدقاء حمد الغبطة والرضا والمسرة ...

وأحمد الله على الأعداء حمد الإنعام بالبلوى، و...

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت

ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

كما قال أبو تمام ...

ومن الأعداء من تود لو تشتريه بمالك وسعيك، إذا أنت افتقدته فلم تجد من حولك ...

ومن حقك أن تشتري بالمال والسعي عدوا يزينك بمخالفته إياك، فإنه لا يزينك بهذه المخالفة إلا إذا كان على خلق يعيبه، ولا يشرف من يوافقه عليه ...

ومن حقك أن تشتري العدو الذي لا يعاديك إلا حسدا على النعمة، فليس أسوأ حالا من إنسان على حالة لا يحسد عليها، وليس من الخير اتقاء حسده بخسارة نعمتك ...

ومن حقك أن تحرص على الأعداء الذين يقولون بعداوتهم لك إنك تضر وتنفع، فمن لا يضر ولا ينفع موجود لا يحس له وجود، ولا ضير عليك أن يخال بعض الناس أنك تضره أكبر الضرر أو أصغره، فإن من الناس لمن يكون ضرره عقوبة على الشر، وإن منهم لمن يجهل ضرره ونفعه، وإن منهم لمن يبتليه الله بالضرر لصلاح أمره، ومن يكون ضرره في نفسه كضرر عداوته لغيره.

فعلى عداوة هؤلاء جميعا نحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، ولكنه مكروه يستزاد.

وعلى صداقة من يبقى لنا بعد عداوتهم فلنحمد الله، حمدا لله، ثم حمدا لله ...

وحمدا لله مرة بعد مرة؛ لأنني لا أصادق أحدا، ولا أعاديه في مأرب من مآرب النفس، ولا في صغيرة من صغائر الضعف الذي يبتلى به كل إنسان، فما عرفت صديقا، فعرفت لصداقتي له سببا غير فكرة نشترك فيها أو مطلب من مطالب الأدب نتفق عليه، أو غاية من الغايات العامة نسلك السبيل إليها، أو طرفة من طرف الراحة الروحية تعم كل من يستريح إليها، ولا تخصني أو تخصه بداع من دواعي الأثرة والمحاباة.

وكذلك أعدائي الكثير منهم والقليل ...

أعاديهم، وأصح من ذلك أنهم هم يعادونني؛ لأننا نتعادى على عقيدة أو خطة أو برنامج أو مصلحة من مصالح الناس، ونحن من أولئك الناس.

وفي ذلك ألقى العجاب من عداوة النقيضين، وضغينة العدوين المتعارضين.

لقد حاربت الطغيان وحاربت الفوضى ...

لقد حاربت رءوس الأموال وحاربت مذاهب الهدم والبغضاء ...

لقد حاربت التبشير وحاربت التقليد الأعمى والدجل المريب باسم الدين ...

لقد حاربت الجمود والرجعية وحاربت الإنكار والجحود ...

لقد حاربت الأحزاب وحاربت الملوك ...

لقد حاربت هتلر، ونابليون، وحاربت المستعمرين في صفوف الديمقراطيين ...

لقد حاربت أعداء الأدب المسمى بالقديم، وحاربت أصدقاء الأدب المسمى بالجديد ...

لقد حاربت الصهيونية، وحاربت النازية أكبر أعداء الصهيونية ...

لقد حاربت جميع هؤلاء، فالتقى على محاربتي أناس من جميع هؤلاء ...

صهيوني إلى جانب نازي، إلى جانب فوضوي إلى جانب رجعي، إلى جانب ملحد إلى جانب حامل اللحية والعذبة باسم الدين، إلى جانب الماركسي من اليسار والمبشر من اليمين.

وفي معسكر الأعداء - كما يقال في لغة المعسكرات - يلتقي «المليونير» والمتشرد، ويلتقي المعجب بالخنساء والمعجب بساجان، ويلتقي الصوفي والخليع، ومن ورائهم معسكر الشاردات من الجنس اللطيف، ومعسكر الشاردين من الجنس المخشوشن الكثيف.

جيش جرار بحمد الله ...

نعم؛ بحمد الله - حقا وصدقا - حمدين متواترين ...

حمدا لله «أولا»؛ لأنه أرسل علي هذه السيوف المشرعة من كل جانب، ولكنه أسبغ علي الدروع التي تتكسر عليها تلك السيوف، فقال رب الجنود: أنت «قدهم وقدود» ...

وحمدا لله «أولا وأخيرا»؛ لأنه خصني من بين هذا العموم بصداقة «الإنسان» حيث كان، وفي جميع هذه الأشكال والألوان ...

فحيثما اختلفت هذه الجماعة وتلك الجماعة، وحيثما افترقت الأسماء والأزياء، فالإنسان الذي يكمن في كل مكان وراء العناوين والجدران، يبسط يديه إلي، ويلتقي بصاحبه لدي، ويتقلب على حزبه ولو كان مستخفيا في سرية، فهم شيع وأحزاب من بعيد، وهم معي في محراب «الإنسانية» الوحيد، صديق رشيد إلى جانب صديق رشيد ...

ولا ننسى من هذه الأشكال والألوان، عباد الأصنام والأوثان ...

والأوثان هنا هي أوثان المظاهر والألقاب لا أوثان المذاهب والأرباب ...

وقد نكب هذا البلد المسكين بداء الاستبداد القديم، فوقر في أخلاد بنيه على توالي العصور أن قيم الناس مرهونة بتقدير الحاكم المطلق المتصرف في الأقدار والمقامات، فلا قدر لإنسان بغير مظهر، ولا مقام لأحد بغير لقب، ولا جاه ولا حسب ولا علم ولا يقين بغير صيغة مرسومة في سجلات الدواوين ...

وبلغ من عبادة الأوثان أن «الصوفية» خلقت في هذا البلد منذ قرون، فما لبثت أن عاشت على المظاهر والألقاب، وعلى الشيع والأحزاب، بين عريف ووكيل ورئيس، وبين منتسب إلى هذا الضريح، ومنتسب إلى ذلك الهيكل، أو تلك الزاوية أو ذلك الكنيس ...! ومعهم كلهم ألوان من الشارات وأشتات من الرايات والفوانيس ... وإنهم لكذلك وهم يتصوفون ويتقشفون ، أو هكذا يقولون لينبذوا مظاهر الدنيا، وألقاب التعظيم والتقديس ...

وقبل أن تتحطم هذه الأوثان، يظهر في هذا البلد مخلوق وأي مخلوق، وقل إن شئت إنسان وأي إنسان ...

أديب مشهور، وليس بليسانس ولا دكتور.

وعضو في مجلس الأعيان، وليس في حوزته نصف فدان ...

وليس ببيك ولا باشا، ولكنه يقول للبيك والباشا: كلا وحاشا!

وصاحب أعوان وأنصار، وما هو بزعيم حزب ولا بصاحب عصبية، ولا مصطبة ولا دوار ...

وفقير جد فقير، ولكن ليس بهين ولا حقير ...

وصاحب قلم مسموع الصرير مرهوب النفير، ولكن ليس بصاحب صحيفة ولا بمدير، ولا برئيس تحرير، ولا سكرتير تحرير ...

يا حفيظ ...

شيء يجنن ...

ويزيد المغيظين من هذا «المقتحم المتهجم» أن يهاجم «الأصلاء» فلا يبالي هجوما عليه أو يباليه، ولكنه بأصبع واحدة من إحدى يديه يرده على عقبيه ...

يا حفيظ ... شيء يجنن شيء يغيظ!

ولقد أراحنا الله من هذه الأوثان في عالم الرتب والنياشين، وبقي الطقم الأخير من أوثان الألقاب، والمظاهر في عالم «العلم» المحجوز على ذمة المعاهد والدواوين ...

وكان خليقا بهذا الوثن المتخلف أن يتحطم أو يتهشم أو يقبع في عقر داره بعيدا عن الأنظار والأسماع، ولكنه - وهو الوثن «الحيلة» والبقية الباقية من القبيلة - قد ضوعفت حوله القناديل والقرابين، وأوشك وحده أن يخلف أوثان الدنيا والدين.

وأغيظ ما يكون عابد الوثن إذا كان للوثن صلاته وصيامه، وكان حول الوثن طوافه وقيامه، وكان كل حقه في سمعة العلم مرهونا بلقبه، وكل توهين لشأن هذا اللقب موهنا لحجته في دعواه، وما من حجة له سواه ...

إن من أهل العلم من هو على موثق من فضله، ومن هو في غنى عن قشور المظهر بلبابه، فلا موضع لصغائر الدعوى في سبيل هذه النافلة عنده، ولي صديق في كل إنسان، وكل ذي أمانة من هؤلاء، ولهم حق على الناس أراه على سنة الإنصاف والوفاء، ولكنني أدعو الله ألا يحرمني من عداوة مدع دخيل على حرم المعرفة وحرمتها، نكرانه للفضل على قدر شعوره بعرفان غيره، وكفرانه بالحق على قدر صواب المحق لا على قدر خطئه، فإن الذي لا صواب له يكفي الحاقدين مئونة النقمة عليه واللجاجة في مذمة عمله وبخس جهده واجتهاده.

والحمد لله على عداوة هؤلاء، ووقانا الله شر الرضا من هؤلاء، وشر الصداقة والأصدقاء «الألداء» من هؤلاء وأشباه هؤلاء ...

ولست أحدث القارئ بجديد في أمر العداوة على المظهر والعنوان، ولا في أمر الغيرة على الأصنام والأوثان، وأقبحها أوثان المظاهر والعناوين في أمة شقيت طويلا بأرباب الطغيان، قبل أرباب الأديان ...

ولكنني أود لو يعلمون كم يبلغ العابدون في محراب هذه الوثنية من أهلها ومن غير أهلها، فإنهم لكثيرون بل جد كثيرون ...!

فإن بين المحرومين من كل مظهر لمن هو أخلص عبادة لهذا الوثن من أقرب المقربين إليه، وأوفرهم حظا من نعمته؛ لأنه ينقم عليك أن تساويه في مظهره ولا تساويه في هوانه، وأن تعلو حيث يهبط وترتفع حيث ينحدر، وتسلم لك الشهادة حيث تبطل عندك المكابرة واللجاجة، فلا يقاربك بواقعه ولا بدعواه!

وخذ مثلا من هؤلاء العباد «المتطوعين»، مخلوقا عرفته لا له في العلم ولا في دعواه، ولا يخطر له يوما أن يحسب في زمرة العلماء من حملة الألقاب، ولا في زمرة العلماء العاطلين، ولا العلماء المغمورين والمجهولين المنسيين، بل لعله - وهو طرزي بلدي - لم يطمع إلى مزيد من الشهرة فوق مكانته بين أهل الصناعة، ناجحين أو كاسدين ...

ولكنه كان أغيظ ما يغيظه أن ينهض الناس تحية لفاضل من فضلاء عصره لم يكن من ذوي الألقاب والأحساب، ولكنه كان موفور القدر في أعين ذويها، وفي أعين الناس ممن يعبر بهم في طريق الطرزي، من ميدان التوفيقية حيث يسكن، إلى قهوة «الإسبلندد» حيث يلتقي بالإخوان والصحاب، وأكثرهم من ذوي المراتب والمظاهر، وكلهم يلقاه بذلك التوقير وذلك الترحاب ...!

وينفجر الطرزي غيظا وقد عبر الرجل الفاضل أمام دكانه، وقد وقفت أتحدث إلى صديق لقيته في ذلك الدكان فكدت أحسبها ترة من ترات الدم بين ذلك الطرزي وذلك الفاضل الموقر بغير لقب ولا حسب، ولا جاه ولا مال ... قلت له: أتعرفه؟

قال: لا والله، ولكنني عرفت حاله ، وهو «غلبان» في بيته وفي مأكله ومشربه وكسائه، فعجبت: ما هذه النفخة في غير شيء؟! وما هذا التوقير من هؤلاء المغفلين لإنسان لا يحسب من «الأفندية» ولا البكوات ... إلا بتقليد اللسان: «حتى مش بيه إلا بالكدب.»

ولقد عرفت الرجل فلا والله ما عرفت عليه سمة من سمات «النفخة» التي ادعاها عليه، ولكنه كان لا يقبع في حاله - كما قال - وهو يعلم أنه ليس من «الباشوات»، ولا من أصحاب المناصب والأموال ...

وحول «الأوثان» ألوف من هؤلاء العباد «المتطوعين» ذهبت بهم دولة الرتب والنياشين، ولكنهم حول الوثن الأخير لا يزالون راكعين ساجدين، وفاء لعهد المذلة والعادة، وإن فاتهم كل وفاء لكل علم ولكل دين. (2) أصدقائي الأطفال

أزاهير الرياض بشائر الخير والجمال، وترجمان الربيع بالألوان والعطور، والناس يحبونها ولا يعجبون من حبها، بل لعلهم يعجبون إذا قيل لهم: إن هذا أو ذاك لا يحب الأزاهير ...

ولكنهم قد يحسبون أن حب الأطفال «خبر» يروونه عن هذا أو ذاك ويفسرونه كما يفسرون غرائب الأخبار ...

أتراهم يظنون أن نضرة الزهرة أجمل من نضرة الطفل الصغير؟ ...

لا نخالهم يظنون ذلك، ولكنها «الأنانية» تدخل هنا في الحساب، فتضلهم عن حسن التقدير ...

لأنهم تعودوا كلما ذكروا الأطفال أن يتصوروهم أبناء لآباء وأمهات ... فإذا سمعوا أن الأب يحب وليده، وأن الأم تحب صغيرها فلا عجب ولا حاجة إلى خبر ...

ولكن ما بال من ليس بأب يحب أبناء آبائهم وهم عنه غرباء؟! ...

هذا هو وسواس الأنانية الذي يدخل في الحساب، فيضل الخيال عن التقدير الصحيح ...

أما الواقع - بمعزل عن هذه الأنانية - فهو أن الأطفال محبوبون؛ لأنهم أزاهير الإنسانية وترجمان ربيعها، محبوبون لأنهم بشائر الشباب والحياة ...

بل هم محبوبون، وينبغي أن يحبوا؛ لأننا نتعلم منهم، ولأننا نستمتع في صحبتهم برياضة من رياضات النفس تجدد لنا كل شيء، ولأنهم عزاء - وأي عزاء - حتى حين يبكون بكاء الطفولة الساذج المضحك المأمون ...

إنهم معلمون من الطراز الأول؛ لأن أخلاق الإنسانية مكتوبة في نفوسهم بالخط البارز الذي تقرؤه لأول نظرة، وهي في نفوس الكبار ضامرة أو مصحفة أو ملتبسة بوشي الرياء وزركشة العرف، وزخارف التكلف والتمويه ...

إن معلمينا الصغار لا يكتمون شيئا، وكل ما كتموه أبرزوه، وضاعفوا إبرازه، فمن لم يتعلم حقائق الضمير الإنساني من الطفل فما هو بمستفيد شيئا من علوم الكبار، ولو كانوا من كبار العلماء ...

وصحبة الطفل الصغير رياضة، وما أجملها من رياضة ...

إن الأوروبيين يعبرون عن الرياضة بالخلق الجديد

recreation

كأنهم يقولون إن الترويح عن النفس يخلقها خلقا جديدا، ويعيدها نشأة أخرى كما كانت أو خيرا مما كانت عليه ...

والطفل يريك هذا الكون قشيبا عجيبا كأنك تراه خارجا من يد الله في يوم الخليقة الأول ...

إن الصغير الذي يرفع العصا ليدرك بها القمر يعود بك كما كنت يوم ملأت عينيك من القمر أول مرة، فزعم لك خيالك الطريف أنه على مد الذراع القصيرة، وأنه إذا احتاج منك إلى جهد فغاية هذا الجهد أن تصعد إلى سقف، وترفع العصا إليه، فتنزل به إليك!

إن التليفون لا يدهشك إذا نظرته أو استمعت إليه، ولكنه يملؤك بالدهشة كلما حدثت طفلا من وراء المسافات البعيدة فسمعته يهلل ويصيح على من حوله أن ينظروا إليك مختبئا في جوف السماعة المسحورة ... وأكبر عجبه أن تحتويك تلك السماعة وهي تضيق عن كفيه الصغيرتين.

إن كل محادثة مع الطفل عن هذه المنظورات المملة المطروقة إنما هي احتفال برفع الستار للمرة الأولى عن تلك المنظورات العتيقة ... كأنها أعجوبة لم تقع عليها من قبل عينان.

وهؤلاء الصغار عزاء عن مثله عزاء الحكماء ...

ألا يبكون من مصائبهم التي تضحك الثكلى؟! ألا نعلم من هذا البكاء المضحك أننا سنضحك غدا مما يبكينا في هذه الساعة؟! ألا نعود إلى ما كان يبكينا في طفولتنا، فنعلم أن كثيرا من البكاء هزل، وأن كثيرا من العزاء جد ويقين؟!

ولهم محرجات تخنق في حينها، ولكنها حتى حين «تخنقنا» من الحرج تكاد تخنقنا من الضحك المكتوم.

وكلكم عرفتم هذه المحرجات وتعرفونها وستعرفونها، فأنتم في غنى عن الإفاضة في سرد الأمثال والنوادر، وقد تذكركم نادرة واحدة بمئات من هذه الأمثال ...

حضرنا مجلسا كان فيه رجل وقور أعور بين العور، وفي الدار طفل في الثالثة من عمره، سليط اللسان، يكاد لا يدخل لسانه في فمه من فرط الثرثرة والفضول.

ووقف هذا الثرثار على باب الحجرة، ثم رأيناه يطيل النظر إلى الرجل الوقور الأعور، ثم اقترب منه وهو يضع إصبعه في فمه، ويرفع نظره إلى العين العوراء ...

قلنا: يا ساتر استر، إنه لن يسكت ولن يطول الانتظار حتى نسمعه قائلا شيئا، فما عسى أن يقول؟

وقبل أن نفرغ من هذا الخاطر رأيناه يصعد على ركبتي الرجل، ويمد يده إلى عينه العوراء، ويسأله كأنه يسأل عن ساعة أو سلسلة أو خاتم، أو حلية مما يثير الفضول: «لماذا أقفلت عينك هكذا؟»

تشاغلنا كأننا لا نسمع لعله يكتفي بسؤال واحد، فلا نلجئ الرجل ولا نلجئ أنفسنا إلى حرج.

ولكنه كأنما قد أقسم ليعرفن السر في تلك الحيلة المستغربة: حيلة هذا المشعوذ الذي يستطيع أن يقفل عينه، وكل من رآهم حوله لا يستطيعون.

فعاد يلح ويسأل: ألا تقول لي لماذا أقفلت هذه العين؟

فبطلت الحيلة، وأخذته أمه جذبا بإحدى ذراعيه، وخرجت وهي تختنق كما نختنق نحن من الحرج المضحك أو من الضحك المحرج، وهو مع هذا يمد ذراعه الأخرى غاية امتدادها مشيرا إلى العين المقفلة، ويكرر على أمه هذا السؤال: ولكن لماذا يقفلها يا ماما؟ ... ولم تسترح «ماما» منه إلا حين قذفت به إلى داخل الحجرة المجاورة، وهي تقول ولا تملك نفسها من الغضب والضحك المكتوم: أنت مالك ومالعينه؟!

هؤلاء المحرجون «مصائب» في أوقات الحرج.

إلا أنها المصائب التي نذكرها بعد ضاحكين، ولا ندري هل نتمناها أو نتمنى انقطاعها ... فإنها المصائب التي يسوءنا أن تنقطع من الحياة ...

وأي مخلوق أحب إلى القلب من المخلوق الذي يسليك وهو يحرجك، ويعزيك وهو يبكي أمامك، ويجددك أنت، وهو ينظر إلى كل قديم من حولك، ويعلمك وأنت تحسب أنك لا تفرغ من تعليمه، وأن دروسه التي يمليها عليك لأنفع من دروسك التي تمليها عليه.

لكن ... ويا لها من لكن!

لكنها - كما نعلم جميعا - متعة غالية الثمن. غالية جدا لا نملك ثمنها؛ لأنه قاصم للظهور في كثير من الأحوال.

فنظرة إلى طفل مريض تنسيك متاع الدنيا بأسرها، وصيحة ألم من ذلك الصغير تزلزل عزائم الأبطال.

أما إذا كان الخطب أجسم من ذلك فلا حول ولا قوة فيه إلا من حول الله وقوته ... وكلاهما ليس في اليدين ...

وجاهل بهذا الخطب من يحسب أن الحزن على الصغير أهون من الحزن على الكبير؛ إذ الواقع أن الحزن على الكبار قد يهون عند الحزن على هؤلاء الصغار؛ لأنك تحزن عليهم بمقدار تعويلهم عليك ومقدار الرجاء في غدهم، وغدهم طويل مفتوح لآمال الخيال، ونظرتهم إليك وهم مرضى على يديك تطالبك بالمعجزات، وتعجزك بعد ذلك عن الصبر على ذلك الأمل الذي ضاع فيك وضاع فيهم، فلا عزاء.

متعة نفيسة، وثمن غال، ومما زهدني في اقتناء المتعة النفيسة علمي بغلو الثمن ... ولا أخالني مع هذا نجوت مما ابتليت به في طائفة من هؤلاء الأصدقاء الأعزاء ... (3) أنا في السجن

فتحت الكوة الصغيرة، ثم فتح باب الرتاج الكبير، ثم احتوانا البناء المحفور الذي يعرف في مصلحة السجون باسم «سجن مصر العمومي»، ويعرف على ألسنة الناس باسم «قره ميدان»، أي الميدان الأسود باللغة التركية! ...

وخطر لي - وأنا أخطو الخطوة الأولى في أرض السجن - قول الفيلسوف ابن سينا وهو يخطو مثل هذه الخطوة:

دخولي باليقين بلا امتراء

وكل الشك في أمر الخروج

فهو تقرير فلسفي صحيح للواقع! ...

أما الدخول فها هو ذا يقين لا شك فيه، وأما الشك كل الشك فهو في أمر الخروج ... متى يكون، وإلى أين يكون؟ أإلى رجعة قريبة من السجن وإليه؟ أم إلى عالم الحياة مرة أخرى؟ أم إلى عالم الأموات؟

في تلك اللحظة عاهدت نفسي لئن خرجت إلى عالم الحياة لتكونن زيارتي الأولى إلى عالم الأموات، أو إلى ساحة الخلد كما سميتها بعد ذلك ... أي ضريح سعد زغلول ...

ولم تقع مني هذه الرحلة بين الدار والسجن

1

موقع المفاجأة؛ لأنني كنت أنتظرها منذ زمن طويل ولو على سبيل الحجز الذي ينتهي بإفراج سريع، ولكنني كنت لا أرى فرقا بين أيام أو أسابيع أقضيها على ذمة التحقيق وبين مدة أقضيها في الحبس بحكم القضاء؛ لأنني كنت أقدر أن حبس التحقيق - وإن قصر - كاف لأن يصيبني بأكبر الضرر الذي يخشاه الناس من السجن، وهو ضرر العلة التي لا تزول، وعلى توقعي الاتهام والحبس كانت الأنباء تتوالى علي بما يؤكد ذلك التوقع من جهات عدة، وسمعت النبأ اليقين في هذا الأمر من صديقنا المغفور له سينوت حنا بك، لقد لقيني مرة فاستوقفني، وقال لي: «حذار يا أستاذ!» فقلت له باسما: «لا يغني الحذر من القدر!» قال لي: «إني أروي لك ما أعلم لا ما أظن: إن مقالاتك تراجع في بعض الدوائر مراجعة خاصة، وإنهم ينتظرون يوما معينا ربما كتبت فيه ما يساعد على تأييد التهمة، ثم يقدمونك إلى المحاكمة بما استجمعوا من أدلة قديمة وحديثة!» •••

وكان في نيتي أن أسافر صيف سنة 1930 إلى لندن مع وفد مجلس النواب؛ لتمثيل مصر في مؤتمر المجالس النيابية الذي عقد تلك السنة في العاصمة الإنجليزية، فقد استخرجت جواز السفر السياسي، واشتريت دليل لندن ودليل العواصم الأوروبية التي كنت أنوي زيارتها، ولم يبق إلا تذكرة السفر والاتفاق على الموعد واللحاق بإخواننا الذين سبقونا إلى باريس ليشهدوا فيها الاحتفال بعيد الحرية، ثم بدا لي أنني إذا سافرت فقد أمهد بيدي وسيلة لنفيي في أوروبا سنوات بلا عمل، ولا قدرة على البقاء في ذلك الجو القارس أيام الشتاء، وربما كان منع عودتي أسهل على الوزارة من محاكمة قد تنتهي بالبراءة أو بعقوبة لا ترضيها ... فعدلت عن السفر في اللحظة الأخيرة، وقلت إن السجن أحب من النفي الذي لا عمل فيه، ولا ضمان للصحة ولا للحياة!

وفي اليوم الثاني عشر من شهر أكتوبر دق الجرس أصيلا وأنا وحدي بالمنزل؛ لأن أخي كان معتقلا في قضية «البلطة» المشهورة متهما بالتآمر على حياة رئيس الوزراء، ولأن الخادم لم يعد من راحته الظهرية وصلاته العصرية، ففتحت الباب فإذا ضابط من رتبة «اليوزباشي » - على ما أذكر - يبادرني بالسؤال: هل حضرتك فلان؟

قلت: نعم ...

فمد إلي ورقة من دفتر في يده على هيئة ذكرتني الكونت نيمور، وهو يلقي القفاز في محضر لويس الحادي عشر.

قلت: تفضل أولا فاجلس. •••

فتردد في الدخول، ثم دخل وجلس، فتناولت الورقة وقرأت فيها دعوة من صاحب السعادة النائب العمومي للحضور إلى مكتبه في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي، ووقعت على الدفتر - كما طلب الضابط - بأنني تسلمت الورقة. وأخذت في إعداد الكتب التي سأقرأها في السجن، والأدوية التي أتعاطاها، والملابس البيتية التي أحتاج إليها هناك، وزدت فأعددت الأغطية الصوفية التي تلزمني للفراش والغطاء؛ لأنني كنت حتى تلك الساعة أجهل «تقاليد السجون» وأظن أن الأغطية الخاصة مسموح بها كالملابس الخاصة أثناء التحقيق، وفي الفترة التي تسبق المحاكمة، ثم حضر الطاهي فأريته هذه الأشياء كلها، وقلت له: إنه سيحضرها لي في السجن غدا عند اللزوم.

فظهر لي أنه لم يفهم ... وأنه ينوي أن يقصد بها سجن الأجانب الذي كان أخي معتقلا فيه.

فقلت له: «بل هي لي أنا في السجن الذي سيخبرونك عنه غدا بدار النيابة!»

ووصفت له الدار واجتهدت أن أفهمه جهد المستطاع، وذلك جهد يعرف العارفون بالشيخ «أحمد» أنه ليس باليسير!

وذهبت في الموعد المحدد إلى دار النيابة، واستغرق التحقيق ساعات، ثم قال لي حضرة المحقق: «إنني آسف لأننا سنضطر إلى إبقائك عندنا قليلا يا أستاذ!» وبدأ حضرات المحامين يوجهون نظر رجال النيابة الحاضرين إلى «الحيطة الصحية» الواجبة في هذه الحالة، ومنها اختيار السجن الذي يوافقني أثناء الحبس «الاحتياطي» أكثر من سواه، وكان الأساتذة المحامون - لحسن الحظ - من الخبيرين بمزايا سجون القاهرة التي تردد عليها في سنوات الثورة السياسية معظم المشتغلين بالقانون والسياسة، فأضافوا خبرتهم بالسجن إلى خبرتهم بالمحكمة، وقدرتهم على النصح السديد للمتهمين والموكلين، واستحسنوا أن يكون الحبس في «سجن مصر»؛ لأن الجو فيه أوفق لي من سجن الاستئناف ... وقد كان ...

فذهبت مع الضابط والجند في سيارة خاصة إلى «قره ميدان»، وتخطيت الباب فإذا هدوء غير مألوف لأن الوقت كان وقت الراحة عقب الغداء، وتوجه بي الضابط نحو حجرة الكتاب لتسليم ما عندي من الودائع وكتابة الأوراق التي لا بد منها لكل مسجون جديد، وما هي إلا لحظة حتى توافد الموظفون وكثر دخول السجانين ينظرون إلى القادم الذي سرى بينهم نبأ قدومه ... وأخذ كاتب هناك مرح ثرثار يداعبهم واحدا بعد واحد كلما مروا به وتصنعوا سؤاله عما يضمره لهم بريد اليوم، فيقول لأحدهم: «اطمئن ... لقد عينوك مديرا لمصلحة السجون ...»، ثم يحدج ببصره كمن يستغرب دهشته، ويقول: «ألا تصدق؟ آه يا ابن الحلال معذور؛ فإنك في السجن ولست في البيمارستان ...»

أو يقول لغيره: «تعال هنا ... قرب أذنيك! قرب أيضا» ... ثم يناديه بصوت يسمعه كل من في المكان: «افرح ... نقلوك إلى أسوان، لا تقل لأحد يا ولد!»

وهكذا في أثناء التسليم والتدوين، فاستعدت في ذهني موقف هملت وحفاري القبور ... إذ يغنون وهم في ذمار الموت!

الليلة الأولى

لم يكن مكتب الموظفين إلا بمثابة «الأعراف» التي تفصل بين نعيم الحرية وجحيم الاعتقال، ولكنها «أعراف» تنقل من النعيم إلى الجحيم كما تنقل من الجحيم إلى النعيم ... وقد كانت في اليوم الذي سجلت فيه اسمي بين الداخلين تسجل أسماء شتى للخروج، أو للإفراج كما يسمونه في لغة السجون!

وعبرنا مكتب الموظفين، ومكتب المأمور مع ضابط العنبر في هذه المرة، لا مع ضابط الشرطة الذي انتهى مقامه عند الباب، فاتجه الضابط إلى عنبر «ب»، وفتح الباب الحديدي، ودخلنا العنبر، فكان أول ما صادفنا فيه منظرا عجيبا لا تألفه العين: «أناسا بملابسهم العادية جالسين القرفصاء في صمت لا يلتفت أحدهم يمنة ولا يسرة، ومن ورائهم نفر مكبون على الأيدي كما تمشي الدواب يزحفون زحفا، ويتغنى أحدهم بصوت خفيض، والباقون يجيبونه بصدى - لا بكلام - يقولون فيه: «هيه هيه» ... أما المغني فالذي أذكره من أنشودته الآن عبارة واحدة: «رايحه له فين! ده عليه سنتين!»

فقلت: فأل جميل وايم الله! وللفأل شأن كبير في «نفسيات» المسجونين، كما سيرى القراء في بعض هذه الذكريات ...

وكان لا بد لي من «فرجيل » يصاحبني كما صاحب الشاعر الإيطالي «دانتي» في طبقات الجحيم؛ ليدله على أنواع العذاب، ودرجات المعذبين ... فمن هؤلاء الجالسون القرفصاء؟ ومن هؤلاء المكبون على أربع؟ أهذا ضرب من العقاب في مكان العقوبات؟ وما بال أناس منهم يلبسون ثيابهم العادية على اختلافهم بين المعمم والمطربش، ولابس «الطاقية» ... ولا يلبسون كأهل السجون؟

على أنني لم ألبث طويلا حتى عثرت على الدليل الذي ينوب في جحيمنا عن فرجيل!

فقد كان على يسار الحجرة التي خصصت لي حجرة للصحفي الظريف علي أفندي شاهين رحمه الله، وكان محبوسا رهن المحاكمة في قضية مقالات ورسوم، قذف بها بعض الوزراء وعلى رأسهم إسماعيل صدقي باشا كبير الوزراء في تلك الأيام، وكان واقفا عند باب حجرته ينتظرني بعد أن سبقت البشائر إلى العنبر بقدومي، فلقيني مرحبا، وعلى مقربة منه اثنان أو ثلاثة من أهل بولاق «دائرتي الانتخابية» كانوا في مؤخرة صفوف الجالسين القرفصاء، فنهضوا يحيونني ويهمون بالصياح، لولا أن شاهدوا الضباط والسجانين فعادوا جالسين.

وعلمت بعد ذلك بهنيهة أن هؤلاء الجالسين القرفصاء هم المحبوسون على ذمة التحقيق ممن آثروا البقاء بملابسهم العادية.

وأنهم جلسوا تلك الساعة في انتظار الخروج «للطابور» الذي هو موعد الرياضة المصطلح عليه مساء كل يوم، وللمحبوسين شوق إلى موعده يفرحون به أشد من فرح الطلقاء بنزهة الأصيل على شاطئ النيل وطريق الأهرام! •••

أما المكبون على أربع فهم أصحاب النوبة المنوط بهم تنظيف بلاط العنبر وتلميعه، وهم يتغيرون كل شهر مرة، ويقومون بهذا العمل طول النهار، ويؤثرونه على أعمال السجن الأخرى؛ لأنهم ينطلقون فيه على مدى واسع بعض السعة، ولا يحبسون في الحجرات.

قال دليلي أو «فرجيلي» بعد الشرح المتقدم: «وإن هؤلاء المساكين يعانون هذا العناء من أثر دعوة النبي يوسف عليه السلام.»

قلت: «وماذا أفادك الله؟!»

قال: لقد دعا يوسف ربه في السجن أن يغزر ترابه، ويحلي طعامه، ويقصر أيامه ... فالتراب لا ينقطع لحظة عن أمثال هذا المكان.»

قلت: «يخيل إلي أن يوسف - عليه السلام - قال: اللهم غزر رغامه، ولم يقل غزر ترابه؛ لأن السجعة تقضي بذلك!»

وما لبثت في السجن نصف ساعة حتى رأيت بعيني حرص الأقدار على إجابة ذلك الدعاء، فما هو إلا أن يزحف الماسحون من طرف العنبر إلى طرفه حتى يكون التراب قد سفا على المكان الذي تركوه.

وإلى هنا لم أكن قد تناولت طعام الغداء مع اهتمامي برعاية المواعيد في تناول الوجبات.

فأين الطعام؟ هل أحضره الطاهي أو نسي إحضاره، وفهم غير ما تعبت بالأمس في إفهامه إياه؟!

هنا ظهرت لي قيود السجن دفعة واحدة، فليس من المستطاع أن أعرف هذا الخبر الصغير إلا بعد أن أسأل السجان، وبعد أن يسأل السجان الضابط، وبعد أن يسأل الضابط البواب، وبعد أن يحيل البواب الأمر إلى المأمور وأطباء المستشفى، وبعد أن ينقضي في ذلك كله وقت غير قصير ...

ولم يكن الذنب في هذه المرة على ذكاء «الشيخ أحمد» كما توهمت لأول وهلة، فإنه قد أحضر الطعام بعد انصرافي من دار النيابة، ولكنهم حجزوه على الباب حتى يتلقوا أمرا بقبوله وانتظام حضوره، وحتى يراه الطبيب ويرى الأدوية التي معه، وحتى يتم الفحص عن حالتي الصحية وما يصلح لي من الدواء، ثم قبلوا الطعام والدواء، وردوا الغطاء والفراش؛ لأن السجن - كما قالوا - فيه الكفاية من غطاء وفراش! •••

وفي هذه الأثناء بدأت أشعر بقشعريرة الرطوبة التي ينضح بها الأسفلت في أرض العنبر وسقوفه، ثم فرغ السجان وصاحب النوبة الموكل بحجرتي من إعداد سريرها وأدواتها ولوازمها، فألقيت نظرة على الغطاء الذي سيغنيني عن غطائي، فلم أطمئن إليه كثيرا، ولكني قلت: لا بأس بالتجربة هذه الليلة، وبقيت متوجسا من هذه النافذة المفتوحة على رأسي يندفع منها الهواء طول ليل الخريف ... فما العمل فيها؟

قال دليلي أو «فرجيلي» علي أفندي شاهين: «لا عليك من هذه النافذة! فسترى كيف نعالج خطبها»، والتفت إلى صاحب النوبة فأوصاه أن يسدها بالحصيرة المفروشة على أرض الحجرة كما يصنع في حجرته هو، ففعل صاحب النوبة توا ليريني كيف يحكم هذه الصناعة، وضحك شاهين أفندي ضحك العلم والمعرفة وهو يقول لي: «احمد الله على أنهم لم يختاروا لك سجن الاستئناف. فهناك النافذة أربعة أضعاف النافذة هنا، ولا أمل في سدها بحال من الأحوال، فضلا عن الظلام المطبق من الصباح إلى المساء.»

قلت: «الحمد لله!» •••

وهبط ظلام الليل شيئا فشيئا، وعاد المسجونون قبل ذلك أفواجا إلى الحجرات، وتعالت بينهم ضجة كضجة السوق في يوم زحام، ثم توالى إغلاق الأبواب، وإدارة المفاتيح في الأقفال، ثم بدأ «التتميم» أو المراجعة حجرة حجرة: كم يا ولد! ... عشرة!

كم يا ولد؟ ... أربعة ... وهكذا إلى نهاية الدور، وفي كل عنبر أربعة أدوار، ولن يبرح السجان دوره حتى يستوثق من مطابقة العدد الموجود للعدد المكتوب في سجله المعلق عند الباب.

وازدادت الضجة بعد انتهاء المراجعة، فلم يكن للسامع أن يسمع إلا أسماء تتقاذفها أفواه رجال ونساء، وصرخات وأهازيج، وشتائم هي عندهم في منزلة التحيات المباركات! ثم سكنت الضجة بعض الشيء وتبين من هنا وهناك نداء مفهوم، وشرع اثنان في قافية من القوافي المعروفة في محافل الأعراس والموالد المصرية، وكأنهما علما بمقدم الصحفي الطارئ على السجن في تلك الليلة، فجعلا للصحافة قسما من هذه المساجلات المحفوظة ... - الأولاد تنادي وراك وتقول: - إيش معنى؟ - المؤيد! المؤيد ... وهو يعني «المقيد». - فوق رأسك يا معلم علي. - إيش معنى؟ - المقطم.

وهذه حقيقة واقعة وليست بمجاز؛ لأن بناء السجن وقع في حضن جبل المقطم. - الرغيف في سقف بيتكم. - إيش معنى؟ - كوكب! - تطلع من هنا تقابلك في البيت. - إيش معنى؟ - الحمارة.

