فنظرت إليه فاحصا، وصعدت فيه بصري كرتين، فلم أتبين من يكون، ولم يكن لي عهد برؤية مثله، فضاق عند ذلك صدره وصاح بي: «أنا صاحب الباب وحاجب الحجاب! قم إلى القاضي ولا تبطئ عليه.»
فوقع قوله مني موقعا شديدا؛ فالقاضي سيد من أصحاب الخمسين، وقد عرفت نفسي عزوفا عن مجالس العظماء، فاستعذت بالله من الغرور، وظننت أن سيده قد سمع بي، وعرف ما أقدمه للعلم في سبيل الله، فأحب أن يظهر لي تجملا، أو يبعث في طلبي تقريبا وتلطفا. وكنت لا أحب أن أفتح قلبي للغرور، فإنما الأعمال لله وحده، وما كنت لأبتغي بها عند الناس رياء. وعزمت على أن أجعل بيني وبين السلطان سدا، وهممت أن أرد الحاجب ردا جميلا، وأبعث معه إلى السيد العظيم دعوة خير أرجو أن تكتب له في صحيفته.
ولكن ما كان أشد عجبي عندما ناداني الفتى متجهما، وأمرني في جفاء أن أسرع إلى المجلس فإن لي فيه شأنا.
ولم أفهم أي شأن يكون لي في مجالس القضاء، وليس لي في جانبولاد ما أنافس الناس فيه؛ فلم تكن لي تجارة ولا زراعة، بل هي صلاتي ودرسي، وكتابي وورقي. وإن كان لي رزق فيها فمما قسمه الله لي من عطاء لست فيه شريكا لشريك أو عميلا لعميل. فقلت للحاجب في هدوء: «هداك الله يا ولدي، لقد أخطأت، فما أنا بمن يطلبه السيد العظيم.» ثم هممت أن أعود إلى درسي، ولكنه نظر إلي مغضبا ثم صاح بي حانقا: «أيها الرجل، قم إلى القاضي فإنه ينتظرك لينفذ فيك ما يجب عليه أن ينفذه من حكم العدل.» فنظرت إليه وإلى حلقة الدرس، ونظر التلاميذ إليه ثم إلي، وطال النظر من بعض إلى بعض حتى نفد صبر الحاجب، وكان قويا فتيا يلمع رونق الشباب في وجنتيه، فتقدم نحوي عامدا كأنه أراد أن يجرني من الدرس قسرا، فلم أجد بدا من القيام طائعا؛ فهؤلاء أتباع السلطان لا يعرفون تجملا ولا ترفقا. ولما رأيت من تلاميذي بوادر الغضب أشرت إليهم بالصبر والأناة، ونظرت إليهم معاتبا؛ فما ينبغي لمن كان مثلي إلا أن يطيع ولي الأمر إذا دعاه.
وسرت إلى مجلس القاضي، وأنا أدير في ذهني كل حوادث الأيام والشهور، لعلي أذكر لنفسي سببا مما يجر إلى ساحة القضاء، فلم أجد شيئا أعرفه، وحسبت الأمر كله خطأ لا يلبث أن يزول. ولما دخلت إلى المجلس رأيت السيد في صدر المكان وله فم ضب وعينا أرنب، يخيم عليه ظل الهيبة، وترنق في عينه الصرامة. ورأيت قلنسوته العالية من تحتها لحية تبلغ القبضتين، ورأيت ثيابه من الدمقس، وتحته طنفسة من الإبريسم الحر، وقد رفع فوق رأسه الدرفس، ووقف الأتباع من حوله خشوعا، يسلون السيوف ويبسطون أمامهم الأنطاع. فوقفت حينا أنظر في ارتياع، وأترقب حركة فمه المدبب، الذي يضم بين شفتيه لسانا فيه مصير الناس من سعد وشقاء، وأتأمل عينيه الخاويتين، ومنهما يطل القضاء. وتمثل لي ما كان في مجلسه ذاك على مر الأيام، من سجن وتعزير، وغرامة وتشهير، وقلت في نفسي أعوذ بالله من عثرات المقادير، وتقدمت نحوه باسما وسلمت عليه محتفيا خاضعا، ثم أردت أن أشكو إليه حاجبه كيف قطع درسي وروع تلاميذي، فإذا به ينظر إلي في جمود، ويرفع يمينه في جفاء، ثم قال بصوته النحاسي: مكانك أيها الرجل!
