الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
آلام جحا
آلام جحا
تأليف
محمد فريد أبو حديد
الفصل الأول
مضى علي أربعون عاما وأنا على هذه الأرض، وها أنا ذا أنظر إلى ورائي، إلى هذه السنوات الطويلة، فأرى أقصاها كأنه الأمس القريب لم تمض عليه إلا ليلة، فما معنى الزمان وما معنى السنوات التي نعدها؟ ما زلت أنا جحا الذي عرفته في سن العشرين والعشر، لم يتغير مني شيء سوى أن صلب عودي وجمدت مفاصلي وزدت في الطول والعرض شيئا، وما زلت أغضب وأرضى وأحب وأكره، وأندفع مع حماقة البشرية كما كنت أفعل صغيرا. إن الحكمة لم توهب للبشر وإن كانوا يدعونها.
لقد كنت أحسب أن الأربعين إذا بلغتها توفي بي على سن الكمال؛ فإنها السن التي كان الأنبياء يبعثون فيها. ولكني لم أجد في نفسي تبدلا وقد بلغتها؛ فما زلت كما كنت حائرا خائبا أهيم في خيالي، ولا أعرف من أمور الحياة أمرا.
لقد تعودت أن أصارح نفسي ولا أخادعها، وأنظر إلى عيوبي فلا أسترها، ولست أدري كلما تأملت أحوالي، أأبكي أم أضحك منها. لست أحسن في الحياة إلا أن أهيم فيها على وجهي قانعا بما تقع عليه عيناي من مجالي هذا الكون العجيب الذي يهزني بجماله وجلاله. فإذا غمرتني الهزة أنطقتني قائلا: «سبحان ربي!» وأبعد في التأمل حتى أغيب عن وعيي. والناس ينظرون إلي وهم يسعون ويكدون ويتزاحمون على ما أسميه حطام الدنيا، فأراهم يمضون عني ويبسمون سخرا، فأوشك أن أسخر منهم وأضحك من جهالتهم، ولكني أعود سريعا إلى نفسي فأردها عن السخرية؛ فإني لا أدري أأنا خير منهم أم هم خير مني.
وأضيق أحيانا بما ألقاه في مصبحي وممساي، وأنكر ظلم الأحياء، وأمتلئ عليهم بالحنق أحيانا، فإذا ما أذهلتني ضربات الحياة وعثراتها وقفت بين الناس أضحك حتى يتحلقوا حولي ويضحكوا لضحكي. فإذا نطقت بما في قرارة قلبي حسبوا أنني أهرف وأخلط فيزدادون مني ضحكا. أهذا قضاء الله الذي قدره لي؟
لم يهب لي الله ما وهبه لهؤلاء الذين يضطربون في الحياة فيصارعونها، لم يهب لي مالا أسند إليه ظهري، ولا حيلة أكيد بها وأعتمد عليها، ولا جمالا في خلقتي ولا بسطة في قوتي. ولكنه وهب لي قلبا يحس عظمته وجلال خلقه، وكفاني هذا وحسبي!
ولست أملك من دنياي إلا هذه الدار التي خلفها لي أبي من تراث أجدادي، وقد كانت بها حديقة أدركت خضرتها في صباي، ولكنها اليوم صحراء جرداء بلقع؛ فليس بها من آثار الخضرة إلا جذوع كالحة ونخلات شعثاء، وقد تهدمت ساقيتها وكسرت قواديسها وانقطع ثمرها. ومع ذلك فإنني أحبها ولا أرضى أن أبيع منها قيراطا، وحسبي من الحديقة سعتها. بل إنني لست أرضى أن ينقطع دوران الساقية، فلا يزال الثور يدور بها ويعجبني أن أسمع نعيرها إذا صفا الليل وهدأ الكون وسطع البدر؛ فإن صوتها يقع في أذني أشهى من الألحان، وحسبي من ساقيتي نعيرها.
وقد تهدم سور البيت فصار لا يحجب أهل الفضول ولا يمنع الدخيل، ولكن ما ضرني من ذلك والأسوار لا تقام إلا إذا كان صاحبها يخشى على ذهب عنده أو جوهر؟! وأنا بحمد الله ليس عندي منها ما ينغص علي عيشي.
خرجت يوم بلغت الأربعين إلى ظاهر ماهوش لعلني أستوحي في ذلك اليوم ما يحيل جدبي إلى خصب، أو يدخل نورا إلى ظلام القلب. وكان الربيع يخلع على الريف رداءه، وحقول البرسيم الخضراء تتموج تحت أذيال النسيم رطبة يانعة، والفول يملأ الهواء عطرا من نواره الجميل، ومروج القمح كأنها لوحة فنان أبدع في مزج ألوانه فهي زبرجد في ذهب، وحوافي النهر ترقص بما عليها من أعشاب وأزهار. فلو شئت أن أتغنى بما وقعت عيني عليه من الجمال لما أبقيت موضعا لغيره من الحديث. وحسبي أن أقول إنه السحر الساحر، وسبحان مبدع الكائنات. فسرت صامتا وقلبي يثرثر وروحي يحلق حتى بدا لي العالم كله كأنه ذرة على ساحل المحيط، وهانت عندي الحياة وما فيها من هموم صغيرة. حقا ما أصغر هموم الحياة!
كنت أميل إلى العود الضئيل من العشب فأرفعه إلى عيني وأحاول أن أرى ما فيه من جلال الإبداع، فيرتد عنه بصري حسيرا. وأرى الذبابة على العود أو البعوضة فوق الورقة أو النحلة ترف على الزهر فأتأمل الإبداع بعد الإبداع، وأغمض عيني خوف أن يعشيها نور الجلال، فأصيح بغير وعي: «يا ألله!»
ورأيت شجرة جميز على جانب الطريق، وكنت كثيرا ما أستريح فوقها إذا تعبت من طول جولتي؛ وتلك عادة تعودتها منذ صغري؛ فقد طالما كنت أقضي الليل راقدا بين الغصون كأنني بعض الطيور في أوكارها.
وجلست أقلب نظري في الأفق البعيد وفي ظل الشجرة القريب، فما وقع إلا على جليل من المعاني تومض في ومضات كنار الجبل إذ آنسها موسى؛ فلا أكاد أسمو بنظري إلى قبس منها حتى يرتد طرفي كليلا.
وفيما كنت في مجلس أهيم في مدارج السماء إذ جذبتني حركة على الأرض، فالتفت إلى الطريق فإذا بي أرى موكبا يحيط بهودج، وهو متجه نحو ماهوش مقبلا من ناحية قصر نزهة السلطان، فكدت أصرف النظر عنه وأعود إلى هيامي في فضائي، ولكن ما أعجب الإنسان إذ ينقلب من السماء إلى الأرض يجذبه إليها عنصر الصلصال! كان الموكب باهرا لا تقع فيه العين إلا على وهج من الحرير والجوهر أو بريق من الحديد والذهب. فخشعت في مكاني وجلست أرقبه حتى مر وصار الهودج حيالي، فإذا بي أرى الستر مزاحا، وألمح من ورائه فتاة سبحان الخالق القهار! كان وجهها سافرا عن فلقة من بدر، أبيض في حمرة كأنه وردة تتفتح في الربيع. وكانت تنظر إلى المروج الخضراء باسمة، وترمي بلمحات من عينين لا أستطيع أن أصور ما فيهما من حلاوة. فخفق قلبي خفقة أحسست منها كأنه غاص في صدري، وصحت صيحة مكتومة: «أهذه علية؟» وأغمضت خشية الفتنة، ولكن عيني لم تطاوعاني - غفر الله لي - فعدت أنظر إلى تلك الخلقة البديعة وعاد قلبي إلى خفقانه، وعادت إلي ذكرى عزيزة فهزهزت كياني. إنها علية الحبيبة حقا. والتفتت الفتاة فاضطربت غدائر شعرها الأسود حول عنق في بياض الزنبق، ورأيت جبينها الواضح وأنفها الجميل وكانت تزيح جانب الستر بأنامل منعمة فوقها معصم أنيق يتوهج بالجوهر. فدار رأسي حتى كدت أسقط من مجلسي، وتعلق بصري بأعقاب الموكب حتى غاب عن عيني. فنزلت، ولا أدري إلى أين أسير، شاخصا إلى الهودج كأنني أنجذب نحوه قسرا. وسرح خيالي إلى أيام شبابي إذ كنت أهيم بمن استأثرت بفؤادي؛ علية التي بهرتني وفتنتني. أواه! إنني لا أذكرها إلا خفق قلبي وأضاء الكون حولي. كانت علية في شبابي علالة النفس إذا صحوت، ومؤنسة الأحلام إذا أغفيت. كنت أقف الساعات أنتظر حتى تمر علي، فإذا مرت سرت وراءها مباعدا حتى تغيب عن عيني، ثم أعود فأقف حيث كنت، فأبقى ساعات أخرى حتى ترجع لكي أتزود منها بنظرة أخرى. لشد ما كنت سخيفا شقيا إذ ضعفت وجبنت وتركت منافسي السمج يفوز بها. وا أسفاه علي وعليها! فإن ذلك المنافس أشقاني وأشقاها. ما كان أشد حمقي وسوء حظي إذ ترددت ولم أجاهد لأنتزعها منه انتزاعا! نعم كنت فقيرا وكان غنيا، وكنت قبيحا وكان جميلا، وكنت هين الجاه وكان وجيها. ولكني كنت أملك حبي وقلبي، وكان ذلك خيرا لها من ماله وجماله وجاهه. ولم يمهلها الأجل فاهتصرها في رونق الشباب وسرت وراء نعشها، فكان قلبي يدمى حتى شيعتها إلى قبرها. عفوك يا علية؛ فقد كنت مذنبا تعسا، أو لقد كان هذا قضائي . ولقد خيل إلي بعد أن فقدتها أن قلبي قد أغلق وجمد واستقر على بلواه، وما كنت أحسب أنه سوف يخفق مرة أخرى، ولكنه في ذلك اليوم خفق وتوهج فيه القبس الخابي.
لست أدري، أعادت علية إلى الحياة وكانت هناك في الهودج تمر أمامي؟ لقد رأيت في الهودج عينيها وجبينها وغدائر شعرها ولفتة جيدها. أكنت أهذي إذ رأيتها ولم يكن ذلك إلا خيالا؟ أم لقد مر الهودج حقا أمامي وبدت صورتها حيالي؟
وسرت بين الحقول أهيم ولا أحس مواقع قدمي، ولا أرى شيئا مما يحيط بي حتى تنبهت إلى صوت يناديني، فتلفت كأني أستيقظ من حلم فإذا بي أرى صديقي أبا النور أمامي.
لك الله يا صديقي! فليس لي في ماهوش كلها قلب أطمئن إلى رحمته غير قلبك. فلما نظرت إليه بادرني قائلا: أين كنت منذ الصباح؟
فقلت في ارتباك: على الأرض حينا، وفوق الشجرة حينا.
فقال في عطف: وإلى أين؟
فتلفت حولي لأعرف أين كنت، ولكن اضطراب حواسي كان يذهلني، فقلت: إن شئت الحق، فإني لا أدري.
فأخذني من ذراعي وخرج بي يسير نحو الطريق، وعند ذلك تبينت أنني كنت أسير في حقل حديث عهد بالري، وأنا أغوص فيه وأخبط على غير هدى.
فلما صرنا على الطريق قال صاحبي: أتحب العودة إلى ماهوش؟
وما كنت لأنصرف عن الصورة التي ملأت فؤادي، فسألت قائلا: أرأيت هذا الموكب الذي مر بي؟
فلم يزد على أن قال: نعم رأيته.
ثم سكت، كأن الأمر لا يستحق إلا تلك الكلمة القصيرة. فأعدت قائلا: أوقعت عينك عليها؟
فنظر أبو النور نحوي بعينيه الفاترتين وقال متعجبا: من تعني؟
فانطلق لساني قائلا: علية.
فأحسست يده تشتد على ذراعي وقال في رحمة: هو موكب ابنة السلطان يا صديقي.
ثم حرك شفتيه يقرأ هامسا.
فلم أشعر إلا وقد اندفعت أصف محاسنها، وكنت أتعجب من الحرارة التي تتدفق في بياني. نعم كانت نفسي تعجب من نفسي.
وزادت قبضة صاحبي على ذراعي شدة، وخيل إلي أنه يحاول أن يسندني، فتمالكت نفسي وأمسكت لساني وسرت إلى جانبه صامتا وهو يقودني، وعدت إلى صورة الهودج أتمثلها وأتأمل محاسنها، ثم صحت فجأة: أهي ابنة السلطان حقا؟
فحرك أبو النور شفتيه، ولكني سمعته يهمس مستغفرا.
فأعدت سؤالي عليه، ولم أرد به إلا أن أعرف إذا كان صاحبي قد رأى الموكب حقا؛ فقد داخلني الشك أن يكون ما رأيته من أشباح وهمي، ولكنه قال: هكذا قال حراسها.
فهدأت نفسي قليلا وعدت إلى صورة الفتاة أناجيها. وما ضرني أن تكون تلك علية التي أحببتها في شبابي، أو أن تكون ابنة السلطان أو غيره من الخلق؛ فلم أكن أطمع في غير صورتها، وتلك قد احتواها قلبي، وحسبي.
الفصل الثاني
هكذا يسقط الإنسان من السماء إلى القرار السحيق فجأة. فقد بلغت داري ورأيت امرأتي ريمة أمامي. وما رأيتها يوما إلا وقع في نفسي أن صاعقة تريد أن تنقض علي، أو أن الأرض تريد أن تنهار من تحتي، أو أن الدنيا شعلة من النار، أو أن نورها قد انطفأ ولفها الظلام. أين هذه الزوجة من علية التي فجعت فيها؟ المسكينة علية! أهي قد ماتت حقا؟ أم إنها هي التي رأيتها في الهودج والموكب العظيم يحرسها؟ وماذا يعنيني إذا كانت هي هذه أو تلك؟ فإنما تصاحبني صورة في قلبي لا تتغير ولا تتبدل. وسواء علي أكانت الصورة ذلك الجسد أو ذاك. أين ريمة امرأتي من تلك الصورة؛ صورة علية أو صورة ابنة السلطان، أو هي صورة علية ابنة السلطان في آن؟ إن ريمة امرأتي لا تدع فرصة إلا انتهزتها لتنكيد عيشي وتسويد أيامي؛ فلا أراها إلا مخالفة معاندة، لا يعرف السلام سبيلا إلى قلبها. ما قلت لها يوما: «هذا شرق»، إلا كان جوابها: «بل هو غرب.» وإذا قلت: «هذا أبيض.» قالت: «بل هذا أسود، أليس لك عينان؟» وقد أقول لها يوما مخادعا: «هذا يوم سعيد إذ أصطبح على وجهك.» وأحسب أني بذلك أداهنها وأسل خبثها، فتأبى إلا أن تجيب: «أما إنه ليوم أغبر منحوس.» وهي تخالفني في كل شيء وفي كل معنى ؛ فأنا رجل نحيف الجسم، وهي مثل فرس البحر كأنها تأكل مع عميان، وأنا خفيض الصوت، وهي إذا نطقت كأن في حلقها بوقا، وأنا أحب الصمت، وهي تتكلم بلسان ذي ثلاث شعب، وأنا أحب النور، وهي تهوى الظلام، فإذا فتحت نافذة أغلقتها، وإذا أوقدت مصباحا أطفأته، وإذا سكت ثرثرت، وإذا تكلمت التوت عني فما تنطق.