وقس على ذلك ما يقال، وما يسمع كرها ولا يقال.

وقد أظلمت الحجرة عندي - حينذاك - ظلامين؛ لأن النافذة المغلقة حجبت كل ضياء يتسلل إلى الحجرة من فناء السجن المنار بنوره الضئيل، فلم أستطع أن أعرف مكان الكوب ولا سلة الطعام في ذلك الظلام، ولبثت أسمع الأصوات تخفت وتخفت حتى انقطعت أو كادت نحو الساعة التاسعة كما أنبأتني الساعة العربية التي تدق في مسجد القلعة، ولم يبق من مسموع إلا وقع أقدام الحراس على البلاط، وإلا صيحاتهم كل نصف ساعة يطيلونها، ويتنافسون في إطالتها، فذكرتني مبيت ليلة على حدود الصحراء، أسمع فيها صياح الذئاب. (4) خواطر في الصحة والمرض

في ديواني الأول قصيدة بعنوان «الشاعر الأعمى» أقول في مطلعها:

شكا الشاعر الباكي عمى قد أصابه

وأظلم ما نال العمى جفن شاعر

ومنها أبيات يصرخ فيها الشاعر سائلا:

لمن تجمل الأكوان إن كان لا يرى

بدائعها عين ترى كل باهر؟!

فما كانت الدنيا سوى حسن مظهر

وما جاد فيها الحظ إلا لناظري

وهل كنت أخشى الموت إلا لأنه

سيحجب عني حسن تلك المناظر؟!

ثم ينعى الشاعر قسمته في الحياة، فيقول:

جمعت شقاء العيش في ظلمة الردى

فيالي من ميت شقي الخواطر!

أرى الصبح وهاجا بمقلة نائم

ويلحظه قلبي بحسرة ساهر

فمن لي إلى هذا الوجود بنظرة

أراه ولم يعم التراب بصائري

إلى أن يقول متأسيا بنور البصيرة عن نور البصر:

فيا قلب أنفق من ضيائك واحتسب

لدى الشمس لألاء الوجوه النواضر

حادثة عارضة

قصيدة لا شك كان لها باعثها كغيرها من القصائد التي ينظمها الشعراء، وحي من خاطر نفساني أو حادثة عارضة. فما هو الخاطر النفساني هنا؟ أو ما هي الحادثة العارضة؟

هل كنت أحس في صباي ضعفا في النظر بعث في نفسي الإشفاق من فقدانه، والمصير إلى مثل ذلك الظلام الذي شكاه الشاعر المنكود في بلواه؟

ذلك أقرب ما يرد على الخاطر في تفسير باعث القصيدة، ولكنه على قربه بعيد من الواقع؛ لأنني كنت أيام نظم الديوان الأول على أقوى ما يكون الإنسان بصرا في صباه، وكنت - بالإيجاز - أستطيع أن أقرأ الصحيفة على نور القمر تحت قبة السماء. •••

ومن الجائز أنني كنت لا أعرف هذه القوة في بصري، وأنني كنت أكبر وأجاوز الشباب والكهولة، ولا أدري مبلغ بصري من القوة، كما يتفق كثيرا أن يجهل الإنسان ما يألفه من قوته ويحسبه من المألوفات التي لا غرابة فيها، ولم يكن هنالك ما يدعوني إلى القراءة على نور القمر؛ لأن المصابيح أوفر من أن تفتقد في مدينة كبيرة أو صغيرة، ولكنني أعلم الآن أنني استطعت أن أقرأ على نور القمر وأذكر ذلك جيدا؛ لأنني حين اضطررت إلى هذه القراءة مرة واحدة كان ذلك مقرونا بمناسبات متشابكة جامعة بين الجد والفكاهة، وبين ذكريات الأسرة والموطن، وغرائب الروايات، والتقاليد المتواترة في الريف، فليس في وسعي أن أنساها بعد حين، ولا أزال أذكرها اليوم كأنها حدثت قبل يوم أو يومين، ولم تمض عليها - كما مضى فعلا - أربعون سنة أو تزيد.

وفي جوار أسوان - بلدتي - ضاحية صغيرة جميلة على مسافة قصيرة منها، أهلها من أقدر خلق الله على التشبيه المحكم أو على الإصابة بالعين كما اشتهروا في الإقليم كله، ويقال عنهم إن أحدا منهم لا يملأ عينيه من الشيء إلى قضى عليه، وأصابه بما يعطبه أو يضره لساعته، وآية امتلاء العين من الشيء المنظور عندهم أنها تستوعبه بالتشبيه المحكم، فلا تعدو صفة من صفاته ... فالتشبيه المحكم والإصابات القاتلة في عرف القوم مترادفان ...

أمثلة من التشبيهات

قالوا إن أحدهم نظر إلى بستان من التين، فصاح إعجابا بثمراته المتفتحة: «ما هذا التين الذي يحكي خياشيم السمك؟!»

وقالوا إن أحدهم رأى رهوانا محلى السرج واللجام بالألوان المختلفة، فصاح قائلا: «أتراه يحمل بيارق الأحمدية؟!» ... يعني طريقة من الطرق الصوفية تسمى بالطريقة الأحمدية، ويحمل أتباعها الرايات المتعددة بمختلف الألوان ...

وقالوا: إن أحدهم نظر إلى ساقية بخارية، فقال: «إنها تبلع البحر بحوته ...»

وقالوا غير ذلك كثيرا من أمثال هذه التشبيهات، ولم ينسوا مرة من المرات أن يردفوا التشبيه بذكر العاقبة التي تلحق به على الأثر، وهي التلف والبوار ...

وكان في هذه الضاحية عرس نعرف أصحابه، وذهبنا نشترك في إحياء العرس، فمر القطار بالصحف قبل وصوله إلى أسوان، وجاءتنا الصحيفة فطويناها حتى خرجنا من الدار نتنسم الهواء فوق كثيب من الرمال البيضاء، وفتحت الصحيفة على غير التفات مني إلى الخطر المزعوم من وراء هذه المجازفة ... وإذا بزميلي يختطفها من يدي على عجل، ويصيح بي: «ويحك! ... أتريد أن تعمى؟! ألا تعرف أين أنت؟! ... أهنا مكان تقرأ فيه الصحيفة على نور القمر وتسلم من العاقبة؟!»

حادث بطرائفه ومناسباته لا ينسى، فليس في وسعي إذن أن اجهل أنني كنت على قوة مبصرة خارقة فيما بين الخامسة عشرة والثلاثين، وليس الباعث على نظم القصيدة - قصيدة الشاعر الأعمى - أنني أشفقت من مصير كذلك المصير الذي وصفته بتلك الأبيات.

أما الباعث في الواقع فلا أعرفه على التحقيق، ولكنني أظن ظنا أنه يرجع إلى مطالعاتي في تلك الفترة، وأكثر ما كنت أحفظ يومئذ شعر أبي العلاء، وشعر ملتون في قصيدة الفردوس المفقود، ولعلي قرأت يومئذ لأول مرة قصيدة الشاعر المحدث الضرير فرنسيس فتح الله مراش التي يقول في مطلعها:

هل عاد عندك يا زمان بعادي

خطب تعاندني به وتعادي؟

ويقول منها:

يبدو النهار لكل عين أبيضا

ولأعيني متوشحا بسواد

وليست هي على طائل من جودة الشعر، ولكنها على ضعفها معبرة عن شعور صحيح.

أحكام سن الأربعين

ومضت الأيام والسنون، وجاوزت الأربعين، فسمعت عن تقاليدها المرعبة بين أصحاب النظارات، وعملت بتلك التقاليد على غير اضطرار في مبدأ الأمر؛ لأنني كنت أستطيع القراءة نهارا وليلا بعد الأربعين، ولكنني أردت المزيد من الوقت في مطالعاتي الليلية، فصنعت النظارة بين الخامسة والأربعين والخمسين، ولم أستخدمها إلا قليلا جدا في ذلك الحين ...

ثم شعرت في السنوات الأخيرة بالحاجة إليها تزداد على مر الأشهر، ولا أقول على مر الأعوام، وكدت أنسى قصيدة الشاعر الأعمى في الديوان الأول بعد ما نظمته من قصائد الدواوين المتوالية، فإذا بهذه القصيدة أثبت القصائد إلى ذاكرتي خلال السنتين الأخيرتين ... «عملية جراحية» وإلا فلا نظر! ...

وهانت العملية والعمليات مع هذه العاقبة المحذورة التي يهون معها فقد الحياة ...

وتمت العملية بسلام، ودخلت في ظلام الغماء راضيا به مغتبطا بسواده المحتوم؛ لأنه الليل الذي يطلع على فجر الضياء ...

وتشاء المقادير أنني أضع الغشاء على عيني في صبيحة اليوم الذي أظلمت بعده سماء مصر الجديدة حيث أقيم؛ لأنني أجريت العملية في أواخر شهر أكتوبر، وفي تلك الأيام منيت مصر الجديدة بغارات الخريف المشئوم ...

إن كان في تلك البلية رحمة من رحمات الغيب فرحمتها أنها لم تتقدم يوما واحدا، ولم تفاجئنا والمشرط بين العين ويد الطبيب القدير، ثم أطبقت البلية ساعات من أحلك ساعات الليل والنهار على السواء، فحمدت الله الذي لا يحمد على المكروه سواه ... حمدته لأنني ألازم موضعي بحكمة وشجاعة أو بغير حكمة ولا شجاعة! ... ولأنني أطفأت النور قبل أن تتصايح الأصوات حول الدار: أطفئوا الأنوار ... أطفئوا الأنوار ...

ظلمات فوق ظلمات

ولعلك تسألني عن تلك الساعات الطوال كيف كنت أقضيها، وبأي الأطياف والأشباح كنت أعمر ظلماتها وأملأ فراغها! ...

والحق أنها كانت ظلمات من أحلك الظلمات، وأنها كانت فراغا من أثقل الفراغ، ولكنني لم أسعد فيها - أو لم أشق - بطيف من أطياف الظلام ولا بهاجس من هواجس الفراغ، ولست أعجب لذلك لأنني تعلمت من تجارب الليالي والأيام أن الشواغل إنما تكون على قدر الحيرة والقلق، وأنه حيث يكون في الأمر قولان أو عدة أقوال فهناك التردد والاضطراب، وهناك الهواجس والأخيلة والأوهام والأشباح، وأما مسألة البصر فأي اختلاف فيها ...؟! وأي حيرة وأي موازنة وأي ترجيح؟! ... إنما هو القبول والاستسلام أو الرفض والخلاص من الظلام إلى الظلام!

وقد كنت أنتظر إحدى النتيجتين ولا أزيد، وكان جانب الرجاء - بحمد الله - أقوى في النفس من جانب الخوف والقنوط، فتراجعت الأشباح والأطياف إلى ظلماتها، وقضينا الساعات الطوال بالشواغل التي تضحك ولا تبكي وتسلي ولا تشجي، ومنها ما يضحك السامع ضحكتين لا ضحكة واحدة! ... لأنه يضيف إلى ضحكة العبث ضحكة المثل القائل: «إن الزمار يموت ويداه تلعبان!»

ومن أمثلتها الكثيرة مثل «البحث اللغوي» في إطفاء الأنوار ...

إنهم يسمونه في سورية ولبنان «بالتعتيم» ونسميه في مصر بالإظلام أو إطفاء الأنوار.

ونحن في جوار الغارات الجهنمية نستمع إلى زلازلها وضوضائها، ونتساءل: أيهما الصحيح؟ ...

ونمضي في التعليق بين قائل: إن التعتيم خطأ؛ لأن العتمة ظلام خاص بأول الليل، وقائل: إنها ظلام الليل على إطلاقه، ونتشاور برهة في الموازنة بين التغمية والتغشية والتخفية، وغيرها وغيرها بديلا من التعتيم ومن الإظلام ... وكلها كالشر الذي تخفيه بلاء لا خيار فيه!

وانجابت الغمة

وانجابت الغمة بحمد الله، وأسفر الصباح بعد ليال مطبقات، وإنني لأصدق النور حقه فأقول : بل أسفرت الغمة عن فجر أو شفق، ولم تسفر عن صباح أو نهار.

ولا بأس بالفجر والشفق في عالم الشعر والشعراء، فربما طاب لنا الفجر كما يطيب الشفق بوحي من ذوق الجمال وغبطة السكينة والسلام، وإن لم يكن في سطوعه ولمعانه ندا للصباح أو قرينا للنهار.

الفصل السادس

(1) إيماني

أومن بالله ... أومن بالله وراثة، وشعورا، وبعد تفكير طويل.

فأما الوراثة فإني قد نشأت بين أبوين شديدين في الدين لا يتركان فريضة من الفرائض اليومية، وفتحت عيني على الدنيا وأنا أرى أبي يستيقظ قبل الفجر ليؤدي الصلاة ويبتهل إلى الله بالدعاء، ولا يزال على مصلاه إلى ما بعد طلوع الشمس فلا يتناول طعام الإفطار حتى يفرغ من أداء الفرض والنافلة وتلاوة «الأوراد» ... •••

ورأيت والدتي في عنفوان شبابها تؤدي الصلوات الخمس، وتصوم وتطعم المساكين، وقلما ترى النساء مصليات أو صائمات قبل الأربعين. وندر بين أقاربي من لا يسمى باسم من أسماء النبي وآله سواء منهم الرجال والنساء أو من أسماء الأنبياء على العموم، وكان في بيت أخوالي درس لقراءة الكتب الدينية، وأذكر منها مختارات الأحاديث النبوية، وإحياء علوم الدين؛ فللوراثة شأن فيما عندي من سليقة الاعتقاد.

أما الإيمان بالشعور فذاك أن مزاج التدين ومزاج الأدب والفن يلتقيان في الحس والتصور والشعور بالغيب، وربما كان «وعي الحياة» شعبة من «وعي الكون»، أو من «الوعي الكوني» الذي يتعلق به كل شعور بعظمة العالم، وعظمة خالق العالم ... والوعي الحيوي مصدر النفس والوعي الكوني مصدر الدين.

أما الإيمان بالله بعد تفكير طويل، فخلاصته أن تفسير الخليقة بمشيئة الخالق العالم المريد أوضح من كل تفسير يقول به الماديون، وما من مذهب اطلعت عليه من مذاهب الماديين إلا وهو يوقع العقل في تناقض لا ينتهي إلى توفيق، أو يلجئه إلى زعم لا يقوم عليه دليل، وقد يهون معه تصديق أسخف الخرافات والأساطير فضلا عن تصديق العقائد الدينية، وتصديق الرسل والدعاة. فالقول بالتطور في عالم لا أول له خرافة تعرض عنها العقول؛ لأن ابتداء التطور يحتاج إلى شيء جديد في العالم وحدوث التطور بغير ابتداء تناقض لا يسوغ في اللسان فضلا عن الفكر أو الخيال، والقول بالاتقاء الدائم من طريق المصادفة زعم يهون معه التصديق بالخرافات، وخوارق العادات في تركيب الأجسام أو الأحياء.

والقول بأن المادة تخلق العقل كالقول بأن الحجر يخلق البيت، وأن البيت يخلق الساكن فيه، وأيسر من ذلك عقلا، بل ألزم من ذلك عقلا أن يقال إن العقل والمادة موجودان، وإن أحراهما بأن يسبق الآخر ويخلقه هو العقل؛ لأن المادة لا توجد ما هو أفضل منها، وفاقد الشيء لا يعطيه ... فأنا أومن بالله وراثة، وأومن بالله شعورا، وأومن بالله بعد تفكير طويل.

هذا في مجال العقيدة ... •••

أما في مجال الأخلاق، فلا موجب عندي لعمل الخير غير طلب الكمال، وفهم الكمال ...

ومن الخير ما هو عسير على النفس، محفوف بالخطر، مكروه العواقب، مستهدف للنقد والمذمة بين من يجهلونه أو يصابون في منافعهم من جرائه، فلا باعث لعمل هذا الخير أقوى من باعث الشوق إلى الكمال والارتفاع بالنفس إلى ما ترضاه ...

إن الإنسان لا يرائي بحب الطعام الجيد أو الطعام المفيد، إنه يحبه في السر كما يحبه في العلانية، وإنه ليبذل فيه ثمنه وإن غلا ويجلبه من مكانه وإن بعد، وإنه ليكتفي به ويحسبه جزاء حسنا، ولا ينتظر عليه المثوبة أو الشكران من أحد؛ لأنه يتناوله لنفسه ولا يتناوله مرضاة لغيره.

وهكذا طعام العقل أو طعام الروح حيثما عرفت الروح ما يصلح لها، وما يليق بها من طعام، إنها لا تستريح بغيره، ولا تتوانى عن طلبه، ولا تنتظر المثوبة أو الشكر؛ لأنها تختار غذاءها فتحسن اختياره، ولا ترضى بما دونه، وإنما المهم أن تعرف هذا الغذاء فإذا هي عرفته فلا باعث لها إلى الخير أقوى من الشوق إليه، ولا وازع لها، ولا عقوبة تخشاها في سبيله أوجع من فواته والحرمان منه ...

وقد ترى الطفل يؤجر على تجرع الدواء، ويساق إليه بالحيلة والإغراء؛ لأنه لا يعرف ما هو الداء، ولا ما هو الدواء ...

ولكنك تنتظره سنوات حتى يعرف هذا وذاك فإذا هو يبذل الأجر لمن يعطيه الدواء، ويسعى إليه عند الأطباء في أبعد الأرجاء، وما تغير طعم الدواء، ولا تغير عمله، ولا تغيرت الحاجة إليه، ولكن تغير شعور الطفل بالصحة الجسدية، وتغير شعوره بالواجب عليه لتصحيح جسده، وتغير فهمه «للكمال» في عالم الأجساد. •••

وهناك عالم للضمائر، وعالم للأفكار، وعالم للأذواق والأخلاق، كما هناك عالم للأجساد، وهناك أطفال في هذه العوالم كما هناك أطفال في ذاك.

وهؤلاء الأطفال هم الذين يقبلون الصحة؛ لأنهم يثابون عليها، ويتجرعون الدواء؛ لأنهم يساقون إليه، فدعهم حتى يكبروا في أعمار العقل، أو في أعمار الضمير، ولا تتكلف أن تعرض عليهم الدواء، أو تلحف عليهم في تعاطيه؛ لأنهم ينشدونه حيث كان، ويبذلون فيه أغلى الأثمان ...

في عالم الأخلاق لا باعث إلى الخير أقوى من شعور الإنسان بكماله، ولا وازع عن الشر أقوى من شعور الإنسان بنقصه، ولا أخلاق لمن يحسن؛ لأنه يؤجر على الإحسان، أو يسيء لأنه في أمان.

فساعة من الغبطة ببلوغ الكمال هي غاية ما تصبو إليه النفس من مراتب السعادة، وساعة من تبكيت الضمير على النقص هي غاية ما تنحدر إليه النفس من الشقاء.

وإيماني في المعاملات أن الطيبة موجودة في الطبيعة الإنسانية، ولكنك لا تجدها في كل إنسان ولا تجدها في جميع الأوقات ...

ولكنك إذا بحثت عن المعين لم تضمن وجوده حين تريده، وإذا وجدته حين أردته لم تضمن أن يوافقك على رأيك ويساعدك على قصدك، فلعله يعين إذا اعتقد وجه الصلاح في العمل الذي يدعى إليه، ولعله لا يعتقد اعتقادك فيما ترى من الصلاح. •••

فلا تقنط من طيبة الناس كل القنوط، ولا تعول عليها كل التعويل، بل أحسن الظن بالناس كأنهم كلهم خير، واعتمد على نفسك كأنه لا خير في الناس.

وقديما قلت:

أنا لا ألوم ولا ألام

حسبي من الناس السلام

أنا إن غنيت عن الأنا

م فقد غنيت عن الملام

وإذا افتقرت إليهم

فاللوم من لغو الكلام

ولا أزال كلما نسيت هذه الخطة في سهوة من السهوات ردتني الحوادث إليها ، وزادتني إيمانا بصوابها. •••

وإيماني بالأدب أنه رسالة عقل إلى عقول، ووحي خاطر إلى خواطر، ونداء قلب إلى قلوب.

وأن الأدب في لبابه قيمة إنسانية، وليس بقيمة لفظية.

فالأديب الذي يقرؤه القارئ فلا يعرف شيئا جديدا، ولا يحس بشيء جديد، فسكوته خير من كلامه.

والأديب الذي يقصر جهده على التسلية وإزجاء الفراغ خادم جسد، وليس بصاحب رسالة في عالم العقل والروح، والعلاقة بين الكاتب وقارئه علاقة تعاون واشتراك لا يغني فيها الجهد المفرد على الجهدين المتساندين.

فالقارئ الذي يفرد الكاتب بواجب التفهيم لا يستحق من الكاتب أن يلتفت إليه؛ لأنه واحد من ثلاثة: فإما رجل يظن أن القراءة لا تستحق التعب وهو يتعب في طلب اللهو والتسلية، فلا نفع فيه.

وإما رجل يتعب فكره ولا يصل بالتعب إلى نتيجة فذلك أيضا لا نفع فيه، وإما رجل لا تهمه نتيجة القراءة التي يتسلى بها أو يتعب فيها، فهو كصاحبيه لا نفع فيه. •••

وإيماني بالشهرة والثناء كإيماني بالثواب والجزاء فما أجفلت قط من نقد، ولا توسلت قط إلى ثناء، ويعزيني عن كثير من الثناء أن الناس لا يبذلونه لمن يكبرونه بل يبذلونه لمن لا يملأ قلوبهم بالإكبار، ولا يبلغون من إعظامه مبلغا يحسدونه وينفسونه عليه، وأن الأدب شيء هين كل الهوان إن ضاعت قيمته بكلمة حاسد أو جاءت قيمته من كلمة كاذب منافق، فإذا كانت له قيمة فلا خوف عليها، وإن لم تكن له قيمة فلا حرص عليه. •••

وبعد، فإيماني كله في العقيدة والأخلاق والمعاملة والأدب يوزن بميزان واحد وهو ميزان المثل الأعلى، أو طلب الكمال؛ لأنه إيمان يغنينا عن طلب الجزاء، ويعزينا عن فقدان الحمد والثناء ... (2) لو عدت طالبا

من قديم الزمن يشعر كل طالب في حياته المدرسية بالتنازع بين قطبين متقابلين، أحدهما ما نسميه «بالنظام» والآخر ما اشتهرت به الطفولة والشباب من حب التمرد والهرب ومخالفة النظام.

فالتلمذة بغير نظام مستحيلة، ولا بد لكل مدرسة من مواعيد وفصول وواجبات في المدرسة، وواجبات في خارجها، ولا بد للتلميذ من القيام بهذه الواجبات إذا أراد أن يضمن النجاح، ومن لم يأخذ نفسه برعايتها حقا فهو على الأقل مضطر إلى رعايتها غشا وتزييفا؛ لأنها لا يمكن أن تخرج كل الخروج من الحساب ...

لا بد للتلمذة من نظام ...

ولكن من القول في الطفولة أو في الصبا الباكر على العموم، وكلاهما ملازم للتلمذة في أدوارها الأولى؟

هل يمكن أن تخلو الطفولة من قلق وعربدة و«شقاوة»، وولع بالشيطنة والمخالفة؟

لا يمكن ... فلا بد من فلتة، إن لم تكن الطفولة كلها فلتة في نفوس الشذاذ الميئوس من فلاحهم، وهم غير قليلين ...

نظام وشيطنة، أو نظام ومخالفة، وهذان هما القطبان اللذان يتنازعان كل تلميذ في دراسته الباكرة، إن لم يتنازعاه في جميع أدوار الدراسة بعد سن الطفولة والصبا، فقد قرأت للقس الإنجليزي الفيلسوف المطران «إنج» أنه هو وزملاءه في كلية اللاهوت كانوا «يعاكسون» أستاذهم الكبير «فارار» على توقيرهم لعلمه وحبهم لشخصه، وكانوا يتعمدون أن يسوقوه إلى تكرير لوازمه ليضحكوا منها في «أكمامهم» كما يقول الإنجليز ...

وهؤلاء رجال لاهوتيون من أهل الورع والوقار، فما بالك بالتلاميذ الطلقاء من رهبة الدين وسمت الهيبة والسكينة؟!

فإذا عدت طالبا، فماذا أصنع بين هذين المتنازعين؟ ... هل أندم على قلة النظام أو على قلة التمرد فيما سلف من تلك الأيام؟

أحسب أنني أخذت من كليهما الكفاية، وأنني لا أبالي أن أعود كما كنت بغير تبديل كثير ...

كنت «نظاميا» في مواعيدي، فلا أذكر أنني تخلفت عن موعد حضور أو موسم امتحان أو حصة مذاكرة حين تفرض للمذاكرة حصص في ختام السنة الدراسية ...

وكنت إذا خالفت النظام، فإنما أخالفه في شيء يعنيني، ولا يعني المهتمين بدروسي وواجباتي.

إنما أخالفه في قليل من «البهدلة» التي تظهر في إهمال الملابس، وإهمال الحلاقة، وربما خالفته حبا للسرعة لا حبا للبهدلة والإهمال، فإنني لم أكن أطيق أن أنتظر «البذلة» عند الكواء، ولم أكن أعطي اللبس - ولا أنا أعطيه الآن - أكثر من بضع دقائق في عجلة وهرولة، وقد أترك للفراش تغيير «البذلة» دون أن أختار له «بذلة» أخرى، وقد يغيرها وأنا لا أعلم بالتغيير ... •••

لهذا كنت في مقدمة التلاميذ المرضي عنهم من وجهة النظام، وكان بعض الأساتذة وبعض الزملاء يتناولونني أحيانا بنكتة هنا وتشنيعة هناك من أجل البهدلة الكسائية، ولكنهم كانوا مع ذلك يتجاوزون عن هذه البهدلة اضطرارا إذا وجب استقبال زائر كبير بخطبة أو تحية شعرية، أو وجب حل مسألة حسابية أو حل مشكلة من مشكلات الأجرومية الإنجليزية يعيى بعلاجها زملائي المتخلفون في الحساب واللغة ...

وكنت - لحسن الحظ - محسوبا من المفرطين في رعاية النظام وأداء الواجبات، حين كنت في الحقيقة مفرطا في الخروج على النظام وإهمال الواجبات ... •••

كنت أجلس إلى المصباح في حجرتي حتى منتصف الليل أطالع وأذاكر، في ماذا؟!

كلهم في المنزل يحسبون أنني أذاكر دروسي وأطالع كتب المدرسة، ويصفونني من أجل ذلك بالغيرة على الواجب والأنفة من التأخر في الترتيب، وكلهم في الواقع لا يعلمون الحقيقة؛ لأنهم لا ينظرون في الكتب والدراسات التي أدمن مطالعتها ...

إنها تارة ديوان شعر، وتارة أخرى قصة من قصص ألف ليلة ونحوها، وتارة غير هذه، وتلك مجلة شهرية «كالمقتطف»، و«الهلال»، و«المحيط»، و«المفتاح»، وغيرها من مجلات تلك الأيام!

ولهذا لا يسوءني أن أعود طالبا، فأعود نظاميا على هذه الوتيرة؛ إذ هي نظامية تجمع بين قضاء حق الواجب، وقضاء حق التمرد في رأي الذين يطالبونني بالنظام ... •••

كدت أنسى أن أقول للقارئ إن هذه المغالطة لم تكن غاية شوطي من التمرد على النظام أيام التلمذة ...

فقد ذهبت في التمرد إلى النقيضين، وكان بعض هذا التمرد خطرا على الحياة؛ لأنه كان يغريني بالسباحة في النيل، وما أدراك ما النيل عند أسوان؟!

إنه يبلغ من العرض قرابة ميل، ويندفع فيه التيار من شلال وراء شلال، وتلتف الدوامات بصخوره، فلا يقدر على عبورها غير السابح الخبير، وتكمن التماسيح في مائه متربصة بالسابحين، ولا سيما قبل تمام أعمال البناء على عيون الخزان ...

وكنا نخرج من المنازل وعلى سيقاننا خواتم سليمان مرسومة بالمداد الخفيف الذي لا يحتمل الماء، ولكننا مع هذا كنا نستجيب لغواية النيل، ونعوم بين جزائره المترامية في أخطر أيام الفيضان، ونعتمد على فن الرسم لإخفاء معالم العصيان، فلا يخذلنا هذا الفن إلا حين ننسى ونتعجل، فنرسم خاتم سليمان على اليمنى بدلا من اليسرى، أو على اليسرى بدلا من اليمنى، فيأخذ منا النظام حقه عصيا، أو سياطا معدودات ... ثم نعود إلى العصيان وتزييف خاتم سليمان. •••

هذه مجازفة في سبيل الرياضة البدنية ...

مجازفة بالخروج على النظام، ومجازفة بالتعرض للغرق، ومجازفة بالتعرض للعقاب ...

فهل كنت مع هذا من محبي الرياضة البدنية؟

كلا ... بل كنت أغيب عن حصتها عمدا، وأعلم أن جزاء الغياب حبس ساعات ...

وهذا هو الذي عنيته حين قلت فيما تقدم: إنني ذهبت في التمرد إلى النقيضين، وأعود فأسأل نفسي وأسأل القارئ أيضا: هل هما نقيضان حقا؟ وهل السباحة التي نهواها «كالجمباز» الذي نساق إليه على الرغم منا ونهدد بالعقاب لنقبل عليه مكرهين؟

من جهة، هما نقيضان ...

ومن غير هذه الجهة لا تناقض بين هوى السباحة، وكراهة الجمباز المفروض بالإكراه، فقد يكون الذنب على الطريقة لا على الجمباز ...

ولكنني بعد هذه السنين الطوال أقول: إنني أود لو عدت طالبا لأمسح «تمردي» في صفحة واحدة هي صفحة الألعاب الرياضية، فقد تعبت كثيرا من جراء كراهتها وإهمالها، ولو أنني أعطيتها جانبا من الوقت إلى جانب الأوقات التي أخذها المعري وشركاؤه لاسترحت في بدني من بعض المتاعب ولعلي أكفر - من حيث لا أشعر - عن خطيئتي في حقها بما كتبته وكررته عن فضائلها وحقوق أبطالها، فهي في رأيي أحد الترياقين الموصوفين لكل أمة تشكو الخمول وتطلب السلامة والقوة، والترياق الآخر هو الفن الجميل ...

لو عدت طالبا ...

ولماذا أعود طالبا؟ ... إن كانت العودة للتكفير عن خطيئة الألعاب الرياضية، فالصلح معها على طريقتنا المختارة يغنينا عن مشوار الرجوع كل تلك السنين ... •••

كلا ... لا أحب أن أعود؛ لأن الحاضر خير من الماضي فيما أرى، وبخاصة حين نعود إليه. وإنما يحلو الماضي حين ننظر إليه بأعيننا الحاضرة ...

فلننظر بها قانعين إلى ما بين أيدينا من السنين ... (3) فلسفتي في الحب

ما ليس بالحب أسهل في التعريف مما هو الحب، وهكذا الشأن في كل تعريف لمعنى من المعاني أو كائن من الكائنات، فنحن نستطيع في لمحة عين أن نعرف أن زيدا ليس بعمرو، ولكننا لا نستطيع في هذه السهولة أن نذكر تعريف عمرو أو زيد، ونحيط بأوصاف هذا أو ذاك، ولو كنا من أعرف العارفين بالاثنين ...

وعلى هذا القياس نعرف الحب من طريق النفي قبل تعريفه من طريق الإيجاب ...

فليس الحب بالغريزة الجنسية؛ لأن الغريزة الجنسية تعم الذكور والإناث، ولا يكون الحب بغير تخصيص وتمييز.

وليس الحب بالشهوة؛ لأن الإنسان قد يشتهي ولا يحب، وقد يحب وتقضي الشهوة على حبه.

وليس الحب بالصداقة؛ لأن الصداقة أقوى ما تكون بين اثنين من جنس واحد، والحب أقوى ما يكون بين اثنين من جنسين مختلفين.

وليس بالانتقاء والاختيار؛ لأن الإنسان قد يحب قبل أن يشعر بأنه أحب، وقبل أن يلتفت إلى الانتقاء والاختيار.

وليس الحب بالرحمة؛ لأن المحب قد يعذب حبيبه عامدا أو غير عامد، وقد يقبل منه العذاب مع الاقتراب، ولا يقبل منه الرحمة مع الفراق ...

والحب كذلك يعرف جزءا جزءا قبل أن يعرف كاملا شاملا مستجمعا لكل ما ينطوي عليه.

ففي الحب شيء من العادة؛ لأن المحب يهون عليه ترك حبيبه إذا كان تركه لا يغير عاداته ومألوفاته، وأقوى ما يكون الحب إذا طال امتزاجه بالعادات والمألوفات ...

وفي الحب شيء من الخداع؛ لأن المرأة الواحدة قد تكون أفضل المخلوقات في عين هذا الرجل، وتكون شيئا مهملا لا يستحق الالتفات في عين ذاك، ثم تعود كالشيء المهمل في عين الرجل الذي فضلها من قبل على جميع المخلوقات ...

وفي الحب شيء من العداوة؛ لأن المحب مكره على البقاء في أسر الحب، عاجز عن الإفلات من قيوده، ويقترن الشعور بالإكراه، والعجز دائما بشعور النقمة والعداء ...

وفي الحب شيء من الأنانية ولو أقدم صاحبه على التضحية؛ لأنه لا يترك محبوبه لغيره ولو كان في ذلك إسعاده ورضاه، ولكنه قد يضحي بنفسه إذا اعتقد أن محبوبه لا يصير إلى سواه ...

وفي الحب شيء من الغرور، ولولا ذلك لما اعتقد الإنسان أن إنسانا آخر يهمل الألوف من أمثاله ليخصه وحده بتفضيله وإيثاره ...

وقد يخلو الحب من كل شيء إلا من شيء واحد، وهو الاهتمام ... فصدق إن قيل لك إن حبيبا يبغض حبيبه ويؤذيه، وصدق إن قيل لك إن حبيبا يتقبل من حبيبه البغض والإيذاء، وصدق إن قيل لك إن الحب والازدراء يجتمعان، وصدق إن قيل لك إن الحب يخون أو يقبل الخيانة من المحبوب، فأما إن قيل لك إن حبا يبقى في النفس بغير اهتمام، فذلك هو المحال الذي لا يقبل الصديق. •••

وفي الحب شيء من القضاء والقدر، كما يعبرون عنه في لغة الحوادث والتحقيقات ...

لماذا ولد فلان؟ لماذا مات علان؟ لماذا أحب فلان؟ إن «التأشير» على المحضر بكلمتي «القضاء والقدر» هو أصدق ما يقال في تعليل هذه الأحداث المتشابهات؛ لأنها كلها من أطوار الحياة التي لا يملكها الإنسان، ولا يحسب أنه سيطر عليها حتى يرى أنها هي مسيطرة عليه ...

وإلا فماذا تقول إذا سألك سائل: لماذا أحب فلان فلانة؟ ألأنها أجمل من يرى من النساء؟ ألأنها أقرب الناس إليه؟ ألأنها تجزيه الحب بمثله؟ ألأنها تروعه بالفطنة النافذة والخلق الحميد؟ ألأنها تنفرد بمزية من المزايا لا توجد في العشرات والمئات؟

ماذا تقول غير «القضاء والقدر» إذا كانت «لا» هي جوابك على كل سؤال من هذه الأسئلة؟ ولعلها هي كذلك جواب المحب المفتون!

فقد تعمى الأبصار عن الحب كما تعمى عن الأقدار، أو يسير الحب إلى فريسته كما قال ابن الرومي في مسير القضاء:

أو مسير القضاء في ظلم الغي

ب إلى قاصد له بالتواء

وربما خطر للفريسة المخدوعة أنها تهرب وتمعن في الهرب، وهي تقترب في كل خطوة من الشرك المنصوب في الخفاء، وربما أنكر المحب أنه محب كما ينكر السكران أنه سكران، بل لعله يشتد في الإنكار كلما اشتد به الدوار، ولا يدري أنه قد سكر حقا إلا حين يأخذ في الإفاقة، ويقوى بعض القوة على فتح عينيه وتحريك قدميه.

وأوجز ما يقال : إن الحب قضاء يملك الإنسان ولا يملكه الإنسان، ولو دخل في مشيئته لما استولى عليه، ولا غلبه على أمره ...

قال بعض الحكماء: إن الحجر الذي تقذفه بيديك يحسب أنه يطير في الجو باختياره، لو كان له شعور ...

وهكذا يحسب العاشق وهو يتهالك على معشوقته ... يحسب أنه هو الذي يريد ما يصيبه، ولا يزال على حسبانه حتى يحاول ألا يريد، فلا يستطيع ...

وخلاصة القول: إن الحب عواطف كثيرة، وليس بعاطفة واحدة، ومن هنا كان أقوى وأعنف من العواطف التي تواجه النفس على انفراد ...

ففيه من حنان الأبوة، ومن مودة الصديق، ومن يقظة الساهر، ومن ضلال الحالم، ومن الصدق والوهم، ومن الأثرة والإيثار، ومن المشيئة والاضطرار، ومن الغرور والهوان، ومن الرجاء والقنوط، ومن اللذة والعذاب، ومن البراءة والإثم، ومن الفرد الواحد، والزوجين المتقابلين، والمجتمع المتعدد، والنوع الإنساني الخالد على مدى الأجيال ...

والذي يعجب لذلك يعجب في الحقيقة من أقرب الأشياء إلى المألوف، وأبعدها من العجب والغرابة.

فكيف يكون الحب شعورا يستولي على نفسين كاملتين، ثم يخلو من كل ما يخامر النفوس في مختلف الأوقات والأحوال؟!

وكيف يكون الحب مشتملا على جسدين، ثم لا يضطرب فيه النزاع بين الجسدين والنفسين كما يضطرب الجسد الواحد في منازعة النفس الواحدة، ثم يزيد على هذا الاضطراب؟!

وكيف يكون الحب ترجمانا لإرادة النوع، ثم لا ينطق بكل عاطفة يتسع لها كيان الإنسان؟! •••

يسألونك عن الحب، قل هو اندفاع جسد إلى جسد، واندفاع روح إلى روح ...

