144

فقال في جمود: لا تحسب أني جئت لأرجوك في شيء، أو أني خفت من تهديدك، ليس عندي عقود زواج ولا عقود طلاق، وكل أقوالك لا تخيفني، اسمع يا سيد أفندي، إذا كنت تحسب أن النيابة تخيفني فأنت مخطئ، وماذا تفعل النيابة بي؟ السجن؟ طيب يا عم، نذهب إلى السجن، أهذا كل ما تقصد؟ ألم أقل لك إني حشرة وكلب عقور ووغد؟ ولكن أموال السيد أحمد جلال حرام علي أنا وحلال بلال لك ولمحمود بن محمد خلف ووالده سعادة الباشا، أهذا ما تريد يا حضرة الأديب الكبير؟ طيب يا عم، خذ أنت نصيبك ونأخذ نحن نصيبنا. الفلوس لكم والنيابة لنا، أليست هذه هي القسمة العادلة التي تعودناها من الحياة؟ بس يا سيدي، هذا ما جئت لأقوله، وحول وجهه عني لينصرف، وثارت في نفسي مشاعر مختلفة فقد حزنت من أجله وأشفقت على بؤسه، ومع هذا هممت أن أركله بقدمي وأمرغه في تراب الحارة، وجمعت كل إرادتي وقلت له: لست في حاجة إلى أن أقول لك أكثر مما قلت أنت عن نفسك، فهل جئت لي حقا لتقول هاتين الكلمتين؟

فوقف وقال في مرارة: أتظن أني لا أفهم السر في هذه الحماسة الشديدة؟ ألست أنت الذي كنت أكبر خصم للسيد أحمد جلال؟ سبحان الله! سبحان الله يا أستاذ يا عظيم! هكذا تنقلب من حرب طاحنة إلى صداقة طاحنة لوجه الله تعالى؟ أتريد أن تقول لي إنك متطوع لخدمة محمود خلف لوجه الله؟

ومن العجيب أني بعد أن كنت شديد الرغبة في أن أركل هذا الرجل بقدمي فأحطم عظامه، بدأت أجد اهتماما شديدا بكلماته اللاذعة، ولأول مرة تبينت أني متناقض مع نفسي كما تبينت أن موقفي معرض للتهمة التي جهر بها ذلك الوغد، وكان أكبر ما يؤلمني أن يذهب ظن أحد أني أسخر نفسي لخدمة محمود خلف، ودعوته للدخول معي إلى البيت لأسمع منه كل ما عنده بعيدين عن الأنظار والأسماع، ولكنه مانع حتى جررته جرا من ذراعه، وصعدت به إلى غرفتي.

ولما صرنا وحدنا قلت له: اسمع يا حمادة. لست أبالي أن تكون أسفل مخلوق في العالم، ولكني أحب أن أقول لك كلمة، ماذا يهمك أنت إذا كنت أعمل لحساب محمود خلف أو غير محمود خلف؟ ماذا يهمك أنت إذا كنت سأستولي على سمسرتي في هذه الصفقة وألقي بك في السجن؟ ماذا يغير هذا من موقفك أنت؟ هل عزمت حقيقة على أن تستمر في مؤامرتك؟ وهل حقا لا تبالي أن تذهب إلى السجن من أجل مكيدة فاشلة؟ وأقسم لك برحمة أبي أني لن أتركك إذا لم تتنازل عن عنادك، فما رأيك الأخير؟

فتلوى في مقعده، وبقي مدة صامتا وهو ينظر إلي كأنه ثعبان يتحفز للهجوم ، وكان على وجهه شبح ابتسامة مسمومة.

ثم قال في مرارة: يعني انتهينا؟

فقلت في لهفة: كن عاقلا يا حمادة.

فقال: يعني نذهب إلى السجن أو نخرج من المولد بلا حمص؟ يعني يا سي سيد ليس أمامي إلا أن أختار بين السجن والموت جوعا؟ طبعا ستطردني المرأة إذا لم أذهب إلى السجن، وطبعا مصطفى عجوة يخرج لي لسانه قائلا: «رح في داهية يا حمار.» نعم أنا حمار وخمسين ألف حمار؛ لأني لم أرض بمائة جنيه، وقلت له: ولا خمسين ألف. لم أعرف في ذلك الوقت أن سيد أفندي زهير سيعود إلينا من القاهرة ليقول لي: يا وغد اذهب إلى السجن.

وقام واقفا يريد الانصراف، ولأول مرة رأيت عليه أثر الاضطراب والانخذال.

فجذبته من ذراعه لأقعده، فارتمى على الكرسي كأنه يتهدم وقال في ضعف: دعني أذهب يا سيد أفندي لأفكر في اختيار السجن أو الموت جوعا.

ناپیژندل شوی مخ