وهي فوق هذا كله تتعمد أن تكون الحياة على غير ما أرضى، وتتعمد أن تحب كل ما أكره، وتكره كل ما أحب.
كنت عائدا إلى بيتي بعد صلاة العصر، فمررت بحانوت فاكهاني، ورأيت عنده برتقالا كأن لونه من الذهب، وكأن رائحته عطر المسك، وكانت الواحدة منه مثل الرمانة الكبيرة. فحدثت نفسي أن أشتري منه لأولادي، ومددت يدي إلى جيبي فلم أجد درهما. فسرت في طريقي أحدث نفسي بذلك البرتقال، ولو كان معي دراهم لاشتريت منه بعشرة. ولما بلغت الدار كان همي عظيما؛ إذ دخلت إلى عيالي بغير تلك الفاكهة الحلوة، وأردت أن أخفف من ثقل الهم على نفسي فقلت لامرأتي: لقد رأيت اليوم برتقالا لم أر مثله في حياتي.
فأجابت في فتور: وأين نحن من البرتقال؟
ثم تنهدت.
فقلت: وكنت أحب لو اشتريت منه بعشرة دراهم، لولا أنني لم أجدها في جيبي.
فصاحت في غضب: عشرة دراهم؟ أكنت تريد أن تبدد دراهم عشرة في شراء برتقال؟
فقلت: أما إنه لبرتقال عجيب.
وشرعت أصف لها لونه وريحه وحجمه، ولكنها صاحت بي: لقد عرفت أنك أحمق الرجال.
فغضبت وقلت لها: وما ضرك لو تفكه الأطفال مرة؟
فأخذت تصيح بي وتسبني حتى جاء أبو النور من بيته على صياحها، وأقبلت عليه أقص عليه القصة، وكانت امرأتي تقاطعني وتسفه رأيي. فأراد الرجل الطيب أن يطفئ نيرانها، فقال لي يلومني: الحق مع امرأتك؛ فإن عشرة دراهم لا تبذل في شراء البرتقال لأمثالنا.
ثم أراد إرضائي فقال: أما كان يكفيك أن تشتري بخمسة دراهم؟
فأردت أن أهدئ المرأة فقلت: لا بأس يا صديقي، كانت الخمسة تكفي، ولن أرد لك قولا.
فخجلت ريمة من عنفها، وانتهزت الفرصة لترجع عن عنادها وقالت تخاطب صديقي: قل له يا أبا النور، أما كانت الخمسة تكفي؟
فقال لها أبو النور: صدقت، وقد اتفقنا جميعا.
وهكذا سكنت العاصفة، ولكنها سكنت لكي تهب مرة أخرى أشد عنفا؛ ففي ذلك اليوم جاء وقت العشاء ورأيتها تقلي بيضا، وأنا أحب البيض المقلي إذا كان الزبد جديدا. فقلت في نفسي لعلها تريد أن ترضيني وتستسمحني بعد ما كان منها، وكدت ألوم نفسي على غلظتي في مخالفتها. فلما أعدت السفرة ودعت الأولاد للعشاء نظرت إلي في خبث، ثم مدت يدها إلى علبة فيها بهار وفلفل، وأهوت على طبق البيض حتى طمسته، فصار لونه أغبر كريها.
وهي تعلم كراهتي للأفاويه، فلست أطيق حرقتها ولا أقوى على حرارتها؛ بل إني لا أحب ريحها وأكره النظر إليها، وأعتقد أن الله لم يخلقها لخير أبدا، وأنه لا يبارك في زراعتها ولا في تجارتها، وأن الأرض التي تنبتها لن تصيب إلا الذل، وأن القوافل التي تحملها لا يبارك الله في دابتها.
فلما أردت أن أردها عن خبثها قلت لها: إن هذا البهار يحرق حلوق الأطفال.
وبدأت أزيحه بلقمة عن وجه البيض، فصاحت بي قائلة: قلت لك دعه، فلا طعم لهذا البيض إلا بفضله.
فصحت قائلا: أما تشفقين على هؤلاء الصغار؟
وأشرت إلى الأطفال وكانوا يأكلون ولا يبالون شيئا.
فضحكت ساخرة وقالت في قسوة بالغة: دع الأطفال، فما تشفق إلا على حلقك.
فلم أجد بدا من القيام وأنا أغلي غيظا.
هذه هي ريمة امرأتي التي سودت أيامي؛ فلم يكن لي من حيلة إلا أن أخرج إلى فناء البيت لأبترد في هواء الليل من همي. وكان ضوء القمر يلف الأرض في غلالة رقيقة فيجلو أرجاءها في رفق، لا يقسو عليها ولا يتدسس إلى خفاياها. هناك يستطيع الإنسان أن يهيم في عوالم الآفاق والسموات في النور الخافت، فيرى في شعاعه الضئيل رقص الجان وعربدة العفاريت ومحاورة الأشباح، وزيارة الأرواح؛ إذ تهبط كلها إلى الأرض تحت أضواء القمر، وتعبث وتنساب في الأفق الغامض آمنة من النور الباهر الفاضح. وفي ذلك الليل الساجي رقدت مستلقيا على ظهري ناظرا إلى الفضاء الذي لا نهاية له، فكأنني انمحيت فيه وفنيت، أو كأن الوجود كله قد انمحى وفني في، فلم يبق من الوجود إلا ما بين جنبي، أو لم يبق مني إلا هذا الوجود الصافي.
ورأيت النجوم الصغيرة تومض بشعاعها الضئيل وكأنها ترسل حديثها الصامت من وراء الفضاء في جوف العماء، تحدث بأسرار الكون الأزلي وتخبر عن سير القرون الخوالي حديثا قصيرا لا يزيد على لفظ «كانوا». فإذا ما سألتها عما وراءها وما يحيط بها، وعن حقيقتها وهل بها أحياء مثلي أم فيها ملائكة لا تعرف هموم الإنسان، وإذا سألتها عن الكرسي الأعظم الذي يسعها، لم أجد منها جوابا إلا لمعة تلمعها كأنها تجيب قائلة: «اخسأ.» فلا يسعني إلا أن أقول: «أيها العقل، قف مكانك ولا تقلق هذا الكون السرمدي بثرثرتك.» وطرقت أذني أصوات منبعثة من الساقية الصغيرة التي في فناء داري، فتذكرت ذلك الفناء الذي كان في أيام أبي بستانا يانعا. لشد ما تغير البستان على يدي، فأنا لا أصلح شيئا ولا أصلح لشيء. كانت هذه الساقية تدور كما تدور الآن، وكانت ترفع الماء من قرار البئر فتروي به الشجر والزهر، ولكنها عقمت فهي الآن لا تخرج ماء. أيها الثور الناعس المستسلم امض في دورانك فليس كله عبثا، أليس هذا الصوت الذي يدوي في سكون الليل لحنا يحيي هذا الفضاء الرهيب؟ ماذا يعنيك إذا كانت الساقية ترفع ماء يروي النبات أو لا ترفع من الماء شيئا؟ حسبك من الدوران هذا النعير الذي يتردد في سكون الليل فيكسبه جلالا ويملؤه خشوعا، حسبك هذا الغناء الذي يشبه الترتيل والتسبيح، ولا تكن أيها الثور أحمق مثل هذا الإنسان الذي لا يتحرك إلا لمطمع في الحياة، إنك لن تصيب من الحياة إلا ملء مذودك من التبن أو الحشيش. كان كل شيء هادئ في ذلك الليل يبعث على السلام والسمو، فأحسست وأنا مستلق على أرض الفناء الواسع أن بالحياة أنغاما متناسقة، ونسيت كل ما مر بي من الهم. الحياة حلوة لمن استطاع أن يكشف ما فيها من حلاوة، ولو لم يكن فيها سوى أن تستلقي على ظهرك في ضوء القمر كما فعلت وتتأمل صور الكون الذي حولك أو التي في حنايا صدرك لكان هذا حسبك. هناك يستطيع الإنسان أن يجد السعادة في السلام الشامل.
وذهب خيالي إلى ابنة السلطان - أو هي علية ابنة السلطان. نعم هي علية؛ لأنني لم أعرف اسمها، ولا بأس علي إذا مزجت اسم علية الحبيب بشخصها. وهناك استطعت أن أعيش حينا معها لا تفرق بيني وبينها تلك الفوارق التي تحجبها عني إذا ما طلعت الشمس، هناك لم أشعر بقوة السلطان ولا عظمته، هناك عند السماك التقيت بعلية ابنة علاء الدين بعيدين عن الأرض الضيقة وجهلها وسخفها.
لقد سمع الناس عن حبي وضحكوا مني وسخروا، نعم سمعوا به وسمعوه مني، وهل علي من بأس إذا جهرت بحبها وسمعت أصداء ترديدي لاسمها؟ إن كل ما عندي كريم نبيل صريح، فقلت وتحدثت وسبحت، وسمع الناس قولي وسخروا مني. ولكن ماذا يعنيني منهم إذا هم سخروا وضحكوا، وقد أفضى صديقي أبو النور إلي بما يقولون، وعنفني على مجاهرتي بحبها، وقال إني أعرض نفسي للهلاك إذا أنا تماديت في ذكرها.
يعجب الناس مني، ويقولون إني صعلوك أتطاول على مقام لا ينبغي لي أن أتطاول إليه. حقا إني فقير ولست أدعي الغنى، وضعيف الجاه ولست أدعي القوة، ولكني مع ذلك أدرك ما يفوت عقول هؤلاء. إن الأسرار تتفتح لي وينابيع الآيات تتدفق في صدري، ولست أعبأ بشيء مما يرغب الناس فيه، ولا أرهب مما يرهبون، فما الذي يمنعني أن أتطلع إلى ما أريد؟ وما الذي يلومني الناس فيه من حب علية ابنة علاء الدين؟ أيلومني الناس على أنني أسبح الله في حبها؟ لست أتطلع إلى شيء غير صورتها، ولن يستطيع أحد أن يحجب عني العوالم التي أكشفها من تأمل حبها.
إنني أسمو بذلك الحب كما يسمو العابد في صلاته. وهل الحياة كلها جسد ومادة؟ إن روحي تهيم وتستطيع أن تقضي الأيام والليالي في الأفق الأعلى، تتغذى من ذلك الشجن الطاهر الذي يشملها، وتتصفى من ذلك الهيام الحار الذي يصهرها ... يا علية ابنة علاء الدين!
لن أكف عن التطلع إليك والتسبيح باسمك، والتماس الحياة العليا من محبتك، وإن لم تقع عيني عليك مرة أخرى.
الفصل الثالث
لو استطعت أن أقضي كل حياتي في أحلامي لكنت رجلا سعيدا، ولكن أنى لي ذلك وأنا إنسان لا بد لي من أن أصحو ومن أن أرى وأسمع وأسير؟ أنى لي أن أعتزل في أحلامي وأنا مرتبط بهذه الأرض وبأهلها ممن هم قريبون مني ومن هم بعيدون عني؟ ولو كنت وحيدا معتزلا لهان علي الأمر، ولكني أعيش في الناس ومع الناس ولا سيما إذا كانت لي امرأة مثل ريمة.
لقد سمعت امرأتي بما يقوله الناس عني في حب علية، وكنت أحسب أنها إذا سمعت ذلك أصلحت من شأنها وقومت من اعوجاجها. ولكنها ما كادت تسمع ما يقوله الناس حتى ركب الشيطان كتفيها كأعنف ما ركبها منذ عرفتها، فلم تدع نوعا من أنواع الأذى إلا ألحقته بي، ولا صنفا من صنوف الخبث إلا صبته على رأسي، وأرادت فوق كل هذا أن تذلني فأذاعت هي الأخرى أنها قد عزمت على الزواج من السلطان نفسه.
لكم ضحكت عندما سمعت الناس ينقلون إلي قولها! ريمة تريد أن تتزوج من السلطان! لم يثر قولها في إلا ضحكا.
فلما رأت أن قولها لم يثر غيظي عمدت إلى حيلة خبيثة للانتقام مني، فأثارت ضجة يتحدث بها العاطلون في ماهوش يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر؛ فإنها أذاعت في الجيران أنها قد عزمت على الانتحار. ولو كان أمرها قد أدى إلى غايته لكان ذلك قضاء الله وانتهى إلى نهايته. والزواج من مثل ريمة ما هو إلا سباق على الموت بين الزوجين، فإذا كان ولا بد من الموت فليكن لها إذا شاءت، ولكن ريمة لم تهتد إلى ما يجب عليها أن تفعل، وقنعت بأن صاحت وسبت واصطرعت وتخبطت، ثم خرجت من الدار تجري، ولم أدر ما كان قصدها من وراء هذا كله، فتركتها وقعدت في الدار هادئا، وأحسست أنني استطعت أن أتنفس حرا، وقد هدأ الجو بعد خروجها.
وانصرفت إلى صورة علية ابنة السلطان أناجيها، فلم أشعر بشيء حتى سمعت هيعة عالية وأصوات ولولة تطرق أذاني. فشردت أفكاري وقمت فزعا، فإذا بالحارة قد غصت بمن فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، وما كادوا يرونني حتى علت منهم صيحة عالية: «الحق يا جحا.»
فدهشت لهذه المفاجأة ولم أفهم المقصود من قولهم، وما الذي ألحقه؟ إنني رجل لم أستطع في حياتي أن ألحق شيئا، فكيف لي أن ألحق شيئا لم يقدر كل هؤلاء على أن يلحقوه، ووقفت ثابتا أقلب فيهم بصري.
فصاحوا بي مرة أخرى صيحة أعنف وأكثر حنقا، ففتحت عيني وفمي وأشرت بيدي مستفهما، فعلت منهم صيحة ثالثة فقالوا: «الحق امرأتك!» فانطلق لساني قائلا: «وكيف ألحقها؟»
فاختلطت الأقوال ولم أعرف كيف أجيب. قال قائل: «الحقها عند النهر.» وقالت جماعة: «إنها غرقت.» وصاح آخرون: «قد دقت علينا الأبواب.» وقال شاب خبيث: «أتتزوج عليها؟ أما تخجل؟» فاندفع النساء يصرخن في وجهي: «يا سم! أغرق نفسك وراءها يا قاتل.»
فلم أملك نفسي وشعرت كأنني أجرمت، وعلاني خجل واضطراب، واندفعت بين الجمع فإذا بي أنساق مع تيار جارف من الناس حتى بلغنا جانب النهر، وتفرق الجمع كل في جهة، فبعضهم يجري على الشاطئ، وبعضهم يخلع نعليه فيخوض في الماء، وصاحت امرأة: «غوصوا في الماء، فإنها تحته بلا شك.» وصاحت أخرى: «بل لقد حملها التيار معه، فانحدروا أسفل النهر.»
وصاحت ثالثة سليطة اللسان: «ما لك واقفا يا جحا كالحجر؟ انزل إلى الماء وابحث عنها.»