ويسألونك عن الروح، فماذا تقول؟

قل هي من أمر ربي ... خالق الأرواح!

لهذه الكثرة الزاخرة في عناصر الحب، تكثر العجائب في العلاقات بين المحبين فيجمع الحب بين اثنين لا يخطر على البال أنهما يجتمعان ...

ويتكرر الحب في حياة الإنسان الواحد حتى ليكون المحبوب اليوم على نقيض المحبوب بالأمس في معظم المزايا ومعظم الصفات ...

ويتقارب البعيدان، ويتباعد القريبان، ويتجدد القلبان بين آونة وأخرى كأنها من طبيعة الجان، والواقع أن العاطفة حرارة ونار، ولا فرق بين طبيعة الجان وطبيعة النيران ...

إلا أن القلوب أقرب إلى التناسب والتجاوب إذا هي تناسبت في العمر، وتجاوبت في المزاج، وحب الفتى للفتاة كحب الفتاة للفتى لا يدوران على الجسد وحده كما قد يخطر على البال، ولكنهما يتناسبان ويتجاوبان؛ لأنهما ينظران إلى الدنيا بعين واحدة، ويستقبلان الحياة بشوق واحد، ويطربان ويغضبان على نحو واحد، ويعطيهما الجسدان المتشابهان فرصة واحدة للتفاهم على الآراء، وتبادل الخواطر والأهواء.

فلا تجاوب بين المحبين أقرب ولا أعم، ولا أقوى من تجاوب العمر والمزاج ...

ولكن اختلاف السن قد يفتح الأبواب لداعية من دواعي التجاوب بين النفسين لا تتوافر في السن الواحدة على الدوام. وحاجة نفس إلى عطف الأبوة، وطمأنينة التجربة، وسكينة الرضى قد تقابلها حاجة نفس إلى دفء العاطفة، وحماسة الرغبة، وإسداء العطف والرعاية، فتقبل النفس على النفس، ويعتصم الضمير بالضمير، ويقع التبادل بين بضاعتين مختلفتين لا بين بضاعة واحدة من كلا الطرفين. ولكنها الندرة التي لا يقاس عليها، والمصادفة التي لا تنتظم في حساب، وكأنما يختلقها الحب اختلافا ليفتح باب الشك فيه، ويبطل اليقين في أمره، وهو لا يتقي خطرا من الأخطار كما يتقي خطر اليقين الجازم والضياء الحاسم؛ فالحب بخير ما دام في القلب باب للشك مفتوح ... فإذا أوصد الباب مصراعيه على يقين لا شك فيه، فالحب مارد في قمقم مأمون، أو رفات في قبر مدفون ...

وخلاصة التجارب كلها في الحب أنك لا تحب حين تختار ولا تختار حين تحب، وأننا مع القضاء والقدر حين نولد وحين نحب وحين نموت؛ لأن الحياة وتجديد الحياة وفقد الحياة هي أطوار العمر التي تملك الإنسان، ولا يملكها الإنسان ...

وقد تسألني في خاتمة المطاف: هل الحب إذن أمنية نشتهيها؟ أو هي مصيبة نتقيها!

ولي أن أقول: إنه مصيبة حين تحمل به نفسا ثانية مع نفسك وأنت تريدها ولا تريدك، وإنه أمنية حين تتعاون النفسان ولا تتخاذلان ...

وليس بالمصيبة، ولا يكفي فيه أن يوصف بالأمنية، حين لا عبء ولا تخفيف، بل تنطلق النفسان محمولتين معا على كاهل «النوع» كله أو على أجنحة الخلود التي تسبح في أنوار عليين ... وما من محبين إلا اتفقت لهما هذه الرحلة السماوية في سهوة من سهوات الأيام ... (4) فلسفتي في الحياة

من فلسفة الحياة ما نستمده من الطبع الموروث ...

ومنها ما نستمده من تجربة الحوادث والناس ...

ومنها ما نستمده من الدرس والاطلاع ...

وهي في اعتقادي على هذا الترتيب في القوة والأصالة، فلا يتفق الناس في فلسفة الحياة إذا كان بينهم اختلاف في الطبع الموروث، وإن اتفقوا في الدرس والاطلاع، أو اتفقوا في تجارب الحياة ...

وأهم جانب من جوانب فلسفتي في الحياة هو ما استفدته من الطبع الموروث، وجاءته بعض الزيادة من التجربة أو القراءة ...

وأعني به قلة الاكتراث للمقتنيات المادية ...

فأعجب شيء عندي هو تهالك الناس على اقتناء الضياع والقصور، وجمع الذخائر والأموال ... •••

وربما امتد العجب من هذا إلى ما هو أكبر وأعظم إلى رجالات التاريخ، وأبطال الفتوح والغزوات ...

فالمتوسعون في الفتح أعجب عندي من المتوسعين في الثراء، وكلامي عن هتلر ونابليون والإسكندر هو أثر من آثار هذه العقيدة أو هذا الشعور ...

وقد يخطر لبعض القراء أنها «فلسفة نظرية»، أو نزعة من نزعات الرأي والتدبير ...

أما الواقع الذي أعلمه من نفسي فهو أن الطبع أغلب هنا من التطبع ...

فلم أشعر قط بتعظيم إنسان لأنه صاحب مال، إن لم يكن أهلا للتعظيم بغير مال ...

ولم أشعر قط بصغري إلى جانب كبير من كبراء الثراء، بل شعرت كثيرا بصغرهم حيث يستحقون التصغير ...

وكنت أعتقد دائما أن نابليون مهرج إلى جانب باستور، وأن الإسكندر المقدوني بهلوان إلى جانب أرشميدس، وأن البطل الذي يخوض الحرب ذودا عن الحق والعقيدة أكرم جدا من كل «بطل» يقتحم الحروب ليقال إنه دوخ كذا من الأمم، وفتح كذا من البلدان ...

من هنا كنت قليل المبالاة بالمقتنيات المادية؛ لأن احتواءها لا يعظم من يحتويها في نظري، ونقصها عندي لا يصغرني بالنسبة إليه ... •••

أما فلسفتي في الحياة من الناس، فأثر التجربة والدرس فيها أغلب من أثر الطبيعة الموروثة ...

كنت أتعب في معاملتهم، ثم عرفت ما أنتظره منهم، فأرحت نفسي من التعب ...

واتخذت لنفسي شعارا معهم: ألا تنتظر منهم كثيرا، ولا تطمع منهم في كثير.

والطمع في إنصاف الناس، إذا كان في الإنصاف خسارة لهم، أو معارضة لهواهم، هو الكثير الذي ما بعده كثير.

فهم منصفون إذا لم يكلفهم الإنصاف شيئا، ولم يصدمهم في هوى من أهوائهم ...

ومنهم المنصف وإن جنى عليه الإنصاف، ولكنه واحد في ألوف ... لا تجده في كل حين ...

ولقد رضت نفسي معهم على هذه الحقيقة، وتعودت منهم مجافاة الإنصاف حتى كدت أشعر بشيء من «خيبة الرجاء» إذا وقعت اتفاقا على أحد المنصفين!

فهل هم أهل خير؟

هل هم أهل شر؟

ليبحث من أراد أن يبحث في أمرهم على مهل، ولكنه قادر على أن يستريح معهم في خلال ذلك إذا لم يطمع في خيرهم وهم أخيار، ولم يحفل بشرهم وهم أشرار ... •••

وفلسفتي في العمل تتلخص في أصول ثلاثة هي:

قيمة العمل فيه ...

وقيمة العمل في بواعثه لا في غاياته ...

وأساس العمل كله نظام ...

فإذا علمت شيئا له قيمته، فثق أنها قيمة «محفوظة» لا ينقص منها قول منكر، ولا يزيد فيها قول معترف ...

وإذا لم تبلغ بك الثقة هذا المبلغ فاجعلها فرضا بين فرضين ليس لهما ثالث: إما أن يكون للعمل قيمة مرهونة به فلا بأس عليه، وإما أن تكون قيمته مرهونة بمشيئة هذا أو ذاك فهو أهون من أن تأسى عليه ...

وقد درج الناس على النظر إلى غايات الأعمال حتى أوشكوا أن يجهلوا بواعثها، أو يغفلوا عنها.

واختلاف البواعث هو الذي ينتهي إلى اختلاف الغايات، فالناس يختلفون في طلب المجد حين يطلبه أحدهم في الرئاسة، ويطلبه غيره في العلم، ويطلبه غيرهما في الثروة، ويطلبه آخرون في الإيمان ...

وإنما اختلفت غاياتهم لاختلاف بواعثهم، فما يبعث هذا إلى العمل لا يبعث ذاك، وما يزهد فيه بعضهم يتناحر عليه غير الزاهدين فيه ...

فعول على صحة الباعث لك على العمل قبل التعويل على صحة الغاية؛ لأنك إذا صدرت عن باعث صحيح هان عليك أن تفوتك الغاية المرجوة، وعملت ما ينبغي أن تعمله، وبقي عمل الزمن أو عمل الأقدار ...

وأصعب الأعمال سهل مع النظام ...

والعمل الكثير مستطاع إذا نيط كل عمل بوقته؛ لأن حكم الأعمال الكثيرة في هذه الحالة حكم العمل الواحد ... ما دام له وقت لا يشترك فيه عمل آخر، وشعاري مع النظام كلمتان: «لا ترتبك» ...

وإنما تأتي الربكة من المفاجأة التي تطرأ على نظامك فتلجئك إلى تغييره ...

فلا تغير نظاما لغيرة ضرورة ...

وإذا حلت الضرورة فلا تتردد في تغييره، وخذ بين ذلك بالمهم في وقته الذي لا يحتمل التأجيل ... •••

فصواب هذه الخطة ثابت من جانب لا شك فيه، وهي أنها كل ما يستطاع وخير ما يستطاع، وإنك بها تعمل شيئا، وبالتردد لا تنتهي إلى عمل شيء ...

فلسفة حياة في بضعة سطور: غناك في نفسك، وقيمتك في عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك، ولا تنتظر من الناس كثيرا ... (5) الحياة ... هل هي جديرة بأن نحياها؟

نعم ... ولكن أي حياة؟ ... لقد عاب القرآن الكريم على بني إسرائيل في عهد النبي خوفهم من الموت، فقال: إنهم أحرص الناس على «حياة»، ولم يقل على الحياة ... لأن الحرص على الحياة واجب طبيعي وواجب إلهي لا عيب فيه، فلا يلام الحي على أن يحرص على الحياة ... وإنما يلام لأنه يحرص على كل حياة وأي حياة، ولو قبل الهوان، وهرب من الواجب، وامتنعت عليه وسائل العمل النافع، ووسائل الرجاء في صلاح الأمور ...

وفي ختام مقال لي عن «فلسفة الحياة» قلت ما معناه: إن الحياة تستحق أن نصونها إذا كانت لنا شروط نمليها عليها وتقبلها، ولكنها غير جديرة بالصون إذا كانت كلها شروطا تمليها هي علينا فنقبلها صاغرين، ولا نملك العرف والعدل فيها ...

وهذا هو الفاصل الحاسم الذي نفرق به بين الحياة الكريمة والحياة المهينة، والحياة الأولى نعمة تصان، والثانية سخرة وسخرية في آن ... ومن الأمثلة التي يتضح بها هذا الفارق مثال الحياة في الشباب المقبل والحياة في الشيخوخة الفانية، فالشاب له أن يأكل ويشرب وينعم ويطرب، وعلى الحياة أن تديم له الصحة والنشاط والقدرة على هضم كل طعام، واحتمال كل شراب، والإعراض حينا بعد حين عن المنام ...

له أن يسرف، وعلى الحياة أن تعوضه تعويضا كاملا عن كل خسارة تصيبه من ذلك الإسراف.

له أن يطيش، وعلى الحياة أن تصبر على طيشه حتى يثوب إلى الحكمة، ويصلح بيديه ما كانت تصلحه هي بيديها ...

له أن يعذب أبويه بالمغامرة والمخالطة، وعلى الحياة أن تحبب إليهما العذاب، وتلهمهما الصفح والحنان ... فهو صاحب شروط، والحياة تتقبل منه تلك الشروط، فهي جديرة بأن يحياها، وهو جدير بأن يتقبلها على هواه وعلى هواها ...

أما الشيخوخة الفانية، فهي على نقيض ذلك من الألف إلى الياء ... حق للحياة أن تحرمها الطعام والشراب شيئا فشيئا، وواجب عليها هي أن تقنع بما بقي لها، وتجرب الاكتفاء بالموجود عن كل مفقود. من حق الحياة أن تطيش معها، ومن واجبها هي أن تتقي ذلك الطيش بالحكمة، وتحسب له الحساب بالتدبير بعد التدبير ... فالحياة كلها شروط تمليها عليه، فيتقبلها، والحياة إذن غير جديرة بأن يحياها ولكنه يحياها، فلماذا؟ ... إنه يحياها بحكم العادة وبحكم الضعف عن فراقها؛ لأن الإنسان لا ينبذ الحياة إلا بقوة مستمدة من الحياة. ومن أجل هذا، كانت نسبة الانتحار بين الشبان أكبر من نسبة الانتحار بين الشيوخ ... •••

ويشبه هذا المثال مثال الفارق بين الحياة المستقلة والحياة المستعبدة لأهواء الآخرين ... فالحياة المستقلة نعمة، والحياة المسخرة «مدة سجن» تقضى؛ لأن المستقل يملك شروطه ويمليها على الحياة فتقبلها، ولأن الحياة تملي شروطها على «المسخر» فلا يملك الفكاك منها ... يعمل المستقل حين يشاء، ويستريح حين يشاء ... أما المسخر فلا يعمل لنفسه، ولا يستريح لنفسه، ولكنه يجري في العمل والراحة على قانون مفروض عليه ولا رغبة له فيه ...

ولنا أن نتخذ الأمثلة من الحياة الفنية كما نتخذها من الحياة الطبيعية، فنقول: إن الحياة الفنية تستحق العناء إذا كان عندك ما تقوله وتصنعه - وفاقا لذوقك، ووحي وجدانك وعقلك - ولكنها لا تستحق عناء قل أو كثر إذا كان كل ما تقوله موافقة لأذواق الناس وعقولهم، ومرضاة لهم في مطالب المصلحة والجد أو مطالب اللهو والفراغ ...

والشروط بالأمل الصحيح كالشروط بالعمل الواقع في تقويم قيم الحياة ... فليس من الضروري أن تكون شروطك كلها منجزة بين يديك في كل ساعة؛ لأن الحياة ليست ساعة واحدة، وليست يوما واحدا، وليست سنة ولا بضع سنوات ... •••

فإذا كانت لك شروط مؤجلة فيها، فهي كالشروط المعجلة على حد سواء، ومثلك في ذلك مثل المنفق على حساب المحصول في المزرعة، وهو يعلم أن المحصول آت لا ريب فيه ... فالحياة مصرف كبير، وأموال المصارف ليست كلها حاضرة منجزة في كل لحظة من لحظات النهار والليل، وإنما تغني عنها الثقة التي لا غنى عنها.

فاقنع بشروط الثقة في بعض الأحوال، كما تقنع بشروط الثقة في كثير من الأحوال ...

والحياة لعوب ماكرة، لا يحيط بمكرها جميع الأحياء ولو كانوا من أبناء آدم وحواء، وهي تعلم أنها تستهوي الخلق باللعب والدهاء، وتحول بينهم وبين الموت بالحيلة الناجحة في كثير من الأوقات، ولولا ذلك لشردوا منها كما يشرد الأطفال من الحبس الكريه الذي لا يلعبون فيه كما يشتهون؛ لهذا تعطي بعض الشروط وتمنع بعضها، فلا تكون جديرة بالحب كله، ولا بالبغض كله في وقت واحد من أوقات عمر الإنسان.

فالشاب له شروط كثيرة على الحياة في الصحة والنشاط، ولكنها قد تملي عليه شروطها الثقيلة في مسائل العمل والمال، أو مسائل الجاه والنفوذ، والشيخ عليه شروط يطيعها في شئون بدنه ونفسه، ولكنه قد يملك شروطه في تدابير المعيشة التي تريحه، ويعوض بها مسافات من راحة العافية والسلامة.

والفنان المستقل قد يقول ما يشاء، ولكن الفنان «الهواش» قد يربح ما يشاء ... ولولا ذاك لانتحر نصف الناس، وعاش الباقون في حكم المنتحرين ... أو منتحرين مع وقف التنفيذ!

قبل أن أطبع ديواني الأول - على ما أذكر - كنا ثلاثة أو أربعة من قراء الشعر والأدب في بعض الضواحي التي يطيب فيها تناشد الأشعار، فتمثل أحدهم بهذين البيتين:

قالوا الحياة شقاء

قلنا فأين النعيم؟

إن الحياة حياة

ففارقوا أو أقيموا

وكان بعضنا لا يعلم أن هذين البيتين من نظمي، فقال هذا الكلام صعب ... هذا كلام استغناء ... كأنه يقول: من لم تعجبه الحياة فليشرب من البحر!

قلت: ليته يجد البحر ليشرب منه؛ لأن الموت قفر تنضب فيه جميع البحار إلا أن تكون حياض الموت التي قال فيها الشاعر:

أتت وحياض الموت بيني وبينها

وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل

فالحق أننا بين أمرين اثنين، لا ثالث لهما: فإما أن تكون الحياة جديرة بأن نحياها، وإما أن يكون الموت جديرا بأن نموته ... ولا خيار بعد هذا الخيار ...

وأحسب أن إيماني بالحياة لم يتبدل منذ نظمت تلك الأبيات، وقد كان إيمانا جديرا بالتقدير والتكرير في غاشية الضعف التي رانت على زملائنا من أبناء الجيل كله أو جله؛ لأنهم كانوا يتباكون، ويظنون أن البكاء علامة الظرف والذوق؟ ويشكون الحقيقة ويظنون أن جهاد الحياة شيء لا يليق بأصحاب المزاج «الرقيق».

وليس معنى هذا أننا لا نشكو من حالة من الحالات، فإن الدنيا ما خلت قط، ولن تخلو أبدا من أسباب الشكاية بسبب معقول أو غير معقول ... ولكننا نعني أن شكوى الطفل لأمه غير شكوى الرجل لنفسه، وأن الحياة حياتنا ... فنحن مسئولون عنها، ونحن نصلحها، ونعالج نقصها، ونجعلها أهلا لنا، أو جديرة بأن نحياها، وقولنا إن الحياة غير جديرة بأن نحياها مرادف لقولنا إننا نحن غير جديرين بالحياة ...

فلا نقل هذا ولا ذاك، ولنقل إن الحياة جديرة بأن نحياها فنراها كذلك ...

الفصل السابع

(1) طفت العالم من مكاني

أعتقد أن كبار الرحالين الذين تستحوذ عليهم رغبة ملحة في الطواف بين أرجاء العالم تملكهم على الرغم منهم «ملكة شخصية» يصح أن تسمى عبقرية السياحة، ويصح أن تتجاوز الحد فتسمى هوسة السياحة ...

وأعتقد أن هذه الملكة الشخصية مستمدة من ملكة قوية أصيلة في الأمة التي يخرج منها أولئك الرحالون المنقطعون للسياحة ...

لأن معظم الرحالين الكبار خرجوا من أمم قد تعود أبناؤها الرحلة، وشقت عليهم الإقامة الطويلة، كالعرب لأنهم من أبناء البادية، والفينيقيين والإغريق لأنهم يقيمون على الشاطئ، ويحتاجون إلى الملاحة، وكالبنادقة والبرتغاليين والإنجليز في العصور المتأخرة؛ لأنهم جميعا بحريون وملاحون ...

وأكثر الرحالين الكبار الذين اشتهروا في التاريخ، ونسب إليهم الفضل في الكشوف الجغرافية، هم من أبناء هذه الأمم، أو أبناء أمم تشبهها في البداوة والاشتغال بالملاحة ...

ملكة شخصية مستمدة من ملكة قومية ...

هذه هي عادة الرحلة التي تغلب على بعض الناس، أو هذه هي هوسة الرحلة إذا تجاوزت حدها المعقول ...

على أنني أعتقد - إلى جانب هذا الاعتقاد - أن ملكة الرحالة غالبة على الرحالين وغير الرحالين.

ولكنها تظهر في صور كثيرة غير صورة الرحلة الخارجية، ومنها الرحلة في داخل النفس أو في عالم الخيال.

وبين كبار الرحالين من هذا الطراز أناس لم يفارقوا مكانا واحدا خلال عشرات السنين كأبي العلاء المعري!

فإنه سمى نفسه «رهين المحبسين» لملازمته داره وحبسه في جسده، ولكنه شاء أن يرحل في كتاب من كتبه - وهو رسالة الغفران - فلم يقنع بأقل من الرحلة إلى السماء، وإلى الجحيم!

وكجول فيرن الكاتب الفرنسي الحديث ...

فإن ما رآه من جوانب الأرض بالقياس إلى المشاهدات المأثورة عن كبار الرحالين شيء لا يذكر، ولكنه ساح بخياله في جوف الأرض، وفي أعماق البحار، وفي أجواء السماء، بل ساح في عالم الغيب، فوصف للناس مخترعات لم تخلق بعد، ثم خلقت في أوانها، فإذا هي كما وصف ...! حتى قال ليوتي القائد الفرنسي الكبير: إن الناس اليوم «يعيشون أحلام جول فيرن» ... •••

لا بد من السياحة إذن في الخارج أو في الداخل! سياحة مع الانتقال، أو سياحة بغير انتقال.

والظاهر - لا بل المحقق - أنني أنا أحد الرحالين بغير انتقال، كما لاحظ بحق أحد أصدقائي، حين علم مرة باعتذاري من تلبية الدعوة إلى كثير من السياحات، وبعضها بغير نفقة على الإطلاق ...

ومع هذا يجوز لي أن أقول: إنني طفت العالم من مكاني الذي لا أبرحه؛ لأنني رأيت في هذا المكان ما يراه الرحالون المتنقلون ...

لقد تعلقت بالسياحة في أوائل صباي، وشاقني أن أسيح هنا وأسيح هناك بين مشارق الأرض ومغاربها، ولكنها كانت كلها كما تبين لي بعد ذلك عارضا من عوارض الصبا التي تنزوي مع الزمن وراء غيرها من الميول المتمكنة في السليقة ، فما زالت تضعف وتضعف حتى ليسعني أن أقول اليوم: إنني لولا رياضة المشي التي تعودتها لما خطر لي أن أبرح المنزل أياما بل أسابيع.

ولذلك سبب مني، وسبب من أحوال العصر الذي نعيش فيه.

فأما السبب الذي مني فبعضه يرجع إلى حب العزلة التي نشأت عليها وورثتها من أبوي ...

وبعضها يرجع إلى شعوري بالقراءة التي تعنيني، فإنني أشعر بأنني لا أقرأ سطورا على ورق، ولكنني أحيا في تلك الأوراق بين أحياء.

ومن هنا ألفت بعض شخوص التاريخ كأنني أعاشرهم كل يوم، وألفت بعض الأدباء في قراءة كلامهم فتمثلتهم في ملامح وجوههم وعاداتهم، في حركتهم وسكونهم، واستمليت من ديوان شاعر كابن الرومي سيرة حياته أو صورة حياته، وثبت له في خيالي شكل لا يتغير ولا يزال يلوح لي على هيئة واحدة كلما طاف بي طيفه في منام.

ومثله المعري والفارابي وابن سينا وطائفة من مشاهير الأدب والفن بين الشرقيين والغربيين.

فلو كنت مصورا لاستطعت أن أرسم لكل منهم صورة كاملة كما يرسم المصور أناسا من الأحياء يراهم كل يوم. •••

أما السبب الذي من العصر، فلك أن تقول إنه في الحقيقة جملة أسباب ...

لأن العاصر الحاضر أول عصر ييسر للإنسان - وهو جالس في مكانه - أن يدرك بالبصر والسمع بلادا واسعة على مدى مئات الفراسخ وألوفها، فينظر مساكنها وسكانها، ويشرف على بطاحها، ويتغلغل في دروبها، ويتراءى له في لحظات من معالم هذه المدينة، أو تلك القرية ما ليس يتراءى لساكنها في ساعات أو أيام.

كانت السياحة هي الوسيلة الوحيدة للإحساس بالبلاد البعيدة.

أما اليوم فنحن نحسها بالعين والأذن كلما أردنا، ونحن في الدار أو على مقربة من الدار ...

الصحف تنقل إلينا أخبارها.

والإذاعة تسمعنا أصواتها وأصداءها.

والصور المتحركة تستدني للآذان - كما تستدني للعيون - كل ما هو خليق منها بمشاهدته أو الاستماع إليه.

وعلم تخطيط البلدان قد يعرفك بما يجهله المقيمون فيها، ومراجع التاريخ قد تملأ نفسك بما يملأ عصورها من الأحداث والذكريات، ونقوش الفنانين وأغاني الشعراء والموسيقيين تهيئ لك أن تنفذ إلى روحها ، وتمتزج بعبقريتها، وتحياها على أحسن أنماطها في الحياة. •••

نعم، إن الإحساس بالمكان - وأنت فيه - غير الإحساس به وأنت على مسافة منه ... ولكن هل نستطيع أن نقول: إن الإحساس بالمكان القريب يغني عن الإحساس بالبعيد؟ أو هل نستطيع أن نقول: إن الإحساس من الداخل يغني عن الإحساس من الخارج؟ أو أن الإحساس بالعين والأذن يغني عن الإحساس بالوعي والخيال؟

هما إحساسان - ولا شك - لازمان ...

والخير كل الخير أن تجمع بينهما، وأن تكون رحلتك الخارجية مقرونة برحلتك الداخلية ...

فإذا تعذر الخير كل الخير، فالخير بعض الخير «خير» من لا شيء!

ولست أزين لأحد أن يفضل طريقتي في السياحة على طريقته، ولكنني أنا على الأقل لن أنقطع عن السياحة في العالم رحالة بغير رحلة، وطوافا بغير طواف! (2) أجمل أيامي

قال: حدثنا عن أجمل أيامك من شبابك إلى مشيبك.

قلت: أمهلني حتى أذكر.

ثم راجعت نفسي قبل أن أمعن في التذكار، وأستقصي ما عندي من ودائع الأسرار والأخبار، فسألتها مصارحا في سؤالها: فيم هذا الإمهال، وفيم هذه المراجعة؟ إنك لا تفعل ذلك إلا أن تكون أيامك الجميلة قد بلغت من الكثرة أن تفوق الحصر والحساب، وأن تحتاج منك إلى العناء في التمييز بينها، وتفضيل ما يذكر منها، بعد طول الأخذ والرد والترجيح والتعديل!

فهل تراك تزعم لنفسك، أو تزعم لقرائك، أنك صاحب هذه الثروة التي لا تحصى من الأيام الجميلة، وأنك في حيرة بين ما تأخذ منها وما تدع، وبين ما تقدم منها وما تؤخر، وبين ما تنشره منها وما تطويه؟

دعواك هذه - إن ادعيتها - لا يدعيها أحد من بني آدم وحواء، فما بلغت السعادة بهذا النوع البشري المسكين أن يستمتع في حياته بكل هذا المقدار من جمال الأيام أو جمال الأوقات التي تحسب بالساعات.

فإن لم يكن هذا مبلغ ثروتك من الأيام الجميلة، ففيم العناء في التذكر والاستعادة، وفيم التسويف والإرجاء؟

هل هذه الأيام الجميلة من الخفاء بحيث يحجبها ظلام السنين عن النظر، وتطويها حوادث الأيام في زوايا النسيان؟

كلا ... ولا كل هذا التواضع «الجميل» في رأي الكثيرين من المزيفين للأقوال والأعمال، فما من إنسان يعمل في دنياه، ويتصل بإخوانه من ذرية آدم وحواء تفوته الأيام المذكورة التي لا تنسى على طول العهد أو التي تغلب النسيان ولو تقلب عليها الليل والنهار.

فلا محل للبحث في أعماق الذاكرة لاستخراج تلك الودائع الباقية، وإنما البحث في أعماق الذاكرة لغرض آخر غير حصر أيام الحياة التي تحسب من الحياة، ونحب من أجلها الحياة.

إنما البحث في أعماق الذاكرة للتمييز بين الأيام التي يحق لنا أن نصفها بالجمال، والأيام التي يكفي أن تحسب من أيام المتعة واللذة، أو أيام السرور والارتياح ...

وبين الصنفين فارق بعيد فيما يذكر وما لا يذكر.

بينهما الفارق الذي يجعل أحد الصنفين جديرا بالغبطة والتنويه ولو لم يكن منه في العمر غير يوم واحد، ويجعل الصنف الآخر على أحسن الأحوال نموذجا يتكرر على نمط واحد، ويكفي أن يذكر منه عنوانه ليغنينا بعد ذلك عن ذكر المئات والألوف من الأيام، يدل عليها ذلك العنوان ... •••

في حياة كل إنسان ذخيرة وافرة من الأيام اللذيذة الهنيئة، والأوقات الرخية الراضية، ولكنك تحسبها من أمتع أيام الحياة، ولا تحسبها من أجمل أيام الحياة.

فمن هذا الذي يعرف ما يذكر وما ينسى من الأيام، ثم يستوقف السامعين ليحدثهم عن الأكلة الشهية التي ساغت له أمس أو قبل عشر سنين؟! ...

ومن هذا الذي يعرف معنى الجمال، ثم يحسب منه تلك الليلة اللذيذة التي قضاها في أحضان الحب والهوى، ونعم فيها بنعومة ذلك الجسد وحرارة ذلك العناق.

هذه اللذائذ لا تفوت إنسانا من بني آدم وحواء، وليست من جمال النفس الإنسانية في شيء، وإنما هي تمرينات محبوبة للحواس ينعم بها كل ذي حس من الحيوان كما ينعم بها كل ذي نفس من بني الإنسان.

ليست هذه أجمل أيام الحياة، ولكنها كما تقدم أمتع أيامها، أو قد تكون في حساب الجسد أحب الأيام إليه.

أما اليوم الجميل فهو اليوم الذي يرتفع بنا إلى مقام فوق المتعة والألم والراحة، وفوق المعدات والأكباد والجلود ، وفوق مطامع النفس التي يغلبها الطمع، ويسومها أن تقبل الجميل والقبيح، وأن ترضى بالحميد والذميم ... •••

اليوم الجميل هو الذي نملك فيه دنيانا ولا تملكنا فيه، وهو اليوم الذي نقود فيه شهواتنا ولذاتنا، ولا ننقاد لها صاغرين أو طائعين.

ومن هذه الأيام ما أذكره ولا أنساه، ولا أحتاج إلى العناء في البحث عن ذكراه ...

فكل يوم ظفرت فيه بنفسي، وخرجت فيه من محنة الشك فيما أستطيع وما لا أستطيع؛ فهو يوم جميل بالغ الجمال.

جميل ذلك اليوم الذي قضيت عشرات الأيام في انتظاره مترددا بين إغراء اللذة وإيحاء الكرامة، حتى وصلت إليه فحمدت لنفسي أنها عملت بما ينبغي أن تفعل، واستطاعت أن تفعله ولا تندم عليه ...

جميل ذلك اليوم الذي ترددت فيه بين ثناء الناس، وبين عمل لا يثني عليه أحد، ولا يعلمه أحد، فألقيت بالثناء عن ظهر يدي، وارتضيت العمل الذي أذكره ما حييت، ولم يسمع به إنسان ...

جميل ذلك اليوم الذي وقفت فيه بين الخوف من عواقب الخروج على زمرة الأقوياء القابضين على أزمة الأمر والنهي في البلد، وبين الرضا بمساوئهم وأباطيلهم، وغنائم رضاي ورضاهم، فخرجت من الزمرة غير ملتفت إلى الوراء، وأسعدني الطالع المبارك، فجمعت بين جرأة المجترئ وحكمة الحكيم، وبين تضحية المجازفة، وثواب الحزم والروية.

جميل ذلك اليوم الذي كاد يحشو جيوبي بالمال، ويفرغ ضميري من الكرامة، فآثرت فيه فراغ اليدين على فراغ الضمير.

جميل ذلك اليوم الذي احتجت فيه، واحتاج فيه مسكين، فغلبت شح النفس، ووجدت بين جوانحي طاقة الصبر على الضيق، ولم أجد فيها طاقة الصبر على منظر العين الذليلة، والقلب الكسير ...

جميل ذلك اليوم الذي استغنيت فيه عن العمل، وملكت فيه ما يغري بالكسل، فطاب لي التعب الذي لا حاجة إليه، ولم يطب لي الكسل الذي يحببه إلي طول الجهد، وقلة الجزاء على العمل الكريم ... •••

هذه الأيام جميلة أجمل ما فيها أن نصيبي منها جد قليل، إلا أن يكون النصيب عرفاني باقتدار نفسي على ما عملت، فهو إذن كثير بحمد الله لا أبادل عليه المكثرين من خيراتهم وطيباتهم، كما يحسبون الخيرات والطيبات ...

أجمل ما في الحياة يوم تملك فيه نفسك، فتعلم أنك ملكت الثروة التي لا يقاس بها ملك المال، ولا ملك اللذة، ولا ملك الثناء.

أيام لا أقول إنها تكثر حتى تعد بالعشرات ولا أقول إنها تندر حتى لا تذكر، ولكنني أذكرها وقد سئلت عنها؛ لأنها تعريف بالجمال حين نتحدث عن جمال الأيام، وعزاء لمن قنع بها من حياته ليعلم أنها تبقى في الذاكرة، وأنها محصول سني العمر، ويحمده من ملكه، ولو لم يملك سواه ... (3) أكره الصيف

قال شاعر حديث:

يطلب الإنسان في الصيف الشتا

فإذا جاء الشتا أنكره

ليس يرضى المرء حالا واحدا

قتل الإنسان ما أكفره!

1

أما أن الإنسان كنود كفور، فحقيقة لا شك فيها، إنه كثيرا ما ينعم بالخير فلا يشكر ولا يذكر، وكثيرا ما يقابل الخير بالشر، والإحسان بالإساءة، فلا يخطئ الشاعر الذي ينعى عليه كنوده ونكرانه، وكفره بنعماء ربه وبني جنسه ... •••

وقريبا كنت أعاود القراءة في مقالات طبيب عالم فاضل له شهرة بالعطف على الحيوان، فقرأت للمرة الثالثة أو الرابعة قوله: إن «حب النوع الإنساني» فضيلة عليا، ولكنه هو «آسف لأنه لا يستطيع أن يدعي هذه الفضيلة» ... وحسبه منها أنه قانع بحبه لأنواع الحيوان ومصاحبته لما عنده من الكلاب والقردة، وهو الذي لا يطيق أن يزيد في حديثه مع أحد من الناس على نصف ساعة ثم يحاول النجاة، ويعجب لمحدثه كيف لم يسبقه إلى هذه المحاولة!

قرأت هذا الاعتراف لكاتبه الدكتور «آكسل مونته» أصدق الناس عطفا على العجماوات، فلم أعجب لقراءته في هذه المرة ولا في المرات السابقة؛ لأنه في الواقع رجل صادق لا يخفي حقيقة شعوره، ولا يلقي القول على عواهنه، فإن جنسنا البشري - ولا فخر - يستحق هذا، وأكثر منه من فضلاء أبنائه، والدكتور (آكسل مونته) في طليعة هؤلاء الفضلاء ...

قتل الإنسان ما أكفره ... صدق الشاعر وصدق الطبيب، ولكن الشاعر لم يصب في اختيار «الحيثيات» كما أصاب في الحكم على المتهم، فقد يشتاق الإنسان في الشتاء إلى الصيف، وقد يشتاق في الصيف إلى الشتاء، ولا يستحق وصف الكفر والكنود من أجل هذا! ولا يقال فيه إلا أنه يصبر إلى حين، ثم يخذله الصبر بعد ذلك الحين.

فتقسيم الفصول في الدنيا لم يقصد به الدوام، ولم تجمع الخيرات كلها في موسم واحد، بل وزعت على الفصول كلها، وجعلت في بعض الأقطار فصلا واحدا لا تختلف مواسمه على طول السنة، فلا يلام الإنسان إذا هو تمنى بعض الخير الذي غاب عنه، أو شكا بعض الشر الذي ألح عليه، وقد يمهد له العذر في ذلك «أن الحال من بعضه»، وأن الكرة الأرضية نفسها تتقلب في دوائر الفلك، فلا تصبر على صيف أو شتاء، ولا تقنع بربيع أو خريف ...

وحتى لو كانت «الفصول» رضى النفس في كل موسم لا أحسب أن الملل منها يدل على «الكفر والكنود» كما يدل على طلب التقدم وحب الاستطلاع، فإن الإنسان يترقى ويتقدم لأنه يترقب حالا بعد حال، ويطمح إلى المزيد من الخير الذي يحصل في يديه، ولولا ذلك لبقي على نقصه وسوء حاله، ولم يرتفع إلى طبقة بعد طبقة في تاريخه، ولو جاز لنا أن نلوم الإنسان؛ لأنه يتغير ويحب التغير، لجاز لنا أن نلوم الطفل الذي ينتقل إلى الصبا، ونلوم الصبي الذي ينتقل إلى الشباب، ونلوم الشاب الذي يبلغ كمال الرجولة مع الزمن، ثم لا يقنع بذلك حتى يتمنى الخلود.

كلا أيها الشاعر الحكيم الذي صدق في حكمه ولم يصدق في حيثياته، فقل ما شئت في كنود الإنسان وكفره بالنعماء، ولكننا ندع لك «حيثياتك» تعيد النظر فيها على مهل، ونقول لك: يا صاح، إننا نحن أيضا نطلب الصيف في الشتاء، ونطلب الشتاء في الصيف، ونعرف لكل فضله وحسنه، وسبب اختياره، فنحسب هذا العرفان «عرفانا بالجميل»، ولا نحسبه من الكنود والكفر بالنعماء.

وإذا لم يكن بد من طلب الدوام ... فليدم لنا فصل الشتاء وليذهب عنا الصيف حيث شاء إلى أقصى الأرض أو أطراف السماء! •••

يقال إن الناس يختلفون في تفضيل الفصول على حسب اختلافهم في المولد وموعده من تلك الفصول، فمن ولد في الصيف فهو صيفي الهوى والمزاج، ومن ولد في الشتاء فهو محب للبرد مستريح إليه! ...