وكأن الأرض قد مادت بي عند ذلك، أو كأن السماء قد مارت وتداعت، وعقل لساني عن النطق، ووقفت أنظر إليه وعيناي تطرفان وأذناي تطنان. ولا حاجة بي إلى ذكر ما قال لي كله؛ فقد كان مجمله أنني جئت إليه متهما بأنني شربت الخمر وقارفت عظيم الإثم، ونادمت وفاكهت، وأعنت على المنكرات، وأنا رجل أدخل المساجد وأؤم في الصلوات، وقد شهد علي بذلك من كنت أنادمه، وسمعه منه الشهود العدول، ورواه عنهم الشهود العدول. ثم أراد - حرسه الله - أن يتحرى العدالة وأن يبالغ في التدليل حتى لا يزل في حكمه، فقال إنه قد بعث في أثري العيون وشهدوا أنهم رأوني أدخل إلى بيت صاحبي الفارس في الليل، وأخرج منه بعد حين في هيئة من لا شك في امتلائه بالشراب؛ إذ كنت أسير مطرقا وأجرر رجلي خائرا، وأدخل إلى داري، لا ألتفت إلى ورائي ولا أرفع ذيول ردائي.
فذكرت عند ذلك ما كان. جازى الله «طوطاط»، فكم من مصاب ينزل بالمرء من وراء عبث، وكم من دواه جرها على الناس حديث إفك. منذ تلك الليلة التي نادمت فيها «طوطاط» لم يبق في جانبولاد مجلس شراب لا يذكر فيه اسمي، ولم يبق جمع طرب لا يتحدث بفكاهتي وظرفي. فكنت أوصف بحسن المنادمة وطيب المحادثة، والأدب عند الشراب والصبر على عربدة الصحاب، على حين كنت في المسجد أحلق مع تلاميذي في السماء، وأتقرب إلى الله بفعل الخيرات وخدمة الطلاب، وأعكف على التأليف والتصنيف والعبادة والتسبيح.
وتقدم القاضي إلي بأن أدفع التهمة عن نفسي إذا استطعت؛ فإن العدالة تناديه أن يكشف عن جرمي، وأن يحمي الناس من ريائي، ولن يزال بي حتى أتوب بين يديه، بعد أن يوقع علي العقوبة التي أستحقها، ثم يمنعني بعد ذلك من مخالطة الطلاب، وتلويث المساجد التي لا ينبغي أن يدخلها إلا المطهرون. فلم أملك من القول إلا سبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولم أستطع غير التسبيح والحوقلة ردا ولا دفعا، ووقفت مبهوتا كأن صخرة قد هوت على رأسي فشدخته، ونظر القاضي إلي من تحت جفنيه كأنه أراد أن يخرق بنظراته صدري، لينظر ما أخفي وراء جدرانه من دليل على جرمي. ومن العجيب أنني بعد حين أحسست في نفسي تبدلا، فزالت عني الحيرة وامتلأ قلبي ضحكا، حتى كدت أقهقه في وجه السيد العظيم، وأنقض على عثنونه الطويل فأهزه وأجبذه، ولكن نظرته كانت قاسية، فهرب مني الضحك في لحظة، ونظرت إلى الشرط والأتباع وهم يتربصون بي أمره، وينتظرون علي إشارته، وبعد لأي نطقت فقلت: لقد فاجأني هذا الأمر يا سيدي، فيسر لي من الوقت ما أقدر فيه على جمع نفسي والإدلاء بحجتي.
وكان - حرسه الله - يعرف أصول القضاء، فلم تأخذه في عدالته الكبرياء، ولم يسرع إلى العقوبة قبل أن يبلغ العذر من الإعذار، وأنا بعد في يديه إن لم يكن اليوم فغدا.
ناپیژندل شوی مخ