ولكني كنت أعلم الناس بامرأتي ريمة؛ فإن الناس إذا أرادوا الغرق قذفوا بأنفسهم في الماء، وأما هي فلم يكن عندي شك في أنها تفعل غير ذلك. والناس إذا غرقوا نزلوا إلى القاع ولكنها لا يمكن أن تغوص، والتيار يحمل الغرقى معه إلى أسفل النهر، ولكنها إذا غرقت لم تنس العناد، فلا شك في أنها تجعل التيار يحملها مكرها إلى أعلى النهر. هذا ما أعرفه في امرأتي؛ ولذلك لم أبال شيئا مما قاله الناس، ونزعت نفسي من بينهم، وأخذت أعدو نحو أعلى النهر. فلحق بي شبان منهم يريدون أن يردوني إلى ناحية أسفل المجرى ظنا منهم أنني أخطأت في اتجاهي، وظن بعضهم أنني قصدت الهروب، فصحت فيهم وقد غضبت: دعوني أيها الحمقى، فأنا أعرف منكم بامرأتي، إنها إذا أرادت الغرق فلن تتجه إلا نحو منبع النهر.
وكان الموقف لا يحتمل ضحكا ولا فكاهة، ولكني سمعت من الشبان ضحكا كأنني كنت أمازحهم، فزاد غضبي، ونزعت نفسي من بينهم وجريت نحو أعلى النهر، وتركتهم في شغل من ضحكهم يعيدون كلماتي ويتفكهون بها.
ولما وجدت نفسي وحيدا سرت على مهل وتنفست مرتاحا، وجعلت أقلب وجهي في شطآن النهر، وكانت الأعشاب تغطيها غضة خضراء، والزهر يوشيها والطير يزقزق فوق أغصان الصفصاف والسرو. وكان جمال المنظر يبعثني على إطالة السير، ولم يخجل قلبي من خطرات خطرت عليه من ذكر الحبيبة ابنة علاء الدين. وفيما كنت سائرا أجيل بصري في هذا الحسن الباهر لاح لي سواد تحت شجرة على نحو مائة ذراع مني. فظننت ذلك إنسانا وقصدت إليه لعلي أرى جثة ريمة امرأتي صاعدة في النهر، وما كان أشد عجبي عندما بلغت الشجرة؛ إذ وجدت أن ذلك السواد هو امرأتي ريمة نفسها، وكانت جالسة على الشاطئ تدلي رجليها في الماء وتحك قدما على أخرى، وفي يدها قطعة من قثاء تأكلها، فلم أتمالك أن صحت بها حانقا: لقد صدق ظني!
فالتفتت إلي وكان وجهها يشع شماتة وخبثا وصاحت: أي ظن هذا الذي صدق؟
فقلت غاضبا: كل الخلق يغرقون في الماء وأنت تغرقين فوق الشط، وكل الغرقى يحملهم التيار إلى أسفل النهر، وأما أنت فإنك تصعدين إلى أعلاه.
فقامت واثبة واستعدت لهجمة من هجماتها، ولكني كنت ثائرا والشرر يتطاير من عيني، فصحت بها: هلمي!
فلم تجرؤ على مهاجمتي، وسارت ورائي في انكسار حتى عدنا إلى القوم، وكانوا لا يزالون يبحثون عنها في الماء متجهين إلى أسفل النهر خطوة خطوة، فلما رأونا مقبلين سارعوا إلينا، واختلطت أسئلتهم حتى لم أسمع منها سؤالا، فقطعت عليهم سبيل الفضول، وقلت لهم في حزم: لقد كنت أعلم منكم بامرأتي.
فسكتوا ونظروا في شيء من الغيظ إلى ريمة، كأنها قد خيبت أملهم في غرقها، وسرنا في موكب متهامس حتى بلغنا ماهوش، وعدت بامرأتي إلى داري.
هذه هي امرأتي التي لا تخجل من أن تضع نفسها إلى جانب صورة ابنة السلطان؛ صورة الملك الكريم الذي أسبح معه في أعلى الملكوت مترنما بالترتيل والتسبيح. هذه هي امرأتي التي لا ترضى أن يمر بي يوم بغير أن تدخل علي حزنا جديدا. هذه هي امرأتي التي لو شئت أن أثبت على القرطاس ما أعانيه من سوء عشرتها لضاقت بي الصحف، وتكسرت الأقلام وجف المداد.
وليتها إذ تنغص علي عيشي بخلافها وسوء عشرتها تعرف شيئا من معنى الكرامة أو الصدق. لقد عرفت من النساء من يشبهنها في حمقها وشراستها، ولكني عرفتهن يندفعن مع ما فطرهن الله عليه من حدة الطبع والسلاطة، وعرفت اندفاعهن صريحا بسيطا لا التواء فيه، فلهن العذر فيما لا حيلة لهن في خلافه. ولكن ريمة امرأة تستطيع أن تضحك وأن تمرح، وهي ذات حظوة عند لكيعات أهل الحي، فإذا اجتمعت بهن أو اجتمعن بها شغلن الملائكة في إحصاء حماقاتهن، وأحفين أقلامهم في كتابة أوزارهن، وهي إذ تريد أن تملأ قلبي غيظا تدبر لغيظها تدبيرا، وتمكر وتحتال وتحكم مكائدها في براعة توحي إليها بها شياطينها.
وهي في كل مكرها تتعمد أن تذلني وأن تجعلني للناس سخرية، وتعين أشياعها من الشياطين على أن يهزءوا بي من وراء ظهري.
هذه هي ريمة امرأتي التي حكم القضاء علي أن أقيم معها تحت سقف واحد، وأن تكون لي منها ذرية تشاركنا ما نحن فيه من شقاء.
فكيف أستطيع الحياة على مثل هذا؟ لمن شرع الله الطلاق إذا لم يكن قد شرعه لمثلي ومثلها؟
أيها الناس، من كان منكم زوجا لمثل امرأتي ريمة فليطلق، لقد عزمت على الطلاق ولن أعيش مع ريمة بعد هذا أبدا.
ولكن أواه من قلبي؛ إن لي ولدين من ريمة، وما ينبغي لي أن أشقيهما بشقائي. عفوك يا عجيب ولدي، وعفوك يا جميلة ابنتي.
الفصل الرابع
كلما تذكرت ولدي كاد قلبي يتقطع رحمة لهما ورقة، ولن أقطع بيني وبين ريمة من أجلهما. إنهما بهجة عيشي لا بهجة لي غيرها سوى ذلك الخيال الذي يملأ قلبي من علية ابنة علاء الدين. فلأجعل هؤلاء عزائي، ولأتحمل ما استطعت تنكيد امرأتي وسوء عشرتها. أي جميلة ابنتي! إنك قطعة من كبدي، وحسبي أن أقول قطعة من كبدي. وأنت يا عجيب ولدي، إنك الحبيب الخبيث معا، وإن خبثك ليحلو لي وإن كنت في بعض الأحايين أضيق به ذرعا. وولدي عجيب من تلاميذ هذا العصر الحديث الذين يعتقدون أنهم ناشئة جيل جديد قد تقدم وأصاب غير ما أصابت أجيال آبائه من الذكاء والعلم، وهو مثل أبناء جيله يسيء الظن بجيل الآباء بقدر إحسانه الظن بنفسه. ولا عجب في ذلك؛ فإنه أمر تقضي به سنة الكون منذ خلق الله جيلا بعد جيل؛ فكل جيل يبدأ في تحصيل المعرفة، فيظن أنه قد أوجد تلك المعارف أول مرة، وكل منها يذوق أول طعم تجارب الحياة فيكون كل شيء عنده جديدا، فيحسب أنه قد كشف شيئا لا عهد لأحد به من قبله، فلم لا يكون ابني كذلك؟ لست ألومه على ذلك الوهم؛ فهو أمر طبيعي سبقته إليه ألوف من الأجيال، وكلما رأيته منتفخا بأوهامه تبسمت وتذكرت أحوالي إذ كنت في مثل سنه، وأرد له دين الرحمة الذي كان لأبي في عنقي. هكذا نحن نسدد ديون الآباء للأبناء.
ولو كان عجيب ابني يقنع بسوء الظن بجيل أبيه لوافقته واستحسنت صنعه؛ فقد عاشرت هذا الجيل وعرفته معرفة لم تتح لابني. وكلما مرت الأيام بي زدت يقينا أن هذا الجيل خلقة شاذة من السخف والجهل. ولست أبرئ نفسي؛ فأنا كذلك خلقة شاذة من هذا الجيل، فأنا شاذ في جيل شاذ، ولكن المصيبة الكبرى أن ابني يحسن الظن بنفسه وبأبناء جيله، مع أني لا أرى إلا زيادة متصلة في التخليط والخبط.
وقد ولع ابني بما يسميه الأدب، واستهتر به استهتارا عظيما، حتى بلغ به الأمر أن صرف همه إليه، ولم يبال ما يكون حاله في مستقبل أيامه. حقا إنني لم أصنع في حياتي ما أحمده، وقد تركت نفسي أتخبط مع الأيام فلم أحسن عملا ولم أستطع شيئا، وشهدت على نفسي بأنني لا أصلح في صنعة، ولكني مع ذلك لا أريد لولدي ما جربت أثره في حياتي. على أن ولدي قد فهم من الأدب القشور وغاب عنه اللباب. رأيته يوما يشتري معجما، ثم رأيته يقبل عليه كلما وجد فراغا، فيحفظ من ألفاظه كل ما شذ واستعجم، وتعود بعد ذلك أن يستعمل تلك الألفاظ في كتابته وحديثه، وولع بعبارات يجمعها في قراءته من كل ما هب ودب من كتب هؤلاء المساكين المخدوعين الذين يحسبون أن الأدب لا يزيد على طمس المعاني وإلقاء الألفاظ سحبا سوداء عليها تجعلها غامضة مبهمة، فإذا قرأ القارئ مثل هذه الكتب لم يدرك منها معنى، فلا يسعه إلا أن يتهم نفسه ويسيء الظن بفهمه، ويدفعه اليأس إلى أن يقول مع القائلين إن هؤلاء الكتاب من نوابغ الأدب. ولقد طالما صدع عجيب رأسي بما يقذفه عليه من عبارات هؤلاء البائسين؛ فهو يتغنى بالضوء الذي يداعب أعطاف السماء، وبالنشوة التي تتمشى في الظلال الناعمة، وبالسحر الذي يتموج فوق مجالي النبضات اللانهائية. وقد كنت ليلة جالسا وحدي في حديقة داري أتمتع بضوء القمر الزاهي، فسمعت ولدي يتغنى بأبيات مما يسمونه الشعر، وكان لا بد لي أن أسمع غناءه وإنشاده؛ فقد كان الليل ساجيا ليس فيه ضجيج أحتمي فيه من السماع، وما أزال إلى اليوم أقشعر كلما مرت أصداء تلك الأغنية بخاطري، كانت شيئا لا معنى فيه ولا وزن له، ووالله لو كان ذلك شعرا لاستطاعت كل عنز في حقول ماهوش أن تكون شاعرة.
كان عجيب يتغنى بشيء مثل هذا:
الشجر والطير والسحاب
والنور والحب والضباب
فشعرت بدوار في رأسي وغصة في حلقي وصحت به: «اخرس.»
ولكن الخبيث أقبل نحوي في حماسة شديدة، وجعل يرجمني رجما متصلا بإنشاده حتى أوشكت أن يغمى علي، ولم أستطع أن أصرفه عني إلا عندما قلت له: هذا مدهش، فاذهب إلى أمك لتدخل به السرور على قلبها.
وقد عرف عجيب ابني بالنبوغ في الأدب بين لداته، وتمكن منه الوهم فاعتقد أن الله قد وهب له من فضله ما لم يهبه لسواه. وجعل يسألني عن أسماء شياطين الشعراء ليختار له واحدا من بينهم ظريف الاسم كريم السابقة.
وكثيرا ما أفضى إلي بأمله في أن يكون كبير الأدباء في جيله، فتأخذني الشفقة عليه فأهز رأسي صامتا. فليمض كما شاء الله له، ولا حيلة لي في صرفه عن وهمه، والزمن وحده كفيل بحل مشكلات الحياة. إن تيار الحياة يحمل الإنسان في سبيله كما يريد هو لا كما يريد الإنسان، ولا عجب إذا كان ابني يصبح كبير الأدباء في عصره؛ فإني رأيت العصر يصير من فساد إلى فساد، ولعل هذا الأدب الممسوخ يكون في عصره آية الإبداع في أنظار أهله، والعبرة بأبناء ذلك الزمان لا بنا نحن. ومع ذلك فإني لم أتمالك نفسي يوما أن أخوض مع ولدي في مناقشة صاخبة عندما سمعته يتحدث عن الأدب في حماسة حمقاء، فقلت له ناصحا: ماذا تريد من ذلك الذي تسميه الأدب؟ حقا إن اسمه محبب إليكم معاشر الأبناء؛ لأنكم تسمعون منا أن الأدب محمود، ولكن الأدب الذي تتحدث عنه شيء آخر. فقال لي متبرما: أتظنني لا أعرف معنى الأدب؟ لقد حفظت تعريفه على شيخي، وأنا أعرف عن عظماء الأدباء أكثر مما تظن. فضحكت وقلت: عظماء؟ يا خبر!
فقال وقد نفخ صدره: بلا شك، إنهم عظماء وخالدون، وسأكون أحد الخالدين.
فقلت: إذن مت جوعا.
وما كان أشد عجبي إذ سمعته يقول: فليكن! وماذا علي لو مت جوعا إذا كنت من الخالدين بعد موتي؟ إنها ضريبة العظمة، إنها ثمن الخلود.
فنظرت إليه وهززت رأسي أسفا؛ إذ إنني أبوه الذي جاء به إلى الحياة.
ولست أدري من ذا الذي يلقي مثل تلك الأوهام في عقول هؤلاء المساكين؟ أم لعلها تنبت في الرءوس بغير أن يلقي أحد بذورها كما تنبت الحشائش على جانبي نهر ماهوش.
ولو كان أمر عجيب ولدي لا يزيد على هذا الهراء لهان الأمر عندي، ولكنه كاد يؤدي به يوما إلى الهلاك - حماك الله يا ولدي.