فإن صدق هذا الزعم فليصدق على من شاء من مواليد الصيف، ولكنه - مع الأسف - لم يصدق علي قط ولا هو صادق علي الآن؛ لأنني ولدت في أشد أيام الصيف من شهر يونيه بمدينة أسوان - ولا يزعجني شيء كما يزعجني الصيف إذا ارتفعت حرارته فوق حرارتي على الخصوص، وتقدم من «الثلاثينات» إلى حدود الأربعين، وهي - كما يقولون - سن النضج، وقد صدقوا ... ولكنه نضج الجلود لا نضج الأعمار ...

ولا تزعجني منه مضايقة المزاج فقد تعودنا من الدنيا مضايقات كثيرة أشد على النفس من هذه المضايقات، وإنما يزعجني منه أنه «يتعب الكبد» حقيقة ومجازا، وتعب الكبد - والعياذ بالله - غاية الإزعاج، وقلب المزاج ...

وقد سألت كثيرين ممن ولدوا مثلي في هذا الفصل الخانق، وإن لم يوصف بأنه بارد، فكان لسان حالهم أنهم نسوا مولدهم فيه، ويخيل إليهم أنهم سيموتون فيه! •••

ومن نقائض الصيف أن يمتد فيه وقت العمل، وتقصر فيه القدرة عليه عند معظم العاملين، فيبلغ النهار أربع عشرة ساعة، وتهبط الطاقة إلى بضع ساعات، فلا هو بالموسم العامل، ولا هو بالموسم المريح، وإذا احتالوا عليه في الغرب بتقديم الساعات، فهذه الحيلة في الشرق قلما تقدم أو تؤخر؛ لأنه يطالب أبناءه بالقيلولة في الظهر الأحمر كما يقولون، فينامون في النور الساطع، ولا ينامون في الظلام الحالك، وينقلب ليلهم بنهار، وهم يفرون من الديار ولات حين فرار.

ومن نقائضه أنه يدعى موسم الثمرات؛ لأنه موسم الحصاد، ولولا أنها نبتت في الشتاء أو الخريف لما حصدت فيه ...

وإذا ارتفعت فيه الحواجز، وتفتحت فيه الأبواب، فكثيرا ما تنفتح للناس وهو من ورائهم كرار قهار، يطردهم طردا إلى الخلاء بغير قرار، وقد يطردهم من ديارهم إلى خارج الديار، وإن شط المزار.

وإذا أغناهم عن النار أحوجهم إلى الثلج، أو أغناهم عن الكساء أحوجهم إلى نسمات الهواء.

يتأففون منه بحكم الفطرة قبل حكم المشيئة، فهم بين زافر ونافر، وبين نافخ في الهواء أو متطلع إلى السماء، فلو أراد أن يتجمل ويتلطف، غلبته «القافية» فتململ وتأفف، وأوجس شرا، وضاق صدرا، وإن اتسعت حوله منادح الفضاء!

إلا أنني أحمد له ساعة لا يحمدها أحد؛ لأنها الساعة التي ينام فيها كل أحد، ولا أحس فيها لاغية في الطريق، ولا في البلد! ...

عودت الليالي في صيفها أو شتائها ألا أقضيها كلها نائما، وإن قصرت مسافتها بين المغرب والمشرق، فلا بد من يقظة أو يقظات، ولا بد من كل يقظة من جلسة إلى صفحة أو أسطوانة، أو نظرة على الأقل إلى الشرفة قد تطول في كثير من الليالي إلى مطلع الفجر، وقد تنسيني الفراش حتى الصباح ...

يتعمق بي الليل أو أتعمق به في هذه الجلسات الطوال، فتنقطع الرجل من الطريق كما يقول سهارة الليل، وتنقضي اللحظة بعد اللحظة ولا حس ولا خبر، ولا موقع قدم، ولا همسة هامس من قريب أو بعيد.

وحدي في الكون كله، أو الكون كله لي وحدي ... وحسبك من الصيف أن يعطيك لحظات معدودات تحس فيها بالكون كله بين يديك، مخلوقا لك بغير منازع ولا شريك.

تحس بهذا، نعم، مجرد إحساس لا تستولي به على الحقيقة في ظاهرها وباطنها، ولكنه الإحساس الذي يكفي؛ لأنه غاية الكفاية، وغاية الإمكان ...

لحظة تنفرد فيها بالكون كله ولو في عالم بين اليقظة والمنام، وهل يتفرد أحد بشيء من الأشياء في غير عالم الوهم، أو عالم الأحلام؟!

أنانية؟! ...

أتقول: أنانية؟! ... قل ما تشاء، ولكن لا تنس أن «الأنانية» التي تتسع للكون كله أوسع من الزحام الذي تتصادم فيه الرءوس والأقدام ...

في تلك اللحظات لا أنسى حكيمنا

2

رهين المحبسين وهو يقول:

ولو أني حبيت الخلد فردا

لما أحببت بالخلد انفرادا

نعم؛ لا أنساه ولا أزال أقول معه: إنني كذلك لا أحب الخلد منفردا به على حال، ولست أحسب أحدا يحب هذا الذي كرهه أبو العلاء، أو يحسبه نعيما يحرص عليه أبناء الحياة الفانية.

فكلنا في هذا سواء ... أحكم الحكماء وأجهل الجهلاء ...

لا انفراد بالخلد ولا نعمة فيه، ولا نعيم عين ... أما التفرد بالكون كله ساعة أو بعض ساعة فذلك غاية المنى ولو في الحلم، أو في يقظة كأنها من حلم الصيف!

فإذا أعطانا الصيف تلك اللحظة نحسها واهمين أو متخيلين، فتلك شفاعة له من لفحات لهيبه، ونفحات صبيبه، ومن أسباب الغفران أنه أوان لا يخلد به الزمان، وما دام يزول فله من إقباله عذر مقبول ...!

الفصل الثامن

(1) بعد الأربعين

من الأقوال الشائعة أن الشباب يبدأ حياته «خياليا»، ثم يصير إلى الواقع شيئا فشيئا حتى ينكر كل خيال ...

لكنني أذكر أن البداءة معي كانت على خلاف هذه القاعدة، وأنني الآن أقل إيمانا بما يسمونه التفكير الواقعي مما كنت في مستهل الشباب.

ففي مقدمة «خلاصة اليومية» وهي أول كتاب طبعته قبل عشرين سنة قلت ألخص الأفكار التي جمعتها في تلك الخلاصة:

أولا:

إن كل ظواهر هذا الكون علويها وسفليها، ظاهرها وباطنها، نتيجة تفاعل القوى المختلفة ... وكذلك الأمر في الاجتماع البشري ...

ثانيا:

إن اللذة والألم أو - بعبارة أعم - المنفعة والضرر هما الدعامتان اللتان عليهما تقوم الأخلاق البشرية كافة ...

ثالثا:

إن الإنسان حيوان راق، ولكنه لا يزال «حيوانا» ...

فهذه نظرة «واقعية» لا أومن بها الآن بعد أن جاوزت الأربعين، وليس يتسع المقام هنا لتفصيل الخلاف بين رأيي في العشرين ورأيي في الأربعين، فهذا مجال واسع كثير الشعب كثير التفاصيل، ولكنني أردت أن أقول إن الأمر قد يختلف أحيانا، فيبدأ الشاب بالنزعة الواقعية، ثم ينتهي إلى التعديل فيها، وليس من الضروري في كل حال أن يبدأ بالخيال، وينتهي بالنزعة الواقعية ...

على أن الحقيقة التي لا ريب فيها أن «النزعة الواقعية» عند الشاب لا تخلو من الغضب العنيف على محاسن الخيال والأمثلة العليا، فكما أن الفتى المدله يشعر بالخيانة من حبيبته فيروح ثائرا غاضبا يقسم أنها دميمة، وأنها حقيرة، وأنها لا تستحق منه الشغف، ولا الغضب، ولا النقمة، كذلك يفعل الشاب الذي يخيب أمله في المثل الأعلى فينقلب عليه ثائرا غاضبا يقسم أن المثل الأعلى خرافة، وأن الحياة كلها «مادة »، وأن الإنسان حيوان، وخير له أن يعيش كالحيوان.

فلا ينبغي أن نصدق العاشق المخدوع الثائر على الحبيبة، ولا الفتى المفكر الثائر على المثل الأعلى فإن العاشق يثور وينكر جمال حبيبته؛ لأنه يحب ويريد أن يحب، والفتى المفكر يثور وينكر جمال المثل الأعلى؛ لأنه يؤمن ويريد أن يؤمن. وهذا هو الفرق بين النزعة الواقعية عند الشباب والنزعة الواقعية عند الشيوخ ... ففي الشباب تكون النزعة الواقعية أشبه بالغضب من محاسن الخيال والمثل العليا، وفي الشيخوخة تكون النزعة الواقعية إنكارا لوجود تلك المحاسن والمثل، وعجزا عن الشعور بوجودها مع الرضى عنها أو الغضب عليها ...

فأنا في التفكير بدأت بشبابي «واقعيا»، وانتهيت إلى الشك في قدرة الإنسان على إدراك الواقع كله ... لأن إدراك الواقع كله لا يتأتى لإنسان محدود في زمانه ومكانه وتفكيره وشعوره؛ إذ الواقع كله شيء يتناول الكون في ظاهره وخافيه، وليس للكون حدود في الزمان والمكان، ولا في مؤثراته على الفكر والشعور ... فالذين يحسبون أنهم قادرون على إدراك الواقع في المسائل الكبرى، والأصول الخالدة هم الواهمون، وهم هم الذين لا يستحقون اسم «الواقعيين». •••

هذا في التفكير ...

أما في المسائل النفسية، فالذي أجزم به أن الزمن لا يغير عناصر النفس الأصيلة، ولا يزيد عليها ولا ينقص منها ...

فكل ما كان في نفسي من أخلاق وأطوار وشهوات أحسستها في إبان الشباب الأول لا تزال قائمة هناك أراها في العشرين، وفي الخامسة والعشرين، وفي الثلاثين وفي الأربعين ...

كل ما اختلف منها أنها كانت في حالة الفوران، ثم هي جانحة قليلا إلى الاستقرار ...

فكأنما هي مواد في قدر تغلي وتضطرب ...

ففي إبان الشباب الأول كان الغليان شديدا، فكانت هذه المواد تذوب وتتحلل، ويختلط لون منها بلون، وعنصر منها بعنصر، ولا تني صاعدة هابطة لا تلمحها إلى اليمين حتى تراها إلى الشمال، ولا تهم بأن تحصرها وتعرف مقدارها حتى تغيب عنك وتفلت من الإحصاء.

أما فيما بعد ذلك فقد جنحت إلى الاستقرار فأمكن أن تراها، وأن تحصرها وأن تعرف معادنها وألوانها، وقد رسب منها ما رسب ، وطفا منها ما طفا، وقل اختلاطها وتميزت ألوانها؛ فسهل من إحصائها ما كان صعبا، وأسلس من بيانها ما كان عصيا، ولكنها في جميع الناس هي هي بلا زيادة ولا نقصان.

فالسن لا تغير الطبائع ولا تضيف إلى عناصر النفس، أو تأخذ منها، ولكنها تعرفنا بمقاديرها ومواقعها، وتنقلها من غليان مبهم إلى استقرار واضح، ولكل من هاتين الحالتين فضله ورجحانه، ففي الغليان قوة وفي الوضوح معرفة، والمعرفة مع ذلك قوة للعارفين ...

ذلك مجمل ما يقال في التغيير الذي طرأ علي بين العشرين والأربعين من حيث التفكير، ولا سيما في المسائل الكبرى، ثم من حيث الأخلاق والبواعث النفسية. •••

أما شئون المعيشة أو ما يسمى في بعض الأحيان بفلسفة العيش، فالاختلاف فيه بين العشرين والأربعين غير قليل ...

ففي العشرين كنت كالمسافر الموعود في رحلته بأمتع المناظر وأعجب المفاجآت، فلا يزال يعرض عما يراه؛ لأنه دون ما كان ينتظر ويتخيل، ولا يزال مستهينا بالحاضر أملا فيما يليه.

أو أنني كنت في العشرين كالجالس على المائدة وهو يظن أن أطايب الطعام لا تزال مؤخرة محجوزة؛ لأنه لم يجد أمامه طعاما يستحق الإقبال ...

فهو لهذا يصيب منها القليل، ويعف عن الكثير، ويزهد فيما بين يديه ويتشوق لما بعده.

حتى إذا أشفق أن ينهض جائعا تناول مما بين يديه في اعتدال؛ فأمن الجوع، وأمن فوات المقبل الموعود. •••

وكذلك كنت في العشرين وأصبحت في الأربعين، فكنت أرى كل متعة حقيرة زهيدة شوقا إلى ما بعدها وارتيابا في قيمتها، وأن تكون هي كل ما تزلفه الحياة لأبنائها، ثم أخذت نفسي بأن أتناول ما على المائدة تناول رجل لا يفوت الحاضر، ولا يحب أن يفوته المستقبل، والعجيب أنني كنت متنطسا عازفا عن الدنيا حين كانت عندي كلها مادة وحيوانية، وأنني أقللت من التنطس والعزوف حين رأيت في الدنيا شيئا غير المادة والحيوانية...وإنما يبدو هذا عجيبا في الظاهر الذي نراه لأول نظرة دون الباطن الذي نراه بعد إنعام النظر، فإن العزوف الأول كان عزوف عاشق ساخط يطلب من الحياة الكثير ، فإن لم يأخذه أنف من القليل ... ومن طلب صاحبته كلها لم يقنع منها بنفاية ما تعطيه! ... فالفرق ظاهر بين هذه العلاقة وعلاقة العشرة الهينة التي تقوم على رأي بشار:

إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

وبعد، فما النصيحة التي ينصح بها رجل في الأربعين للشبان الناشئين؟

أحسب أن الشيوخ أولى مني بنصيحة نافعة في هذا المقام، وتلك هي أن يجتنبوا اللجاج في النصح للشبان الناشئين؛ لأنه أضيع شيء عندهم ولا لوم عليهم؛ إذ ليس في وسع الشاب أن يعيش في عمرين مختلفين، ولا في وسعه أن يجمع بين حياة المجرب وحياة غير المجرب، كائنا ما كان نصيبه من اليقظة والذكاء، ولو كانت النصيحة تغني عن التجربة كل الغنى، لكانت الحياة عبثا ضائعا ولاستطاع الفتى في العشرين أن يعلم ما قد علم الشيخ في الستين أو الثمانين؛ فالشيخ الذي يحاول أن يلقن الشاب الناشئ حكمة الشيخوخة كالبستاني الذي يحاول أن يغرس نبات الشمال في حرارة خط الاستواء، فهذا وذاك على خطأ لا يليق بالمجربين. •••

إنما النصح أن توجه ذهن الفتى الناشئ إلى ناحية من الحياة توضحها له ما استطعت التوضيح، فأنت تصوب النور أمام عينيه، ولكنك لا تعطيه النظر، ولا الرغبة في المسير، ولا القدرة عليه، وهذا هو مدى النصيحة المعقول، من تعداه من المجربين فتجربته عبث، وهو - قبل الناشئين - في حاجة إلى الناصحين! (2) وحي الخمسين

من كلمات «فيكتور هيجو» - على ما أذكر - أن الخمسين شيخوخة الشباب، ولكنها شباب الشيخوخة.

وفي هذه الكلمة حقيقة أكثر من مجازها، على خلاف كلمات هيجو التي يكثر فيها المجاز وتقل الحقيقة، ذهابا مع الجرس أو إيثارا لمحاسن التشبيه ...

فذو الخمسين شاب بين الذين نيفوا على السبعين أو الثمانين، يشعر بهذا كما يشعرون به وإن لم يقصدوه ويتعمدوه؛ فإذا اجتمع مجلس من المجالس التي يختار لها الأعضاء ممن جاوزوا الأربعين، كبعض المجالس النيابية وبعض المجامع العلمية والأدبية، رأيتهم يتصرفون في التقديم والتأخير والإيثار بالراحة والرعاية، تصرف الأبناء والآباء في الأدب والمعاملة وهم دون ذلك في السن بكثير، ورأيت أبناء الخمسين، وربما بدرت منهم «شيطنة» التلاميذ في معاملة الأساتذة الذين يوقرونهم ويحبونهم، ولا يخلونهم من فلتات «الشيطنة» مع ذاك!

ولا حاجة بنا إلى إطالة التذكير بتلك الحقيقة الخالدة التي لا ينبغي أن تنسى في مقام، ونعني بها أن المسألة اعتبارية إضافية في جميع الأعمار والعلاقات، فما يصدق على الخمسين عند فريق من الناس، قد يصدق على غيرهم، وعلى الستين عند آخرين، فإنما الكلام في هذه الأمور على الإجمال، ولا يتأتى أن يساق الكلام فيها على التفصيل لكل فرد من الناس على حدة. •••

ومن الصور التي كانت شائعة في أوائل القرن الحاضر - ولا ترى الآن كثيرا - صورة العمر الإنساني وأدواره من السنة الأولى إلى المائة، فندر دكان حلاق دخلت إليه قبل ثلاثين سنة إلا كانت فيه هذه الصورة التي كان لكل زائر وقفة عندها يتبين فيها مكانه من الدرج الصاعد أو الدرج الهابط، وربما كان التفات الشيوخ إليها أكثر من التفات الصبية والشبان؛ لأن الصبية والشبان واثقون من المكان في حاضرهم وبعد زمن طويل، أو طويل على ما يحسبون، ولكن الشيوخ لا يثقون من مكانهم على هذه الدرجات إلا إلى حين - فهم دائمو التلفت إليه، مخافة أن يضيع! ...

في تلك الصورة طفل مولود في مهده، ثم ولد في العاشرة يعدو وراء طوقه، ثم شاب في العشرين يصاحب فتاة في مثل عمره أو دون عمره بقليل، ثم رجل في الثلاثين معه امرأة تقاربه سنا، وبينهما طفل أو طفلان، ثم كهل في الأربعين تمت له مظاهر السمت والقوة والقوام، ثم يرتقي على قمة الدرج في أوسطه شيخ في الخمسين قد أدار ظهره إلى الدرج الصاعد وقد أدركه بعض الانحناء، واستقبل بوجهه الدرج الهابط وقد تزايد انحناء الهابطين عليه درجة بعد درجة، أو دركة بعد دركة، حتى انتهوا إلى كرسي كمهد الطفل في سنته الأولى، يجلس عليه شيخ فان في المائة، قد نكس رأسه، لا يلتفت إلى الأمام ولا وراء ...

تمثيل حسن لأدوار العمر الإنساني على كل درجة من درجاته مع استحضار الفوارق النسبية بين إنسان وإنسان.

ويصح على هذا التصوير أن تكون الخمسون أعلى الذروة في درجات العمر كله، قبلها الصعود وبعدها الهبوط، وهي بينهما في مكان الاعتدال والاستواء.

ومن المحقق أو الراجح في جميع الأعمار، أن الخمسين نهاية الكسب أو التحصيل من الحياة، ليس بعدها ما يأخذه الإنسان من الدنيا، ويضيفه إلى تكوين عقله وجسمه، ولكنه لا يزال بعدها يعطى الكثير ويفقد الكثير، إيذانا بفقد كل شيء يأخذه التراب من التراب.

إذا قيل على هذا التعبير: إن الثلاثين سن التحصيل، وإن الأربعين سن الجمع والثروة، فالذي يقال في الخمسين إنها سن التصفية و«عمل الحساب» ليعرف الإنسان نصيبه من الربح ونصيبه من الخسارة.

وهي من ثم سن اغتناء وليست سن افتقار، وإن جاز لي أن أقيس على نفسي فهي لا تقل غنى عن الأربعين، وقد تفوقها غنى من وجوه.

تفوقها غنى لأن التدبير فيها أفضل، لا لأن الثروة فيها أعظم، أو تفوقها غنى لأن الحساب فيها أضبط لا لأن الثروة فيها تزداد على التوالي كلما ازدادت السنون؛ إذ هي في الواقع كما أسلفنا تكف عن الازدياد في جملة المكاسب من خيرات الحياة.

فالرجل الذي ضبط حسابه - بعد التصفية الكاملة - قد يستفيد من مائة دينار ما ليس مستفيده غيره من مائتين قبل ضبط الحساب، والرجل الذي عرف ما له وما عليه يعرف على التحقيق أين يضع ماله وأين يمسك عن الإنفاق، وتلك معرفة لا يحيط بها الرجل الذي عنده المال الكثير، ولكنه قد ينفق من ديون، ويكف عن النفقة من الملك المضمون ... •••

هذه هي فضيلة الخمسين على أدوار العمر السابقة: فضيلة المال المحسوب والنفقة المقدورة، والثروة التي لا تزيد يوما بعد يوم، ولكنها لا تضيع في غير طائل، ولا تذهب في غير المفيد.

ووحي الخمسين هو وحي هذه الفضيلة، أو هو وحي الملك الخالص لا يعتمد على الاستعارة، ولا يقوى على الإسراف في انتظار التعويض من الوارد الجديد ...

إذ الوارد الجديد قليل ...

إذا جاء الوارد الجديد فقلما يتسع الوقت لتصريفه وإعادة تثميره، وقلما يكون له موضع إلا أن يضاف إلى ما قبله، كل باب إلى بابه وكل نظير إلى نظيره ...

وحي الغنى المحسوب، وليس هو بوحي الغنى بغير حساب، أو هو التدبير وليس هو بوحي التجميع والازدياد.

ذلك هو وحي الخمسين الذي يرتقي إلى ذروة السلم، ثم يقف حيث لا يطول الوقوف.

ومن أمثلة كثيرة بين أصحاب الوحي - وأصحاب الوحي هنا هم المنتجون في عالم الذوق والتفكير - نرى أن ثمرات الخمسين بين الفلاسفة والشعراء، وأرباب الفنون تضارع خير الثمرات في سائر الأعمار ...

ولا يبدو هذا عجيبا في الكلام على الفلسفة والمذاهب الفكرية؛ لأن الفلسفة حكمة، والحكمة مقرونة في الأذهان بالشيخوخة وتقدم العمر، وزيادة التجربة والروية.

ولكنه يبدو عجيبا حين نتكلم عن الشعر والفنون؛ لأن الشعر والفنون جمال، والجمال مقرون في الأذهان بالشباب وصحوة العمر، وقد يكون مقرونا إلى حد كبير بالغرارة، وقلة النصيب من التجربة والروية.

وهنا وهم يجب الالتفات إليه.

إذ يجب التفريق بين الجمال وتقدير الجمال، ويجب التفريق بين تقدير الجمال، والتعبير عن تقديره.

ومهما يختلف المختلفون في جمال الشباب وجمال كل عمر من الأعمار، فالحقيقة التي لا خلاف فيها أن تقدير الجمال لا ينتهي بانتهاء الشباب، وأن القدرة على التعبير لا تنقص بنقصان الشباب، بل لعلها تزيد.

ومهما يقل القائلون عن استطاعة المتعة بالحياة، فالحقيقة التي ليس فيها قولان أن المعدة التي تهضم أعسر المأكولات ليست هي المعدة التي تتذوق أحسن المأكولات؛ لأن الخبز والملح لذيذان عند من يهضم ويستخلص من الطعام القليل أكثر ما فيه من غذاء، ولكن الاختيار الأنيق إنما يكون لمن لا مناص له من الاختيار، فلا يستهويه إلا ما كمل أو قارب الكمال.

فإذا كانت الأعمار الأولى أوفر حظا من متعة الحياة، فالأعمار التالية أوفر حظا من التمييز بينها والشعور بمزاياها والعرفان بما لكل منها من قيمة وحظوة، وهذه هي الحقيقة التي تزيل الوهم العارض الذي أشرنا إليه، وهو الوهم الذي يلقي في روعنا أن وحي الأربعين أو وحي الخمسين لا يوحي جمالا؛ لأن الجمال مقرون بالشباب.

إن جمال الجوهرة غير تقويم الجوهرة، وغير تمييز الجوهرة، وغير السرور بالجوهرة لمن يقتنيها، وهذا هو بعينه ما يقال عن جوهرة الحياة فيما شئت من الأعمار وما شئت من الأقدار.

ولو اتسع المجال لأتينا هنا بالأمثلة من عشرات الدواوين الشعرية، وعشرات التحف الفنية، وقابلنا بين ما نتج منها في الثلاثين، وما نتج في الأربعين أو الخمسين أو الستين، فإننا لخليقون أن نعلم بالمقابلة والمضاهاة أن المزايا تتعادل وتتفاضل، فلا تنحصر المزايا كلها ولا الفضائل كلها في عهد من عهود الحياة، ولا تزال لكل سن فضيلة تعوضها فضيلة مثلها في سن أخرى، فإذا توفرت حماسة الشعور في بواكيره فقد تقابلها المعرفة بأنواع الشعور بعد فوات البواكير أو تقابلها القدرة على التعبير، والالتفات إلى الفروق، أو تقابلها تصفية تأخذ الخلاصة بعد أن تجمع لديها الكثير من الأزواد.

وفي الشرق تبكر الشيخوخة أحيانا كما يبكر الشباب فيسرع الذبول كما تسرع النضارة، ويكثر النبوغ قبل الأوان كما يكثر الجمود قبل الأوان، ويندر بين أدبائنا من أتى بالفلق بعد الخمسين كما أفلق أناس من أدباء الغرب الذين جاوزوا السبعين أو الثمانين، ولكننا إذا رجعنا إلى أدبائنا الذين بلغوا تلك السن ألفينا لهم حسنات يعيشون بها في عالم الخلود يقرنها الناقد بأجمل حسناتهم المأثورة في أيامهم الأولى، وكلها ذات سمعة واحدة لا تعدوها وهي سمعة الثروة المملوكة والكنز المحسوب ... (3) وحي الستين

إحياء ذكرى الميلاد، أو عيد الميلاد - كما يسميه بعضهم - عادة جميلة لسبب واحد على الأقل، وهو أن الاحتفال بهذا اليوم فرصة سنوية لاجتماع الأهل والإخوان في مودة وصفاء وإيمان بالإقبال على الحياة، كأنهم يشعرون جميعا بأن دخول الحياة «مناسبة سعيدة» تستحق التذكر والاحتفال ...

ولكنني، فيما عدا ذلك، لا أفهم في الواقع معنى لهذا الاحتفال بيوم الميلاد أو بعيد الميلاد ...

هل هو احتفال بانقضاء ما مضى من العمر؟ ... أو هو احتفال بالسنة القادمة التي لا نعلم كيف تكون؟ ... وهل لا يكفينا الاحتفال برءوس السنوات إذا كان المقصود هو الاحتفال بالمستقبل المجهول؟ ... •••

لم أتعود لزاما أن أحتفل بيوم ميلادي، ولم يعلم أحد مني أنا ببلوغي الستين في هذه السنة ... ولكن أصحابي الذين يعرفون تاريخ ميلادي علموا بذلك، وتفضل بعضهم فكتب في الصحف مهنئا ومحييا لهذه المناسبة ... فلم أفرغ بعد ذلك من الأسئلة التي ساقتها إلي هذه المناسبة السعيدة ... ولم أزل أتلقى هذه الأسئلة التي تدل - أو معظمها - على فكرة واحدة عند سائليها، وهي أن الستين «نقطة تحول» في تاريخ الإنسان يكون له من بعدها شأن غير شأنه قبل بلوغها ... ولا أدري كيف؟ ...

إن الحياة ليست كالساعة أو الخريطة المرسومة بخطوط للتوقيت أو بخطوط للعرض والطول، وليس كل خط من هذه الخطوط المعروضة فيها فاصلا حاسما بين عمرين ...

والستون من ناحية أخرى رقم ثابت لا يتغير ... وأين الرقم الثابت الذي لا يتغير من أطوار الحياة التي هي حركة متغيرة على الدوام في كل حي من الأحياء؟ ...

وأين الرقم الثابت الذي لا يتغير من أطوار الحياة في الأحياء المتعددين الذين يحسبون بالملايين؟ ... •••

لقد سمعنا من زميلنا الأديب الظريف الشيخ عبد العزيز البشري - رحمه الله - نكتة قالها لعضو جليل من أعضاء المجمع اللغوي حين أحيل على المعاش، فقال له متبسطا: «إنك لأصغر من بلغ الستين!»

وكانت هذه النكتة تروى على أنها مزاح تجوز فيه المفارقات، ولا تستلزم فيه الدقة في التعبير ... ولكن الواقع أنها جد دقيق وليست بالمزاح المرسل على عواهنه؛ لأن الستين بالنسبة إلى إنسان قد تكون «أصغر» من الخمسين بالنسبة إلى آخر، وأكبر من السبعين بالنسبة إلى غيره!

والمرجع في ذلك إلى العلم والتجربة المعهودة بين الناس، فإن علماء التاريخ الطبيعي يقررون نسبة بين سن النضج وعمر الحي من الآدميين وغير الآدميين: بعضهم يقول إن عمر الحي ثمانية أضعاف السن التي يتم فيها نموه ونضجه، وبعضهم يقول إنه سبعة أضعافه أو ستة أضعافه ... ولكنهم متفقون على وجود النسبة بين أسنان النمو وبين أعمار الأحياء.

فلا غرابة على هذا أن يكون المبكر في النمو مبكرا في الشيخوخة، وأن يكون ابن الستين في هذا الإقليم أصغر من ابن الخمسين في ذلك الإقليم، على حسب اختلاف الجو والمناخ، وعلى حسب اختلاف أثرهما في تكوين الأجسام والأعضاء. •••

كذلك تختلف القدرة والعجز في الشيخوخة، على حسب اختلاف الأعمال أو الأعباء التي ينهض بها الإنسان ... وقبل أن نقول مثلا إن الشيخوخة أعجزته عن عمله، ينبغي أن نعرف أولا ما هو هذا العمل الذي أعجزته عنه؟ ...

فالرجل الذي يجاهد بأعضائه وعضلاته غير الرجل الذي يجاهد بتفكيره وعزيمته، أو الرجل الذي يجاهد بحسه وشعوره ...

بل تختلف المجاهدة بالتفكير والعزيمة على حسب الاختلاف في نوع التفكير ونوع العزيمة.

فمصطفى كامل قد استطاع أن يثابر على القتال وأضلاعه مكسورة، وسعد زغلول قد عاش برصاصة في صدره وهو إلى جانب ذلك مصاب بالربو وبغيره من الأدواء ...

إن الزعامة بنوعيها هذين، تتطلب هذه القوة الخارقة في تكوين البنية الجسدية ...

ولكن هل يحتاج إلى مثل هذه البنية رجل يقوم عمله الأكبر على الدراسة والبحث والاطلاع! ...

على هذا النحو من الاختلاف، يتغير الحكم على أبناء الستين أو أبناء أية سن من أسنان الحياة ...

ثم هو لا يتغير من سنة إلى سنة، كأنما تقع السنون في الحياة موقع الخطوط على الخرائط والساعات ...

ولكنه يتغير من فترة إلى فترة، يحسبها كل إنسان بما يتفق له من التجربة والاختبار ... •••

ومن هنا أعود فأقول: إن «الستين» لم تكن في حياتي نقطة تحول بين عهدين أو بين عمرين ... ولكنني إذا نظرت إلى الفترة التي تمت بها الستون والفترة التي تمت بها الخمسون مثلا، فهناك بعض الاختلاف بين الفترتين ...

وهو فيما يخيل إلي اختلاف في التلوين أو في التمكين، وليس اختلافا في جوهر الموضوع ومادة القدرة والشعور.

ومثال ذلك أنني قد زادت قدرتي على البحث والدراسة، ونقصت قدرتي على مواصلة الكتابة والقراءة، ولكنني عوضت هذا النقص بازدياد المرانة على الكتابة، وازدياد الخبرة بالتقاط أصعب الفوائد من أيسر القراءات ...

زادت حماستي لما أعتقد من الآراء، ونقصت حدتي في المخاصمة عليها؛ لقلة المبالاة بإقناع من لا يذعن للرأي والدليل ...

لم تنقص رغبتي في طيبات الحياة، ولكنني اكتسبت صبرا على ترك ما لا بد من تركه، وعلما بما يفيد من السعي في تحصيل المطالب وما لا يفيد ... •••

وارتفع عندي مقياس الجمال، فما كان يعجبني قبل عشر سنين لا يعجبني الآن، فلست أشتهي منه أكثر مما أطيق ...

كنت قبل عشرين سنة كما أنا الآن ... قليل الرجاء في خير بني الإنسان، وكنت أقول قبل عشرين سنة:

بحسبي من أبناء آدم إن صفا

لي العيش يوما أن تكف أذاها

ولكن فلسفة الشعور هنا قد تحولت إلى فلسفة العمل، ولا أطيل في شرح هذا الفارق بين الفلسفتين، ولكنني أبينه بمثل من الأمثلة العملية يغني عن الشروح والنظريات ...

كنت أقول لمن معي في مسكني إذا نمت أو تفرغت للكتابة: لا توقظوني ولا تقاطعوني إذا دق التليفون أو جاءكم زائر ... ما عدا هذا الاستثناء، وذاك الاستثناء، وذلك الاستثناء، أما اليوم فلا استثناء على الإطلاق.

كنت أحب الحياة كعشيقة تخدعني بزينتها الصادقة وزينتها الكاذبة، فأصبحت أحبها كزوجة أعرف عيوبها وتعرف عيوبي، ولا أجهل ما تبديه من زينة وما تخفيه من قبح ودمامة ...

وتلك فيما أرى نماذج كافية لبيان الفوارق بين الفترتين ... فترة الستين، وفترة الخمسين، أو ما قبلها من أرقام العقود! ...

وفي الجملة يتبين لي من التجربة والاختبار أن المشتغلين بالأعمال الفكرية لا تهيض السن من قدرتهم كما تهيض من قدرة العاملين بالعضلات، وما يشبه العضلات ...

إن السن مكسب للعاملين بالقلم، أو هي إلى المكسب أقرب منها إلى الخسارة ... •••

ويسأل سائل: «وأين خرف الشيخوخة؟»

فيجيب قبلي مجيبون كثيرون: «إن الذين حسبوا أن الخرف والشيخوخة حالتان متلازمتان، بقية من بقايا القرون الغابرة؛ لأن العلم الحديث يعلم أن خرف الشيخوخة مرض من أمراض البنية وليس بعرض من أعراض الأسنان والأعمار ... فمن نجا من جراثيمه نجا من أعراضه كما ينجو من الأمراض، وكما ينجو من الجراثيم.» (4) وحي السبعين

في الشباب نأخذ الحياة «مقايضة» لأنها تطلبنا كما نطلبها...أو نبذل فيها أضعاف ثمنها؛ لأننا نجهل حقيقتها، ونملك ثروة الشعور التي تساعدنا على الإسراف والبذل الجزاف.

وفي الشيخوخة نأخذ كل شيء بثمنه، ولا نعطيه فوق حقه؛ لأننا فقراء لا نملك الثروة التي ننفقها كما نريد، وعلى الرغم منها ننفقها كما نستطيع ...

لا تسل أي الحالتين أفضل و«أعقل» فلا اتفاق على جواب لهذا السؤال ... •••

ولكنك إذا سألت: أيهما أحب وأجمل، فلا خلاف على الجواب: بين الشباب والشيخوخة فروق كثيرة، فما من حالتين من أحوال هذه الدنيا بينهما من الفروق أكثر مما بين هاتين الحالتين.

ولكن الفارق الأكبر بينهما أن الشباب حالة نتمناها على علاتها، وأن الشيخوخة حالة نرضاها أو لا نرضاها على حسب الظروف!

نتمنى الشباب على علاته، ونتمنى جهله كما نتمنى هداه، إن كان له هدى أو هداية مع هواه! ...

بل نحن نتمنى جهله قبل هداه ...

لأن جهله هو الذي يعطينا الجديد من مرارته وأسراره، وجهله هو الذي يعطينا أول قطفة من ثماره وأزهاره، وجهله هو الذي يشوقنا إلى غده في كل يوم من أيامه، ويجعل كل يوم من هذه الأيام كأنه يوم «كولمبس» في بحر الظلمات، أو يومه بعد ذلك في العالم الجديد.

والمرء يتمنى ما يجهل، ولا يتمنى ما يعرف، ولو عرفه لما تمناه، ولا وافق مناه؛ لهذا نتمنى الشباب على العلات! ...

ولا يضيرنا أن نكون من الجهلاء! ...

فهل نتمنى الحياة في السبعين؟ ...

كلا ولا كلام ... ولا نتمناها في السبعين بل نتمناها في العشرين وفي الثلاثين ونتمناها كلما جهلناها أو عرفناها على الظن لا على التحقيق.

أما في السبعين - وأنت في السبعين - فالتمني كلمة كبيرة عليها، وعلى كل شيء تعرفه قبلها وبعدها.

التمني كلمة كبيرة جدا على المقام أو على المناسبة، ولا بد لها من تواضع كثير قبل الطمأنينة والاستقرار، فحسبها أن تهبط من هذه العلياء إلى الوادي المطمئن بين القمتين! •••

حسبها أن تهبط إلى وادي الرضا والقبول، فقد يكون الرضى بها غاية ما تستحقه من صاحبها، على اضطرار وعلى اختيار!

هل ترضى الحياة في السبعين؟ ... نعم ... فيها ما نرتضيه ولا ريب، وفيها البديل الصالح أحيانا مما فقدناه في العشرين ، ولم نجده في الثلاثين، ومما فقدناه في الثلاثين ولم نجده في الأربعين، ومما فقدناه ونفقده في كل سن ولا نجده ...

فيها بديل بالرضى المعلوم عن الأمل الموهوم، وقد يكون الرضى بما تعلم بديلا صالحا من كل ما نرجو ونتوهم، ثم تندم عليه ولات مندم!

نحمد من السبعين أنها تعطينا الرغبة على قدر الطاقة، وأنها تعطينا الرغبة ومعها لجامها الصغير، تشد عليه إذا خطر لها أنها في حاجة إليه.

ونحمد منها أنها تعودنا الاستغناء عما يلزم وما لا يلزم ... فليس في السبعين من ضروري لا غنى عنه، حتى الحياة، وحتى المجد، حتى الخلود! ...

