ولقد سئلت قبل عشر سنين عن شعوري بالحياة في الستين، فقلت : إنه شعور الحب لا مراء، ولكنه حب غير حب الحياة في ريعان الشباب؛ لأن الحياة لا تخدع الشيخ في الستين بالأبيض والأحمر والكحل والطلاء، ولا تطمع منه في حب كحب المعشوقة الفاتنة تخلبه بزينتها وتروعه بما تبديه وما تخفيه، وارتبطت به وارتبط بها على الخير والشر وعلى الحسنة والسيئة وعلى الوئام والخصام، وليست بالمعشوقة التي تتحبب إليه، ويتحبب إليها، وتلقاه ويلقاها على نمط من الإعجاب لا يخلو من التمثيل! ...
فإن يكن لا بد من تشبيه الفارق بين مكان ابن السبعين ومكان ابن العشرين من الحياة ... فهو على ما أحسب مكان واحد عند المائدة المشتهاة ...
وإنما الفارق في «القابلية» أو اشتهاء الصحاف والصنوف، فلا نسيغ في السبعين ما كنا نسيغه في العشرين، ولا ننتفع اليوم بما كان ينفعنا بالأمس، ولكنني لو تخيلت الحياة طاهيا يبسط أمامنا صحافه وصنوفه، لتخيلته مبتهجا متهللا كلما مددت يدي إلى صنف من صنوفه التي يبسطها على المائدة لضيوفه ... فلا فخر للطاهي في نهم الجائع الذي يلتهم كل شيء ولا يعزف عن شيء، وله الفخر كل الفخر في كل لقمة يتناولها الشبعان القانع أو المتردد المصدوف. •••
ومن سألني: هل تبادل؟ ... هل تساوم على الزيادة والنقص في البدل؟ ... هل تعطي وتأخذ وأنت مفتوح العينين في هذه الصفقة الرابحة؟ ... وهل تسميها «صفقة رابحة» إذا أعطيت السبعين وأخذت العشرين والأربعين؟ ...
فلا يحسبن السائل أنه يسأل عن تحصيل حاصل، ولا يعجلن بالجواب؛ لأنه يخاله من فصل الخطاب.
كلا ... لا أبادل، ولا أقبل المساومة بغير معارضة على الشروط، ولن أقبل كل ما في العشرين أو أنفي عن كل ما في السبعين.
يفتح الله ... فإما الحياة «على السكين» وإما لا حياة، ولن تجدني يوما أحرص الناس على حياة، فما هي بشيء في حسابي إذا تجردت أمامي من الألف واللام، وحبذا هي من حياة إذا علمت أنها «الحياة» للعهد والتعريف ...
وسأنفي من العشرين والأربعين كل ما سوغ لي ما لا يسوغ، وكل ما هون عندي ما لا يهون، إما في باطل لا يتحقق ولا خير فيه إذا تحقق، أو مجاملة لمن تستر لهم جهالتهم ولا يسترونها، ومن يسترون كل فضيلة ولا يكادون يرونها ...
وسأبقي معي في السبعين كل ما يعين النفس على هجران الحياة إذا وجب أن تهجر، وهجرانها واجب يوم تستبقيني وأنا آسف للبقاء فيها. •••
ولئن تمنيت شيئا بعد السبعين، لأتمنين أن أعيش فلا أعيش عبثا ولا فضولا، وأن أعيش كما عشت بحمد الله على الدوام، أحقابا وأحقابا إلى الأمام، فيقول الناس اليوم ما كنت أقوله قبل عشرات الأعوام، فذلك هو العمر الذي أحتسبه سلفا وأعيشه قبل حينه، فلا يكلفني انتظاره إلى الختام. (5) اعترافاتي
ناپیژندل شوی مخ