كنت يوما جالسا في الحديقة عند الساقية، فمر بي عجيب وكان يقرأ في معجمه، فلما اقترب مني نظر إلي باسما في خبث، وكان ظريفا فلم يعرج علي ولم ينشد لي شيئا من تأليفه ولا من محفوظه. فلما بعد عني لم تبعد صورته عن ذهني، وجعلت أفكر في حاضره وفي مستقبله، وأسأل الله له الهداية. ثم جاء صديقي أبو النور فجلس إلى جانبي وأخذنا نتحدث، فشاركني فيما كنت فيه من التفكير في أمر ولدي، ولما رآني لا أرضى له صناعة الأدب سألني في سذاجة: وهل اخترت له صناعة أخرى تكون أجدى عليه؟
فاندفعت قائلا في حماسة: ماذا تقول يا رجل؟ لقد حسبتك أعلم بالحياة من ذلك! إن كل صناعة أخرى وكل تجارة غير هذه المهنة أجدى على أي شاب يريد أن يحيا، فليكن طبيبا إذا شاء أو حجاما أو منجما، فلن يزاحمه في صناعته إلا من كان له شيء من العلم بصناعته. فالناس يفتحون أعينهم ويسألون عن الطبيب قبل أن يسلموا إليه أبدانهم للعلاج، ويسألون عن الحجام قبل أن يأذنوا له بأن يسيل الدم من عروقهم، ويسألون عن المنجم قبل أن يعطوه أجره على تضليلهم، أو فليكن فقيها فإنها تجارة رابحة ولن يزاحمه فيها إلا من كابد مشقة الحفظ وأعمى عينيه من طول القراءة، أو فليكن خبازا فالناس لا يتدسسون بين الخبازين إذا لم يكونوا قادرين على صناعة الرغيف. فليكن أي شيء من هذا أو غير هذا؛ لأنه عند ذلك يصير صاحب حرفة محدودة معروفة، لها قيود وفيها أسرار تمنعها عن الدخيل وتحميها من الدعي، ولكن لا يبلغن به السفه أن يدخل برجليه إلى تلك الرملة الخوانة التي يسمونها صناعة الأدب.
وقد نسيت في حماستي أنني أخاطب صديقي، وحسبت أنني أتحدث إلى نفسي لا يسمعني أحد غيري، ولكني شعرت فجأة بهزة في ساعدي، فتنبهت فإذا أبو النور يقول لي: أقول لك أما تسمع؟
فسكت وتلفت حولي، فطرقت أذني صرخة مكتومة كأنها خارجة من بطن الأرض، فقمت مع صاحبي نركض باحثين عن مبعث الصوت في أنحاء الحديقة فلم نجد شيئا، واتهمنا أسماعنا وعدنا إلى الساقية نلقف أنفاسنا، وهممت أن أسأل صديقي عن رأيه في الأشباح التي ترفع أصواتها في الليل، هل يمكن أن تصرخ في وضح النهار؟ وإذا بالصراخ المكتوم ينبعث مرة أخرى كأنه يصعد من تحت أقدامنا، فنظرت إلى صديقي مدهوشا وهمست: بسم الله الرحمن الرحيم.
ولكني رأيته يذهب إلى شفة البئر التي تحت الساقية وينظر من فوهتها، فسرت وراءه وأطللت برأسي، فماذا رأيت؟ كان هناك رأس ولدي عجيب فوق سطح الماء، وهو يحاول أن يسند نفسه على الجدار الأملس ويضطرب برجليه في الماء، وسمعته يصيح: الوهس! الوهس! الوحي الوحي، الجدار المتملس يحاور كفي، وسراب الماء يداعب أنفاسي، والهلاك المشمخر يراود أجلي.
وكان يريد الاستمرار فخشيت عليه وصحت به: اخرس، ماذا الوهس وماذا الوحي؟ وما ذلك الذي يداعب ويراود ويحاور؟
فرفع رأسه نحوي وقال متحديا: لقد رأيت الوهس قبل سقوطي في البئر، ومعناه الجري السريع. وأما الوحي فمعناه العجل. وأما الجدار المتملس الذي يداعب يدي فهي عبارة رائعة نقلتها عن الأديب الكبير ...
وأراد المضي في قوله، فصحت به مرة ثانية: دع هذا وقل لي، أين الحبل؟ أين الحبل الذي كان هنا على بكرة البئر؟
فقال في انكسار: هو الذي انقطع بي وأهواني في ثبج ال...
فقاطعته قائلا: قلت لك اخرس.
ثم نظرت حولي فلم أجد شيئا أنقذه به، حتى وقعت عيني على عمامة صاحبي فنزعتها عن رأسه ثم نزعت عمامتي وأخذت ما حولهما من اللفائف، وساعدني صاحبي على برمها حتى صارت كالحبل شدة، ثم دليناها إلى الولد فأمسك بطرفها وتعاونا على رفعه حتى أخرجناه وهو مثل القط الغارق.
وأخذ صديقي لفافته وهو صامت فعصرها ونشرها، وأما أنا فسرت عاري الرأس مع ولدي حتى بلغنا البيت ودفعته إلى أمه قائلا: أصلحي أمره، واعتني به حتى لا يفجع الجيل الجديد في كبير أدبائه.
فنظر إلي الخبيث وهو يرتعد من البرد وكاد يرد علي جوابا لولا أن اصطكاك أسنانه لم يساعده على الكلام.
ورجعت إلى صديقي فوجدته لا يزال يهز أطراف لفافته ليجففها، فداخلني إشفاق عظيم عليه وقلت في حرارة: أشكرك يا صديقي، فلولاك لهلك ولدي.
فقال أبو النور: لم ألاحظ شبهه بك إلا اليوم.
فلم أدر ماذا حدث بي عند ذلك، ولكني شعرت بالضحك يغلبني، وكان ضحكا متصلا معديا بغير شك؛ فما مضت لحظة حتى كان أبو النور يضحك معي وهو يهز أطراف لفافته بيديه.
الفصل الخامس
كنت أسير في طريق ماهوش - وما أعجب طرق ماهوش! ففيها النقيضان؛ الجمال والقبح، والغنى والفقر، والنظافة والوسخ، والفن والفوضى. ورأيت فيما رأيت كلبا مسكينا نستطيع أن نعد أضلاعه البارزة من تحت جلده، وكان كل شيء فيه يستدر الرحمة، وكان كلما اقترب منه إنسان انحرف عنه مسرعا يتمايل من الضعف، وقد وضع ذيله بين فخذيه؛ فقد تعود النفور من أشباح البشر. وكان في ركن الطريق كوم من الزبالة اعتاد الناس أن يرموا عنده فضلات منازلهم، فاتجه الكلب نحوه يطلب منه رزقا. مسكين أيها الكلب؛ فإنك لا تجد في ماهوش ملجأ آخر غير ذلك الكوم. فلما بلغ ركن الطريق رأيته فزع وتردد؛ فقد رأى عنده شبح إنسان، ولكنه لم يلبث أن هز ذيله وتجرأ على الاقتراب منه؛ إذ لم يكن ذلك الشبح سوى فتاة مسكينة مثله. فتحول نظري إلى الفتاة، وكان وجهها أسود مما علاه من القذر، ويداها كأنهما عودان من حطب، ووجهها النحيل كأنه جمجمة في مقبرة.
ونظر الكلب إليها كأنه يحييها تحية الصباح قائلا: «يا زميلتي.» فلم تخيب المسكينة رجاءه ورمت إليه بعظمة؛ نعم فلم تكن العظمة نافعة لها.
ووقف الكلب يأكل عظمته، على حين كانت الفتاة تقلب في الكوم باحثة عن قشرة فاكهة أو قطعة خبز أو خرقة من ثوب بال. ولم أستطع أن أطيل النظر إليهما، فانصرفت وقلبي يدمى، ولكني لم ألبث أن وجدت قلبي يحملني إليهما، حتى إذا ما بلغت الفتاة ألقيت إليها بدرهم كان معي، ولم أجد عندي عظمة أخرى أرميها لصاحبها. أواه! أهكذا تنطوين على القسوة يا ماهوش؟ ولما انصرفت عن الفتاة رآني رجل يجلس في حانوت فاكهاني قريب، فقال لي: ألا تعطيني درهما يا جحا؟
وكنت حزينا فلم أجبه. فأعاد قائلا: أتؤثر النصرانية؟ إنها نصرانية تلك التي رميت إليها الدرهم.
فلم أجبه إلا بنظرة أسف، ومضيت في طريقي أفكر في هذه النصرانية المسكينة. ولو ملكت أكثر من ذلك الدرهم لعدت فرميته إليها. إن الله يطل على الكون بعين الرحمة، لا يفرق بين الناس والحيوان؛ فلكل حي في هذا الوجود مكان في رحمته. وإذا نحن وقفنا بين يديه يوم الحساب لم يكن لنا أمل إلا في رحمته؛ وما أجدرنا - نحن البشر - أن نرحم، لعلنا نكون أهلا للدخول في رحاب الله. أي بلدتي الحبيبة ماهوش، ألا تحبين أن تكوني أهلا لرحاب الرحمن؟
لقد عشت ما عشت في وطني أحب هواءه وشمسه وقمره، وأتمتع بماء نهره وخضرة حقوله وغناء طيره، ولكني مع ذلك لم أستطع أن أعيش بين أهله. ويخيل إلي أحيانا أنني قد أتيت إلى هذا العالم لكي أكون عبرة لغيري. لست أصلح لشيء غير أن أعيش في خيالي هائما في عالمي، لا أبصر شيئا مما حولي، ولا أعرف لي سبيلا في هذه الأرض التي لا أرى فيها إلا صورا وأشباحا. كاد يخيل إلي أن عالم الوهم هو الحقيقة، وأن هذا العالم الذي ألمسه وأراه وأسمعه وأشمه وأذوقه ليس سوى خيال.
تصدمني الحياة كل يوم صدمة تذهلني، فأعود إلى عالمي الخيالي وأقنع بما فيه مكرها؛ لأنه هو العالم الذي أستطيع أن أعيش فيه، فإذا ما حاولت أن أقترب من زحمة الناس تبين لي عجزي ونقصي.
ولو كنت لا أحمل إلا همومي لهان الأمر عندي؛ لأنني ألقى قضاء الله راضيا. هكذا أنا، وهذا قضائي، ولا أملك إلا أن أرضى بحظي. لا أستطيع أن أكابر في نصيبي؛ فأنا لا أستحق إلا هذا النصيب عند العادل المهيمن على الكون.
لو كنت لا أعاني إلا ما يجره عليه طبعي لهان الأمر عندي، ولكني كلما تلفت إلى ما مضى وما حضر من أيامي لم أجد إلا أحمالا حملتها لم يكن لي وزر فيها. كانت كلها أحمالا ألقيت على كاهلي إلقاء؛ لأنني لم أقو على ردها عن عاتقي.
وقد شبهت نفسي بصديقي العزيز «البطل الصامت» الذي يسميه الناس «حماري»؛ فهو يقضي كل حياته يحمل أحمالا ليس له في حملها مصلحة، ويقطع عمره في جهد قاطع متصل لا يصيب منه لنفسه خيرا.
لقد تعود الناس أن يسب بعضهم بعضا بوصف الحمار؛ ولهذا فلست أرضى أن أشارك الناس في سوء الأدب، فلا أسمي ذلك الحمار إلا «البطل الصامت»؛ فهذا ما يقتضيه العدل مني. والناس يعجبون مني إذا سميته كذلك ويضحكون ويسخرون ويحسبون أنني أريد أن أسوق إليهم فكاهة. يا للغباء! ولكن ما ضرني إذا هم ضحكوا وسخروا؟ فلعل هذا يدخل إلى قلوبهم شيئا من السعادة البلهاء.
إن صديقي البطل الصامت أكرم عندي من كثير من هؤلاء الذين يحملونه أحمالهم ولا يتورعون عن إلحاق الأذى به ضربا ووخزا وشتما؛ وهو مع ذلك يبذل جهده صامتا صابرا قويا، حتى إذا ما تهدم وخارت قواه برك على الأرض، وتجلد على الضرب القاسي. وهؤلاء الجيران لا يزالون كل يوم يقصدونني لكي يستعيروا مني صديقي ليحمل لهم أحمالهم، فأخجل أن أردهم، فأذهب إليه أسأله عن رأيه، فإذا بهم يضحكون مني ويحسبون أنني أمازحهم، فإذا ما رأيته صامتا لا يجيب أذنت لهم به نائبا عنه؛ فإني أعرفه صديقا كريما. ولست أظن أنني خير منه حالا؛ فإن جيراني يأتون إلي في كل يوم يسألونني أنا أن أحمل لهم أحمالهم، فلا فرق بيني وبين البطل الصامت، إلا أنني أحمل أشياء من صنف آخر غير ما يحمل. ولا أذكر يوما أن جاءني واحد منهم ليؤدي ما عليه من دين، أو ليتطوع بإحسان أو مواساة. ووالله لو تطوعوا بالإحسان إلي لما رضيت منهم إحسانا؛ فإن نفسي تأنف أن تكون يدي السفلى.
ولكني أصف الحال كما هي، وأفضي إلى هذه الكراسة بما في نفسي.
قد يكون لي على بعضهم دين فأحتاج إليه وأسعى في طلب الوفاء، حتى لا أكلف المدين مشقة السير إلى داري، فإذا عثرت عليه يوما أزاغ بصره عني كأنه لم يرني.
كانت لي عند الشيخ عماد الدين أمانة من مالي أقرضته إياها في أيام محنته، فلما عادت إليه الدنيا قلت في نفسي إن هذه فرصة لي وأنا أقاسي مر الحياة وضيقها. فلما ذهبت إليه عثرت عليه في حلقة من الناس يلقي عليهم درسا. فما وقعت عينه علي حتى أخذ يهز لحيته في عنف ويبربر كما يبربر الأسد.
ومضت ساعة حتى فرغ الشيخ من درسه، ولكن بقي حيث كان حتى أتت طائفة أخرى فتحلقت حوله. وكان الشيخ ممن يعتقد الناس فيه، فكانوا يذهبون إليه طلبا للبركة وإن لم يأخذوا علما.
فلما طال بي الانتظار ضقت ذرعا وثارت نفسي، وكنت أسمع حديثه على مضض ولا أفهم منه حرفا؛ فقد كان الرجل يلقي هراء.
ورأيت بقائي عنده سفها؛ فإن ساعة أقضيها في ضوء الشمس أجدى علي وأشرح لصدري. وثار غضبي فصحت قائلا: يا سيدي الشيخ.
فنظر إلي مغضبا كأنه لا يعرفني. فزاد غضبي وثار الدم في رأسي، فقلت له: أما تعرفني؟ أما رأيت من قبل وجهي ولحيتي؟
فهز الشيخ ذقنه ولمعت عيناه لمعة مخيفة، ثم نظر إلي نظرة قصيرة وعاد إلى الحلقة يريد أن يمضي في درسه.
فغاظني ذلك وصحت به: لا بأس على هؤلاء إذا غبت عنهم ساعة يا سيدي، فتعال معي إلى الدار لترد إلي أمانتي، ولا ضير على تلاميذك أن يهز أحدهم لحيته في مكانك حتى تعود إليهم.
ولست أدري كيف أغضب الحق هؤلاء، وقد كنت أحسبهم يشكرون صنيعي، فقاموا جميعا في وجهي يشتمونني ويسفهون رأيي.
فلم أجد بدا من الخروج، ونظر الشيخ إلي شامتا، وانصرفت وتركته يهز لحيته هزا عنيفا.