ونحمد منها أنها تعوضنا بالخبرة عن القوة، بل تعوضنا بالخبرة عن الوقت الثمين وهو مادة الحياة.

فإذا احتجنا في العشرين إلى عشرين سنة لنعرف إنسانا نصاحبه، فحسبنا في السبعين عشرون ساعة لنعرف ذلك الإنسان غاية المعرفة التي تتاح للإنسان، بل حسبنا كلمة نسمعها منه أو نسمعها عنه لنستغني بها عن الزمن الطويل في عشرته، وندخله في زمرة السواد التي تشمل كل بني آدم وحواء، كما قال أبو العلاء:

وما العلماء والجهال إلا

قريب حين تنظر عن قريب

وإذا كان ابن السبعين ممن يقرأون ويكتبون فحسبه عشرون سطرا من كتاب ليعرف ما هو الكتاب في الجوهر واللباب، ويعود إلى ما شاء من أبوابه أو يقنع منه إذا شاء بهذا الباب بعد ذلك الباب.

وفي السبعين جديدها الذي لا تشتهيه - الأنفس - ولكنه جديد يذهب بسآمة التكرار، فابن الأربعين يتبدل نظاما للمعيشة أو نظاما للصحة سنوات بعد سنوات. •••

إذا تغير نظام المعيشة عنده في الثلاثين لم يسأل عن نظام جديد قبل الأربعين أو الخمسين، وإذا تغير نظام المعيشة عنده في هذه السن، فلعله لا يسأل عن غيره قبل الخامسة والخمسين أو السادسة والخمسين، أو الستين ...

أما نظام الستين فما هو بصالح للحادية والستين إلا بشق الأنفس، وتعب الرأس، وجهد الطب والصيدلة، ودع عنك الخامسة والستين والسبعين وما فوق السبعين.

ولقد سئلت قبل عشر سنين عن شعوري بالحياة في الستين، فقلت : إنه شعور الحب لا مراء، ولكنه حب غير حب الحياة في ريعان الشباب؛ لأن الحياة لا تخدع الشيخ في الستين بالأبيض والأحمر والكحل والطلاء، ولا تطمع منه في حب كحب المعشوقة الفاتنة تخلبه بزينتها وتروعه بما تبديه وما تخفيه، وارتبطت به وارتبط بها على الخير والشر وعلى الحسنة والسيئة وعلى الوئام والخصام، وليست بالمعشوقة التي تتحبب إليه، ويتحبب إليها، وتلقاه ويلقاها على نمط من الإعجاب لا يخلو من التمثيل! ...

فإن يكن لا بد من تشبيه الفارق بين مكان ابن السبعين ومكان ابن العشرين من الحياة ... فهو على ما أحسب مكان واحد عند المائدة المشتهاة ...

وإنما الفارق في «القابلية» أو اشتهاء الصحاف والصنوف، فلا نسيغ في السبعين ما كنا نسيغه في العشرين، ولا ننتفع اليوم بما كان ينفعنا بالأمس، ولكنني لو تخيلت الحياة طاهيا يبسط أمامنا صحافه وصنوفه، لتخيلته مبتهجا متهللا كلما مددت يدي إلى صنف من صنوفه التي يبسطها على المائدة لضيوفه ... فلا فخر للطاهي في نهم الجائع الذي يلتهم كل شيء ولا يعزف عن شيء، وله الفخر كل الفخر في كل لقمة يتناولها الشبعان القانع أو المتردد المصدوف. •••

ومن سألني: هل تبادل؟ ... هل تساوم على الزيادة والنقص في البدل؟ ... هل تعطي وتأخذ وأنت مفتوح العينين في هذه الصفقة الرابحة؟ ... وهل تسميها «صفقة رابحة» إذا أعطيت السبعين وأخذت العشرين والأربعين؟ ...

فلا يحسبن السائل أنه يسأل عن تحصيل حاصل، ولا يعجلن بالجواب؛ لأنه يخاله من فصل الخطاب.

كلا ... لا أبادل، ولا أقبل المساومة بغير معارضة على الشروط، ولن أقبل كل ما في العشرين أو أنفي عن كل ما في السبعين.

يفتح الله ... فإما الحياة «على السكين» وإما لا حياة، ولن تجدني يوما أحرص الناس على حياة، فما هي بشيء في حسابي إذا تجردت أمامي من الألف واللام، وحبذا هي من حياة إذا علمت أنها «الحياة» للعهد والتعريف ...

وسأنفي من العشرين والأربعين كل ما سوغ لي ما لا يسوغ، وكل ما هون عندي ما لا يهون، إما في باطل لا يتحقق ولا خير فيه إذا تحقق، أو مجاملة لمن تستر لهم جهالتهم ولا يسترونها، ومن يسترون كل فضيلة ولا يكادون يرونها ...

وسأبقي معي في السبعين كل ما يعين النفس على هجران الحياة إذا وجب أن تهجر، وهجرانها واجب يوم تستبقيني وأنا آسف للبقاء فيها. •••

ولئن تمنيت شيئا بعد السبعين، لأتمنين أن أعيش فلا أعيش عبثا ولا فضولا، وأن أعيش كما عشت بحمد الله على الدوام، أحقابا وأحقابا إلى الأمام، فيقول الناس اليوم ما كنت أقوله قبل عشرات الأعوام، فذلك هو العمر الذي أحتسبه سلفا وأعيشه قبل حينه، فلا يكلفني انتظاره إلى الختام. (5) اعترافاتي

دارت عادة الاعترافات دورة تامة منذ وجدت قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة، إلى أن دخلت في نطاق الطب النفساني والجسماني قبل نحو ثلاثين أو أربعين سنة.

وقد اشتهرت الاعترافات في الهياكل على عهد الحضارة البابلية قبل ميلاد السيد المسيح بعدة قرون، وكانت في حقيقتها ضربا من العلاج الجثماني الذي يتطلبه المريض من الطبيب؛ لأن البابليين كانوا يعتقدون أن المرض والبلاء على اختلافه عقوبة إلهية يقتص بها الأرباب من أصحاب الذنوب والخطايا، وأن الذي يبوح بخطيئته ويندم عليها يشفى من دائه بوساطة الكهان والأحبار، فكان الاعتراف بهذه المثابة ضربا من الاستشفاء، كعلاج الأمراض بالطب في العصر الحديث.

وهكذا عاد كما بدأ، في أوائل القرن العشرين، فشاع الكلام عن الكبت، وعن العقد النفسية، وعن أثر التنفيس عنها بالاعتراف، والكشف في شفاء الأبدان والنفوس، فتمت الدائرة في حلقة مفرغة من أيام البابليين إلى أيامنا هذه من القرن العشرين.

ولن يكون الاعتراف اعترافا في رأي بعضهم، إلا إذا كان اعترافا بأمر يغلب على الناس إنكاره وكتمانه، فلا يفهمون من الاعتراف إلا أنه إعلان لخبيئة في النفس تشين صاحبها، وتدعوه إلى إخفائها.

لكنها على التحقيق مغالطة من مغالطات «العرف» التي تواضع عليها أبناء آدم وحواء على سنة الكذب والرياء، فهم جميعا سواسية في الخطايا والعيوب التي يخفونها ولا يعترفون بها، ومتى صدق عليهم قول السيد المسيح: «من لم يخطئ منكم فليرمها بحجر.» فلا حاجة بهم إلى الحجارة ولا إلى الرجم، ولا معنى لخجل قوم وشموخ آخرين، وما لم يكن الإنسان مجرما غارقا في الإجرام أو نذلا مغرقا في الخسة، فعيوبه وخطاياه «قاسم مشترك أعظم» بينه وبين الآدميين جميعا من قبل الطوفان إلى نهاية الزمان.

وحسبي اعترافا في هذا الصدد أن أحدا من الناس لم يسلم من عيوبي وخطاياي؛ فهل في وسعهم جميعا أن يدعوا مساواتي في جميع فضائلي ومزاياي؟

من شاء أن يدعي فليدع ما يشاء، ولكنني لا أرى من الإنصاف أن أستهدف للحجارة، وعندي حجارة مثلها أقابل بها كل حجر بعشرة من أمثاله حين أريد أو حين أستطيع.

وأنا بحمد الله لا أريد ولا أستطيع، فلتكن حجارتي محفوظة في محجرها الأمين، وليكن اعترافي نوعا من التعريف الذي يفيد، أما تبادل الحجارة طردا وعكسا، وعكسا وطردا فهو عبث لا يعيى به راجم ولا مرجوم، وهو كذلك لا يفيد.

أعترف بالخصائص النفسية التي تدل الناس على بعض الحقائق في الطبيعة الإنسانية، وذلك - ولا ريب - أجدى من الاعتراف بالعيوب والخطايا التي يتشابه فيها أبناء آدم وحواء على السواء أو على مقربة. •••

وأول ما أعترف به أنني مطبوع على الانطواء، وأنني - مع هذا - خال بحمد الله من العقد النفسية الشائعة بين الأكثرين من أندادي في السن ونظرائي في العمل، وشركائي في العصر الذي نعيش فيه.

ولقد ورثت طبيعة الانطواء من أبي وأمي، فلا أمل الوحدة - وإن طالت - بغير قراءة ولا تسلية، ولا أزال أقضي الأيام على حدة؛ حيث يتعذر على الآخرين قضاء الساعات واللحظات.

كيف يتفق هذا؟ ... كيف يتفق الانطواء على النفس والخلو من العقد النفسية أو من الأسرار المكبوتة في اصطلاح النفسانيين المحدثين؟

هنا محل للاعتراف الذي قلنا: إنه خير وأجدى من تبادل الحجارة، فإن تفسير ما أعرفه من عادات طبيعتي خليق أن يصحح الأوهام عن معنى الانطواء، ومعنى العقد النفسية.

فليس كل انطواء كبتا للنفس، أو كتمانا لسر من الأسرار الخفية، وهناك فارق كبير بين السكوت خشية من الكلام، والسكوت لأنك لا ترى حاجة إلى الكلام.

فإذا سكت الإنسان خاشيا فهنالك عقدة نفسية، وإذا سكت الإنسان لأنه لا يشعر بالحاجة إلى الإفضاء والتصريح فلا عقدة هناك، ولا كتمان.

وقد تعودت أن أقول ما أريد حين أريد، فلا أعكف على العزلة كبتا ولا حذرا، ولا أحس التناقض بين الانطواء والاستراحة من آفات الكبت والعقد النفسية. •••

ويغلب على المنطوين أنهم لا يألفون الناس بسهولة، وأعترف بأنني واحد من المنطوين في هذه الخصلة ...

ولكنني أعترف كذلك بأن الألفة التي تصح بيني وبين أحد من الإخوان لا تنقطع ولا تتعرض للقطيعة باختياري، وقد يتعدى الأمر ألفة الإخوان إلى ألفة غيرهم من الأحياء والأشياء؛ فالحلاق الذي عرفته منذ ثلاثين سنة هو الحلاق الذي أعرفه اليوم، والطاهي الذي عمل عندي في سنة خمس وعشرين أو نحوها هو الطاهي الذي يعمل عندي في سنة خمسين أو إحدى وخمسين، بل أدع الأحياء من الآدميين، وأذكر المنزل الذي أقيم فيه، فهو مسكني منذ أربع وعشرين سنة، ولا أحسبني أسكن غيره ما دمت تسعني سكناه.

وأعترف إلى جانب هذا بأنني لا أعرف التوسط بين الحب والكراهية، ولا أريد أن أعرفه، وشعاري في ذلك هو شعار أبي إسحاق الصولي الذي قال:

خل النفاق لأهله

وعليك فالتمس الطريقا

واربأ بنفسك أن ترى

إلا عدوا أو صديقا

فأنا أفهم أن يقبل الإنسان نصف صداقة إذا كان مضطرا إليها، وأفهم أن يقبل الإنسان نصف عداوة إذا كان خائفا منها، ولكنه إذا وجد الصداقة كاملة، فلماذا يجمع بينها وبين نصف الصداقة؟ ... وإذا استوجب العداوة كاملة فلماذا يتقيها ويداريها! ...

إن طائفة من الخلق يستبقون العلاقة بينهم مع انقطاع المودة طلبا لدوام المنفعة، فهؤلاء يمثلون ويتاجرون، ولا ضير من التمثيل فنا، ولا من التجارة عملا، ولكن الضير كل الضير من التمثيل في الضمير والاتجار بالعاطفة، ففي هذا من المعابة ما يعاب على المتاجرة بالأجسام والشهوات. •••

وعندي صفة يسميها الشانئون عنادا وتشبثا، ويسميها المحبون عزيمة وصدق إرادة ...

أعترف بأنهم مصيبون في جانب، ومخطئون في جانب ... فقد يبلغ من ضعف إرادتي أحيانا أن أحتال على نفسي كأنها شخص آخر أطلعه على بعض مرادي، وأخفي عنه بعضه، فإذا اعتزمت الإقلاع عن التدخين مثلا قلت لنفسي: اتركيه أسبوعا وانظري ما يكون بعد أسبوع. أقول لها هذا وأنا أنوي أن أتركه أبدا فلا أقطع بهذا الترك دفعة واحدة، ثم أعود بعد أسبوع فأقول لها: إن شيئا تقدرين على تركه أسبوعا لا حاجة إلى احتماله على مضض، ولا حكمة في العودة إليه.

أعترف بهذا وأعترف معه بأنني في المواقف الحاسمة أملي على تلك النفس بعينها شروطا كشرط القائد الذي لا يرحم: العدو أمامك والبحر وراءك ... وافعلي ما تشائين.

ومن لطف الله بالعباد أن هذه المواقف الحاسمة لم تتكرر في حياتي أكثر من خمس مرات أو ست مرات، ولم أندم قط - بحمد الله - مرة في جميع هذه المرات.

أعترف بأنني من الزاهدين في البذخ والحطام، ولكنني أعترف بأنه زهد لا فضل لي فيه؛ لأنه لم يكلفني مشقة المغالبة والمقاومة، فليس في النفس هوى أغالبه وأقاومه، وإنما ألوذ في هذه العصمة بسند واحد، وهو سهولة احتقاري للباذخين ومن ينظر إليهم نظرة الإكبار والإعجاب؛ فهؤلاء وهؤلاء أهون عندي من الهباء.

وأعترف بأن عنان النفس يفلت من يدي في حالات كثيرة، ولكنها حالات أراجعها أحيانا فلا آسف لإفلاته، بل أرى أن ضرر الإطلاق أخف من ضرر الشد والكظم وثني العنان.

أما اعترافاتي في ميدان الأدب فمنها ما يخصني ومنها ما يعم القراء معي ...

وأول هذه الاعترافات أنني أقرأ لنفسي، وأقرأ أحيانا في موضوعات لم أكتب فيها للقراء حرفا واحدا حتى الساعة.

ولا أطالب أحدا بجميل؛ لأن جميلي لنفسي سابق لكل جميل، ولكنني أعترف كذلك بأنني لا أطيق التواضع الكاذب، الذي هو رياء في المتكلم، وغفلة في السامع، فإذا بخسني الباخسون حقا فدعواي إذن أمام ضميري لا يزعزعها إجماع الخافقين.

أعترف بأنني أحب الشهرة والخلود، ولكنني أعترف كذلك بأنني لا أطلبهما بثمن يهيض من كرامتي، وأنني إذا أحسست أن إنسانا يمتن علي بشهادة يبذلها أو شهادة يمنعها فلا نصيب له عندي غير التحدي الذي يذهب به إلى الحائط، ولتذهب الشهرة، وليذهب الخلود معها إلى الشيطان.

ولقد تعبت كثيرا في تحصيل الأدب والثقافة، ولكنني أعترف بعد هذا التعب كله بقصوري عن الغاية التي رسمتها أمامي في مقتبل صباي، فلم أبلغ بعد غاية الطريق، ولا قريبا من غايته، وإذا قدرت ما صبوت إليه بمائة في المائة، فالذي بلغته لا يتجاوز العشرين أو الثلاثين.

الفصل التاسع

(1) في مكتبتي

قلت لك يا صاحبي: إنني أحب مدينة الشمس لأنني أحب النور.

أحبه صافيا وأحبه مزيجا، وأحبه مجتمعا وأحبه موزعا، وأحبه مخزونا كما يخزن في الجواهر وأحبه مباحا كما يباح على الأزاهر، وأحبه في العيون، وأحبه من العيون، وأحبه إلى العيون!

ويوم سكنت في هذا المكان، ونظرت من هذه النافذة، أعجبني أنني أفتحها فلا أرى منها إلا النور والفضاء.

والحق أنه لا فضاء حيث يكون النور.

وكيف يكون فضاء، ما يملأ العينين، ويملأ الروح، ويصل الأرض بالسماء؟!

قلت لك يا صاحبي: إنني أحببت النور فكسنت في مدينة النور! ...

وأود أن تفهمني حين أقول لك: إنني أحب النور.

فإنني لا أحبه لأنه يريني الدنيا وما فيها، أو لأنه هو واسطة الرؤية وأداتها، ولكنني أحبه لأراه ولو لم أر شيئا من الأشياء.

وقديما كنت أقول: إن الأرواح تخف في النور كما تخف الأجساد في الماء، كأنها هي تسبح فيه وتطفو عليه.

وكنت أقول:

النور سر الحياة

النور سر النجاة

ألمحه بالروح لا

لمح العيون الخواة

ما تبصر العين من

معناه إلا أداة

وكنت أحسبه «روحانية» ترى بالعين و...

أرى الأرض روحانية في جمالها

وإلا فما بال النفوس بها تسمو

إذا فاض منها النور هزت قلوبنا

سعادة روح ليس يعرفها الجسم

ولو أنها من لذة الحس عفتها

كما قد يعاف اللمح والسمع والشم

كرهت من الدهر الكثير ولم يزل

بقلبي من شمس النهار هوى جم

ترى كل يوم وهي عندي كأنها

غريب عرا لم يدر وصف له واسم

عجبت لأرض تخطر الشمس فوقها

وتشرق فيها، كيف يطرقها الغم؟!

فلا أتكلم بالمجاز حين أقول لك يا صاحبي: إنني أراه من عالم الروحانيات، وإنني أشبع منه الروح والعين ولا أشبع منه العين وكفى، وإنه شيء يرى ويرى ويري، ولا تمل رؤيته ولا يشبع من النظر إليه، وليس هو الشيء الذي غاية ما يكفيك منه أنه يريك الأشياء.

قال صاحبي: هذا من عمل النشأة الأولى ... هذا من عمل أسوان!

قلت: أوتظن ذلك؟ ... ولم لا تظن أن النشأة الأولى تزهدنا فيما هو مبذول لدينا، بل فيما هو مسلط علينا؟

هل رأيت شاعرا من شعراء الصحراء يتغنى بالشمس المجيدة أو الشمس الفاخرة أو الشمس الباهرة كما يتغنى بها أبناء الغيوم أو أبناء الشمال؟

لست معك يا صاحبي فيما قدرت، ولعلي كنت أقدر معك هذا التقدير لو أنني نشأت في أسوان أحب الظلال وأكره سطوة النور وأحسبه من قضاء الله الذي يطاق ولو في بعض المواسم والساعات ...

ولكنني - على ما رأيت - أستطيع أن أقول لك: بل إنني لأحب النور على الرغم من النشأة في أسوان، وإنني أحبه حين أنظره وأحبه حين أنظر به، وأحبه حين أهتدي به في عالم البصر وأحبه حين أهتدي به في عالم البصيرة؛ لأنني أحسبه سر الأسرار أو أحسبه سبيل الهداية إلى سر الأسرار، وأوشكت أن أومن بهذا الحسبان كل الإيمان.

قال صاحبي: ما أعجب أن يكون أظهر الأشياء هو أخفى الأشياء!

قلت: يا صاحبي لا عجب أن يكون أظهر الأشياء هو المظهر للخفاء في كل معانيه، ولا أحسب أن حجابا من الحجب الكونية سيرتفع في مجال العلم أو مجال الحكمة من طريق غير طريق النور، مهما يطل الزمان.

وكنا نتحدث في المكتبة، فتناولت بعض الكتب التي تبحث في الروح والمادة، وقلت لصاحبي: أعرفت حجة السياسي الفيلسوف «آرثر بلفور» في نفي الصلة بين عالم المادة وعالم الروح؟ ... إنه يقول: إن الروح لن تؤثر في الأجساد إلا بجسد مثلها، فكيف يكون هذا التأثير؟ ... إن الروح تخالف الجسم في تكوينه فكيف تعمل فيه عملها وما هي الأداة الجسدية التي تتلقى عنها دوافعها! فإما أنهما شيئان منفصلان فلا تتأتى بينهما صلة على وجه من الوجوه، وإما أنهما شيئان متشابهان فلا اختلاف إذن بين تكوين الأرواح وتكوين الأجساد!

قال صاحبي: إخاله قوي الحجة في مقاله.

قلت: وكذاك إخاله، ولكننا إذا شككنا في أحد العنصرين: عنصر المادة، وعنصر الروح؛ فأيهما أولى بالشك فيما تراه؟

قال: على كل حال لا أستطيع الشك في المادة وهي تحيط بي وتصدني وتصدمني، إذا أنا غالطت نفسي فيها.

قلت: بل في المادة تستطيع أن تشك وتفرط في الشك قبل أن تواتيك دواعي الشك في عالم الروح.

وإنما ساء فهم المادة والروح معا من تصور الأقدمين هذه وتلك؛ إذ وضعوهما موضع النقيضين، وجعلوا المادة كثافة لا حركة فيها، وجعلوا الروح حركة لا كثافة فيها.

فهل المادة كذلك؟

هل هذه الكثافة التي تصدمها بقدمك وتضربها بيدك هي الحقيقة التي لا تستطيع إنكارها؟

أقول لك: كلا ... إنك حين تضرب الأرض بقدمك فتزعم أنك صدمت الحقيقة التي لا تقبل المراء، إنما تصدم شيئا غير الكثافة أو الجرم الذي يحسب عند بعض الناس وجودا لا يقبل الإنكار، فإنما الوهم كل الوهم هذه الكثافة، وإنما الوجود الحق هو ما وراءها من قوة تصدم القوى فتصدم الحواس.

هذه الكثافة المادية لا شيء يا صاحبي لولا القوة التي تكمن في أطوائها، وإن شئت مصداقا لذلك؛ فافرض أن يدك التي تقف عند هذه الخشبة قد زادت قوتها ألف ضعف أو عشرة آلاف، ثم عد إلى لمس الخشبة بتلك القوة المضاعفة، فهل تقف عندها؟ ... كلا ... إنها لا تقف عندها بل تعبرها كما تعبر الهواء.

أو تعال إلى الماء والهواء وهما مثال التخلخل في تلك الكثافة المادية، فادفع الماء بقوة من بعض العيون ... إنك إذن لتضربه بالسيف القاطع فلا يمضي فيه ويرتد إليك، وادفع الهواء بقوة مع بعض الفوهات ... إنك إذن لا تثبت أمامه على قدميك.

فليست الكثافة المادية هي الحقيقة التي لا مراء فيها، بل القوة هي الحقيقة الكامنة في تلك الكثافة وفي كل مادة ملموسة أو محسوسة.

قال صاحبي: مهلا ... مهلا ... وأين هذا من النور؟ ... وأين هذا من سر الأسرار؟

قلت: صبرا يا صاح، إن كل جسم من الأجسام يتألف من الذرات، وكل ذرة من هذه الذرات تتألف من النواة والكهارب، ثم من الحركة أو من طاقة الإشعاع والنور ... تقلصت كثافة المادة كلها ووصلنا إلى الشعاع والإشعاع: وصلنا إلى النور، واقتربنا ولا نزال نقترب كثيرا من عالم الحركة التي لا كثافة فيها، وابتعدنا ولا نزال نبتعد كثيرا من عالم الكثافة التي لا حركة فيها، إننا هبطنا بالكثافة المادية إلى أدناها، إننا نظرناها بالأحداق ثم دقت حتى عن النظر بالأحداق. نعم، إننا لم نصل إلى طرف الروح الأقصى، ولكننا وصلنا إلى طرف المادة الأقصى، أو لعلنا قد عرفنا طريق القنطرة بين العدوتين إن لم نكن قد أقمناها، وشرعنا في العبور عليها. ماذا بقي من المادة الغليظة الجاسية؟ ... ماذا بقي من الجرم الجاثم الذي يناقض الروحانية؟ ... إننا نقترب، إننا نقترب، إننا نقترب، إننا مع النور نصل إلى الملتقى الموعود، ولعلنا لا نصل إليه إن وصلنا من طريق غير هذه الطريق.

قل: إن الكون حركة لا مادة فيه. ذلك أيسر لك من أن تقول: إن الكون جرم لا روح فيه!

قل: إن الكون نور. قل: إن الله نور السماوات والأرض، فإذا قصر بك الحس عن نور الله فثق أن هذا الضياء الذي يملأ الفضاء هو النور الإلهي الذي كتب لابن الفناء أن يراه.

وكان النهار بساما، مدلا بشمسه مزهوا بنوره، كأنما يحس روعته في الأنظار وبهجته في الأرواح، وكأنما يتوهج من نظر العيون إليه كما تتوهج الوجنة الصبوح تحت لمحات الأحداق، كان نهارا مبتكرا عليه جدة لا تحسبها قد مضت عليها سويعة من يوم! ... خلقا مبتكرا يخيل إليك أنه يتلألأ في فضائه للمرة الأولى ... وهل هنالك من فارق بين نور نهارنا هذا وبين النور في أبعد مكان من الفضاء، وفي أبعد فترة من الزمان؟ ها هنا شيء على الأقل تستطيع أن تقول: إنه لم يفتك أن تراه قبل ألف ألف من السنين، وإنك تذهب معه إلى أبعد من مذهب أبي العلاء حين سأل الفرقدين:

واسأل الفرقدين عمن أحسا

من قبيل وآنسا من بلاد

كم أقاما على بياض نهار

وأنارا لمدلج في سواد

إن الفرقدين وأخواتهما في السماء لأطفال تلعب في حجر هذا الشيخ السرمدي، يلوح لك من جدته اليوم كأنه لم تنقض عليه ساعة من نهار!

قال صاحبي وهو يرسل الطرف في السماء، ولا نهاية لمد البصر تصعيدا ولا تصويبا، ولا من يمين ولا شمال: قصرت عين تحسب وهي تنظر إلى هذا النور أنها تنظر إلى شيء مكشوف لا عمق فيه، ولا طوية وراءه: كاشف الخفاء هذا هو ينبوع الخفاء! ...

وشاء أن يتكلم بلغة المكان، لغة المكتبة، لغة المجازيين والبلغاء، فقال: ونحن إذن في برزخ الأنوار، وراء الجدران نور الشمس في مدينة الشمس الخالدة، وبين الجدران نور القرائح، ونور الحكمة، ونور البيان!

قلت: مجاز حسن وإن طال به عهد أصحاب المجاز، الكتب علم، والعلم نور، ولكنني لا أحسبه مجازا يجري في النفس كما يجري في لفظ اللسان، فهل من الحق أننا نواجه المكتبة كما نواجه النور؟ ... وهل خطر لك قط أن تسأل نفسك: كيف تبده الكتب الكثيرة - مجتمعة في مكان واحد - من يدخل عليها لأول مرة؟ ... كيف يقع ألف كتاب أو عشرة آلاف كتاب موقعها ممن يفجأ بها ويعرف ما هي، وإن لم يعرف معناها؟ ... إننا في هذه الحضارة قد تعودنا منظر الكتب مجتمعات بالمئات والألوف. ولكننا خلقاء أن نتجرد من فعل العادة، ولو لحظة عابرة لننظر إلى هذه الظاهرة من جانب غرابتها لا من جانب ألفتها، فكيف تبد هنا رؤية الكتب لمئات من أصحاب القرائح والعقول محشورة في بضعة رفوف؟ ...

إنني لا أسأل عن أولئك القراء والدارسين الذين ألفوا عشرات الكتب بالليل والنهار. إن هؤلاء ينظرون إلى كتبهم كما ينظر الجوهري إلى الثروات المخزونة عنده في صناديق البلور من نوادر الفصوص والأحجار الكريمة، أو كما ينظر البستاني إلى أحواض الزهر وهي ترعرع أو تذبل بين يديه، أو كما ينظر صاحب القصر إلى أسراب الحسان المقصورات فيه، أو كما ينظر المهندس إلى الأزرار التي في لوحته، وقد ينطلق كل زر منها بما يحرك مدينة بأسرها، وكلهم يملكون زمامهم، أو زمام تلك المرئيات وهم يحسون بها، وكلهم يحضرون منها ما ألفوه وتعودوه وكرروه، وقد يغيب عنهم منها جانب المفاجأة والغرابة. ولكنني أحب من حين إلى حين أن أستغرب ما آلف وأن آلف ما أستغرب، ويثير هذا الشوق في خاطري أن أشهد وقع هذه الغرابة مرتجلا في بعض النفوس، ولا سيما النفوس التي تقارب الكتب من بعيد.

قال صاحبي: وماذا وقع من صورتها في نفسك كلما استغربت ما ألفت منها ...

قلت: لا أحدثك بهذا الآن ... وإنما أحدثك بما شهدت وعاينت، ثم أحدثك بما استدرجني إليه الخيال كلما ألقيت بمقادتي إليه.

لا أنسى وهلة فتاة ذكية حين دخلت هذه المكتبة عرضا في بعض الأيام ...

كانت على شيء من التعليم، وكانت تميل إلى القراءة كلما اتفقت لها قصة سائغة أو قصيدة شائقة، ولكنها فوجئت بهذه الكتب المتجمعة، فصاحت على غير روية منها: يا سلام، كتب، كتب، كتب، كل هذا كتب ... شيء يدوخ! ... ومالت برأسها كأنها تهرب من دوار ينذرها بإغماء ...

ألا ترى يا صاحبي أن هذه الفتاة قد عرفت الكتب فلم تعرفها جلودا وأوراقا وألوانا تشوق العيون، ولكنها عرفتها كما هي في الحقيقة زحمة من الأفكار والمعارف تشفق منها على رأسها الصغير؟ ...

لقد عجبت يومئذ من هذه الوهلة؛ لأنني أعلم على التحقيق أن الفتاة شاهدت المكتبات في المدرسة وشاهدتها في السوق. فسألتها: أهذه أول مكتبة رأيتها في حياتك؟!

تعجبت هي أيضا معي من هذه الوهلة، ولم تزد على أن تقول: رأيت غيرها كثيرا، ولكني لا أدري لماذا «دخت» وأنا أنظر إليها هنا ...

ثم راجعت نفسي في تفسير ذلك فلم أعجب من وهلة الفتاة كما عجبت من صدق حاستها، أو من مبادرة هذه الحاسة إلى التفرقة بين الأشياء المتشابهة حين يتفرق بها المكان ...

فإنما تختلف الأشياء عندنا بما يقترن بها من تداعي الخواطر، وما توحيه من اللوازم والملابسات، فالكتب في السوق بضاعة للبيع، والكتب في المدرسة موزعة بين الأساتذة والطلاب، ولعلهم مئات ولعلهم ألوف فلا توحي إلى الخاطر تلك «الزحمة» التي ترهق الرءوس، أما الكتب في حجرة واحدة في بيت رجل واحد، فللفتاة العذر إذا أجفلت منها تلك الجفلة وخافت منها على رأسها الدوار ...

إننا نمر بالمائدة في الفندق العامر، فلا نستغربها وإن امتلأت بطعام جيد، ولكننا إذا رأينا هذه المائدة بعينها أمام ضيف واحد خطرت لنا التخمة أو خطر لنا الغثيان، ولنا المعذرة في هذه التفرقة بين المائدتين! ... •••

واحتجنا يوما إلى نقل بعض الرفوف من هذه الحجرة إلى الحجرة التي تليها ريثما نصلحها، ونفرغ من طلائها، فاستعنا بقريب لبواب المنزل يومئذ على النقل مع خدم البيت، وكان ريفيا أميا يزور قريبه أو يزور «آل البيت» على التعبير الصحيح، أو لعلها أول زياراته للقاهرة في طلب الخدمة، وطلب البركة على السواء ... ولم يكن له علم بالأحرف العربية، ولا بالأحرف الإفرنجية، فإذا رأى كتابا في هذه الأحرف أو في تلك فكله كتاب، وكله مما يقرؤه المطهرون.

فلما اقترب من باب المكتبة خلع نعليه وتهيب أن يمد يده إلى الكتب؛ لأنه - كما قال - لم يكن على وضوء!

أليس لهذا الريفي الأمي منطق صادق فيما فعل على البداهة؟ ... إنه تعود أن يقرن صورة الرجل العالم بصورة رجل الدين، فما باله لا يقرن كتاب العلم بالقداسة الدينية؟ ... وهل يكون الكتاب لغير علم أو لغير قداسة؟! ...

لقد أكبرت تحية الجهل للعلم في مسلك هذا الريفي الصالح، وأستغفر الله لأنني أفسدت سمعة الكتب في رأيه على الكره مني، فأعلمته أنها كأبناء آدم وحواء فيها الصالح والطالح، وفيها الطيب والخبيث، وأنها لا تحرم في جميع الأحوال على اللمس بغير وضوء، فلم أجرئه على حرمتها ولا أقنعته بلمسها، حتى أريته على غلاف بعضها صور التماثيل العارية، وفي صفحات بعضها صور السادة والسيدات، فتحلل من حرج وأقدم بعد إحجام ...

ولا إخال هذه «الهيبة» للكتاب بعيدة جدا من هيبة «المكتوب» عند القبائل الفطرية كما أنبأنا عنها رواد المجاهل الإفريقية؛ فإنهم لا يفهمون هناك كيف يقرأ الرجل الورقة ويفهمها ويعمل بما فيها دون أن يكون فيها روح مرصد أو طائف من الجان، وقد روى بعض الرحالين أنه أرسل خادمه الأسود إلى زوجته على مسيرة ساعات ليطلب بعض الأمتعة والأدوات من بيته، فكتب له ورقة، وأمره أن يأتيه بجوابها، فحمل الورقة مطمئنا، ولم يلق إليها كبير اكتراث، ولكنه لما رأى السيدة تقرؤها، وتراجعها كلما أسلمته أداة من الأدوات المطلوبة فيها خامره الشك، وأيقن أنها تستوحي بمراجعة الورقة روحا تفقه عنها ما تسأل عنه في صمت ووقار، فلما أسلمته السيدة تلك الأدوات تقبلها وحملها ولم يوجس منها، ولكنه تردد وأوجس حين أسلمته الورقة بالجواب! ... وحملها كمن يحمل ثعبانا يخاف أذاه، أو شيطانا يخاف سخطه وغضبه، وأدى الأمانة بتمامها؛ لأنه في حراسة رقيب ينقل عنه ما يظهره ويخفيه ...

قال صاحبي: ويح الأسود المسكين، لو انطلق عليه روح من وراء كل كلمة مخزونة في هذه الرفوف! ... إن عفاريت الآجام جميعها لتصبحن عنده من ملائكة الرحمة بالقياس إلى هذه العفاريت، وإن سحرة إفريقية على بكرة أبيها لا ينقذونه من وبال هذا السحر المخيف! ...

قلت: أولم يحصل؟ ... بلى قد حصل وفرغنا من محصوله! ... وقد انهزم السحرة المساكين في وجه هذه الأرواح، وهربت عفاريت الآجام من سطوة هذه العفاريت، وهل المعركة بين القارة السوداء وبين الواغلين عليها إلا المعركة بين الكتاب وتعويذة السحر القديم؟! ...

والتفت صاحبي إلى الرفوف يتصفح عناوينها، ويسألني: أولا يزعجك بعض الأحيان أن تخلع عن الكتب هذه الصورة، وأن تراها حاضرة الأرواح، جياشة الحركة بحياة مؤلفيها؟ ...

قلت: بل أنا لا أراها إلا على هذه الصورة كلما أعرضت عن صورتها الممثلة في الجلود والأوراق: أراوح في انتظار الطلسم، أو مردة في قماقم سليمان، وأين برج بابل من لهجات رف واحد ها هنا لو تحركت له ألسنة، وتفتحت له أفواه؟! ... وأين الجحيم كلها لو انبعثت المردة من أرصادها، وتمردت على الطلسم الأعظم الذي يحبسها في قماقمها؟! ...

قال صاحبي: خير للكتب وأولى ... نعم؛ خير للكتب ألف مرة أن تكون أرصادا للأرواح أو قماقم للمردة من أن تكون على تلك الصورة التي يصورها لنا أصحاب المائدة وصحاف الطعام! ... ولست أدري لم يحضرني خاطر الطعام المخزون في العلب كلما تحدثوا عن الكتب وما فيها من طعام العقول؟! ... فما القول في رأس فيلسوف مجفف لساعة الحاجة إليه؟! ...

وما القول في هذه الأغذية المحنطة على الرفوف لطول البقاء واجتناب الفساد؟! ... هي ولا ريب أفضل ما اخترع الإنسان من صناعات الخزن والتجفيف، وأحسن ما ابتكر من وسائل الصيانة والتعقيم. ليت الثمرات كلها تصان وتظفر بالتعقيم والتجفيف على هذا المنوال. ولكننا لا نشتهي طعام العقول للعقول حين نعرض لها الرءوس المجففة، والثمرات المحنطة ليوم القراءة أو ليوم التغذية المشتهاة ... لا ... لا؛ إننا لا نود أن نشتهي الكتب هكذا لنأكلها برءوسنا وأدمغتنا، وإنما نؤثرها مردة في قماقم وأرواحا في أرصاد. فعلى بركة الله فلنمض معها في سياحتنا إلى حيث تلقي بنا في آماد المكان والزمان، ولنطلقها فرادى إن عز علينا أن نطلقها أسرابا وجماعات ... على بركة الله!