وما كدت أعود إلى منزلي حتى سمعت طارقا على الباب، فقلت في نفسي: «من يكون هذا؟» وما فتحت المصراع حتى رأيت جاري جمال الدين يطل برأسه باسما؛ وقد كان آخر عهدي به يوم جاء يطلب مني البطل الصامت ليحمل له بعض التبن، فأذنت له به، ثم اتفق أن مررت بداره عند غروب الشمس فرأيت منظرا يذيب القلب حسرة؛ إذا كان من طبعه أن يذوب. رأيت البطل الصامت المسكين واقفا عند باب البيت وعليه حمل من التبن يبلغ علوه قامتين، وقد تربعت فوقه امرأته، وكان رأسها يبلغ نافذة الدور الأعلى من الدار. وكان الشيخ واقفا من وراء البطل الصامت يدفعه ويضربه ليدخله في الباب قسرا، وكان يصيح به وهو يضربه: حا حا! يا حمار الكلب. حا حا! لعنك الله ولعن صاحبك.
وكان البطل الصامت يحاول جهده أن يدخل من الباب، ولكن حمل التبن كان لا يريد أن يدخل، وكانت المرأة في أعلاه تصيح من فوق قائلة: اثن رجليه حتى يبرك فيقدر على الدخول.
فلما وقع نظري على صاحبي المسكين في تلك الحال غضبت وجريت لنجدته. ولكن جاري لم يرض عني إذ تدخلت في أمره، ثم غضب فأمر امرأته أن تنزل، وألقى الحمل عن البطل الصامت وهو يبرطم، ثم دفعه إلي في غضب.
عادت إلي تلك الصورة عندما رأيت رأس جاري يطل باسما من وراء مصراع الباب.
ولم ينتظر حتى آذن له في الدخول، فحيا ودخل وسار أمامي متجها إلى المنظرة، فلم أجد بدا من السير وراءه، ولم أملك نفسي أن نطقت بكلمات الترحيب والتأهيل.
ولما استقر به المجلس جعل يحدثني عن أحزانه وآلامه، وما نكبه الزمان به، حتى نسيت كل أحزاني وآلامي وامتلأ قلبي له رقة ورحمة. ثم قص علي قصة بقرته وقد ولدت منذ ليلة، وكان ابنها عجلا مشوها له صورة القرد وذيل الخنزير وحوافر البغل؛ فأحسست ألما ممضا من الحزن لهذا العجل المسكين، حتى اسودت الدنيا في عيني. ثم تنبهت إلى أن الذي يحدثني إنما هو جاري جمال الدين الذي رأيته يضرب صاحبي البطل الصامت ويشتمه ويسميه حمارا؛ فداخلني الجحود وقلت لنفسي: «وما لي أنا إذا كانت عجول الناس شائهة الخلقة؟ إن هذا لا ينبغي له أن يهمني.»
وقواني ذلك الخاطر، فقلت لجاري في جمود: ليس هذا من شأني، وإن كان لك أن تحزن عليه وتضيق به.
فدهش الحاج جمال الدين وخجل، ولكني بقيت على جمودي وقلت له: أتريد مني شيئا يا سيدي؟ فإنني في حاجة إلى الراحة.
فقال الحاج واتسعت بسمته: ألا تساعدني أيها الجار العزيز؟
فقلت فاترا: إذا كان ذلك في طاقتي.
فقال ولا يزال باسما: لا شك في أنك تستطيع يا سيدي.
ثم طلب إلي أن أعيره «حماري».
هكذا قال، وسمى صاحبي البطل الصامت «حمارا» أمام عيني.
فقلت وقد علا الدم في رأسي: سآخذ رأي «البطل الصامت» أولا.
فقال ضاحكا: «البطل الصامت؟!»
فقلت: نعم، هو «البطل الصامت»، وأحب منك إذا عدت إلى ذكره مرة أخرى ألا تسبه فتدعوه «حمارا».
فتبسم الرجل ولمعت عينه خبثا، ثم قال: سأفعل يا سيدي، وإذا شئت فقم إليه فخذ رأيه.
فلم أبال خبثه، وقمت إلى المذود فمسحت رأس البطل الصامت وظهره، فرفع رأسه إلي وجعل يتشممني، فملت عليه وسألته بصوت مسموع: أتحب أن تخدم هذا الجار الذي عرفته؟
ولست أدري ماذا فهم البطل الصامت من قولي، ولكنه نظر إلى الحاج جمال الدين وأخذ ينهق نهيقا عاليا.
فقلت لجاري: إنه لا يرضى.
فقال الجار وقد لمعت عيناه بخبث أشد: ألا تسأله عن السبب؟
فملت على البطل الصامت فهمست له همسة، ثم رفعت رأسي.
فقال الحاج: بماذا أجابك؟ أراك تفهم لغته.
فلم أبال سخريته وقلت له: لقد قال لي إنه سمع في صباه حكمة من شيخ في قومه.
فضحك الرجل ضحكة مبتذلة، ولكني لم ألتفت إليه وقلت في غير تردد: خير لك أن تأخذ الحكمة حيث تجدها. «حمار ما هو لك ظهره شديد.»
فنظر الرجل إلي نظرة تنفث سما، ثم قام سريعا وأدار ظهره وخرج من الدار بغير أن يقرئني سلاما.
ألا ليتني أستطيع ألا أحمل سوى هموم نفسي.
ألا ليتني أقدر ألا أسعى إلا لخيري، ولا أنظر إلا في مصلحتي وتدبير أمري.
الفصل السادس
لا أجد في ماهوش كلها من له قلب يحمل المودة الصافية سوى صديقي أبي النور. هو كالماء الصافي البارد إذا اشتد الحر، وكالنسيم البليل يمسح الجبين المحموم في تواضع، وهو كالنور يهدي ولا يصدم. هو روح وذكاء وخير ومواساة، وهو يعطي من نفسه ولا يبدي ما ينم عن أنه يعطي. عيناه الغائرتان تملؤهما الرحمة، وصوته الخافت ينبض بالإخلاص، حتى لحيته الخفيفة تبعث الثقة وتوحي بالصدق.
كنا جالسين نتحدث في حديقة الدار - حديقتي الجرداء - ومر بنا الوقت سريعا كما تمر ساعات الأنس. ثم لاح رجل يخطو فوق السور داخلا. واتجه الرجل إلى باب الدار، وكنا نجلس في ستر بعض جذوع الشجر على مقربة من الساقية. فقال أبو النور: قم إليه لعله رجل جاء يدعوك إلى وليمة، أو لعله جاء إليك بهدية أو يرد إليك دينا.
فقلت له: أما إنك لم تعرف الناس يا صديقي. لو كان كذلك لما تخطى السور صامتا، ولصاح معلنا حتى يعرف أهل الحارة فيم أتى.
وقمت مسرعا إلى نخلة قريبة فاختفيت وراء جذعها، وقلت لصاحبي: قم أنت إليه وقل له إنني لست هنا.
فقام أبو النور يسعى إليه، وكان ضعيف البصر، فما رآه حتى كاد يصطدم به، ثم قال له في تردد: جحا يقول لك إنه ليس هنا.
فصاح الرجل به: أما تستحي أن تكذب؟
فغضب أبو النور وقال: لست أكذب، فقد قال لي هذا.
فقال له الرجل: بل تكذب، فهو هنا.
ولم أطق أن أسمع هذه المحاورة السمجة، وأطللت برأسي من وراء الجذع، فصحت قائلا: وما لجاجتك أيها الرجل في شأني؟ ألم تسمع ما قاله لك؟
ولكن الرجل الجريء لم يعبأ بصياحي، فضحك وانطلق نحوي ومد يده إلي من وراء النخلة. فخجلت ولم أجد بدا من أن أمد يدي للسلام عليه . وما كدت أرفع عيني إليه حتى شهقت شهقة كمن رأى منظر عفريت فجأة، وصحت قائلا: أهو أنت؟
فقال الرجل: نعم هو أنا، أنا صديقك القديم.
وكان حقا صديقي القديم الحاج جمال الدين.
فقلت له مرتبكا: لا مؤاخذة يا سيدي، ولكني أرجوك إذا أردت أن أعيرك البطل الصامت ...
فقاطعني في لهجة تنم عن خبث: لا تخش يا صديقي، فما بي من حاجة إلى البطل الصامت.
فانشرح صدري عندما سمعته يذكر البطل الصامت بغير أن يسميه حمارا، ودعوته للجلوس معنا. فأخذ يثني علي ويترحم على أبي حتى لان قلبي له ونسيت كل ما كان منه. ثم بدأ يتكلم فيما جاء له؛ وكان قلبي يغوص في صدري كلما مضى في حديثه حتى كاد يبلغ كعبي.
نعم، فقد جاء يطلب مني قرضا؛ ثلاثين درهما نقدا وعدا. فتحركت حركة مضطربة كأنني أبحث عن مهرب ألجأ إليه، ولم أجد سوى صديقي أبي النور فقربت منه ولزقت به، والرجل مستمر في كلامه يصف شدة حاجته وصدق نيته في الوفاء، ووعد ألا يبقى الدين عنده أكثر من أسبوع. ثم قال لي إنه في خطر من تطليق زوجه أم ولده إذا هو لم يجد عندي الدراهم الثلاثين، فأكون أنا السبب في خراب بيته وتعذيب أهله وتفريق أسرته. ولست أكتم أنني شعرت بالرحمة تدخل إلى قلبي عندما تصورت الرجل وامرأته وأولاده، وما قد أجره عليه من الويل إذا عجزت عن إغاثته. وجعلت أقلب الفكر وأتلفت حولي وأسأل عما عندي، وأنا صامت حائر والعرق يتصبب من وجهي ويتقاطر على جوانب جسمي. وكان ما يزيد حيرتي أنني لم يكن عندي من النقود شيء مما يطلب مني، وما كنت أقوى على الاعتذار له بقلة ذات يدي. أأطلع الرجل على حقيقة أمري؟ أأقول له إنني لست أملك من هذه الدنيا ثلاثين درهما؟ أأنطق بهذا معتذرا فيحسبني كاذبا؟
لقد عشت حياتي أطلب الستر، وأخشى فضول الناس، وكم كابدت في إخفاء فقري، وكم عانيت من المشقة في التجمل والتعفف، ثم يجيء هذا الرجل يطلب ثلاثين درهما فيفضحني؟! هذه ساقيتي لا تخرج ماء ولكني حرصت على أن تبقى دائرة حتى لا يقال إنني وقفتها عجزا. وهذه حديقتي لا تثمر ولا أرضى أن أبيع منها قيراطا خوف أن يشمت الناس بي. كان يكفيني من ساقيتي نعيرها، ويكفيني من حديقتي اتساعها طلبا للستر في أعين الناس. فهل كان يجمل بي أن أعتذر للرجل عن ثلاثين درهما فأطلعه بذلك على رقة حالي وقلة ذات يدي؟ هذا محال. ثم كيف أتركه يطلق امرأته من أجل مبلغ زهيد؟ فلا بد من الاحتيال في الأمر وإن كلفني شططا. وأخذت أعد ما عندي من الأموال فلم أجد سوى الثور الذي يدور بساقيتي، فقلت في نفسي: «أبيعه يوم السوق وأقرض جاري من ثمنه، فأبلغ عنده عذري، فإذا رد الدين لم أعدم ثورا آخر أشتريه.»
دارت كل هذه الأفكار في رأسي وأنا مطرق صامت، ووجه صديقي أبي النور يحمر حينا ويصفر حينا، ووجهي يسخن ساعة ويبرد أخرى. ونظرت إلى عيني أبي النور فرأيت فيهما دمعتين حائرتين كأنه أدرك كل ما يجول في نفسي، فمال إلي وقال هامسا: ما كلف الله نفسا إلا وسعها، ولا يسع المقل إلا الاعتذار.
فشجعني قوله، فنظرت إلى ضيفي وقلت مرتبكا: ليس عندي الآن ما تطلب يا سيدي، فإذا كنت تنتظر علي حتى أبيع هذا الثور يوم السوق ...
فقاطعني الحاج قائلا: ولكن فيم الانتظار إلى يوم السوق؟ إن الثور الذي يباع في السوق يمكن أن يباع لحما في البيت؛ فأنت تقدر على بيع لحمه أقة أقة، ورطلا رطلا، ثم تربح من بيعه ما كان يربحه التاجر.
فوقعت هذه الفكرة كأنها الصدمة على أم رأسي.
أثوري يباع لحما؟ أيذبح هذا الثور في بيتي وأرى الدم يجري من عنقه؟ أأراه على الأرض يتخبط ويفحصها بحوافره؟ لقد بقي عندي تلك السنين كلها يدور بساقيتي ويشقى ليطربني بنعيرها في ليالي القمر الساكنة، وأنا لا أقوى على أن أرى فرخة تذبح، وكنت دائما أتعمد أن أنام يوم عيد الأضحى حتى تذبح شاة الضحية وتسلخ وتجهز للأكل. فكيف أقوى على أن أرى هذا الهيكل الضخم يخر كما يخر الجبل وينحر أمام عيني؟!
لقد كان خادما مخلصا وصديقا قويا، ولو رأيت أحدا يريد أن يؤذيه لوقفت أدافع عنه إذا لم يدافع هو عن نفسه بقرنيه. فقلت للرجل في حزم: لا، لا، هذا لا يكون.
فقال الحاج في إصرار: إذا كنت لا تحب أن يتدخل الجزار في الأمر فإني أقدر أن أذبح وأن أسلخ، وليس عليك إلا أن تأخذ اللحم وتبيعه. أين هذا الثور؟
قال هذا ثم ذهب مسرعا إلى مربط الثور في جوار الساقية، فنظرت إلى صديقي أستوحيه ماذا أفعل، ولكن صديقي نظر إلي متعجبا وقال: أهكذا يكون الاقتراض؟
فقمت حائرا لألحق بالرجل، ولكن رجلي ما كادتا تحملاني، وسار أبو النور إلى جانبي وقد أوقعت المفاجأة الحيرة في قلبينا. فلما بلغنا مربط الثور رأينا عجبا. ولست أدري كيف استطاع الرجل في مثل هذه اللحظات أن يتم كل هذا! كان الثور يتخبط على الأرض في دمه، فغطيت وجهي بيدي وخرجت مسرعا ولم تسعفني الدموع، فوقفت جامدا وجاء أبو النور فوقف إلى جانبي.
ولما سكن الثور المسكين، صاح الحاج في وقاحة: ابحث لي عن سكين صغيرة لأسلخ بها.
فلم أتحرك ولم يتحرك أبو النور. وصاح الرجل مرة أخرى: هات السكين قبل أن يبرد الثور ويفسد الجلد.
فسمعت القول وخفت أن يبرد الثور، وأسرعت إلى البيت فأتيت له بسكين فألقيتها إليه من وراء الباب، ووقفت مع صاحبي مطرقا حزينا.
واقترب أبو النور مني فوضع يده على كتفي وقال مواسيا: لا فائدة من هذا الوجوم. سأذهب إلى المدينة لأعلم الناس بلحم ثورك ليشتروا.
وبعد ساعة كان الحاج قد انتهى من سلخه وتقطيعه، وجاء أبو النور مع جماعة من أهل ماهوش، وسمعته يحدثهم ويراجعونه، وفهمت من حديثهم أنهم يخشون أن يكون الثور قد نحر لأنه كان مطعونا أو مسلولا.
وحلف لهم أبو النور أنه كان سليما، وأنه قد ذبح ليقترض الحاج جمال الدين من ثمن لحمه. ولكن الناس لم يصدقوه، وقال أحدهم: ومن يدرينا أن ذلك الحاج قد قرأ اسم الله عليه؟
وأضاف آخر: وكيف نعرف إذا كانت السكين حادة كما ينبغي؟
وقال ثالث: إنها جرة ونصف جرة. هكذا ينبغي أن يكون الذبح الشرعي. أيعرف هذا الرجل كيف يذبح؟
وقال صوت من أقصى الجمع: ما علم ذلك الحاج بالذبح؟ ألا يكون قد خنقه؟
فسمع الحاج ذلك القول وصاح غاضبا: ما أطول ألسنتكم أيها القوم! أجئتم لشراء لحم أم جئتم لإقامة الحساب؟ انظروا إلى اللحم إن كانت لكم عيون.
فغضب القوم وصاح بعضهم: ما جئنا إلى هنا لنسمع هذا التقريع.
وصاح آخرون: إن النقود في جيوبنا.
ثم انصرفوا واحدا بعد واحد ولم ينفع في إرجاعهم توسل صديقي أبي النور.
ونظرت إليهم وهم يبعدون وقلبي يكاد ينفجر. فماذا أصنع بهذا اللحم كله؟ ومن لي بمن يحمله وهو كالتل العظيم؟ وهل كنت لأتركه حيث هو لينتن ويتعفن؟ فما رأيت الناس يبلغون جانب السور حتى صحت بهم: هلموا أيها الإخوان عودوا كراما. تعالوا فخذوا اللحم ولا أريد له ثمنا.
فترددوا في السير قليلا ثم وقفوا ينظر بعضهم إلى بعض لحظة، ثم انقلب تيارهم عائدا، وأسرعوا حتى بلغوا مصرع الثور وهم يركضون، وجعل كل منهم يحمل ما يستطيع حمله حتى تخطفوا اللحم فلم يبق منه إلا فخذ واحدة كان الحاج واقفا إلى جوارها يمنعها. ونظر الحاج إلي في غضب قائلا: أهكذا لا تبيع شيئا؟ أهكذا تضيع علي الدراهم ويذهب كل جهدي سدى؟ ثم أخذ الفخذ فحملها على كتفه اليسرى، وجر جلد الثور بيمناه ووضع سكينا تحت إبطه والأخرى في فمه، ثم مضى خارجا.
فسار أبو النور ونزع جلد الثور منه وقال في حنق: جحا أولى بجلد ثوره.
فنظر الحاج إليه في غيظ، ثم ترك الجلد وأخذ السكين من فمه ومضى يهز بها يمينه.
فصحت به متوسلا في غيظ: دع السكين فإنها لامرأتي.
فرماها إلى الأرض، ومضى بغير أن يلتفت نحوي، حتى خرج وهو يدمدم ويبرطم.
ونظر أبو النور إلي وهو يرفع جلد الثور وقال بصوت مختنق: صديقي.
فنظرت إليه وقلت في حزن: أبا النور.
وسرت وهو إلى جانبي يجر الجلد حتى بلغنا مربط الثور، فوجدنا به فوضى تشبه آثار موقعة في حرب ضروس؛ وجدنا رأس الثور المسكين والأكارع والفرث والمصران وكومة من الأوساخ جعلت الهواء عفنا يكاد يخنق الأنفاس. فرمى صديقي الجلد إلى ناحية، وأخذ يرفع الحطام ويكنس الأقذار، وأسرعت أساعده حتى مضت ساعة وكلت منا الأيدي، وتألمت فقرات الظهر من الانحناء، فرفعت رأسي لأستريح، ورفع صديقي رأسه كذلك، وتقابلت نظراتنا، ووقفنا حينا ينظر كل منا في وجه صاحبه صامتا. ثم انفجرت بيننا ضحكة في وقت واحد، في لحظة واحدة، كأنها ضحكة شخص واحد، وامتدت الضحكة وطالت حتى كدنا نقع على الأرض من الإعياء، وجعل كل منا يضرب بيده على ركبته.
لقد كانت فكاهة عظمى.
الفصل السابع
ما أشد ضيقي بالحياة في ماهوش وطني؛ فإني لم أجد حولي فيه إلا جشعا وظلما. ولكني أرحم هؤلاء الذين يظلمونني، فإنهم جديرون بالرثاء. وأي قيمة للحياة إذا هي خلت من الكرم والإيثار والمحبة والصدق؟ إن الذين يفقدون هذه الخلال لا تبقى لهم في الحياة فضلة تستحق الحياة. ولكني مع هذا قد كدت أضيق بالحياة في ماهوش.
وحاولت أن أعتزل الناس قانعا بالصورة التي أسمو معها إلى السماء في خيالي، فكنت كل يوم أخرج إلى الحقول حتى أصل إلى شجرة الجميز، فأصعد فوقها وأختبئ بين فروعها حتى لا يراني الناس وأنجو من فضولهم. فكنت أقضي هناك الأيام أو الليالي خاليا إلى نفسي، أطلع على الناس بغير أن يروني، وأخلو هناك إلى طيف علية ابنة علاء الدين فأناجيه وأحدثه بالمعاني التي لا أجد في الأحياء من يفهمها. ولكني بعد حين ضقت بمجلسي فوق الشجرة لأنه ملأ صدري بعيوب غيري؛ إذ كنت أرى الناس يمرون تحتي وهم لا يفطنون إلى وجودي، فيظهرون ما يبالغون في إخفائه عن العيون ولا يتحرجون من كشف خلجات الضمائر. وقد خرجت من كل ما رأيته وأنا فوق الشجرة على حقيقة واحدة؛ هي أن الإنسان جدير بالرثاء، وليس في ذنوب الناس ما يستحق العقاب.
لقد بدا لي وأنا فوق الشجرة أن الله خالق هذه الأكوان العظيمة لن يضيق بالعفو ولن يكبر على رحمته ذنب. فلما لم يجدني اعتزالي فوق الشجرة حاولت الاعتزال في الفلوات، فكنت أخرج إلى تلال ماهوش وأشرف منها على واديها، فأراه خطا أغبر ضئيلا تحت قدمي، ويخيل إلي أن الأنفاس تضيق فيه من الضباب الذي يجثم عليه. فإذا وقفت حينا أنظر إلى ماهوش من فوق التلال لاحت لي صغيرة تافهة، بكل ما فيها من نضال وضجيج. ولكني مع ذلك كنت أعود إليها وأحس أنني لا أستطيع الاستغناء عنها، فإذا حاولت أن أجد لي موضعا فيها لم أعد إلا بالخيبة، فأرتد إلى عزلتي وتأملي. ولو كنت في غنى عن الطعام والملبس، أو لو كان أهلي وولدي في غنى عما يحتاج إليه أمثالهم، لما برح بي الضيق من حياتي في ماهوش وطني، ولكني بشر كسائر الناس، وأهلي وولدي لا غنى لهم عن أن يصيبوا من الحياة نصيبا. فكيف أجد ذلك النصيب وقد بحثت عنه في كل أركان ماهوش فلم أجد لي فيها مكانا.
ولقد أبى لي حيائي أن أشكو إلى الناس، فلست أحب أن أحمل أحدا ثقل همي. ولولا كلمة أقولها لصديقي أبي النور لأنفس بها عن صدري لزاد الأمر على طاقتي. وقد أشار ذلك الصديق علي أن أذهب إلى القاضي، وهو صديق كان لأبي، لعلي إذا شكوت إليه حالي ساعدني على أن أجد عملا ألتمس منه القوت لنفسي وأهلي. فترددت طويلا ولكن الحاجة كانت تدفعني، وغرتني من القاضي كلمات كان يقولها لي إذا لقيني. فذهبت إليه على استحياء وسألته مساعدتي، ولكنه نظر إلي نظرة فيها دهش وعجب، ولم يجبني بحرف على مقالي، وتشاغل عني ببعض أمره حينا، ثم التفت إلي وقال: «إن الأرزاق موفورة لمن أقبل على التماسها.» ثم أضاف سائلا: لم لا تشتغل بالتجارة يا جحا؟
ولو كان عندي مال لما انتظرت حتى يقترح علي السيد القاضي؛ فإني لا أملك من الدنيا ما أعيش به يوما بعد يوم . ولو كان عندي رأس المال لما احتجت إلى أن أكون تاجرا. فسكت حينا وأنا مطرق. فأعاد القاضي سؤاله كأنه يريد ألا أنصرف عنه حتى يفتح لي متجرا.
يا للنفاق والرياء! لقد كان في يده أن يجعلني محتسبا أو مأذونا، ولو كان جادا في عنايته بأمري لما رد على سؤالي بسؤال، ولما حملني مئونة الاعتذار. فلما لم أجد عند القاضي جوابا لم أجد حاجة إلى أن أجيب عن سؤاله. وانطلقت مني آهة ثم أعقبتها كلمة «يا ألله»، ثم مضيت عنه.
فقام مسرعا يشتد في أثري، حتى أدركني ودس في يدي أربعين درهما وقال لي: أحب أن تبدأ تجارتك، فاشتر لي بهذه عشرين وزة لطعام ضيوفي.
ولم أكن عند ذلك فارغ البال، فأناقشه أو أجادله، فوضعت الدراهم في جيبي ثم مضيت عنه صامتا، وجعلت أعيد سؤاله على نفسي: لم لا تشتغل بالتجارة يا جحا؟
ولقد كانت التجارة مهنة الكرام، وكان من أجدادي من اشتغلوا بالتجارة، وكان النبي - عليه الصلاة والسلام - تاجرا، وكان أبو بكر وعثمان تاجرين، فلم لا أكون مثلهم تاجرا؟
ولكن التجارة تحتاج إلى المال، ولست أدري أيقيض الله لي كنزا أم يجعل لي في طريقي لقى من ذهب أو جوهر؟ والتجارة فوق هذا تحتاج إلى ولوج الأسواق ومعاملة السوقة، فهل أستطيع أن أكون تاجرا؟
ولكني عدت إلى نفسي قائلا: ما لي أضعف عن الحياة، وإذا عدت منها بالخيبة التمست الأعذار لنفسي؟ وعزمت على أن أخوض زحمة الناس، وأن أضرب في الحياة كما يضربون.
فما عدت إلى منزلي حتى كنت قد استقر عزمي. ونظرت حولي وجعلت أقلب وجوه الرأي وألتمس الحيلة في تحصيل رأس المال، حتى عزمت على بيع داري ليكون ثمنه رأس مالي.
وهكذا بعت البيت القديم الذي خلفه لي الأجداد، والذي يحمل في كل ركن من أركانه ألوفا من الذكريات. وكان بيع ذلك البيت صدمة كادت نفسي تتصدع منها. فوقفت عند كل جذع في الحديقة الجرداء. ووقفت عند الساقية المتهدمة التي لا تخرج الماء، وذكرت ثوري المسكين الذي ودره جاري جمال الدين - سامحه الله. وسرت حوله أذرف الدموع الغزار أسفا وحزنا، فوقفت عند كل لبنة من لبنات السور المتهدم الذي لا يبلغ علوه ذراعا، وجعلت أناجي حيطانه وأندب لها اضطراري لفراقها، ولم يفارقني الشعور بأنني أنا الذي جعل الدهر من محنته أن يبيع هذا التراث العزيز.
ثم جمعت كل متاعي وانتقلت إلى دار أخرى في زقاق ضيق، ونزلت إلى ميدان العمل كما ينزل الناس في التماس الأرزاق.
وكانت كلمات القاضي ترن في أذني كل صباح؛ إذ قال لي يوم لقيته: «إن الأرزاق موفورة لمن أقبل على التماسها.»
وذهبت إلى السوق لأنظر في السلع وأختار من بينها ما يصلح لأن أتخذه متجرا. وبعد تفكير وتردد اخترت أن أتجر في الطنافس؛ فهي نظيفة لا يأنف الحس منها، وهي جميلة يرتاح الذوق إليها، ولا يتعفف عنها أصحاب المروءة، ولا يشتريها إلا العظماء.
ولما استقر رأيي على هذه النية ذهبت إلى متجر عظيم لأشتري منه، فرأيت به مجموعة من تلك التحف الثمينة التي لا تصنع إلا في مدينة تبريز. فراعني جمالها وعللت نفسي بالكسب الهين والثروة الطائلة. ووقفت أتأملها، وكانت عيني لم تقع على مثلها في البهاء. كانت نقوشها كأنها خلست من زهر الربيع، وكانت ألوانها كأنها استمدت من أشعة الأصيل على أردان السحاب.
فوقفت حيالها مأخوذا لا أقدر أن أرد عيني عنها، وأجلت ناظري في محاسنها فتأملت فيها زهرة بعد زهرة، وقوسا بعد قوس، وضرب بي الخيال إلى بلاد إيران، وخيل إلي أنني أرى أنامل الفتيات وهن يعقدن عقدها، وكلما أتممن منها ورقة من زهرة أو قضيبا من غصن امتلأت قلوبهن إعجابا وزهوا، وفاضت نفوسهن تيها وعجبا. وتصورتهن يقفن دون الأنوال يتأملنها عن بعد، ويملن رءوسهن يمنة ويسرة لكي يتملين بحسنها. تصورت هاتيك الفتيات وهن عاكفات على الطنافس يعقدن فيها العقدة بعد الأخرى، يتهاتفن بالضحكات ويتشاورن بالهمسات ويتحدثن عن أحلامهن بنفوس جائشات. ثم تصورت إحداهن وقد بدا لها من وراء النافذة شخص، فتركت العقدة وأسرعت إلى النافذة تنظر من وراء «الشباك»، فتدس عينها في فرجاته الضيقة بين مخروطاتها الدقيقة لكي تتزود من حبيبها بنظرة تظل لقلبها في الليل زادا حتى يطلع الصباح. فإذا ما مر الشخص عادت الفتاة إلى الطنفسة تعقد فيها العقدة بعد الأخرى، بأنامل مضطربة، ولكن تلك الأنامل كانت تصور الزهرة الساحرة التي كنت أراها أمام عيني، رائعة الألوان، حلوة المنظر، منسجمة الأشكال. كنت أتصور هذا وأنا واقف أنظر إلى الطنافس، وقلت لنفسي ما هذه إلا خطرات نفوس وأشجان قلوب، وما يغلو على مثلها ثمن وإن غلا.
وذهبت إلى التاجر لأساومه في شرائها فوجدته حريصا عليها، ولا عجب؛ فهي جديرة أن يحرص عليها كل من يعرف لها قدرها. فزدته في ثمنها ولم أتردد في أن أبذل له ما يطمعه في بيعها. وبعد لأي سمح التاجر فدفعها إلي، ووزنت له ثمنها ثلاثمائة دينار كاملة. وحملتها وسرت بها وأنا أكاد أطير فرحا؛ فقد خيل إلي أنني فزت من الرجل بصفقة الخبير ذي القلب البصير.