قلت: نطلق ماذا يرحمك الله؟! ... وإلى أين المنتهى إذا ابتدأنا معها واحدا واحدا، أو سربا سربا إلى حيث تستطيع المسير؟! ... هذا يا صاحبي مارد يحملنا إلى قطب الشمال، وبجانبه مارد مثله يحملنا إلى قطب الجنوب! ... وها هنا مارد ثالث يتعدى بنا أقطاب الأرض إلى الشعرى اليمانية، وما وراء السديم ... فمع أيها نسير؟! ومتى المعاد إن سرنا مع هذا أو ذاك؟! ... وإنك لتعلم أنها قديرة على السفر في رحاب الزمان قدرتها على السفر في رحاب المكان، فهذا يحملك إلى القرن الأول للهجرة، وهذا يحملك إلى القرن الأول للميلاد، وغير هذا وذاك يحملك إلى ما قبل الهجرة والميلاد من أزمنة يضل فيها التاريخ، وقلما يهتدي فيها الخيال، وخطوة من هنا تلاقيك بهوميروس، وخطوة من هناك تلاقيك بامرئ القيس، وخطوة أخرى تجمعك بآدم وأبنائه الأولين، فأين المنتهى بعد هذا ومتى القرار؟! ... لا يا صاحبي يرحمك الله ... لا نهاية لانطلاق هذه المردة في مداها فرادى ولا مجتمعات، فدعها في قماقمها، وانظر إليها ومعك أرصادها، فليس هذا أوانها، وليست سياحتنا هذه بالسياحة السرمدية التي لا نرقب نهايتها ... فعلينا بالأفق الذي نحن فيه نلزمه ولا نتعداه، وحذار أن تفتح القماقم مجتمعات ولا متفرقات، ولك عندها بعد ذلك ما تشاء ...

فالتفت صاحبي إلى القماقم يتصفح عناوينها، ونظر هنا ونظر هناك على غير اطراد كأنه يرتجح، ولا يملك الانبعاث في طريقه دون أن يرجع إلى حيث كان، ثم هتف بي سائلا: ما هذه المفارقات؟! ... بل ما هذه المقارنات؟! شعر وتاريخ، وفن ودين، وسير وطبائع حشرات، تصاحبها طبائع عظماء، وخليط من المطالب لا تعرف لها وحدة، ولا يطرد لها نظام، فهل هي مكتبة قارئ واحد أم هي مكتبات شتى أعددتها لمن يشاء؟!

قلت: بل هي مكتبة واحدة أعددتها لقارئ واحد، ولا أحسب أن مكتبة القارئ الواحد تتفق على غير هذا النظام؛ لأنك تعد الكتب في مطلب واحد لمئات القراء الذين يشتغلون به ويرجعون إلى مصادره، ولكنك لا تحصر القارئ في مكتبة واحدة إلا إذا نوعتها له وأغنيته بها عن غيرها. ولا بد للقارئ الواحد على الأقل من مطلبين مختلفين: أحدهما: للصناعة والعمل، والآخر: للمتعة والتسلية، فإن كانت صناعته الكتابة فقد تعدد ما يقرأ للعمل والصناعة، وتعدد ما يقرأ للمتعة والتسلية، وكثيرا ما يكون التعدد مع ذلك في العناوين لا في بواعث القراءة. فإن القارئ قد ينظر في خمسة موضوعات أو ستة أو سبعة لباعث واحد ونزعة واحدة، وليس أقرب من بواعث القراءة في بعض الأحايين، مع تباعد الموضوعات والعناوين.

خذ لذلك مثلا هذين الموضوعين الغريبين: طبائع الحشرات، وما وراء الطبيعة! أيبتعد عنوانان قط أبعد من هذا الابتعاد؟! ... أيفترق شيئان في ظاهر الأمر كما يفترق البحث في الكون والسماء والخلود، والبحث في جحور النمال، ومباءة الجراثيم؟! ... ومع هذا يتقاربان جد الاقتراب حين يهديك كلاهما إلى بداية الحياة أو نهاية الحياة، وربما فسرت لك طبائع الحشرات «تصميم» بناء الحياة تفسيرا تعجز عنه عقول الفلاسفة والحكماء، وربما عرفت من دوافعها وجواذبها وأنت ترقب الحشرة الضئيلة في أطوارها المتعاقبة ما لست تعرفه من مقاييس المنطق، وتقديرات البديهة، ودراسة المذاهب والتأويلات.

وخذ مثلا آخر، هذين الموضوعين الغريبين: الشعر والدين ... إنهما ليبدوان في الغرابة كما يبدو لك منظر الناسك في الصومعة، وإلى جانبه منظر الشاعر في مجال الأنس والسرور، ولكنهما يلتقيان أقرب لقاء حين يعبر الشاعر عن نفسه، ويريك جمال الخالق في خلقه، وحين يبرز لك الإنسان من وراء مسوح الزهاد فإذا هو شاعر مستتر أو شاعر موثق بسلاسل العبادة، وإذا العبادة لا تخرج به من نطاق الشعور، ولا تنكر له فتنة الحياة، بل تمثلها له قوية مخيفة، يتقيها بالمجانبة فيشعر بها كما يشعر بها من يواقعها ولا يتقيها. وإذا الفراش الذي يقع في النار، والفراش الذي يهرب من النار ... كلاهما فراش! ...

ولقد سألت نفسي عن هذه البواعث المتوافقة وراء هذه النقائض المفترقة، فأجابتني عنها جوابا أرتضيه، ولعلك ترتضيه، ولخصته لي في كلمات معدودة: وهي: «الاستزادة من الحياة».

ولك أن تستزيد من الحياة بتعميقها أو بتوسيعها أو بتفسيرها، ولك أن تتوسل إلى ذلك كله بقصيدة من عيون الشعر، أو بنظرة في عجائب حشرة ضئيلة تخالها من أسرار الصناعة مكتومة، بل من مسودات الخلق الأولى ... أو باستقصاء آماد الحياة فيما وراء الغيب، وفيما بعد الموت وقبل الميلاد، أو بالمقابلة بين سير العظماء على ضروب شتى من العظمة، وبين سير الصغراء على ضروب شتى من الصغار ... فكل أولئك باعث واحد مختلف العناوين، وكله صحاف تعطيك ألوانا شتى من الطعم والمذاق، ولكنها لا تعطيك في النهاية غير دم واحد ينبض في العروق ... ومعذرة بعد من هذه اللفتة إلى الطعام، وأنت لا تحب ذكر الطعام في هذا المقام ...

قال: لا عليك من المعذرة بعد هذه الفترة، فقد أوشكت الساعة أن أستطيب التشبيه الذي كنت أعافه منذ برهة، وأوشكت مع هذا أن أؤمن بأن الثبات على الرأي في البلاغة غير الثبات على الرأي في الأخلاق، فقديما قيل لنا إن الثبات فضيلة، وأخشى أن أكون اليوم قد أخللت بهذه الفضيلة ... لولا باب من الرحمة في هذا الخلاف بين شرعة البلاغة وشرعة الأخلاق. وليست هي مسألة فكرة تقاس بالرأي، بل هي شيء أحسه الساعة، ولا أبالي أن أفكر فيه، فما أرتضيه من البلاغة وأنا شبعان مكظوظ لا أرتضيه منها وأنا جائع أتلمس الطعام، وأنت لا تشهي الكتب إلي ... حين تشبهها بالمائدة وأنا من الكظة أعاف المائدة وأحاديثها، ولكنك تشهيها إلي حين تصفها بهذه الوصفة وأنا متفتح المعدة والرأس لكل غذاء ...

قلت: هو ما قالوه قديما، وأصابوا فيه أكثر مما أرادوا، فالبلاغة هي «مراعاة مقتضى الحال» ... ولقد كنت بليغا في إشارتك هذه ... فلك عندي من المكافأة عليها مائدة غير مائدة أفلاطون، وأشباه مائدة أفلاطون!

وعدنا نستطيب القماقم والأرصاد بعد هنيهة، ولكن على أن نتركها بسلام فلا نطلقها فرادى ولا جماعات، وحسبنا منها العناوين والرفوف.

ثم راح يجول ببصره جولة الطائر فيما يعبره وهو يقول: ما أصغر نصيب القصص من هذه الرفوف!

قلت: نعم ... وإنه لو نقص بعد هذا لما أحسست نقصه؛ لأنني - ولا أكتمك الحق - لا أقرأ قصة حيث يسعني أن أقرأ كتابا أو ديوان شعر، ولست أحسبها من خيرة ثمار العقول.

قال: كيف؟! ... أليس في الرواة والقصاصين عبقريون نابهون كالعبقريين النابهين في الشعر، وسائر فنون الآداب؟!

قلت: بلى ... ولكن الثمار العبقرية طبقات على كل حال، وقد يكون الراوية أخصب قريحة وأنفذ بديهة من الشاعر، أو الناثر البليغ، ولكن الرواية تظل بعد هذا في مرتبة دون مرتبة الشعر، ودون مرتبة النقد، أو البيان المنثور ... والمثل هنا أقرب إلى الإيضاح من سوق القضية بغير تمثيل: إن الحديقة التي تنبت التفاح لا يلزم أن تكون في خصبها ووفرة ثمراتها أوفى من الحديقة التي تنبت الجميز أو الكراث، ولكن الجميز أو الكراث لا يفضلان التفاح وإن نبتا في أرض أخصب من الأرض التي تنبته وتزكيه. •••

ونحن نقرأ القصص التي تجود بها قرائح العباقرة من أمثال ديكنز، وتولستوي، ودستيفسكي، وبورجيه، وبروست، وبيراندلو، فنؤمن بتلك العبقريات التي لا تجارى في هذا المضمار، ولكن إيماننا بها لا يلزمنا أن نضع القصة في الذروة العليا من أبواب الآداب ، ولا يمنعنا أن نقدم عليها غيرها في التقدير والتمييز.

قال: وما المقياس الذي نرتب به هذه الرتب يا ترى؟

قلت: لعله مقاييس شتى لا مقياس واحد، ولعل الناس يختلفون فيها كاختلافهم في كل شيء يرجع إلى المشرب والتعبير، غير أنني أعتمد في ترتيب الآداب على مقياسين يغنياني عن مقاييس أخرى، وهما الأداة بالقياس إلى المحصول، ثم الطبقة التي يشيع بينها كل فن من الفنون.

فكلما قلت الأداة وزاد المحصول ارتفعت طبقة الفن والأدب، وكلما زادت الأداة وقل المحصول مال إلى النزول والإسفاف.

وما أكثر الأداة وأقل المحصول في القصص والروايات؟ إن خمسين صفحة من القصة لا تعطيك المحصول الذي يعطيكه بيت كهذا البيت:

وتلفتت عيني فمذ بعدت

عني الطلول تلفت القلب

أو هذا البيت:

كأن فؤادي في مخالب طائر

إذا ذكرت ليلى يشد به قبضا

أو هذا البيت:

ليس يدرى أصنع إنس لجن

سكنوه أم صنع جن لإنس

أو هذا البيت:

وقد تعوضت عن كل بمشبهه

فما وجدت لأيام الصبا عوضا

لأن الأداة هنا موجزة سريعة والمحصول مسهب باق، ولكنك لا تصل في القصة إلى مثل هذا المحصول إلا بعد مرحلة طويلة في التمهيد والتشعيب، وكأنها الخرنوب الذي قال التركي عنه - فيما زعم الرواة - إنه قنطار خشب ودرهم حلاوة! ... أما مقياس الطبقة التي يشيع بينها الفن فهو أقرب من هذا المقياس إلى أحكام الترتيب والتمييز، ولا خلاف في منزلة الطبقة التي تروج بينها القصة دون غيرها من فنون الأدب، سواء نظرنا إلى منزلة الفكر أو منزلة الذوق، أو منزلة السن، أو منزلة الأخلاق، فليس أشيع من ذوق القصة، ولا أندر من ذوق الشعر والطرائف البليغة، وليس أسهل من تحصيل ذوق القصة، ولا أصعب من تحصيل الذوق الشعري الرفيع حتى بين النخبة من المثقفين. •••

قال صاحبي: على أنهم قد أثاروا في أوائل هذا القرن ضجة حول القصة بالغوا فيها أيما مبالغة، وخيلوا إلى الناس أن فنون الأدب كلها عالة عليها، وأنه لا كتابة لمن ليست له قصة.

قلت: لقد فعلوها حقا ، وكان ذلك على أثر ضجة أخرى هي ضجة الكلام الكثير في الدراسات النفسية و«السيكولوجية» بأنواعها، فبدا لبعضهم أن القصة هي المعرض الوحيد لتطبيق هذه الدراسات في الكتابة الأدبية، وأنها هي الوسيلة القريبة لفهم العلاقات بين النفوس البشرية، وتفسير المواقف والمشكلات التي تنجم عن غرائب الطباع، ولم تخل ضجة القصة من أسباب قوية غير «السيكولوجية»، وكثرة الكلام فيها، فإن شيوع القراءة بين الدهماء قد أشاع معها القصة التي تفهمها الدهماء، وتؤثرها على غيرها من الفنون الأدبية، وجاء شيوع الصور المتحركة بعد شيوع القراءة، فأملى للدهماء في هذه النزعة أو هذه «الهواية» حتى غلبت عليهم، وسرت منهم إلى النقاد الذين يتبعون الجماهير، ويسمون نزواتها بروح العصر وهي نزوات بغير روح!

ونظرت إلى صاحبي فإذا هو يضم ما بين الخنصر والبنصر، ويقول: ها نحن أولاء نقلب صفحة جديدة، أو نفتح كتابا جديدا ... وها نحن أولاء نتكلم بالقول الصريح، وبالقول المستعار في وقت واحد، فما أبعد النقلة ما بين الخنصر والبنصر في عالم الكتب، ما أبعد النقلة بين الأرض والسماء، وبين المعاش والمعاد!

قلت: كلاهما يتصدى لعمل واحد، وهو تفسير الكون، وترتيب المعاش في هذه الدنيا على هذا التفسير. •••

وكان صاحبي قد انتقل كما قال، فيما بين الخنصر والبنصر إلى عالم السماء: عالم البحث في الله، وسر الوجود - وأصل الحياة، وما قبل الحياة، وما بعد الحياة ...

وكان على ديدن الكثيرين يرى أن هذا البحث فيما وراء الطبيعة من الوقت الضائع أو فضول القول، فسألني وهو يتحرج قليلا؛ لأنه يعلم أنني لا أستضيع وقتا أنفقه في بحث هذه الأمور، ما فائدة هذا كله وهو غموض في غموض، وفروض من وراء فروض؟!

ألا يمكن أن يعيش الإنسان على هذه الأرض وهو في غنى عن هذه الفلسفة التي يسمونها سر الوجود؟!

وأردت ألا أتخلف عنه في جرأة الرأي، فقلت: بل هي آخر شيء يستغني عنه الإنسان. وما أنت مستطيع أن تطل من هذه النافذة أو تبدأ عملك في الصباح ما لم تكن لك «فلسفة» وجود على نحو من الأنحاء ...

قل لي: «ماذا تستبيح وماذا تحرم وأنت تنظر من هذه النافذة»؟ أتستبيح ألا تملأ عينيك من شيء غيرك كما قال الأديب الحجازي؟ وإذا استبحته فلماذا تستبيحه؟ وإذا حرمته فلماذا تحرمه؟ وما حدود المتاع بالنظر فيما تراه؟ أله حدود أم ليست له حدود؟

وأنت تذهب إلى عملك كل يوم في الصباح، فلماذا تعمل أو لماذا تهمل عملك؟! أعليك واجب؟ أمناط هذا الواجب مصلحتك أم مصلحة الأمة؟ ومشيئة الخالق أم مشيئة المخلوق؟ وأن آمنت بهذه المشيئة أو بتلك فلماذا آمنت؟ وإن لم تؤمن بهذه أو بتلك فلماذا كفرت؟ وإن لم تفكر في شيء من ذلك، فهل أنت إذن مثل حسن للآخرين؟! •••

مرحلة الحياة يا صاحبي كجميع المراحل التي نقطعها من مكان إلى مكان، لا تركب القطار حتى تحصل على التذكرة ولا تحصل على التذكرة حتى تعرف الغاية التي تسير إليها. غاية ما هنالك من فرق بين راكبين أن أحدهما يقرأ التذكرة، والثاني لا يقرؤها أو أن أحدهما يؤدي ثمنها من ماله، والثاني يؤدى له الثمن من مال غيره ... وإن أبيت المجازات فأحد الراكبين في مرحلة الحياة يبحث عن غايتها بنفسه والآخر توصف له غايتها بلسان غيره ... لا بد يا صاحبي من هذه الفلسفة التي تريد أن تلقي بها في اليم وأنت على الشاطئ. وثق يا صاحبي أنها آخر شيء يلقيه راكب السفينة حين تلعب به الأعاصير في البحار اللجية، بل هو الشيء الذي لا يتركه ولو ترك السفينة أو تركته إلى الأعماق، ألم تسمع قولهم في الأمثال: «إنهم كالنواتية لا يذكرون الله إلا ساعة الغرق؟!» فاعلم يا صاحبي أن هذا الذكر هو فلسفة الحياة التي تبقى مع راكب السفينة بعد كل بضاعة يستغني عنها، وبعد السفينة نفسها إذا حان حينها؟

قال صاحبي: وهل وصلت قط من فلسفة حياتك إلى شيء؟

قلت: نعم ... إن الله موجود.

قال: باسم الفلسفة تتكلم أو باسم الدين؟

قلت: باسم الفلسفة أتكلم الآن، والفلسفة تعلمنا أن العدم معدوم فالموجود موجود ... موجود بلا أول ولا آخر ؛ لأنك لا تستطيع أن تقول: كان العدم قبله أو يكون العدم بعده! وموجود بلا نقص يعتري الوجود من جانب عدم، ولا عدم هناك ... موجود بلا بداية ولا نهاية، ولا نقص؛ لأن الكامل الأمثل هو الله ...

قال: وكيف توفق بين الوجود الأمثل وبين الشرور والآلام في هذه الحياة؟!

قلت: هذا سؤال غير يسير؛ لأننا - نحن الفانين - لن نرى إلا جانبا واحدا من الصورة الخالدة في فترة واحدة من الزمان، ومن يدرينا أن هذا السواد الذي يصادفنا هنا وهناك هو جزء لازم للصورة كلزوم النقوش الزاهية والخطوط البيضاء؟! وماذا تستطيع أن تصنع لو ملكت الأمر، وتأتى لك أن تقذف بالشرور من الحياة؟! بغير الألم والخسارة ما الفرق بين الشجاع والجبان وبين الصبور والجزوع، وبغير الشر والسوء ما الفرق بين الهدى والضلالة، وبين النبل والنذالة؟! وبغير الموت كيف تتفاضل النفوس، وكيف تتعاقب الأجيال؟! وبغير المخالفة بينك وبين عناصر الطبيعة من حولك كيف يكون لك وجود مستقل عنها منفصل عن موافقاتها ومخالفاتها؟! وبغير الثمن كيف تغلو النفائس والأعلاق؟!

قال صاحبي: أليس عجزا أن نشقى وفي الوسع ألا نشقى؟! أليس عيبا أن نقصر عن الكمال، وفي الوسع أن يكمل الكمال؟!

قلت: وكيف يكون في الوسع أن يكمل المتعددون؟! إنما يكون الكمال للواحد الدائم الذي لا يزول.

قال صاحبي: قل ما شئت، فليس الألم مما يطاق، وليس الألم من دلائل الرحمة وآيات الخلود الرحيم.

قلت: على معنى واحد إن هذا لصحيح! ...

إنه لصحيح إذا كانت حياة الفرد هي نهاية النهايات، وهي المقياس لما كان وما يكون، لكن إذا كانت حياة الفرد عرضا من الأعراض في طويل الأزمان والآباد - فما قولك في بكاء الأطفال؟ ... إن الأطفال أول من يضحك، لبكائهم حين يعبرون الطفولة، وإنهم أول من يمزح في أمر ذلك الشقاء، وليس أسعد الرجال أقلهم بكاء في بواكير الأيام ...

يا صاحبي هذا كون عظيم، هذا كل ما نعرف من العظم، وبالبصر أو البصيرة لو نظرنا حولنا لا نعرف العظم إلا من هذا الكون، ماذا وراء الكون العظيم مما نقيسه به أو نقيسه عليه؟ ... فإن لم نسعد به فالعيب في السعادة التي ننشدها، ولك أن تجزم بهذا قبل أن تجزم بأن العيب عيب الكون، وعيب تدبيره وتصريفه، وما يبديه وما يخفيه. ولك أن تنكر منه ما لا نعرف، ولكن ليس لك أن تزعم أنه منكر؛ لأنه مجهول لديك. •••

وبسط صاحبي ذراعيه وهو ينظر حوله بالبصر والبصيرة معا في أجواز الفضاء السرمد، ويخيل إلى من يراه في تلك الساعة أنه يفتح بصيرته وسعها كما يفتح المشدوه عينيه وسع الأجفان، حين يحب أن يملأ العينين مما تريان، وكأنه أغمض بعد إعياء من التأمل والاستقصاء فقال: هذه آفاق شاسعة! ... هذه أغوار لا يسبر لها قرار. وتساءل: أليس إلى معرفة الحقيقة من طريق غير هذه الطريق؟! أليس للرياضة الروحانية مسلك إلى هذه الآفاق والأغوار؟! إن نساك الهند - على ما يبدو لي - لأخبر بهذه المسالك، وأهدى في هذه الدروب ... إنهم لا يصدعون رءوسهم بالبحوث والفروض، ولكنهم يعرفون! ...

قلت: بل أحسب أن الطريقين مختلفان، إن نساك الهند لا يطلبون المعرفة ولا يجعلونها غاية الغايات؛ فإن المعرفة قد تنال من إقرار الجسد كما تنال من إنكاره، وقد تنجم من الإقبال على الدنيا كما تنجم من الإعراض عنها، ولكنهم طلبوا الطمأنينة والراحة، أو طلبوا الرضوان، وشتان بين من يطلب الرضوان ومن يطلب المعرفة حيثما وصل إليها أو وصلت إليه ... •••

قال: أي رضوان وأي راحة؟! ... إنهم ليعذبون أبدانهم، ويقدعون نفوسهم، ويشلون أعضاءهم بمشيئتهم، فكيف ينشدون الرضوان والراحة بهذا العذاب ...؟!

قلت: هل يعذبون أبدانهم إلا لأنهم راضون بهذا العذاب ومطمئنون إلى عقباه؟! وهل يشاء الإنسان أمرا لا يشاؤه، أو يختار أمرا لا يختاره، أو يرضى بأمر لا يرضاه؟! •••

لعمري لئن لم يفتح النساك فتحا عظيما في جانب المعرفة لقد فتحوا أعظم الفتوح في جانب الأخلاق ... بل أقاموا الأخلاق على أوثق أساس حين علموا الإنسان أن رضوان النفس مطلب يهون في سبيله كل عذاب، وأنه لا جزاء أوفى من رضوانها، ولا عذاب أنكأ من سلب ذلك الرضوان، وأي فهم لمعنى الثواب والعقاب أكمل وأفضل من هذا الفهم الذي لم يأت من جانب البحوث والفروض؟!

لا عذاب للنفس أنكأ من شعورها بالنقص، ولا نعيم لها أنعم من شعورها بالرضوان، فكفى بهذا الفتح انتصارا في معترك الأخلاق، وإن لم ننسك كما ينسكون، ولم نتعذب كما يتعذبون ...

قال صاحبي: الحق أنني لم أشق في حياتي بشقاء أمر وأوجع من اتهامي لنفسي وسوء الظن بطويتي، ولو لم يكن هذا الشقاء أمر الشقاء على الطبيعة البشرية لما تحصنت منه بحصن الغرور، وهو أعم الخلائق في البشر أجمعين.

قلت: والغرور هو الجوهر الزائف الذي نتحلى به كلما أعوزنا الجوهر الصحيح، وإنه على هذا لحصن مطروق لا يستعصم كل الاستعصام من ذلك الرقيب الحسيب ...

فربما اغتر الإنسان فكبرت قيمته عنده ولم يقنع بما دونها؛ فآلمه النقص وفاتته نعمة الرضوان. •••

ولقد قال اليونان قديما: اعرف نفسك، فإذا قلنا معهم: نعم، وارض عن نفسك أيضا، بلغنا كمال العلم، وكمال الأخلاق. ترى هل يطلب الناس أجرا لأنهم يلبسون حلل الحرير، ولا يلبسون الكرابيس؟! ترى هل يأكل الناس الطعام المريء اللذيذ، ويصدفون عن الطعام المسقم الخسيس؛ لأنهم يخشون العذاب؟! ... فإذا عرفوا الكمال وعرفوا النقص؛ فهل تراهم يطلبون أجرا لأنهم تجنبوا النقص، وتعلقوا بالكمال! ... وإذا عرفوا صحة النفس فهل تراهم يلتمسون الأجر على الصحة كما يلتمس الأطفال أجرهم على تناول الدواء؟! ... إنما الخوف من النقص هو أمر العذاب، والرضوان عن الكمال هو أحسن الجزاء.

وقد يتعذب الإنسان في طلب الكمال وهو راض، وقد يرفض النعمة فرارا من النقص وهو لا يخشى العقاب، فارض عن نفسك وأنت في غنى بعد هذا عن الوعد والوعيد في نشدان الكمال؛ لأنك لا تحتاج إلى الوعد والوعيد لتستطيب ما أنت شاعر بطيبه، وتنفر مما تعاف.

قال صاحبي: أكبر الظن أن «الذوق» هنا قد يغني ما ليست تغنيه المعرفة أو تغنيه التقاليد والموروثات، وهنا يستوي الفن الجميل في مكانه إلى جانب المعرفة، وإلى جانب الدين. (2) بين كتبي

وكان صاحبي يداعب على القرب رفا أمامه يقرأ عليه عناوين الكتب في تماثيل اليونان، ومدارس الفن القديم والحديث، فما هو إلا أن طرأ اسم الفن الجميل على لسانه حتى تناول واحدا منها، ثم تناول ثانيا وثالثا ورابعا وهو يقلب صفحاتها، ويقابل بين صورها، ويقرأ سطورا هنا وسطورا هناك في التعقيب على تلك الصورة أو ذلك التمثال، ولم يفته أن يدرك ما أدركته الأجيال بداهة وارتجالا من ذلك الفضل السابق على جميع الأفضال في باب التماثيل، وهو فضل الإغريق الأقدمين، فراح يقول: صدق الذين أطنبوا في شأن هؤلاء الإغريق، ووصفوهم بأنهم تراجمة الطبيعة الصادقون في كل باب، ولا سيما باب التماثيل وباب التمثيل، فما يبصر الإنسان تمثالا إغريقيا إلا اتصل بصره بالطبيعة على بساطتها بغير حائل وبغير حجاب، وما يقرأ قصة من قصصهم المسرحية إلا اتصل بصره بالطبيعة كما يعيش فيها، وتسيطر عليها العناصر والأقدار.

واختطف كلمة في هذا الكتاب، وكلمة في ذاك عن فن مريون وفيدياس وليسبس، ومن تلاهم من المتخلفين، فإذا الفن أيضا مظهر لبروز الفرد الإنساني من الغمار الشامل إلى مكان التخصيص والتمييز، فالتمثال القديم نموذج للشكل والقالب والقوام يتساوى فيه كل ذي خلق سوي من الناس، ولكنه شامل عام لا تتميز فيه الملامح والتعبيرات، ولا يتمثل فيه التخصص والانفراد، ثم تتعاقب صور الأفراد بروزا وتباينا حتى ينسى الناظر إليها النماذج الشاملة، ويتناولها بالتقسيم والتفصيل، ويظهر هذا في تماثيل العصور الإغريقية؛ لأنهم صدقوا وصف الطبيعة، وصدقوا الشعور بها على السواء ... وكأنهم حين يمثلون الأبطال الأقدمين يمثلون عناوين شتى لكل نموذج من نماذج البطولة يصنع على غراره قالب باق، وتتعدد منه أنماط متكررات.

ولم ينته صاحبي من تقليب تلك الصور إلا وهو يقول: فن جميل. نعم فن جميل، ولكن ما غناء الفنون الجميلة في عصرنا هذا، عصر العلوم والصناعات ...! وأية أمة في عصرنا هذا تفرغ للفن كما فرغ له الإغريق، وعليها ذلك الإلحاح الدائم من حاجتها إلى العلم، وحاجتها إلى الصناعة؟

وتذكرت في تلك اللحظة سؤالا سمعه الناس، ولا يزالون يسمعونه منذ ظهرت بينهم الصناعة الحديثة والعلم الحديث، وقد سئلته مرات، وأحببت في هذا المقام أن أكون أنا السائل قبل أن أكون المسئول، فقلت لصاحبي: وأيهما أحق بالعناية والتقديم؟ ... وأيهما أجدر بالأمم أن تفخر به وترعاه؟

قال: وهل في ذلك جدال؟! ... أحقها بالعناية والتقديم هو الذي تحتاج إليه، ولا تستغني عنه! ...

قلت: ولكن هذا المقياس يا صاحبي أخطأ مقياس للتفضيل بين شيئين يتعلقان بالإنسان؛ لأن الذي لا نستغني عنه دائما هو الضرورات الحيوانية التي تقارب بيننا وبين من دوننا من الأحياء ... والذي نحسبه من الكماليات هو الكمال الذي تتفاضل به منازل الناس، فدع الحاجة ومقاييسها يا صاحبي، فليست هي بمقياس صحيح، وكيف يكون مقياسا للاختيار ما يسلبك الاختيار، وينزلك على حكم الضرورة والإكراه؟!

قال: فماذا ترى أنت؟

قلت: إذا لم يكن في الأمر اضطرار فنحن إذن قادرون على أن نختار بين أمة جاهلة ناقصة الأداة، وأمة مريضة توشك أن تموت.

فالأمة بغير علم أمة جاهلة، ولكنها قد تكون على جهلها وافية الخلق والشعور، والأمة بغير صناعة أمة تعوزها أداة العمل، ولكنها على هذا قد تكون صحيحة الحس صحيحة التفكير، والأمة بغير تعبير أمة مهزولة أو مشرفة على الموت، وكذلك تكون الأمم التي خلت من الفنون؛ لأن الفنون هي تعبير الأمم عن الحياة.

ولا أكتمك يا صاح أن الاختيار بين هذه المقاصد الثلاثة خليق أن يعنت المختار؛ لأن الفن والعلم والصناعة ليست بديلا من بديل، وليست قرينا يقاس إلى قرين، وما أعطي الإنسان التعبير ليبادل بينه وبين العلوم، أو بينه وبين الصناعات. فإنما التعبير جزء من حياة الإنسان ... والعلم حالة من حالاته، والصناعة أداة من أدواته ... ولا محل للمفاضلة بين جزء لا ينفصل من النفس الإنسانية، وحالة من حالتها التي قد تنفصل عنها، ولا محل للمفاضلة بين هاتين وبين عصا يحملها المرء في يده، أو فأس يضرب بها الأرض، أو مطية يركبها، أو شيء من هذه الأشياء المصنوعة على الإجمال.

وما ظنك برجل يقول لك: تعال يا فلان! ... إنك حي تعبر عن سرورك وألمك، وتقول: إني أحب وإني أبغض، وإني أرجو وإني أخاف، وإني أبتهج لتلك الروضة، وأنقبض لتلك المتاهة، وأعجب بهذا البطل الجسور، وأهيم بذلك الوجه الصبوح ... تعال يا فلان! ... إنك تستطيع أن تقول هذا فلا تقله، وخذ في مكانه العلم، أو خذ في مكانه عشر سيارات وبضع طيارات، ومصنعا للحديد، ومنسجا للحديد ... ما قولك في هذا الرجل يا صاح؟! ... هل تراه قد عرض عليك الخيار في أمر يصلح للخيار؟! وهل تراك قادرا على أن تجيبه ولو طاب لك أن تأخذ البدل المعروض، وتعطيه التعبير المزهود فيه؟!

ذلك هو شأن الذين يفاضلون بين الفنون والعلوم والصناعات، يخيرون الناس في غير موضع للخيار، ويسألونهم عن الأسعار في غير موضع للبيع والشراء أما إن كان المقصد من هذه التسعيرة تقويم القيم والعلم بأقدارها فليعلموا إذن ما شاءوا أن يعلموه: ليعلموا أن للإصبع قيمة، وأن للمصباح قيمة، وأن للسيف قيمة، وأن للرغيف قيمة، ولكن المبادلة بينها لا تقبل في سوق الاختيار ... وليس في سوق البيوع الجبرية مجال للإيجاب والقبول!

ووقعت يد صاحبي على مجلدات الصور التي تسمى بصور المدارس الحديثة، وهي أشكال وألوان من المستقبلين إلى فوق الواقعيين إلى الإحساسيين الغلاة، إلى أشباه ذلك من البقع والخطوط والأصباغ التي تحمل عنوان التصوير، وليست هي من التصوير في شيء؛ لأنها في استطاعة كل من يتناول الريشة، ويغمسها في الألوان، وليست بالفن الذي تعرف له أصول، وتدرس له مبادئ، ويمتاز به الفنان بين سائر الناس.

نظر صاحبي إلى تلك الصور فاشتدت عليه النقلة من فنون الأقدمين، ونظرائهم المحدثين إلى هذا الهراء الذي يشبه هذيان المجانين، فقال: إن كان الفن تصويرا فليس هذا بتصوير، وإن كان هذا الفن الذي يسمونه بالحديث تصويرا فلنبحث عن اسم آخر لذلك الفن القديم ... لن يجمع الفنين اسم واحد بأية حال.

قلت: لا حاجة للبحث عن اسم آخر للفن القديم فهو التصوير الذي يصنعه المصورون، أما هذا فهو ألغاز وأحاجي كتلك الألغاز والأحاجي التي تنشر في صحف التسلية عن الحروف المتقطعة والأرقام المثلثة أو المربعة، أو عن العيون التي ليس لها آناف، والآناف التي ليس لها عيون، وكلها من عمل الملغزين والمفسرين، فلا اختصاص بها للمصورين والنحاتين دون غيرهم من العالمين.

قال صاحبي: ونستغفر الألغاز والأحاجي قبل هذا التشبيه بين الفنين، فإن الألغاز والأحاجي ترجع إلى تفسير يتفق عليه كل من يفهمها بلا استثناء، أما هذه البقع والخطوط والأصباغ فهي شيء لا يفهمه غير صاحبه، ولا يستطيع أن يعمم فهمها بين طائفة من الناس، فكل صورة هنا كلمة من لغة لا يعلمها إلا إنسان واحد، إن صح أنها شيء معلوم، وقد كانت الفنون لغة إنسانية عامة يفهمها على البداهة من لا يتفاهمون باللغات، فأصبحت على أيدي هؤلاء المجان خرافة سرية في ذهن رجل واحد لا يمثلها مرتين على نمط معروف.

ثم أومأ صاحبي إلى صحائف الإحساسيين، فقال: هؤلاء هم الذين فتحوا الباب جزاهم الله! ...

قلت: أصبت، إنهم هم فتحوا باب التصرف في الأصول الموروثة، ولكنهم أصابوا في فتحه، وهؤلاء دخلوا فيه، ولكنهم دخلوا واغلين ...

لقد كان الأساتذة الأقدمون يصورون ما يعلمون ويحسون، فجاء من بعدهم أساتذة المدرسة «الإحساسية» ليصوروا ما يحسون وما يشهدون ...

كان الأستاذ القديم يعلم وهو يصور الشجرة أن لها غصونا وأوراقا فيصورها ذات غصون وأوراق مفروزة كما يعلمها، وإن كان يراها من حيث يجلس لتصويرها لونا أخضر لا تنفصل ورقة فيه عن سائر الأوراق.

وكان الأستاذ القديم يحسب الظل سوادا؛ لأنه نقيض البياض، وإن كان ليضرب أحيانا إلى لون البنفسج أو الرماد.

فجاء الإحساسيون فأصلحوا هذا وذاك، وكان لهم الفضل والتوفيق في هذا الابتداء.

وكأنما حسب الذين خلفوهم أن التصرف مقصود لغير غرض مقصود، فوصلوا إلى ما هم فيه من هذيان المجانين.

كان الأقدمون يصورون ما يعلمون ويحسون، وكان الإحساسيون الصادقون يصورون ما يحسون ويشهدون، فجاء من بعدهم من يصورون ما يتوهمون، وجاء من بعد هؤلاء من يصورون ما يزعمون أنهم توهموه، وهم كاذبون.

توهم مزعوم ... فماذا يكون وراء الوهم الملفق، والزعم المكذوب؟!

لن يكون إلا هذه البقع والخطوط والأصباغ، ولن تكون فنا يتولاه فنان؛ لأنها في مقدور كل يد تصبغ الألوان.

انظر إلى هذا الكلب الذي صوره رجل من المستقبليين! ... أرأيت كلبا قط له اثنتا عشرة قدما وذيلان أو ثلاثة ذيول؟! ... إن هذا «المستقبلي» يصوره كذلك لأنه يزعم أن الكلب وهو يجري قد يرى له هذا العدد من الأقدام والذيول! ... فمن الذي أنبأه أن فن التصوير قد خلق لتصوير الكلاب وهي واقفة لا تنقل قدما في قصارى شوطها فلم يجهل أحد رآها أنها تعدو غاية العدو، وأن الحركة شيء داخل في صناعة المصورين، ولو جرى المصورون على هذا المذهب لما جاز أن يرسم إنسان بعينين اثنتين؛ لأنه يقلب عينيه ذات اليمين وذات الشمال، ويرفعهما إلى أعلى ويصوبهما إلى أسفل فلا تستقران في لمحتين!

وانظر إلى هذا المنكود من غلاة الواقعيين كيف يصور الفتاة؟! ... أفهذه فتاة أم جثة غريقة وارمة؟ ... أم جلد آدمي محشو كما تحشى جلود الحيوان؟!

ولكنه يقول لك إنه يصور ما يراه الوعي الباطن، ولا يصور ما تراه العينان، فمن قال له إن الوعي الباطن مخلوق في هذه السنوات التي سميناه فيها باسمه؟! ومن قال له إن الأساتذة الأقدمين كانوا يعيشون في هذه الدنيا بغير وعي باطن وبغير أوهام وأحلام؟! إنه سمع اسما جديدا فظنه خلقا جديدا يرينا الدنيا على صورة لم تكن لها في الزمن القديم ... ثم جاء المتجرون بالغرائب فسخروه وشجعوه، ووقع في الفخ من يدعون غير ما يعلمون، ومن يخافون أن يقال عنهم إنهم قوم متخلفون، لا يفقهون الجديد ولا يجرون مع العصر الذي يعيشون فيه.