ولكن ماذا وجدت من الناس؟ ذهبت أعرض الطنافس على خيار القوم، فعرضتها على القاضي فلم يكن في حاجة إليها، وعلى المحتسب فقال إنه اشترى بالأمس منها، وهكذا لم أجد في كل من عرضتها عليهم رجلا يستطيع أن يدرك أسرار جمالها. ثم عرضتها على الناس في الأسواق فكانوا يقومون إليها يقيسونها بالذراع، ويجسونها بالأيدي ويزنوها بالميزان، كأنما هي سلع مبتذلة، وليست من حرارة الأرواح ونشوة الأماني. وكانوا مع ذلك إذا اشتروها لم يعرضوا إلا البخس من الأثمان. وهكذا خرجت من تجارة الطنافس بخسارة نصف مالي. ولكني لم أجزع ولم أضعف، وعزمت على أن أختار تجارة أخرى تكون في سلعة مما يحتاج الناس إليه ولا يمكنهم أن يستغنوا عنه؛ فإن العظماء قليلون، وقد فسد الزمان وضاعت بين الناس قيم الفنون. وأما عامة الناس فلا يحصيهم العد، والبيع والشراء فيهم لا يحده حد.
وبعد تفكير واجتهاد عزمت على أن أتجر في الأغنام؛ فليس فيها قطعة واحدة لا يحتاج الناس إليها؛ فشعرها صوف وجلدها نعال، ولحمها طعام وفروتها حلية، وهي بعد ذلك كله جميلة المنظر حلوة الطباع. ولقد كنت دائما أحبها وأطعم ما أقتنيه منها بيدي، وأداعبه كما أداعب ولدي. ولقد أبدع الله خلقتها، فما ترى فيها من عيب، سبحان من جلت قدرته وعظمت حكمته وبدعت صنعته. ولكن كل هذا لم يجعل تجارة الأغنام رابحة؛ فقد كنت أشتريها وأنا راض بثمنها. كنت أعطي الدنانير المعدنية ثمنا لخلقة حية، كنت أعطي صاحب الشاة حجرا أصم وآخذ منه حياة بديعة الخلق. ولكن الناس إذا أتوا لشرائها مني لم ينظروا إليها بعيني، فكانوا يدفعونها في غلظة ويجسونها في شراهة. كان لعابهم يسيل وهم يقلبونها بأيديهم كأنهم سباع تتأمل الفريسة، فإذا اشتروها لم يشتروها إلا بعد مماكسة ومراجعة ومساومة فيها لجاجة وجشع.
وهكذا لم أخرج من تجارة الأغنام إلا بخسارة نصف ما بقي من مالي.
هكذا استمر بي الحال وأنا أتنقل من تجارة إلى تجارة، ومن سلعة إلى سلعة، وكل منها يقتطع نصف ما بقي عندي، حتى لم يبق لي إلا دراهم معدودة، فلم أجد شيئا أشتريه إلا بيض الدجاج. وفي الحق أن البيض سلعة نظيفة جميلة الصورة بيضاء اللون لها هندسة عجيبة في شكلها، ورونق رائع في جملتها. ليس في الأشياء ما يدخل الفرح على القلب مثل البيضة إذا وجدتها في ركن بيت الدجاجة، كأنها عند ذلك كنز من الجوهر. ولكن البيض لم يكن خيرا من كل ما سبقه؛ فقد كنت أشتري التسع منها بدرهم؛ بدرهم واحد. وكانت كل بيضة منها عندي أثمن من كل ما عندي من الدراهم. ولكن الناس كانوا إذا أتوا للشراء لم يدركوا ما في البيض من جلال الخلقة وجمال الصورة وإبداع الهندسة، بل ينظرون إليه في الضوء، وينقدونه نقد الصيرفي للدينار، كأنه شيء لا تتجلى فيه قدرة الخالق المبدع الذي برأ الأكوان، فكان الأمر ينتهي بي دائما إلى أن أبيع العشرة منه بالدرهم الواحد، حتى ابتلع السوق كل ما بقي من دراهمي.
وأنا اليوم أتلفت حولي فلا أجد إلا يدا فارغة، وبيتا خاويا، ولا أزال أنتظر الفرج ولا يزال عني متباعدا.
أي رب، هذا أنا ضربت في الأسواق ولم أعص مشورة القاضي، لم أقعد ولم أتخاذل، ولكني هذا عبدك لا أملك مالا ولا أجد رزقا كأنما كنت في غيبة عند توزيع الأقسام. أستغفر الله من قولي، أستغفرك يا من وسع عفوك الآثام.
لقد كاد الشك يداخلني، فلأعد إلى صورة الحبيبة التي أسمو معها إلى السماء لعلي أكفر هناك عن خطئي في التسبيح العلوي والترتيل.
الفصل الثامن
ماذا أصنع لكي أعيش في ماهوش؟ لقد زعم القاضي - حرسه الله - أن الأرزاق موفورة لمن أقبل على التماسها، ولكني سعيت وسعيت وسعيت ولم أجد لي نصيبا.
ذهبت اليوم مرة أخرى إلى الشيخ عماد الدين الفقيه لأحاول أن أذكره بديني عليه، ولكني علمت أنه عند القاضي. فقلت هذه الفرصة، وذهبت إليه في حضرة القاضي - أعزه الله - فوجدته على عهده لا يزال يهز لحيته، والناس يقبلون يده التماسا للبركة. فدخلت وسلمت، وخطر لي أن أذهب إليه وأقبل يده مع الناس، لعله يذكر ديني عليه. ولكني ما كدت أقف أمامه وأراه يصرف وجهه عني حتى وجدت نفسي أقول له: ألا تعرفني يا سيدي الشيخ؟
فنظر إلي وجعل يحرك شفتيه كأنه مشغول بالقراءة، ثم حرك لحيته حركة لم أفهم معناها، ولكن القاضي ناداني وجعل يحدثني ويسألني عن أحوالي. وسألني كذلك عن الوزات التي طلب مني أن أبتاعها له منذ شهر، فذكرت عند ذلك أنني مدين له بثمن تلك الوزات، وعلاني خجل شديد. وهكذا ذهبت أطلب ديني فوجدت نفسي مدينا مطالبا.
وملت على القاضي فأسررت إليه أنني قد جئت أطلب دينا لي على صاحبه الفقيه، فهمس في أذني: ما ينبغي لك أن تطالبه في داري.
فخرجت مرتبكا بعد أن سلمت، ولمحت الشيخ الفقيه يشيعني بلمعة شماتة من عينيه وهزة سخرية من لحيته.
وسرت أفكر ماذا عساي أن أصنع في ماهوش لكي أجد فيها رزقي. لكأني بذلك الرزق كامن في قلب صخرة من دونها بحر من دونه صحراء قاطعة. أو كأنه في كهف مغلق عليه باب من حديد ليس فيه إلا ثقب إبرة أحاول أن أنظر إليه من خلالها. على حين أرى ماهوش سخية ليس بها بخل، غنية ليس بها فقر، مسرفة ليس فيها اقتصاد.
هنا في ماهوش راقصة ليس عليها إلا أن تحرك خصرها فتنهال عليها الدنانير من كل صوب، وهناك مغنية لو طلبت على أغانيها نصف ثروة ماهوش لسخا أهلها بالنصف الآخر طربا. ألا أستطيع أن أجد لنفسي سلعة نافقة في ماهوش؟ لو كان خصري نحيلا لينا لاستطعت الرقص، ولو كان غنائي مطربا لعرضت على قومي الغناء. ولكن ما حيلتي إذا كان خصري غليظا جامدا، وكان صوتي لا يطرب أحدا. لقد دخلت الحمام يوما فخطر لي أن أجرب صوتي في أغنية لعلي أجيدها فأنال منها خيرا، وأنا أعرف أن أهل ماهوش يحبون الغناء ويطربون له؛ فهم يتغنون في كل وقت وكل مكان. هم إذا حزنوا غنوا وإذا فرحوا غنوا وإذا باعوا أو اشتروا غنوا، كل من أراد أن يعرض سلعة جعل عرضها غناء، وكل من أراد نداء جعل نداءه غناء. وسمعت صوتي في الحمام فوجدته مطربا، فدب الأمل في قلبي وقلت هذه سلعة نافقة. وخرجت إلى الطريق وأنا أغني، فاجتمع علي الناس وجعلوا يضحكون مني، فدعوتهم أن يعودوا معي إلى الحمام لعل صوتي فيه يطربهم، ولكنهم زادوا ضحكا ولم أصب منهم درهما. فما حيلتي إذا كان أهل ماهوش لا يرضيهم شيء مني؟
ولما بلغت الدار جلست مهموما حتى جاء صاحبي أبو النور، وما كاد يسلم علي حتى سألني: أين كنت اليوم يا صديقي؟
فقصصت عليه ما كان مني. يا له من صديق نبيل! لقد رأيته يمسح دمعة في عينه، ولا أدري أكان ذلك إشفاقا علي أم كان كما قال لوجع في عينه. ولما فرغت من قصتي قال لي: إن عندي سربا من الوز لا أجد حاجة إليه، فخذ منه عشرين وزة فاحملها إلى القاضي.
فقلت له: ولكنك تستطيع بيعها.
فقال في شيء من العتب: لست أبيع وزي في الأسواق يا صديقي، وهي تكلفني في إطعامها ما لا طاقة لي به، فإذا أخذت منها ما تريد أحسنت إلي.
وهكذا صرت عنده متفضلا بأن آخذ من وزاته ما أرد به ديني إلى القاضي، ولم يرض أن يتركني حتى أخذت عشرين وزة سمينة، وسار معي نسوقها إلى البيت القاضي.
وسرت في الطريق أفكر في تلك الحكم التي نطق بها القاضي؛ إذ قال لي إن الرزق مكفول لمن التمسه. وأردت أن أداعبه مداعبة خفيفة تطلعه على شيء مما دار في قلبي. فلما بلغت داره أخذت وزة سمينة وجعلتها وراء الباب، وسقت تسع عشرة وزة إلى فناء الدار. وكان القاضي هناك في مجلسه بعد أن فرغ من صلاة العصر، فلما رآني مقبلا قام يستقبلني قائلا: ما أعظمه من وز سمين، إنك لتحسن الشراء يا جحا، ولن أشتري الوز بعد هذا إلا من عندك.
ثم أقبل على الوز يعده واحدة بعد واحدة، فلما وجدها تسع عشرة قال ممتعضا: ولكنها تنقص واحدة، وما كنت لأقبل إلا عشرين كاملة، هكذا كان شرائي وهكذا كان شرطي. لست أحب أن تنقصني وزة وقد أخذت ثمنها.
فغاظني قوله غيظا شديدا؛ فإنه لم يعطني إلا أربعين درهما والوزة من هذه السمان لا تساوي أقل من أربعة دراهم. ولكني كظمت غيظي وقلت له: أما تعرف العدد يا سيدي القاضي؟
فعدها مرة ثانية ثم ثالثة وقال في حنق: قلت لك إنها تسع عشرة.
فقلت له في عناد: بل هي عشرون، تكفي عشرين من رجالك.
فقال لي: أما تعدها؟
فقلت: إن الوز يتحرك ويدخل بعضه في بعض فكيف أعده؟
فغضب من مراجعتي ودعا أعوانه فوقفوا حوله حلقة غاضبة، وكأن كلا منهم ينتظر أمره أن يبطحني على الأرض ليجلدني جزاء مراجعتي.
فقال لي القاضي: عد عشرين من هؤلاء يا جحا.
فعددت عشرين وقفوا صفا واحدا ينتظرون أمر القاضي.
فصاح بهم السيد: ليذهب كل منكم ليأخذ في يده وزة.
فحملوا على الوز فأخذ كل منهم واحدة تحت إبطه إلا واحدا منهم وقف فارغ اليد ينظر نحوي حانقا.
فقال القاضي وعلى وجهه بسمة الفوز: ألا ترى أنها تسع عشرة وزة؟ ألا ترى هذا الرجل الذي لم يجد نصيبا؟
فتذكرت ما قاله لي من قبل؛ إذ قال إن الأرزاق موفورة لكل من أقبل على التماسها، فضحكت ضحكة عالية حتى رأيت وجه القاضي يحمر خجلا، وقال ممتعضا: ماذا يضحكك من قولي؟
فقلت: إن الذنب ذنب هذا الذي لم يجد لنفسه نصيبا؛ فقد كانت الوزات أمامه إذا أقبل على التماسها.
فضحك القاضي ضحكا شديدا، ولست أدري إذا كان قد فهم مقصدي، ولكنه دعاني إليه فوضع ذراعه في ذراعي وذهب بي إلى مجلسه، وقضينا معا ساعة يسألني عن أحوالي، وأقص عليه ما كان مني منذ سمعت نصيحته، فبعت داري واشتغلت تاجرا حتى أكلت ثمنه تجارتي، وكان يضحك من وصفي كأنني كنت ألقي عليه فكاهة مع أن قلبي كان يدمى.
ولما سلمت عليه لأنصرف قال لي: لا بأس عليك يا جحا، فإنك على كل حال تحسن تجارة الوز، فهات لي عشرين وزة أخرى، ثم أخرج لي أربعين درهما.
فنظرت إليه وهو يمد يده نحوي، ثم غلبني الضحك فضحكت وضحكت حتى كدت أقع متهالكا، وتركته مادا يده نحوي وانصرفت عنه ضاحكا.
فلما بلغت باب داره أخذت الوزة التي تركتها هناك فحملتها إلى بيتي تحت إبطي، فأبنائي أولى بها من ذلك القاضي.
الفصل التاسع
مضت أيام لم أر فيها صديقي أبا النور، وضاق صدري من الوحشة إليه؛ فإنه لم يبق في الحياة من سلوى إلا أن أجلس معه وأفضي إليه بأحزان قلبي.
وقد زادني في هذه الأيام حزنا ما لقيته من حمق ريمة وسوء عشرتها؛ فهي لا تجعل يوما يمر بي بغير أن تزيدني وسواسا وهما، حتى تخيل إلي أن الفضاء أضيق في وجهي من حجرة في بيتي. أف لحجرات بيتي! إن سقفها يكاد ينطبق على الأرض فلا أستطيع البقاء فيها وأخرج منها لا ألوي على شيء، وألتمس الهواء الطلق في أطراف ماهوش، فتطاردني أشباح البؤس تصيح من ورائي بصوت ريمة زوجتي.
فكنت كلما وجدت جنازة سرت وراء النعش لأشيعها إلى القبور، وأبقى حتى يدفن الميت وتقرأ عند جدثه الصلوات، ويوجه إلى أهله العزاء، فأود لو طال بقائي عند القبر؛ فإني أجد عنده ارتياحا. وقد سار ولدي عجيب معي يوما مع إحدى هذه الجنائز، فلما دفن الميت قام بعض أصحابه يؤبنونه، فقال أحدهم في رثائه: «أنت هذا نحملك إلى مقرك الموحش، الذي لا ترى فيه شمسا ولا قمرا، ولا يطالعك فيه نجم ولا يهب عليك نسيم. أنت هذا في مقرك المظلم لا تنفذ إليك الأضواء ولا تؤنسك سجعات الأطيار.»
وجعل ذلك الرجل يفيض في وصف القبر ووحشته، وظلمته وضيقه، حتى انهالت العبرات من المعزين وشهقوا جميعا بالبكاء. وعند ذلك شعرت بوخزة في جنبي، فإذا ولدي يلكزني بكوعه ويشير إلي أن أدنو منه بأذني، وقال لي هامسا: أقرأت قصيدتي التي وصفت بها بيتنا الجديد؟
وكان قد أطلعني على قصيدة يصف فيها ذلك البيت، فكأنه قد أملاها على ذلك الرجل الذي وقف يؤبن الميت ويصف قبره ووحشته وظلمته.