قال صاحبي: ترى لو تمثل صاحبنا في وعيه الباطن صورة السيارة كأنها الفتاة الحسناء اللعوب، أيؤمن بوعيه الباطن هذا فيلقي بنفسه تحت قدميها، أو يقف في طريقها ليغازلها ويسعد بقربها؟!

قلت: ليتهم يصدقون الوعي الباطن هذا التصديق، فيلحقوا بالوعي الباطن في عالم الخفاء، وتسلم القرائح والأذواق ... لكنهم عند الجد قوم عقلاء ينظرون بالعين التي ينظر بها الناس، ولا يرون السيارة إلا سيارة، ولا الرجل إلا رجلا، ولا الفتاة إلا فتاة!

وألقى من يده تلك المجاميع ليتناول مجموعة من صور التماثيل التي صنعها الأقدمون والمحدثون، وحفظت أصولها في دور الفنون والآثار، بعضها في متحفنا المصري، وبعضها في العواصم الأوروبية، فبدرت منه هتفة إعجاب بنخبة من تماثيل الملوك والملكات والكهان في عصور الفراعنة، وأدهشه ما يمثله الحجر - ثم تمثله الصورة المأخوذة عن الحجر - من قوة الخلق ودقة الملامح، وبروز السمات على خلاف ما توسم في تماثيل الإغريق.

قال: ما كنت أحسب أن المصريين برعوا الإغريق في هذه الفنون، ولا سيما في النحت والتصوير.

قلت: كما ينبغي أن تحسب ذلك بداهة قبل أن تلمحه بالعيان، فالمصري القديم كان يعنيه التخليد قبل أن يعي بالنقل عن نماذج الطبيعة، ومن عني بنقل النماذج العامة أغناه الوصف المشترك بينها عن السمات الخاصة والملامح الشخصية، ولكن المصري الذي كان يصنع التمثال كما يحنط المومياء لتخليد صاحبها ودوام جسده ومقومات شخصه لم يكن له معدى عن تمييز معارفه والتدقيق في تمثيل صفاته، فمن ثم كان المصريون الأقدمون أبرع من الإغريق الأقدمين في نقل الملامح والقسمات، ولولا أن الإغريق أطلقوا الدنيا، وأن المصريين قيدوا دنياهم بآخرتهم لجاء فن الإغريق بعد فن الفراعنة الأقدمين بأشواط فساح.

قال: ولعلهم من أجل هذا قربوا الصلة بين قيود الفن وقيود الأخلاق، فندر في صورهم العري، وعرض المفاتن المثيرة، وتعمدوا أن يستروا من الأجسام ما تقضي الأخلاق بستره، خلافا للسنة الشائعة في رسم الصور، ووضع التماثيل.

قلت: إنهم في الواقع أقرب إلى ستر الأعضاء من غيرهم، فلم يكشفوا من عورات الأجسام إلا ما صنعوه لآلهة التناسل في المحاريب المزوية، ولكني لا أخال المسألة هنا مسألة حياء اتصف به قدماء المصريين وتجرد عنه الآخرون، وإنما كانت تماثيل المصريين الأقدمين تماثيل أشخاص معروفين لا تماثيل أجسام يتخذونها نموذجا للجسم القوي والجسم الجميل، ولا حاجة إلى عرض خفايا الجسم في تماثيل الأعلام المعروفة، أما نماذج القوة ونماذج الجمال فيختلف الحكم عليها بعض الاختلاف؛ فإن إظهار العضلات والألواح، وإظهار الزوايا والمدارات، قد يتمم النموذج، ويلزم المثال في أداء عمله أشد من لزوم الوجوه والرءوس .

ثم قلت: وعلى هذا ربما أدهشك كما أدهشني حين قرأت لأول مرة أن الأصل في ستر الأعضاء إنما يرجع إلى الأنفة من وظائفها لا إلى الحياء من شهواتها، وأنهم كانوا يعافونها فيسترونها، ولم يستروها؛ لأنهم يخشون فتنتها، فما أعجب أصول الأخلاق، وما أعجب منبت الحياء!

قال صاحبي، وكان من الذين يتحرجون، ولا يمنعهم تحرجهم أن يسمعوا وجهات الأنظار: من أي منبت نبت فهو اليوم فضيلة من كبريات الفضائل، أو لعله اليوم أصل الفضائل جميعا، فلماذا يكشفون ما ينبغي أن يستر؛ ولماذا يلزمون تماثيل الناس قلة الحياء وهم يطلبون الأصل الأصيل؟!

قلت: أولى لهم أن يستروا ما يعاب كشفه ولا حاجة إلى إبدائه، على أن المثالين قد خدموا الأخلاق من حيث لا يريدون حين عودوا الناس أن ينظروا إلى الجسد الواحد نظرات متعددات؛ لأن النظر للشهوة وحدها معيب كعيب الخلاعة والابتذال، وما زال العزل بين أنواع الشعور ثروة لنفس الإنسان تخرجها من فاقة الطبع إلى غناه، فالطبيب ينظر إلى جسد المرأة الحسناء فينسى الجمال والشهوة، ويذكر الطب والرحمة، والرجل ينظر إلى أخته أو ابنته فينسى أنها امرأة من جنس النساء ويذكر الحنان والمودة، والممثل يقبل الممثلة وينسى لذة التقبيل ليذكر براعة التجويد والإتقان، والعينان اللتان تبصران ألف جسد على شاطئ البحر في كساء الحمام لا تفتنان، كما تفتنان بجسد واحد في مثل هذا الكساء بين الجدران، فإذا تعود الناس أن ينظروا إلى التمثال فيذكروا جماله واتساق أعضائه وتناسق أوصاله، وينسيهم ذلك أنهم من ذوي الشهوات بضع لحظات، فهم كاسبون في الأخلاق فضلا عن الأذواق، وليسوا بخاسرين. •••

وعاد صاحبي إلى ترتيب المكتبة الذي بدا لأول وهلة أنه لا يعجبه ولا يريحه، ولا يتيح له أن يجد طريقة فيه؛ لأنه أعرض عن كتب الصور والتماثيل، ومد يده إلى بعض الكتب التي تجاورها على رفها، فإذا هي في المنطق وما إليه. قال: ما هذا؟! ... أمن بيكاسو وأروزكو وبراك، وتماثيل الفراعنة والجرمان إلى أرسطو وكانت وهيوم؟! ... لم أر موضوعا أبعد عن المنطق من موضعه في هذا المكان.

وكانت هذه الملاحظة وأشباهها ما تفتأ تعاد من كل زائر طرق هذه الحجرة ونظر في كتبها ورفوفها، ولم تكن بي حاجة إلى بيان عنها؛ لأن البيان الوحيد أنني أجددها كل حين، ولا أملك أن أرتبها كل حين، وأنني مع هذا لا أضل فيها عن طريق كتاب أريده منها فما حاجتي إلى ترتيب لها غير هذا الترتيب؟!

ولكنني رجعت بصاحبي إلى المنطق الذي احتكم إليه، فقلت: وهل يقضي المنطق بغير ما تراه؟! ... ما الحاجة إلى عناء الترتيب والتبويب إن كنت بغير ترتيب ولا تبويب تدرك ما تريد؟! ... وأي ترتيب ينتظم في هذه الحجرة من ناحية إلا ليختل من ناحية أخرى؟! أترتيب الحجم أم الموضوع أم تاريخ الاقتناء أم المؤلفين؟! ولم العناء؟! إن المنطق الذي تحتكم إليه أسباب وعلل ... فهل من سبب، وهل من علة؟!

قال: لست على المنطق بغيور فاصنع به ما تشاء، وضعه حيث تشاء، وما جدوى المنطق في المكتبة وما في الحياة من منطق يعقله العقلاء؟!

قلت: أما هذا يا صاحبي فلا، وإننا لعلى شرطنا الأول أن ندع المردة في قماقمها ولا نطلقها، ولكننا قادرون - وهي حبيسة - أن نقول في أمان: إن المنطق والحياة لا يفترقان! ... وإن الآفة فيمن لا يفهمون المنطق أنهم لا يحسونه، وفيمن لا يحسون الحياة أنهم لا يفهمونها، فما من شيء في هذه الحياة يناقض المنطق بحال، فإن فهمناه فهو مفسر بأسبابه ومقدماته، وإن لم نفهمه فليس لنا أن نناقض بينه وبين المنطق أو القياس.

قال: عجبا! ... أوكذلك؟! ... إننا لنرى كل يوم أمورا لا نفهمها ولا يراها الناقدون تجري إلا على خلاف وجهها، ونقيض استقامتها، هذا الغني بخيل، وذلك الفقير كريم، هذا الفتى المقبل على الحياة يقدم على الموت في شجاعة وخيلاء، وذلك الشيخ الذي شبع من الحياة يجبن ويخاف، هذا الذكي محروم، وهذا الغبي مجدود ... فأي منطق في هذا وأي قياس؟!

قلت: كل المنطق وكل القياس ... أن الذكي لا يصنع مقاديره فيصيب فيها بذكائه وأن الغبي لا يصنع مقاديره فيخطئ فيها بغبائه ، وإننا لنضع المنطق في غير موضعه حين نجعله حسبة أرقام وأعوام، فإن الفتى الذي يقدم على الموت لا يفعل ذلك لأنه يحسب الأعوام التي عاشها والأعوام التي ينبغي أن يعيشها، ولا يقدم على الموت لأنه يريد أن يقدم عليه، ولكن الوضع الصحيح أن نضع دوافع الحياة التي تحفزه إلى المجد والغلبة والثناء وتخجله من العار والمهانة والعقاب ثم نضع أمامها دواعي الحرص والحذر والإشفاق، فإذا كانت تلك الدوافع أقوى من هذه الدواعي، فالمنطق الصحيح إذن أن يقدم على الموت ولا يستسلم للحذر والمخافة، وإذا كان الشيخ على نقيض ذلك قد تغلبت فيه المخاوف على دوافع الشباب، فالمنطق الصحيح أن يتشبث بالحياة التي يرفضها ذلك الشاب وهو في مقتبل صباه ... وما من غرابة إلا وهي مفهومة معقولة منطقية قياسية حيت نضعها في وضعها الصحيح، وإنما نخطئ المنطق؛ لأننا نخطئ الإحساس، فلا تصدق خصيان العقول والنفوس حين يزعمون أنهم من ذوي الإحساس؛ لأنهم لا يفكرون ولا يقيسون. فإنما الإحساس القويم هو الفارق الوحيد بين المنطق القوي والمنطق الضعيف، وإنما الخطأ في المنطق خطأ في الإحساس بالأمور على حقائقها النفسية ... أتعرف أولئك النظامين الذين يحفظون التفاعيل ليحسنوا وزن الشعر، فلا تستقيم لهم التفاعيل ولا تستقيم لهم الأوزان؟ لو أحسوا بآذانهم لصححوا التفاعيل وصححوا الأوزان معها، وكذلك الذين صغرت نفوسهم، فلا يشعرون بالحياة على حقائقها يتهمون المنطق وهو براء، وهم الذين لا ينطقون ولا يحسون.

ترى هل يخطئ المخطئون فيحسبون الغني أولى بالسخاء والفقير أولى بالضنانة؛ لأنهم يحسون ولا يفكرون، أو لأنهم لا يحسون ولا يضعون شعورا أمام شعور بل أرقاما أمام أرقام؟! ترى لو أحسوا ماذا يختلج في نفس الغني فيبخل، وماذا يختلج في نفس الفقير فيجود، أكانوا يخطئون في المنطق، ويضلون عن سواء السبيل؟!

إننا نتكلم في الغنى والفقر، فلنمض في القافية ولا ندع الكلمتين قبل أن نقول: إن فقر العقول لم يكن قط شهادة بغنى النفوس، وإن ثروة النفس لا تحرم صاحبها ثروة العقل بل تعينه عليها وتزيده منها، وهذا فيما أحسب فصل الخطاب في قضية الفقراء المنطقيين الذين يثبتون غناهم في الحس والشعور بشهادة فقر في باب المنطق والتفكير. •••

وقبل أن يتقدم صاحبي إلى ركن الشعر والشعراء وهو ربع المكتبة بادرته بالشرط المعهود: لا نفتح القماقم، ولا نتجاوز العناوين! ...

قال: نعم الشرط فيما أرى، فما نحن بخارجين من هذه الحجرة لو أطلقنا ماردا واحدا هنا، وانطلق وراءه إخوانه المتحفزون، ولا أخفي عليك أنني لست على مذهبك في الحفاوة بالشعر؛ لأنه فضول شبعنا منه نحن الشرقيين، وطال اشتياقنا إلى تعويد أبنائنا ملكة العمل بعد ملكة الكلام! ...

قلت: لك رأيك في الحفاوة بالشعر والشعراء، أما الحقيقة فهي أننا كنا عاملين عندما كنا قائلين، وأنه لم توجد قط أمة عرفت كيف تعمل إلا عرفت كذلك كيف تقول، فلا تناقض بين القدرة على العمل والقدرة على القول، وما يستطيع إنسان أن يعمل حسنا أو يقول حسنا إلا بوعي صحيح، والوعي الصحيح قسط مشترك بين ملكة العمل وملكة الشعر، ولولا أن الشعراء يحتاجون إلى صناعة التعبير، ويفرغون لإتقانها لما منعهم الشعر أن يكونوا أقدر العاملين.

أتحسب العرب كانوا متخلفين في ميادين الأعمال؛ لأنهم كانوا سباقين في ميادين القصيد زمنا من الأزمان؟! ... أرأيت اليونان قد نبغ فيهم القادة والساسة والمدبرون إلا حين نبغ فيهم الشعراء والمنشدون؟! ... أتعلم أمة من أمم الأرض في العصور الحديثة كانت أطبع على مراس الواقع والعناية بالفكر العملي والخلائق العملية من أمة الإنجليز؟! ... فهل رأيت أمة من جيرانهم ومنافسيهم سبقتهم في مضمار الشعر، وأنجبت نصف من أنجبوه من عباقرة الشعراء؟!

زعموا - أو زعمنا لأنفسنا نحن الشرقيين - أننا خياليون، وأننا لو أصبحنا واقعيين لنفضنا عنا غبار الخمول، والحق الذي لا مرية فيه عندي أننا واقعيون فاشلون في الواقعيات، فليست قصور ألف ليلة ولا حسانها وجواهرها وموائد طعامها وشرابها خيالا يحتاج إلى ملكة من ملكات التصور والإدراك، ولكنها كلها واقع ناقص أو واقع موقوف التنفيذ، فإذا حصل التنفيذ حصل الواقع الذي يلمس ويرى ويشم ويذاق ... واليوم الذي نتخيل فيه، فنحسن التخيل هو اليوم الذي ننفض فيه غبار الخمول ... لأننا نحسن الوعي بهذا التخيل، ونطبع الصورة الصادقة في بدائهنا من صورة الوجود، ولن تنطبع في النفس صورة صادقة لما حولها وهي راكدة قاعدة، أو عازفة عن الحركة والسعي، والاستجابة لتحول الأحوال.

فكن على رأيي أو رأي غيري في الحفاوة بالشعر والشعراء، ولكن لا تجعل الشعراء مقياسك الذي تقيس به قدرة العمل؛ لأنهم يتفرغون للتعبير فيفوتهم التفرغ لما عداه من الشئون، واتخذ مقياسك من الأمم العاملة القائلة تجد أن الشعر الأصيل والعمل الأصيل يرجعان معا إلى فرد مقياس، وهو الوعي الأصيل.

وهممنا أن نترك الحجرة التي قضينا فيها معظم هذه السياحة فأنصفناها أعدل الإنصاف؛ لأننا في الواقع نقضي فيها معظم الحياة.

وعدل صاحبي عن الرفوف إلى الجدران، فقال: إننا دخلنا هذه الحجرة ونحن نقول: إن النور أخفى الأشياء؛ لأنه أظهر الأشياء، بل مظهر الأشياء، وها نحن أولاء نغضي عن الجدران الظاهرة، ونبحث عن الرفوف والصفوف، فمن هذا وما ذاك، وما هنالك على هذه الجدران التي رأيناها أول ما رأينا؟ ... ألم تكن أحق منا بالسؤال عنها أول ما سألنا؟!

وكانت على الجدران صورة فنية واحدة لا ثانية لها من نوعها وهي صورة الفتاة الحزينة على قبر حبيبها الدفين، وقد كتبت عنها في ساعة من الساعات بين الكتب فلم يكن السؤال بحاجة إلى جواب، أما سائر الصور فقد كانت أوضح من أن تحتاج إلى توضيح، جمال الدين ومحمد عبده وسعد زغلول، وكارليل وبيتهوفن، وصورتان من صنع الفنان النابغ صلاح الدين طاهر إحداهما صورتي بعد الأربعين، والأخرى بعد الخمسين!

ولقد تجمعت هذه الصور في أماكنها بمحض الاتفاق، في نيف وعشرين سنة، فلم أعرف لها وحدة تجمعها إلا بعد أن تجمعت وحدها، وساءلت نفسي عن تلك «الوحدة» كما كان يسألني الناظرون إليها.

قال صاحبي وهو يومئ إلى الصور واحدة بعد واحدة: هذا موسيقي ألماني، وهذا حكيم إنجليزي، وهذا مصلح أفغاني، وهذا وزير وهذا مفت، وهما مصريان! ... فما الذي جمعهم في صعيد واحد وهم بهذا التفرق في المواطن والشواغل والأهداف ؟!

قلت : الجد والكفاح ونبل السليقة وقلة الاستخفاف.

فهؤلاء الثلاثة شرقيون من رجال العمل والحركة، وأعمالهم فيها النهضة الاجتماعية والثقافة الدينية والثورة الوطنية، ولكنهم كلهم مجدون مكافحون نبلاء، لا يستخفون بما يعملون ولا يدينون بشريعة الاستخفاف التي يتراءى بها بعض الساخرين من الحكماء.

قال: لكأني بك لا تحب الساخرين!

قلت: كلا؛ بل أحبهم ساخرين، وجادين مكافحين. ومن أعجبه كارليل وبيتهوفن لا يكره السخر بل لا يكره السخط أحيانا على الحياة، ولكن شتان سخط وسخط، وشتان رضوان ورضوان.

أتعلم يا صاحبي ماذا أحب، وماذا أبغض من مذاهب السخرية، بل من مذاهب السخط والتشاؤم؟

إن النظرة إلى المرأة هنا هي مقياس النظرة إلى الحياة، فإنك لا تسخط عليها إلا لأنك تكبرها، ولا تترك السخط عليها والسخرية منها إلا لأنها هينة عليك حقيرة في عينيك.

الزوجة تغضبك وتقيمك وتقعدك، ولكن البغي المستباحة لا تثير منك غضبة، ولا تكلفك حسابا ولا عناية، فإذا اقترن السخط بالجد والاهتمام، فالحياة شريفة مرعية تلقاك منها المغضبات بغير ما تتوقعه وما تتمناه، وإذا بطل السخط وبطل معه السخر اللاذع، فالحياة جثة مستباحة بلا عرض ولا كرامة، وهذا الذي أوثر عليه سخط الساخطين وسخر الساخرين.

وإني لأسمع من هذه النافذة بين حين وحين صوت امرأة لا تني تنذر وليدها بالخيبة وسوء المآل: أأنت تفلح في شيء أبدا؟! والله ما أنت بمفلح، ولا بمقلع عما أنت فيه! ... خيبني الله إن لم أرك خائبا هكذا بين أبناء الأمهات ...

وهذا سخط كسخط فريق من الفلاسفة المتشائمين على الدنيا ومن فيها، ولكنه سخط من يريد الخير، ومن يسوءه صدق ما يقول، ومن هو أول الفرحين المستبشرين لو جرى الأمر على غير النبوءة التي يقسم عليها جاهدا، ويخيل إليك أنه قد جزم بها كل الجزم، وفرغ منها غاية الفراغ.

هذا سخط من يعنيه أن يسخط ويعنيه أن يرضى، هذا سخط من يسخط على نفسه وهو ساخط، أو من يسخط لأنه يحاول أن يرضى فما استطاع ...

أما أولئك الفلاسفة الراضون بالدنيا لأنهم يلتذون عيوب الإنسان، ويبحثون عنها بحث المحبور بالنقص المحزون بالكمال فبينهم وبين أولئك الساخطين بون بعيد، بين هؤلاء وهؤلاء ما بين الأم التي تنعى خيبة وليدها، والعدو الذي ينعى خيبة عدوه، فتلك تنعى وهي كارهة آسفة وهذا ينعى وهو راض قرير، وتلك تحفز إلى العمل والصلاح، وهذا يصد عن العمل والصلاح.

أولئك المتشائمون أصدقاء الحياة والإنسان، وهؤلاء المتشائمون أعداء الحياة والإنسان.

وليست العبرة في مذاهب الحكمة بالأسماء والعناوين، ولكنما العبرة حق العبرة بالبواعث والنيات، وربما نظرت إلى البواعث والنيات فرأيت بعض المتشائمين أقرب إلى حب الحياة، والإشادة بفضائل الأحياء من بعض المازحين والضاحكين.

قال صاحبي: إن كثيرا من الناس ليفهمون قولنا حين نقول لهم: إن كارليل فيلسوف متشائم، ولكن كم منهم يفهموننا حين نقول: إن بيتهوفن موسيقار متشائم أو مناضل؟! ... وكم من الناس في الشرق خاصة يرى في صناعة الألحان متسعا لآراء المتفائلين، وآراء المتشائمين، وآراء المناضلين؟! ... إنما يحسبون ذلك وقفا على التعبير بالكلام دون التعبير بالألحان، فإن وصفوا لحنا بالتشاؤم فأول ما يسبق إلى أخلادهم أنه لحن جنازة، أو لحن شجن وأنين ... وإنما يسوغ التعبير الموسيقي في معاني المذاهب الفلسفية عند طبائع الغربيين، ولا يسوغ عند طبائعنا نحن الشرقيين، أوليس هذا هو الفارق بين موسيقى الغرب وموسيقى الشرق التي ورثناها عن الآباء منذ عهد بعيد؟! ...

قلت: لا أحب أن أظلم الطبائع الشرقية، ولا أود أن أفرد الطبائع الغربية دون سواها بتلك الفضيلة، فإن الموسيقى الغربية لم تكن من قديم الزمان على هذا الطراز الذي نسمعه من بيتهوفن وأمثاله، وإنما اتخذت منهجها الحديث حين نشأت في ظل القداسة الدينية، ثم عبرت عن مسائل الروح، وأسرار الوجود التي تشتمل عليها الأديان، ثم استولت عليها المذاهب الكونية حين استولت في الغرب على تراث الدين كله، وعلى مسائل الروح بما رحبت، فلم ينعزل الموسيقيون عن الفلاسفة والشعراء، وباعثي النخوة في صدور الأمم يوم تعاقبت بينهم نهضات الإصلاح والحرية، وقديما كان في اليونان، وفي بلاد الجرمان منشدون وملحنون فلم ينهجوا على هذا المنهج الحديث، ولم يرتفعوا بالموسيقى كثيرا عن منزلة الطرب، وتمليق الحواس، وتمثيل الشعور المحدود.

لعلنا نقترب إلى الإنصاف وندنو من التحقيق حين نقسم الموسيقى إلى نهجين يختلفان باختلاف الذوق والبديهة، ولا نقسمها إلى إقليمين «جغرافيين»: بين أناس في الشرق وأناس في الغرب، أو أناس في الشمال وأناس في الجنوب ...

فهناك موسيقى حس محدود، وهي التي تؤدي لنا وظيفة الجارية والنديم، وتسلينا بأنغام الفرح حين نفرح، وأنغام الشجن حين ننوح.

وهناك موسيقى الروح، وهي التي تخاطبنا من منبر الإلهام وشرفات الغيب، وتجلس لنا مجلس المفسرين والهداة، وتقول لنا ما يعجز عنه الكلام؛ لأن الألحان لا تقصر عن وصف الأسرار حين تقصر عنها المعاني والحروف ...

ولدينا من جهة أخرى موسيقى الحس الحي التي تطربنا وتشجونا كما يختلج الطرب والشجو بالجسم القوي الصحيح.

ولدينا من جهة أخرى موسيقى الحس المريض التي تطرب من تطرب وتشجو من تشجو كأنها السم المخدر، أو الشهوة السقيمة التي تترهل بها الأجسام في مخادع اللذات.

وقد تقترن الموسيقى بالسعة والضيق، وبالسمو والهبوط، على حسب السامع المصغي إليها والمتعقب لأنغامها.

فمن الآذان الشعرية مثلا ما ليس يتسع لغير القافية الواحدة في القصيد الطويل.

ومنها ما يسمع القصيدة الواحدة، وفيها عشر قواف تتكرر في أماكنها، فتحسن انتظارها حين تعود، وتجري مع كل قافية منها في مدار.

وكذلك الأوزان الموسيقية في آذان السامعين، ربما أتعبت أناسا بتكرارها، وأراحت أناسا بهذا التكرار، وإنما المعول في الحالتين على الأذن التي تتعقب وتحسن التعقب والتعقيب.

أترى اليدين اللتين تلعبان بخمس كرات وسكينتين، وبضع بيضات مع الكرات، والسكينتين لا تزال تقذفها اليمين وتتلقاها الشمال، أو تقذفها الشمال وتتلقاها اليمين؟! ... إنهما يدان من لحم ودم كتينك اليدين اللتين تكسران البيضة الواحدة إذا تناولتاها على غشم وجفاء، فإذا مرنت البديهة الصافية فقد تداول بين عشرين وزنا تتلقاها في مواقيتها، ولا تحار بين واحدة منها وواحدة كلما رجعت إليها، وإذا أخطأتها هذه المرانة - أو هذه القدرة - فقد يعنتها الوزن الواحد في غير ميقاته المحدود، ولا خطأ في الموسيقى هنا وهناك، وإنما هو الخطأ في التناول والاتباع ... •••

قال صاحبي مبتسما: وإخالها لعبة عسرة على آذان المستمعين ... عندنا خمس كرات وبضع بيضات وسكينتان في يدين اثنتين ... هذا كثير على سامعي العود والقانون في هذا الشرق «اللطيف» ... إني ليائس من اليوم الذي يتجمع فيه لسماع الموسيقى العالية جمهور يعد بالمئات والألوف، كذلك الجمهور الذي يتجمع لها في أندية الأوروبيين.

قلت: إن أجلنا اليأس فلا ضير في تأجيله، فإن الأغاني الشعبية عندنا لا تزال سليمة من مرض الترهل والغواية، وهي لا تحتاج إلى مرانة كبيرة في المنشدين ولا في المستمعين ... فأما الموسيقى التي لا غنى فيها عن مرانة الآذان والأذواق، فهي تلك الموسيقى العالية التي نتمنى لنا نصيبا منها كنصيب الأوروبيين أو أوفى من ذلك النصيب. وليس لنا أن نيأس من عقباها بيننا حتى نؤدي واجب المرانة المطلوبة في الجيل الناشئ تمهيدا لما بعده من الأجيال، فإذا حسنت هذه المرانة جيلا واحدا لم تثمر في الشرق ثمراتها المنشودة، فهناك مجال لليأس أو للشروع فيه.

ويخيل إلينا أننا لم نبدأ هذه المرانة بعد على وجهها المفيد؛ لأننا خلقاء ألا نترقب فنا موسيقيا عاليا قبل أن نفصل بين الذوق الفني وبين المتعة الجنسية أو المتعة الجسدية، ونحن لا نزال نقبل على مجلس السماع جنسيين جسديين، يتعصب الذكور منا للمغنيات الإناث، ويتعصب الإناث منا للمغنين الذكور.

قال: وما آية هذا الفصل بين ذوق الفن وبين الغريزة الجنسية؟

قلت: آيته أن ترى السامعين يحيون السماع بغير ما ألفناه من التصدية والتصفيق، وبغير ذلك الأسلوب الناشز من الخبط والصريخ، فإن الصفة الأولى التي لا تنفصل من الموسيقى والغناء هي صفة الانسجام والتناسب بين الأصوات، ولن تسيغ الأذن الموسيقية زعيقا ولا اقتضابا وهي تصغي إلى تناسب وانسجام. إنما السامع المصغي إلى الغناء الذي يصيح تلك الصيحات المزعجة حيوان لذعته الغريزة، فجمح في غير أناة، وليس هو بإنسان يملكه جمال النسق، وتستهويه متابعة النغم في مسالك الألفة والنظام، وليس في وسع الأذن أن تكون أذنا موسيقية ثم تنتقل من الفوضى إلى النسق، ومن النسق إلى الفوضى في لمحة عين، وليس في وسعها أن تسيغ الفن، وتسيغ نقيضه في آونة واحدة، وهل الفن إلا أوزان؟! ... وهل نقيضه إلا الأصداء، والأخلاط التي تنطلق بغير عنان؟!

فالصاخب الذي تلذعه الغريزة فيصيح، ويقتضب الغناء معقول ومفهوم ...

أما الذي لا يفهم ولا يعقل فهو ذو نظام وذو فوضى ينطلقان في لحظة واحدة، ولا يزالان كذلك متقلبين مترددين في شخص واحد ساعة أو بضع ساعات ...

قال: كأنما الذنب ذنب المستمعين!

قلت: ليس في فنون الجماهير ذنب واحد، بل ذنوب تشمل المسمعين، ومن يستمعون إليهم، ومن لا يسمعون ولا يستمعون. •••

وكانت صورة بتهوفن تنحني إلينا كأنها تصغي إلى حديثنا، فقال صاحبي: ما كان أعظم فجيعة المسكين بسمعه وهو السفير بينه وبين عالم الأصداء والأصوات، لو كان هو الذي أمامنا ولم تكن صورته لما سمع من حديثنا أكثر مما سمعت هذه الصورة الصماء، فماذا كان على الدنيا لو أسمعت هذا الذي أسمعها من أقصاها إلى أقصاها، ولا يزال يسمعها إلى اليوم؟!

قلت: هي محنة تمثلت فيها نزاهة الفن وخلوصه من ظاهرة الحس القريب، فقد سمعنا من نقاد الغرب من يقول: إن روفائيل لو ولد مقطوع اليدين لكان هو في ملكة التصوير روفائيل الذي علمناه، فإن كان هؤلاء النقاد قد بالغوا بعض المبالغة فقد شاء القدر أن نرى أعظم الموسيقيين مقفل الأذنين لا يسمع ما يوحيه؛ لأنه يتلقاه من عالم النسب المحض التي لم تترجمها الأصوات ... وما يتفق هذا لأصحابنا وأصحاب العود والقانون وربع المقام؛ لأنهم كالمرأة التي تنظر إلى مرآتها ولا تفارقها، فإن فاتهم أن يسمعوا أنفسهم فقرة بعد فقرة لم يحسنوا إسماع الآخرين ... •••

وتهيأ صاحبي لسؤال يتردد فيه، فقال وهو ينقل بصره بين الصور المتجاورات: إنك لم تجمعها عمدا على هذا التفاوت البعيد فيما بينها، فأما وقد اجتمعت على غير قصد منك فهل خطر لك قط أن توازن بين أصحابها، وأن تسأل نفسك أيهم أعظم، وأيهم أحق بالإكبار والإعجاب؟

قلت: لا يخطر لك على أية حال أنني أنزل بقدر الموسيقي العظيم عن قدر المصلح العظيم أو الزعيم العظيم، إن الأئمة الموسيقيين أندر في العالم من أئمة الاجتماع وأئمة السياسة، فلا تحسبه حتما لزاما أن يكون زعماء الاجتماع أو السياسة أعظم من زعماء الفنون؛ لأن المعول على الكفاءة اللازمة للعبقرية لا على أثرها في مواطن الجاه والسلطان، وليست حاجة الناس إلى شيء هي مقياس العظمة فيه؛ لأن الناس يحتاجون إلى سنابل القمح، ويستغنون عن اللؤلؤ، وليس القمح بأجمل ولا أبدع في التكوين، ولا أغلى في الثمن من الجوهر الذي لا نحتاج تلك الحاجة إليه ... •••

قال: وهؤلاء الثلاثة العاملون ... من أعظمهم في موازين الرجال؟

وأشار إلى جمال الدين، ومحمد عبده، وسعد زغلول ...

قلت: أعظمهم أثرا في قطر واحد هو سعد زغلول، وأعظمهم أثرا في جميع الأقطار هو جمال الدين، وأعظمهم نفسا فيما أرى هو محمد عبده، أوسط الاثنين.

قال: وبم كان أعظمهم في موازين النفوس؟

قلت: إن عظماء البطولة الإنسانية لا يوزنون بغير الصفة العليا التي تتجلى في البطولة، وهي الإيثار.

فإذا تعادلت كفاءات العقل واللسان، وكفاءات العزم والعمل، فليس في الميزان الإنساني أصدق من وزنه الإيثار للمفاضلة بين المتقاربين في الأعمال والأقدار ...

قال صاحبي متعجبا: ومحمد عبده الذي تسنم المناصب، ولم يحرم نفسه متعة الأبوة والزواج أعظم إيثارا من جمال الدين؟!

قلت: قد تكون العزوبة مزيدا من الاعتداد «بالشخصية»، وقد تكون الأبوة مزيدا من الإيثار.

قال: عليهم سلام الله أجمعين، سابقين ولاحقين، وراجحين ومرجوحين، فليس بالمرجوح من له الرجحان على الألوف وألوف الألوف، وإن سبقه بالرجحان أستاذ أو مريد، وتحول صاحبي إلى صورتي، فقال وهو يردد النظر بيني وبينها: لقد سألتك عن صور غيرك، فما لي لا أسألك عن صورتك؟! ... كيف ترى صديقك الفنان قد مثلك في هذه الأصباغ والألوان؟!

قلت: على شرطي في كل تمثيل ...

وشرطي في الممثل القدير - على المسرح - أنه هو الممثل الذي يمثل لك ما لا يقال، أو هو الممثل الذي يشغل فراغ القول بين عبارة وعبارة من كلمات المؤلفين؛ لأن مصاحبة الكلمة الضاحكة بالمنظر الضاحك أو مصاحبة الكلمة الباكية بالمنظر المحزن فن لا يعسر على الكثيرين، وإنما يعسر عليهم أن يمثلوا لك ما لا يقال بين الكلمتين أو بين المنظرين؛ يصعب عليهم أن يمثلوا لك ما تدركه أنت ولا يقوله المؤلف بلسانه ولا تسمعه أنت بأذنيك.

وكذلك أرى صورتي كما صورها صديقنا الأستاذ صلاح؛ لأنه يمثل القابليات قبل تمثيل الملامح والمحسوسات، فليس في الصورة حالة محسوسة عني بها دون غيرها، ولكن ما من حالة قد تطرأ على النفس إلا نظرت إلى الصورة فرأيتها قابلة لها موافقة للتعبير عنها، وهذه هي ملكة الإيحاء التي تشترط في جميع الفنون، فما تحبسه الكلمات والأصباغ من المعاني أو الملامح أقل في العمل الفني مما ينطق به الخيال، أو يسترسل فيه تداعي الخواطر والأفكار. •••

وكان آخر ما ودعه صاحبي من المكتبة نخبة من الكتب في فن الغذاء، وأقوال المحدثين عن وحدات الحرارة والفيتامينات. وأول ما استقبله وهو منصرف عنها باب المطبخ على اليمين، فنظر فيه ضاحكا، وبادرته سائلا: إنك الآن تضحك؛ لأنك في حل من المقارنة بين طعام العقول وطعام الجسوم!

قال: غير هذا قد خطر ببالي حين ضحكت، وإنما ذكرت قولة لصديق لي كان يستعيدها في مناسباتها كما تستعاد الحكم المحفوظة، ولست أدري كيف أطبقها في هذا البيت، فإنها غير قابلة فيه للتطبيق.

قلت: طبقها ولا حرج عليك ...

قال: لا ... إنها لا تنطبق هنا بحال من الأحوال؛ لأن صاحبي كان يقول ويزهى بالعلم الذي أوحي إليه حين يقول: إن خطبت فتاة فلا تسأل عن أبيها ولا أمها ولا تسأل عن مالها ولا أدبها، وإنما تحتال حتى تلقي نظرة فاحصة على مطبخ بيتها، ثم تخطبها إذا أعجبك نظام المطبخ وأنت مغمض العينين ...

قلت: لم يعد صاحبك الصواب، ولو شاء لعمم هذا الحكم المصيب على الأمم، فقال: إن أردت أن تخبر أمة من الأمم فلا تسأل عن نسبها ولا حسبها، ولا تسأل عن مالها ولا أدبها، وإنما تسأل عن «مطبخها» فيغنيك العلم به عن كل سؤال.

قال: وكأني بهذا الرأي - لو صح - يتيح لنا أن نقول إننا نحن الشرقيين سادة العالم وقادة الشعوب؛ لأننا أساتذة الشعوب في المطبخ والمخدع باتفاق الآراء، وما ينازعنا القوم في الأستاذية إلا حين يذكرون المعمل والمدرسة، أو حين يذكرون العلوم والصناعات.

قلت: وهنا أراك قد أخطأت التطبيق يا صاحبي في حكمة صاحبك الأديب، فإن المطبخ «المثالي» هو المطبخ الذي يستخدم للغذاء، وليس بالمطبخ الذي يستخدم للذة الطعام أو لذة النوم، وقد يكون الطعام اللذيذ سما في باب الغذاء، ويكون الطعام وافر التغذية وهو قليل اللذة، أو لا لذة فيه.

ولا ينكر علينا أحد أننا برعنا في مطبخ اللذة، وورثنا في هذا الفن تركات روما، وبيزنطة، ومنف، وبغداد، وفارس، والهند، والصين ... وعرفنا كيف نطبخ الطبخة التي تمتع، والطبخة التي تكظ البطون، والطبخة التي تهيج الأكباد، والطبخة التي تعين على الشراب، وجرب ذلك الغربيون فشهدوا لنا بالسبق في المجال من نساء ورجال. (3) في بيتي

كتبت «إيزادورا دنكان» أجمل الراقصات في العصر الحديث تاريخا لرحلاتها في الغرب والشرق، فذكرت أكلة لها في قطر من أقطار أوروبا الشرقية، فلم تنس أن تقول إنها أكلتها ونامت، فاستيقظت وهي تعلم يومئذ كيف يستيقظ الرجال من النوم، ويخرجون من البيوت!

وهذه البراعة في المطبخ الشرقي الفاخر لا نزاع عليها ولا تخلو من الدلالة مع هذا على نصيب الأمة من شواغل العيش ومطالب الحياة، ولكنها تقف بنا دون البغية المرموقة إذا طمحنا بها إلى مقام الأستاذية بين الشعوب، وإنما كتب «سوء التغذية» على أغنيائنا وفقرائنا على السواء بهذا المطبخ اللذيذ، وربما كان داء الغني المستمتع بهذا المطبخ أوبل من داء الفقير المحروم.

وأعرف من فتياننا الموسرين فتى تزوج فأراد أن يستعين على المخدع بالمطبخ فأصيب بداء السكر في أقل من شهرين، وكان مصابه بالمطبخ المعين قبل مصابه بالمخدع المستعان عليه، لأنه أقبل على الدسم والتوابل والمشهيات، فأرهق الكبد وأجحف بالبدن كله من حيث أراد له الصحة والمتاع. فبئس المطبخ مطبخ اللذة، ونعم المطبخ مطبخ الغذاء، وأعني مطبخ الفرد والأمة على السواء.

قال صاحبي وهو يصطنع المزاح، ولعله أقرب إلى الجد منه إلى المزاح: إنك تخيفني الساعة بهذا التمهيد، أترانا مقبلين على مائدة لا تلذ الآكلين؟ أتحسبني أطيق أن نقلب صفحة من صفحات هذه الكتب الملعونة كلما أقبلنا على صحفة من الصحاف؟!

قلت: هونا هونا أيها الصديق، فمهما يكن من حكم هذه الكتب الملعونة فكن على يقين أننا في هذه الحجرات المعدودات لا نعرف كتابا يطاع كل الطاعة، ولا إماما يتبع كل الاتباع، ولك أن تطمئن فيها بعض الاطمئنان إلى غاندي، وإن عز عليك أن تطمئن كل الاطمئنان إلى أبيقور.

زاهد الهند نعى الدنيا وصام

أنا أنعاها ولكن لا أصوم

طامع الغرب رعى الدنيا وهام

أنا أرعاها ... ولكن لا أهيم

بين هذين لنا حد قوام

وليلم من كل حزب من يلوم

إن هذه الكتب الملعونة - كتب الغذاء والفيتامين - حقيقة أن تراجع وتستشار، وليست بحقيقة أن تسيطر على العقول والأجساد؛ لأنها تعطي الجسد ما يحتاج إليه بمقدار ما يحتاج إليه ... فتسلبه بذلك ألزم خصائص الجسم الحي، وهي طبيعة التعويض والتمثيل والتصحيح. وخير من هذا أن نعطي أجسامنا شيئا ناقصا في هذه الوجبة، وشيئا زائدا في تلك، فتبقى للجسم قدرته على تعويض النقص، وتوجيه الزيادة إلى وجهتها، ونعامله معاملة الراشد الذي يعمل لنفسه، ولا يكلفنا أن نعمل له في كل لقمة وكل جرعة وكل طبخة، ولست ممن يرتضي القصور للعقول ولا للأجسام، فكلاهما في القصور معيب، وكلاهما في الرشد جميل ...

قال صاحبي: وإن جسمي لمن أرشد الأجسام في ساعة الطعام.

قلت: إنك الساعة تخيفني أشد مما أخفتك يا صاح بذلك التمهيد.

واستقبلنا في ركن من أركان ردهة المائدة الصغيرة صندوقا مربعا يوحي إلى الناظر باسمه المتفق عليه، وهو التابوت!

سماه باسم التابوت المقدس كل من رآه؛ لأنه يشبه في منظره وموقعه توابيت القديسين في أركان المزارات، ولم أنكر التسمية؛ لأن التابوت فيه تقديس وفيه تخليد، وماذا على الموسيقى التي اشتمل عليها التابوت أن تتصف بالتقديس والتخليد؟

كان هذا التابوت مشتملا على حاك قديم، وبضع مئات من القوالب الموسيقية أو الغنائية المختارة من مسموعات الشرق والغرب، ومنها توقيعات على بعض الآلات السماعية العجيبة التي تختلف بسلمها الموسيقي عن السلم الشائع في معظم البلدان، كتوقيعات أهل الصين.

ومزح صاحبي مزحة ليست بالأولى من نوعها لأنها كذلك من وحي المقام، فقال: إن هؤلاء العازفين في موضعهم هنا؛ لأنهم يعزفون لك على الطعام، فلا يفوتك حظ الخواقين والشاهات في قصور البذخ والسلطان!

وأجبته كما كنت أجيب هذه المزحة في كل حين: إن الإنسان يا أخانا لا يأكل أكلتين في لحظة واحدة - أكلة روح وأكلة معدة - وما من كرامة الموسيقى الرفيعة ان تشتغل بشيء آخر وأنت تستمع إليها، فإنها شاغل كاف لمن يستوعبها ويتقصاها، ويتأمل في معانيها وشاراتها، وليست تلك الموسيقى التي تتحدث وتأكل وتتشاغل عنها وأنت تسمعها إلا بمنزلة الجارية المستعبدة من السيدة المطاعة؛ لأنها تسليك وتلهيك ولا تخاطب روحك وخيالك ووجدانك، فتستدعيك إلى الإصغاء والمبالاة.

لا يا أخانا وكرامة! إنني أختار لهذا التابوت أحيانا ساعات كساعات التهجد في جنح الظلام، فإن كان الوقت شتاء فأكثر ما أرجع إلى هذا التابوت في ساعات اليقظة الباكرة بعد هدأة النوم الأولى، ويطول الليل وتثقل المطالعة في الهزيع الثاني أو الهزيع الثالث من ليل الشتاء المديد. إن قبلت هذا التقسيم والترتيب للهزع الليلية، فإذا بي أعرض عن رفوف الكتب، وأتوجه إلى هذا التابوت، لا علالة من الأرق، ولا بديلا من الورق، ولكن تلبية لنجوى العبقريات في وقت لا يسمع فيه غيرها، ولا يوحي فيه السكون السابغ على الكون بغير وصية الإصغاء، وكأي من مدلج في الطريق تتسرب إليه تلك الأصداء غير مفسرة ولا متصلة، فيخالها من همسات الأرواح والأشباح في غفلة الإنس وناشئة الصباح ...

وتعمدت العبث والدعابة، فقلت لصاحبي: إننا لا نسمعها في أيام إذا سمعنا أناشيدها أنشودة أنشودة، فليتنا نسمعها دفعة واحدة في وقت واحد! ترى كيف تتلقاها المسامع التي تطرب لها متفرقة؟! أليس من حقها أن تسر بالكثير أضعاف سرورها بالقليل؟!

قال صاحبي: ما أحسب أن أحسن الأنغام إذا قيلت معا تفضل أسوأ الأصوات وأنكرها في الآذان ...

قلت: ألا نستخلص من ذلك عبرة من عبر الحياة العظمى؟ أليس الذين يتعجلون النغم فيخيل إليهم أن ازدحامها خير من تفرقها وأجمع لمحاسنها، يخطئون كما يخطئ الذين يتعجلون النغم؛ فيحسبون أن مائة لحن في وقت واحد خير من اللحن الفرد وأوفى؟!

شيء واحد في وقت واحد، وجميع الأشياء في جميع الأوقات ... وهذا هو نظام العيش وقوام الجمال في كل نفع وكل سرور.

قال صاحبي: وهل تسمعها في الصيف كما تسمعها في الشتاء؟

قلت: الحق أقول لك يا صاحبي إنني أود أن أسمعها صيفا وشتاء كلما انتبهت في هذا الموعد، وقلما تمضي ليلة لا أنتبه فيها. ولكن الشتاء مقفل مستور والصيف مفتح مكشوف. ومنظر رجل يستمع إلى الحاكي في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل منظر يرشحني لسمعة الجنون المطبق بعد ليلتين أو ثلاث، ولن تؤمنني من هذه السمعة اللازبة ألف شركة من شركات التأمين، لو عنيت الشركات بالتأمين على العقول.

كلا ... إنني لا أسمعها في ذلك الموعد من الصيف، ولكنني أستعيض منها بجلسة في الشرفة، ونظرة إلى الطريق، وقد يبلغني الإصغاء إلى السكون أحيانا ما يبلغنيه الأصغاء إلى أنبياء النشيد ...

إننا نكبر بالليل جدا يا صاح ...

إن الليل هو عالم النفس، وأما النهار فهو عالم العيون والأسماع والأبدان ...

إننا بالنهار جزء صغير من العالم الواسع الكبير، ولكن العالم الواسع الكبير كله جزء من مدركاتنا حين ننظر إليه بالليل، وهو في غمرة السبات أو في غمرة الظلام.

ذلك النجم البعيد الذي تلمحه بالليل هو منظور من منظوراتك، ووجود منفرد بك أمام وجودك.

ذلك الصمت السابغ على الكون هو شيء لك أنت وحدك، رهين بما تملؤه به من خيالك وفكرك، ومن ضميرك وشعورك.

تلك المدينة الصاخبة التي نضيع فيها إذا أضاءتها الشمس هي شبح مسحور يلقيه رصد الليل تحت عينيك، وهي ضائعة كلها إذا لم تأخذها في حوزة نفسك ومجال بصرك، وكأنما هي من تلك المدن التي تسحرها لنا الأساطير ... فكلها مفقود في غيبوبة الأرصاد، إلا السائح الذي ساقه إليها القدر وهو ساهر الظلام!

أنت عالم النفس بالليل، كأنما توازن وحدك عالم الأنظار والأبدان.

وأنت تشمل الدنيا بالليل وهي تشملك بالنهار.

وأنت في حضرة أعظم من حضرة الحس حين لا حس يشغلك عن عالم السريرة ...

أنت في حضرة الخالق حين لا تكون في حضرة المخلوقات.

ومن سعد بهذه النشوة في ساعة من ساعات الهزيع الأخير، فلا ضير عليه أن تفوته نشوة السماع.

وكنا قد فرغنا من الطعام وقضينا سويعة في أشباه هذا الكلام، فإذا بصاحبي ينهض من المائدة وهو يقول: هذه المائدة، وهذا التابوت!

قلت: وهذه المزامير!

وسمعنا بعض أدوار المطربين وشيئا من أغاني الصعيد ولبنان ... ثم نقلت صاحبي نقلة بعيدة، فأسمعته بعض الألحان التي لا تعذب في جميع الآذان ...

وسألته: أفهمت شيئا مما سمعت؟

قال: لا والله ...

قلت: وأنا مثلك ... هذا موسيقار الغرب الأشهر ولهلم فاجنر، وأنا لا أفهم منه إلا أقل من القليل، ولكنه عند نقادهم موسيقار جليل، وعبقري نادر المثيل ...

قال: وهل يفهمه الغربيين كلهم وهو مغلق على أناس منا كل هذا الإغلاق؟!

قلت: بل يسخر بعض الغربيين بهذه الموسيقى وأمثالها كما نسخر نحن منها، ولهم في التندر عليها قفشات تذكرنا بقفشات أولاد البلد؛ لأنها تجري على أسلوبها، هذا يزعم أن القرن النحاسي اعتدل من النفخ فيه بأمثال هذه الأنغام، وذاك يزعم أن طبيبا أخذ مريضه الأصم إلى فرقة من هذه الفرق ليشفيه بضجيجها، فسمع المريض وصم الطبيب!

فليست كل موسيقى مفهومة عند كل سامع، ولو كان الموسيقيون والسامعون من بلد واحد، وليس من اللازم أن يستطيب محب الغناء كل غناء، ولا أن يستطيب محب الشعر كل قصيد، ولو كان من نظم أجود الشعراء ...

قال: ولماذا لا نلغيه من عداد الموسيقيين كما ألغينا أولئك المبتدعين المحدثين من عداد المصورين؟

قلت: أولئك فهمنا أنهم سخفاء، أما هذا فنحن لا نفهمه ولا ندينه بما لا نفهم، ولو كنا نحيط بكل سر من أسرار الموسيقى، ونتلبس بكل مزاج من أمزجتها لصح أن نقضي عليه، وعلى المعجبين به وبفنه، فقصارانا إذن نقضي فيه بأنه عندنا نحن «غير مفهوم»!

وامتدت السياحة خطوة فإذا نحن في حجرة النوم ... وحجرة النوم في بيت الرجل الأعزب كحجرة الاستقبال، وحجرة المائدة، وحجرة المكتب ... ليس عليهما حجاب ...

غير أنني قلت لصاحبي: إن هذه الحجرة تعنيني ولا تعني أحدا غيري من الناس، اللهم إلا بعض الصور الفنية التي فيها، وكلها منسوخة من أصولها المحفوظة في متاحفها، فليس فيها من صورة أصيلة أو تحفة غالية، ما عدا واحدة بمفردها، هي بينها آية الاستثناء في كل قاعدة من قواعد التعميم.

هذه شالومة أو سلامة، صاحبة هيرود، من تصوير الفرنسي بروسيير: كان ثمن رقصتها في زمانها رأس نبي من أنبياء بني إسرائيل. ولا تزال رقصات الفاتنات من خليفاتها تكلف الناس كثيرا من الرءوس، وإن لم تكن رءوس أنبياء، فإن هذا الصنف قد انقطع عند الدنيا منذ زمن بعيد!

وهذه صورة الزهرة من تصوير الإسباني فيلاسكيه: جسد بديع وقوام ساحر ومعاطف منسوقة ... لولا أمانة فيلاسكيه المشهورة لحسبناها من تنسيق الخيال ... شغل بها المصور فمثلها على تمامها، ولم يمثل لنا الوجه إلا في مرآة رفعها رب الحب أمام ربة الجمال. •••

وهذه صورة تاييس وهي تهدم إيمان الناسك المسكين، وقف أمامها وقد تبادلا الفتنة فأخذها بوعظه وأخذته بغواية جسدها، ولبس هو طيلسان الأثرياء، وخلعت هي كل طيلسان، وكأنما شاء المصور أن يعقد المقارنة بين هذه الفاكهة الشهية وبين ثمرات البساتين، فجود ما شاء في العنب والموز والبرتقال، ولكنه تركها إلى جانب هذا البستان الحافل كأنها الماء الذي لا طعم له ولا لون، ولا يروي الظمآن إلا شراب ذلك البستان ... •••

قوتان متناجزتان لم تشغل الميدان قوتان أكبر منهما منذ تصارعت في هذه الأرض قوتان: عقيدة، وشهوة، نسك وفتنة، جسد تمرد من فرط الحرمان، وروح تمردت من فرط المتاع بالشهوات.

ولقد رزقت المرأة فتنة قوية ولم ترزق عظمة قوية، فلم يزل عزيزا عليها أن تنخذل بالفتنة أمام العظمة، ولم يزل من دأبها أن تجرب هذا السلاح أمام كل سلاح، فجربته في كفاح الوفاء وكفاح البطولة وكفاح النسك والزهادة ، وشاءت في هذه الجولة أن تضرب أقوى ضرباتها لأنها آخر ضرباتها، فلما ضربتها سقطت من الإعياء ساجدة، فكانت سجدة العمر إلى الممات، وخرجت الراقصة عابدة من ميدان صراع.

وانتصر الخصمان وهما منهزمان أكبر انهزام: راقصة تفتن ناسكا، وناسك يصلح راقصة، وذلك أقصى مدى الهزيمة والانتصار.

فلما انجلى الغبار كانت الراقصة راهبة في الدير، وكان الراهب مفتونا يهيم في وادي الغواية، وكلاهما صارع مصروع، ومفلح مخفق، وصامد هارب من الميدان.

وهذه صورة لسوق الرقيق في عاصمة من عواصمنا الشرقية: تعجبني منها عصبية الفنان لوطنه، وإن لم تعجبني منها حيدته عن الحقيقة في هذه العصبية ...

فهذه السمراء الشرقية تراها مزهوة بعرض محاسنها كأنها ترحب بنظرات سيدها الذي أوشك أن يشتريها، ولا يعنيها الخجل كما يعنيها أن تظفر في هذا الموقف المخجل بنظرة استحسان ...

وهذه البيضاء الغربية تداري وجهها بيديها وتطرق برأسها، وتدع الأنظار ترتع في محاسنها كأنها تتلقاها على الرغم منها.

وفي الشرق خفر كثير لأنه وطن الحجاب، وفي الغرب جرأة كثيرة؛ لأنه وطن السفور ... فإذا وجدت شرقية واحدة وغربية واحدة في سوق واحدة، فهل من المحتم أن تكون الشرقية مثلا للتهتك الوقاح، والغربية مثلا للخفر الخجول؟

قال صاحبي: أولا يجوز للفنان أن يتعصب لوطنه؟!

قلت: بلى يجوز بل يجب في كثير من الأحيان، ولكن على أن يصدق البيان، ولا يتكفل بتشويه الحقيقة؛ لأن الفن جمال، والجمال عدو لكل تشويه ...

وتلي صورة الجواري في سوق الرقيق صورة الينبوع العذب الصافي البرود، وبرودته تتراءى من صفائه في مجراه، وقد جعله «انجرز» صبية كاعبا تنضح بالصباحة والطهارة، وبراءة المحيا ونقاوة القسمات، وأعطاه عمرا وحياة كأنه لم يبلغ بعد سن الينابيع الكبار، وكأنه بين موارد الماء الفياضة تلك الصبية الكاعب بين أمهاتها وجداتها من النساء.

وأصبحنا أمام الصورة الأصلية التي انفردت بين هذه النسخ المنقولة ...

قال صاحبي: إنني أفهمها وإن لم أعلم بخبرها.

قلت: إنها لا تحتمل غير معنى واحد: فطيرة حلوى يشتهيها الجائع والشبعان، بل يشتهيها المتخوم والمكظوظ ... وعليها صرصور وذباب يحوم، وفي القدح الذي يفرغ عليها الحلاوة عسل يضطرب فيه بعض الذباب ويموت ... فلا يأكل من الفطيرة الحلوة على هذه الصورة شبعان ولا جوعان، بل تعزف النفس حين تراها عن كل طعام.

وقيمة الصورة أن تاريخ الفن كله - بل تاريخ العبادة من أوائله - مرتبط بالباعث على تمثيلها في هذه الرموز.

فقد وجد الفن في الدنيا؛ لأن النفوس تمتلئ بالشعور وتشتغل به كل الاشتغال، فلا تقنع به شعورا بل تطلبه حسا منظورا، ولا تشاء أن تظل فيها حاسة من حواسها فارغة منه غير مملوءة بمثاله، ومن هنا نشأ التصوير، ونشأ التجسيم، ومن هنا نشأت هذه الصورة اليوم كأنها أول اختراع لفن التصوير. •••

وكانت جولة الوداع في حجرة الاستقبال.

قال صاحبي وهو يستقر فيها: لقد سمعت عن حديقة الحيوان، وقرأت في وحي الأربعين عنها أنها «لا تجمع إلا الفنان أو المحب للفنون، سمي كل زميل من زملائها باسم حيوان يلاحظ في اختياره اتفاق الشبه في الملامح والعادات، وقد جمعها الفن كما كان أورفيوس المعروف في أساطير اليونان يجمع الأحياء حين يغني ويعزف، فتقبل عليه كل فصيلة وهي لا تشعر بخوف أو تهم بعدوان» ... فهل لي مكان في جوار أورفيوس؟

قلت: إن طال استقرارك ظفرت بمكان، بعد الموافقة والامتحان ... ولا تحسبن الطموح إلى هذه المنزلة من يسير الأمور التي تبلغ بغير عناء، فأولى لك أن تحسبه من الادعاء الذي يتطلب التزكية والشهادة، ولا تحسبه من التواضع الذي يقبل بغير تزكية ولا شهادة ... فهل تدري من هم أكثر الناس حرصا على مظاهر الوجاهة، وشارات الثروة، وعناوين الفخار؟ إنهم أحدث الناس نعمة وأقربهم إلى الضياع في غمار الوضعاء والأذلاء إن لم يتميزوا أبدا بتلك المظاهر، وتلك الشارات، وتلك العناوين. وكذلك مقياس الإنسانية عندنا في هذه الحديقة، أصحاب الإنسانية المحدثة هم أحرص على مظاهرها وشاراتها وعناوينها، وأشبه الناس بالأحياء الدنيا من ينخلع عنه شعار الإنسانية باسم وعنوان، وإنما يقاس نصيب المرء من الإنسانية بمقدار عطفه على الحيوان واقترابه من فهمه وفهم شعوره، فمن قام بينه وبين معاطفة الحيوان حجاز حاجب فذلك حجاز بينه وبين الفهم والعطف والشعور، وهي أكرم مزايا الإنسان ... •••

قال صاحبي: أنا لا أنكر شيئا في الحديقة وترشيحاتها، ولكنني أود أن أعرف كيف جمعتموها، وكيف جاءت هذه التسمية، أو كيف اخترتموها؟ ...

قلت: أحسبها تسمية ترجع إلى مرجعين لا إلى مرجع واحد، أحدهما قريب ظاهر والآخر بعيد باطن، فأقرب هذين المرجعين هو فن المحاماة عند صديق من أصدقائنا الأعزاء، فما تقع عينه على أحد يلفت النظر إلا أسرع إلى تشبيهه ومحاكاته، فإذا هو شبه محكم ومحاكاة تطابق الشبه من جميع وجوه المطابقة، ولا يعفى من هذه العادة ألصق الناس به وأقربهم إليه، بل هؤلاء هم في الغالب هدفه الأول، وإصابته المسددة ... وخلقته هو على هذا القياس هي أول ما يستهدف، وأول ما يصيب.

فإذا تألب عليه الصحاب تندرا وسخرية ومزاحا شهر عليهم هذا السلاح، وأسكتهم عنه بالبدء بنفسه، والعدل في توزيع نقمته، ومن دلائل عدله أنه لا يطلق على أحد شبها من الأشباه إلا وافقه الحاضرون جميعا ما عدا صاحب الشبه ... فإنه قد يمانع هنيهة، ثم يلقي يد السلم، ويعترف «بالخلعة السنية» التي خلعت عليه ...

أما المرجع الآخر فأحسبني أنا المسئول عنه من حيث أريد أو لا أريد؛ فإن عادة عندي - بل أقوى من عادة - أن أشعر بوحدة الخلق كله، وأن أنظر إلى جميع الأحياء كأنها تجربة واحدة تنجلي عن مقصد واحد، وإننا ربما فهمنا مقصد التجربة من مسوداتها الأولى قبل أن نفهمه من النسخة المنقحة المصقولة ... وإن كانت النسخة المنقحة المصقولة أجود في التعبير وأفصح في الأداء. •••

وما قرأت قط خرافات الأقدمين عن وشائج الأحياء إلا خيل إلي أنها تنطوي على أكثر من خرافة أو لعبة خيال، وتساءلت قبل نيف وثلاثين سنة عن مغزى تلك الأساطير التي تحكي عن أناس لهم أجسام آدميين ووجوه كلاب، أو مغزى تلك التماثيل التي تجمع بين أجسام الوحوش ورءوس الآدميين، فقلت من كتاب الفصول: «ما مغزى هذا الإجماع والتواتر؟ ... وماذا في طي هذا الاعتقاد بأن الإنسان يتحول أحيانا من هيئته إلى هيئة حيوان أدنأ منه، أو أن في عالم الحياة مخلوقا بعضه إنسان وبعضه حيوان؟ ... هذا شعور لم يرد إلينا من ناحية الحواس ولكنا لا نجله، وصحيح أن الخيال مفطور على مزج أشكال الحس وإلباس الموجودات لباس الإنسانية، ولكن لماذا فطر الخيال على ذلك؟ أكان يستحيل أن يفطر على غير هذه الفطرة؟ وهل لو خلق الإنسان من غير عنصره المعروف كان يتخيل هذا الخيال بعينه؟ ألا يجوز أن يكون مغزى هذا الإجماع والتواتر أن في جبلة الإنسان شعورا راسخا بوحدة الخلق، وتلاحم سلسلة المخلوقات ... شعورا أعمق من الفكر لا بل أعمق من الخيال نفسه، يتكلم باللسان فيكني ويلفق، ويتكلم بالبديهة فيصرح ويصدق؟ ولماذا ننفي وجود شعور كهذا يصل الإنسان على وجه ما بشيء من أسرار الحياة مع علمنا أن الإنسان قد اتصل بالحياة قبل أن يصله بها عقله وحواسه؟ ... أليس ترجيح وجود هذا الشعور أولى وأحرى بقدم العلاقة بين الأحياء والطبيعة؟ فلا يبلغن من قصور العقل ألا يصدق إلا بالعقل وحده، ولا يبلغن من ضيق النظر أن نقسر حواس النفس كلها على أن تنمو نمو الحواس الخمس ... كأن الإنسان لا يتصل بالدنيا إلا بها، وكأنما الخيال ليس جزءا من الإنسان كما هي جزء منه ...»

وهذا الشعور الكمين لا أحسبه كان غائبا عني يوم نشرت خلاصة اليومية وكتبت في تصديرها: «إن الإنسان حيوان راق ولكنه لا يزال حيوانا ...» ويوم كتبت مجمع الأحياء وعقدت فيه مؤتمر الحياة بين الحمامة والأسد والنمر والقرد والثعلب والإنسان والمرأة وسائر الأحياء، ثم يوم رثيت كلبي بيجو، وجعلته شاهدي على بعض المذاهب في التربية ... والدراسات النفسية ... فإذا كانت «حديقة الحيوان» فكاهة من فكاهات المجالس فليست هي من الفكاهات العابرة، ولا من الفكاهات الرخيصة؛ لأن لها أصلا أصيلا من الجد بعيد القرار. •••

ونظر صاحبي إلى يمينه، وأوشك أن يجفل جفلة الخوف؛ لأنه رأى هنالك تمثالي بومتين دقيقتين، يحفان بالساعة الصغيرة عن اليمين وعن الشمال، وقال: رب هذا من ذاك! ... ثم قال: ترى لو دخل صاحبك ابن الرومي هذه الحجرة ونظر إلى هذين التمثالين المخيفين، ماذا كان يصنع يا ترى؟

قلت: لا شك أنه كان ناكصا على عقبيه على الأثر، وإن كنت قد وضعت هذين التمثالين في موضعهما، وتحديت الشؤم كله لأجله هو جزاه الله ...

لاحقه الشؤم في حياته وقل منصفوه بعد مماته، وضل معظم النقاد في أمره؛ لأنه من طراز غير الطراز الذي يقيسون عليه، فهو عندي - بغير خلجة من الشك - وحيد شعراء العالم من مشرقه إلى مغربه ومن قديمه إلى حديثه في ملكة «الوعي» والتصوير ... وهي أنفس الملكات التي يرزقها رجال الفنون، فلا يضارعه في هذه الملكة شاعر عربي، ولا شاعر أعجمي، ولا يناظره فيها فحل من فحول التشبيه والتصوير في أدب اليونان والرومان، ولا في أدب الغربيين المحدثين، ولم أعرف بين أدباء الأمم الأخرى التي اشتهرت بدقة التشبيه - كأدباء الصين واليابان - من يجري في غباره أو ينسج على غراره، ومثل واحد يغني عن مئات الأمثال، وهو وصفه لحقل الكتان حيث يقول في بيتين اثنين:

وحقل من الكتان أخضر ناعم

توسنه داني الرباب مطير

إذا اطردت فيه الشمال تتابعت

ذوائبه حتى يقال غدير

فالواعية الفنية وحدها هي التي تغريه بوصف حقل من حقول الكتان التي مرت بألف شاعر منذ الخليقة ولم يلتفتوا إليها؛ لأن حقل الكتان لا يحسب من موضوعات الوصف التقليدية بين شعراء التقليد، فليس هو بروضة من رياض الورد والياسمين، وليس هو بستانا من بساتين الفاكهة والثمرات، ولا هو بمنزه من منازه الحسان، أو موعد من مواعيد الغرام ... فانظر كيف علق هذا المنظر بوعيه اللاقط المستوعب، وكيف أحصى عليه كل ما يحصيه التصوير في شرط النقد الحديث، بعد طول المشاهدة والمراجعة لآيات الأساتذة من نوابغ التصوير ... واذكر كيف صنع ذلك بداهة وابتداعا غير عامد ولا متنبه، وهم يتعمدون ما يسجلون من ملاحظات النقد، ويتنبهون إليه.

فالنقد الحديث يشترط على المصور النافذ البصر والبصيرة أن يستوعب المنظر فلا يفوته اللون ولا الملمس ولا الزمان، ولا جو المكان، ولا الحركة التي تشيع فيه إن كانت فيه حركة ، أو السكون الذي يشمله إن كان به سكون ...

وكل أولئك تجده في البيتين الاثنين مطبوعا منقولا إليك نقل البداهة عن تلك الواعية المستوعبة التي لا تفوتها مدركة من مدركات الحس والخيال: لمح اخضرار اللون، ونعومة الملمس، وأحاط بوقت الصورة كما مثلت أمامه فهو وقت الوسن، وأحاط بجو المكان فهو المكان الذي يظل عليه رباب مسف فويق الأرض يؤذن بالمطر القريب، وأحاط بالحركة، وبمصدرها من ريح الشمال، فإذا رءوس الشجر تموج بالحركة الذاهبة الآيبة فكأنها صفحة غدير، لا موضع لنقص في الصورة، ولا محل فيها لزيادة، وليس أصدق من الوعي الذي أحسن اللقط، وأحسن التمثيل في لمحة عين، وفي بيتين اثنين. •••

مثل هذا المقياس التي تقاس به الواعية الفنية لم يكن مقياس أولئك النقاد الذي جهلوا فضل ابن الرومي، وأشادوا بفضل سواه، ولو أنهم تتبعوا مئات الأبيات من شعره - بل ألوفها - على هذا المنوال لعلموا أنه مغبون - جد مغبون - حين يقرن بشاعر من شعراء العالم كائنا ما كان في هذه الملكة الفريدة ... فكيف بالغبن الذي يصيبه إذا قدموهم وأخروه، وأشادوا بفضلهم وأنكروه!

أثارني هذا الظلم فآليت لأدفعنه عنه، فإذا بصحبي يثنونني عن إنصافه وهم وجلون، ولئن كانوا غير جادين لقد كانوا كذلك غير مازحين، فما لقيني أحدهم مشتغلا به إلا صاح بي: حذار حذار، إنه مركب غير مأمون العثار! ... والرجل موصوف ببأسه في شؤمه، فلا شأن لك بإنصافه وظلمه، ودعه لقضائه، واقنع بأنك من قرائه، فقد يتحداك شقاؤه إذا تهجمت على حرمة شقائه!

وكانت ثورة فأصبحت ثورتين: لقد ذل من يخاف ذلك الشؤم المعتز بجبروته، ولقد طغى ذلك الشؤم الذي يسطو على فريسته في حياتها وبعد مماتها، ثم ينذر بالنقمة من يتصدى لغوثها، فإذا أنصفنا الشاعر المغبون، وغضب الشؤم الواقف له بالمرصاد، فليصنع الشؤم إذن ما يشاء.

وسكنت هذا البيت ورقمه ثلاثة عشر، ووضعت فيه التليفون ورقمه يومئذ مبدؤه بثلاثة عشر، وجعلت أسأل الشؤم في كل دعوى من دعاويه، وأولها دعواه الكبرى على البومة المسكينة: ما لهذه الطريدة المظلومة وهي قد تركت الدنيا والنهار للإنسان، ولاذت منه بالليل والخلاء؟! وما عيبه عليها وهي أوفى الطيور في عشرة الأليف منها للأليف؟! أليست هي إحدى الأحياء النادرة التي يسكن الزوج منها إلى زوجه مدى الحياة؟! أليست هي التي تغني لنور القمر ولعزلة الليل ولا تقحم صوتها على من يأباه؟! ... ألم تكن عند الأثينيين - وهم عباد الجمال - رمزا للمدينة ينقشونه على الدراهم مع أغصان الزيتون؟! ... فإذا جنى الظلم على سمعتها، ولاحقها الظلم في خلوتها، فليصنع ما بدا له فإننا نتلقاه منها باثنتين لا بواحدة؛ لأنها لا تحب الفراق، وإن زعموها نذير الفراق ... •••

قال صاحبي: وكيف رأيت العاقبة؟

قلت: خير بعد شر، وفلاح بعد كفاح، فلا أخفي عليك يا صاحبي أن أمر ابن الرومي في سمعته تلك أمر عجيب مفرط في العجب، وأنني لو صدقت خرافة من الخرافات لصدقت خرافة الشؤم والتشاؤم، وصدقتها في ابن الرومي هذا قبل غيره. فما حدث منه قد شهدته بنفسي، وخبرته في صحبي، ولم أعتمد فيه على رواية الأقدمين، وعلى مبالغات المتندرين؛ لأنني تعاقدت على طبع كتابي عنه مع مدير المطبعة، فمات هو وسجنت أنا قبل الفراغ من ملازم الكتاب الأولى، وكان وزير المعارف «أحمد حشمت» قد أوصى بطبع ديوانه، وأقام على تصحيحه مفتش اللغة العربية في الوزارة، فعزل الوزير والمفتش وماتا قبل الفراغ من جزئه الثاني، وكتب المازني فصولا عنه فكسرت رجله، ونشر صاحب الثمرات قصائد من ديوانه فكسرت رجله، وهم صاحب البيان بنشر مطولاته والعناية بأخباره فتعطلت مجلة البيان، فلو كانت هذه المصادفات أسبابا يؤخذ بها وترتبط بنتائجها لكان الشؤم المزعوم حقيقة من الحقائق العلمية التي لا شك فيها، ولكنها مصادفات سيئة تقترن بها مصادفات حسنة، ولا يجوز لنا أن نركن إلى هذه، ولا إلى تلك على انفراد، فقد أنجزت كتابي عن ابن الرومي فكانت السنة التي ظهر فيها من أسعد السنوات في حياتي الخاصة، وأبرزها في حياتي العامة، وسلك الكتاب سبيله بين مراجع الأدب المعدودة في هذا الجيل، فإن كان الشؤم على صولته التي يتخيلونها فقد تحديناه ، ونجحنا في تحديه بحمد الله.

ولم يكن في الحجرة شيء سبقته إلى سكن هذا البيت منذ سكنته قبل زهاء عشرين سنة، فكل ما فيها قد دخل البيت يوم دخلته، وبقي هناك كما بقيت ... إلا بعض الصور، والمذياع! ...

ففيها صورة للقصر المعروف باسم «أنس الوجود» من صنع الفنان التركي القدير الأستاذ هدايت، تلمح من نظرة واحدة إليها غرابة الجو المصري، والألوان المصرية الوضاءة على آثارنا الخالدة كما تبدو في عيني الفنان الغريب عن الديار. •••

وفيها صورة لي من صنع الأستاذ «أحمد صبري» وهو من أساطين فن التصوير في هذا البلد، وله ريشة ثابتة وألوان صحيحة وطريقة مأثورة عن عباقرة المدرسين الأقدمين، لا تستهويه البدع المستحدثة، ولا يروقه من ملامح الوجوه إلا ما ينم على جد واهتمام.

وفيها صورة لشاطئ الزمالك من صنع المصور الموهوب الأستاذ شعبان زكي، وهو فنان ينظر ويحلم، ويسبغ من أحلامه كثيرا على المناظر الطبيعية، أو الحوادث التاريخية التي يسجلها، ومن آثاره التي تتجلى فيها أحلام التصوير والأدب صورة امرئ القيس والعذارى، وهو مرابط لهن على حافة الغدير.

وهناك تمثال نصفي أهداه إلي بعض الهواة ممن يشتغلون بغير النحت، ولا يظهرون آثارهم الفنية.

أما المذياع فلم يكن قد ذاع يوم سكنت هذه الدار، ولم أكن أرى منه في مصر الجديدة إلا أدوات عاجلة يركبها بعض الكهربائيين على أيديهم، وتسمع أو لا تسمع كالمركب الشراعي الذي يسير أو لا يسير «على حسب التسهيل».

قال صاحبي: إن نقل الصوت من المكان البعيد معجزة كافية، فكيف إذا أضيفت إلى هذه المعجزة معجزة النقل من زمان بعيد؟! إنهم يزعمون ذلك في الإمكان، ويقولون إن استخلاص أصوات الأقدمين كما نطقوا بها في حياتهم ليس بالمستحيل؛ لأنها محفوظة في بعض طبقات الجو البعيد، لا يؤثر عليها الاختلاط إلا كما يؤثر الاختلاط على أصوات المحدثين ...

قلت: لو كان لي لسانان لقال أحدهما: مرحى! ... وقال الآخر في الوقت نفسه: أعوذ بالله! •••

إننا نحب أن نسمع الأنبياء وهم يخطبون، والأبطال وهم يناضلون، والشعراء وهم ينشدون، وأصحاب الأغاني وهم يترنمون ... ولكن من من هؤلاء الأبطال يرضى أن تسمعه وهو في خاصة وقته بين أهله أو ندمائه! ... ومن من الناس في عصرنا يحب أن تنقل عنه كل كلمة قالها، وكل سر همس به، وكل آهة من آهات الضعف فارقت شفتيه؟! إن الاستعاذة بالله هنا تحتاج إلى مائة لسان إذا كان الترحيب يكفيه لسان واحد، فليكن «وعيد» العلماء إذن من المستحيل، وإلا أصابهم منه ما يصيبون به الآمنين في القبور ...

ناپیژندل شوی مخ

اصول - د اسلامي متنونو لپاره څیړنیز اوزار

اصول.اي آی د اوپنITI کورپس څخه زیات له 8,000 اسلامي متونو خدمت کوي. زموږ هدف دا دی چې په اسانۍ سره یې ولولئ، لټون وکړئ، او د کلاسیکي متونو د څیړلو کولو لپاره یې آسانه کړئ. لاندې ګډون وکړئ ترڅو میاشتني تازه معلومات په زموږ د کار په اړه ترلاسه کړئ.

© ۲۰۲۴ اصول.اي آی بنسټ. ټول حقوق خوندي دي.