فثارت نفسي عند ذلك، وتذكرت كل بؤسي وقمت بغير أن أستأذن أو أعزي، وهمت على وجهي بين القبور وولدي يسير صامتا في أثري، حتى بلغت المدينة ولم ألتفت ورائي.
وكنت في سيري هائما في أحزاني، أشعر بالخزي مما جررته على أهلي وولدي من الشقاء. إن ماهوش قد أنكرتني ولم تجعل لي في أرزاقها نصيبا ولا بين أهلها مكانا، واضطرتني إلى بيع دار أجدادي، ولم تجعل لي في بيوتها إلا ذلك القبر الذي نقيم فيه أحياء. ولكن أينا المذنب؟ أأنا أم ماهوش؟ أي وطني العزيز، أينا الذي يقع عليه ذنب حرماني وطردي وإقتار رزقي؟ أأنا أم أنت؟ أتتركني ماهوش أهلك أنا وأهلي؟ أيقال عن ماهوش في مستقبل أيامها أن جحا وأهله ماتوا بها جوعا ودفنوا بها أحياء؟ ولما قربت من داري رأيت عن بعد صديقي أبا النور يطرق الباب وهو يحمل شيئا على ظهره وشيئا في يده، ثم فتح له الباب فدخل، وأسرعت حتى بلغت الدار فوجدته قد وضع حمله، وكان كيلة من القمح وقطعة من اللحم، وأخرج من جيبه رمانتين وجلس يمسح العرق عن جبينه.
فلما رأيت ذلك كبر على نفسي. أيحمل أبو النور كل هذا إلي وهو رجل رقيق الحال لا يكاد يستطيع أن يعيش مستورا؟ وتجرأت فكلمته في هذا، وما كدت أخرج صوتي حتى خرجت علي ريمة كأنها نمرة تنطلق من عرينها، وقالت بصوتها الجهوري: أكنت تريد أن نموت جوعا؟ ألا فاعلم أيها الرجل أنه لولا هداياه في هذين الأسبوعين لهلكنا كلنا جوعا.
ولم أدرك إلا عند ذلك حقيقة قولها. لقد مضى علي أسبوعان حقا لم أجد في جيبي درهما، ولم أعط امرأتي دانقا، فكيف كنا نأكل ومم كنا ننفق؟
ولا أستطيع أن أبين مقدار ألمي عندما تبينت هذه الحقيقة الطاحنة. لقد انحدرت وهويت وصرت حملا على صديقي.
وخرجت من الدار أسير كالأعمى والثورة تملأ جوانحي. لئن كانت ماهوش لا تفسح لي مكانا فيها فإني لن أحمل صديقي وحده مئونتي. إن لي حقا على ماهوش؛ فأنا جحاها، أنا الذي إذا ذكرت ماهوش قال عنها الناس إنها وطني. أنا الذي يبعث الملوك إلي لكي أسير إليهم فآبى. أنا الذي يطلبونه لكي يسامرهم ويعلمهم - كما يقولون - الحكمة فيأبى إلا أن يعيش بين قومه الذين ينكرونه. أنا الذي أتنفس في حماقات ماهوش بضحكي وأهدهد من سخافاتها بعفوي، وأستقبل السماء في الصباح والمساء من أجلها بدعائي، فلآخذن من ماهوش حقي وإن أبت أن تبذل لي حقي.
ولما صرت بين الحقول تلفت حولي، فلم أجد سوى بساتين فسيحة تمتد إلى مدى البصر عن يميني وشمالي، فيها من كل فاكهة ومن كل بقلة. فعزمت على السرقة عمدا. فليقل الناس ما يقولون، فلست أسميها سرقة؛ فأنا لا آخذ إلا رزقي. أنا جحا، وما ينبغي لها أن تنساني. وقفزت فوق السور وجعلت أقطف وأقطع وأخلع في شيء من الحنق. ولست أنكر أنني مع كل حنقي لم أخل من خوف أن يراني الناس فيقولوا إنني أسرق. ونزعت شملة كانت علي فجعلت فيها الفاكهة والبقل وجعلتها صرة كبيرة. ولما عزمت على حملها شعرت بوخزة في قلبي، ألست سارقا؟ ألم أدخل البستان خفية أتلفت لا يراني صاحبه؟ وفيما كنت أفكر مضطربا مرتبكا شعرت بيد على كتفي وسمعت صاحب البستان يقول: ما هذا يا جحا؟
ففزعت ولكني تماسكت وفكرت مليا وقلت في نفسي إنها عاصفة هوجاء، ألم تكن ثورة نفسي كالعاصفة؟
وأجبت الرجل بغير وعي: هي عاصفة هوجاء حملتني فوق السور قسرا.
فتضاحك الرجل خبثا كأنني كنت أمازحه، ثم قال: وأين تلك العاصفة؟ فالجو صاف والشمس تبسم في وداعة!
فقلت في مرارة: إنك لا تعرفها، إنها عاصفة لا يحسها أمثالك.
فضحك الرجل وكأنه ظن بي تخليطا، ثم قال: آمنا يا سيدي جحا، هي العاصفة قد حملتك، ولكن ما الذي قلع هذا وقطف ذاك؟ وجعل يشير إلى ما في صرتي. فقلت مبادرا: دفعتني العاصفة فكلما تشبثت بشيء خرج في يدي.
فضحك الرجل مرة أخرى، ثم قال: آمنا بهذا أيضا، ولكن ما الذي وضع كل هذا في شملتك؟
فلم أجد للرجل جوابا، فقلت في صراحة: أما هذا فقد فاجأتني قبل أن أفكر فيه.
فانفجر الرجل بالضحك انفجارا عجيبا حتى كاد يقع على الأرض، ثم أقبل نحوي فحمل الشملة بيديه وألقاها على كتفي قائلا: بارك الله لك فيها يا جحا، وحاذر أن تطيرها العاصفة عن كاهلك.
ثم فتح لي باب البستان فخرجت منه مغتبطا حزينا.
ولما عدت إلى بيتي وجدت أبا النور ما زال جالسا في انتظاري، فحدثته بأمري، وقد لمحت الدمع ينحدر فوق خديه وهو قائم لينصرف عني.
أي صديقي، ليس في طاقة إنسان أن يفعل ما فعلت.
إنك تواسيني بصمتك ودمعك خيرا مما واسيتني بقمحك ولحمك، ولا أملك إلا أن أشكرك من قلب جريح.
الفصل العاشر
لا تحمل الأنباء إلينا إلا كل منذر بكارثة. وهل عجب أن يرسل الله الكوارث على بلد مثل ماهوش؟
خرج تيمور بجيوشه فاجتاح أقصى ريفها وأدناه، وخرج علاء الدين من خوفه يهرب في البلاد طريدا ذليلا. ويلاه، إن علاء الدين طريد بعد أن خرج من عاصمته وقصره، فأين أنت يا علية ابنة علاء الدين؟ لقد أنساني هم الحياة أن أخلو إلى خيالك وأسمو معه إلى سموات العلا. فأين أنت في مصاب ماهوش؟ أبكت عيناك حزنا؟ أعصر قلبك هما؟ وهل امتلأ صدرك فزعا؟ أنظرت إليك العيون بغير ستر، وتشتت عنك الحراس والحجاب؟ ليتك لم تكوني سوى هذا الخيال الذي في فؤادي فلا تصل إليك الأيدي، ولا تدنو منك حوادث الدهر. لقد جنى عليك أنك في ماهوش، فكان لك مصير أهل ماهوش.
وكيف أقيم في هذا البلد الذي لا مكان لي فيه إذا كان خلوا منك؟ لقد كنت لا أرضى بماهوش بديلا وأنت في ذرى قصرك، فما مقامي بأرض ماهوش وقد كنت فيها أتنسم النسيم من قبلك؟ لقد أبيت الخروج من ماهوش على ظلمها حتى لا أبعد عن ديار يسطع نورك عليها، وتنبعث أنفاس طهرك فوقها. لقد أبيت أن أجيب دعوة ملوك البلاد إذ دعوني إلى قصورهم، وأصممت أذني عن نداء العلماء في أقاصي الأرض إذ نشدوني أن أعقد حلقات الدرس في مساجدهم. ولكن أأبقى بعد في ماهوش وقد نزحت عنها وليس لي مكان فيها؟
لقد دفعني غيظي بالأمس إلى عمل ما زلت ألوم عليه نفسي، فما كدت أدخل إلى داري بعد أن فارقني أبو النور حتى عادت الثورة إلى قلبي. إن ماهوش تذلني وتقهرني وتتجاهل وجودي. إن عيونها العشواء لا تعرف لي مكاني. وخطر لي أن أموت لو كان الموت في يدي. ثم تصورت نفسي ميتا في نعش يحملني الناس إلى القبر ويهيلون علي التراب، فرحمت نفسي وبكيت بكاء مرا.
ثم تصورت قومي بعد أن مت وأخليت مكاني بينهم في ماهوش. ألا يهزهم فقدي؟ ألا يشعرون بالوحشة من فراقي؟ ألا يحسون الندم على إغفالي وإهمالي في حياتي؟
واستقر عزمي آخر الأمر على أن أموت، فصلبت أطرافي وقلت: «أيها الموت أقبل.»
ولم يكن من الهين علي أن أظهر الموت وأنا حي أتنفس، ولكن الناس لا يقلبون الميت ولا يجرءون على جس أعضائه وتسمع ضربات قلبه؛ فالموت رهيب، وللميت حرمة تجعل الناس يهابون الاقتراب منه. فلما جاءت امرأتي إلى حجرتي ورأتني ممددا نادتني ولم يخل نداؤها من سبابي. فلم أجب على صراخها ولم أحرك شعرة من جفني. فجاءت الحمقاء حتى اقتربت مني ووخزت صدري. فلما لم أتحرك ووجدتني متصلبا صرخت وولولت وخرجت إلى الجيران تنعاني. ثم ما لبثت أن عادت وقد رأيتها من بين جفني تلبس سوادا من قمة رأسها إلى أخمصها، وكانت تصيح قائلة: «يا سبعي! يا سيدي وصاحبي!»
ولم يخل قلبي من الشماتة فيها لطول ما عذبتني قبل موتي، ولم أسمح لنفسي بأن أرق لها وأعود إلى الحياة، فبقيت متمددا متصلبا في ستر ظلام حجرتي.
ثم كان ما كان وغسلت وجهزت ووضعت على الفراش حتى يأتوا بالنعش، وكنت أسمع ما يدور حولي من الأحاديث، فعرفت كيف استقبلت ماهوش نبأ موتي. لم يبق في ماهوش رجل ولا امرأة إلا أسف علي وحزن لفقدي. وتحركت أريحية الناس فجمعوا من المال وأنا ميت ما لو جمعوه لي من قبل لكفوني مئونة الحياة، ولما بعت داري، ولعشت بينهم قرير العين لا أفكر في موت. وسمعت البكاء والعزاء حتى امرأتي ريمة كادت تقع على الأرض من لطم خديها. وكنت كلما أتت طائفة جديدة للعزاء كتمت أنفاسي حتى لا يغيب عني حرف مما يقولون. فخرجت من كل ما سمعت على أن أهل ماهوش مجمعون على محبتي وإكرامي. وكانوا يتذاكرون فكاهاتي ويحفظون من أقوالي ما لا أذكر أنه صدر عني، فكانت تلك الساعات التي قضيتها في انتظار النعش أسعد أيام حياتي.
ثم جاء صديقي أبو النور، وكان غائبا يعد لي جهازي ويختار موضع قبري، وجاء يحمل أكفاني وحنوطي، ولم ينس أن يفرش لحدي بالرمل والحناء ليكون أرفق بجثماني. ولما دخل علي جلس إلى جانبي، ولم أسمعه يتكلم أو يشهق ببكاء أو يتحدث برياء، ولكني كنت أعرف أنه حزن لفراقي حزنا أعمق من الدمع والرثاء. وقد شعرت بيده تجسني على حين فجأة، كأنه لم يؤمن بموتي. وكانت يده كلما اقتربت من وجهي أحسست رغبة شديدة في أن أقبلها. ولمت نفسي على أنني خدعته كما خدعت الناس، وأدخلت على قلبه الحزن من أجلي، حتى كدت أهمس له بالحق لولا أنني خفت من افتضاح أمري.
ثم حملت بعد أن تم تجهيزي ووضعت في النعش، وسار المشيعون من أمامي ومن خلفي، بعضهم ينشد الشعر وبعضهم يتلو القرآن، وبعضهم يحدث جاره في شئون تجارته أو سيرة جيرانه. وكان للمشهد ضجيج عظيم ينبئ بما فيه من عدد عديد. وما زلت محمولا في طرق ماهوش وأنا أعرف كل موضع حملت فيه، مما كان يصل إلى سمعي من أصوات الأسف يبعثها النساء والصبيان من بيوتهم. فهؤلاء جميعا أهل ماهوش الذين لم أجد وسيلة إلى العيش فيهم حتى اضطررت إلى أن أموت موتا. وأخيرا بلغ المشهد إلى جانب النهر - نهر ماهوش - من ناحية الجسر الأعظم، فخفق قلبي لذلك النهر الذي طالما خفق لمنظره وأنا حي. وكنت منذ يومين قد رأيته فاض وعلا حتى صارت أمواجه ترتطم بالشاطئ ويسمع عجيجها عن بعد ميل. وكانت العادة أن يخوض الناس فيه حتى يبلغوا الجانب الآخر حيث جبانة المدينة. ولكن النهر لم يسبق له أن علا وفاض كما فعل منذ يومين.
وأحسست عند ذلك وأنا في نعشي ترددا واضطرابا في الذين يحملونني كأنهم خافوا أن يخوضوا في الماء الثائر. وكان ذلك الجزء من النهر عميقا، ولو خاضوا فيه لغرقوا وغرقت معهم، ولا أنكر أنني خشيت على نفسي أن يخطئ المشيعون خطأ لا يداوى. وكنت أعرف في النهر موضعا آخر لم يبلغ الماء فيه إلا علوا ضئيلا؛ إذ هناك صخرة كالجسر تعترض مجراه. فتجلدت وتمطيت وشددت نفسي من أربطة الكفن، وقمت برأسي حتى رفعت الغطاء الحريري الذي فوق النعش. ولما أشرفت على المشيعين صحت فيهم قائلا: من هناك، من هناك، فالمخاضة عن يساركم.
وكانوا في شغل ينظرون إلى النهر ويتحاورون كيف يجتازونه، فما كادوا يسمعون صوتي حتى ارتفعت منهم صيحة فزع وتفرقوا يلتمسون السبل كأنهم قطيع من شياه طلع عليهم ذئب كاسر. ورمى الحمالون النعش في عنف حتى أحسست عظامي تقعقع، فإذا بالمكان يخلو فلم يبق فيه إلا صديقي أبو النور وواحد من القراء كان لا يستطيع جريا.
فأخذ أبو النور يفك عني أكفاني بأنامل مضطربة من الفرح وهو يقول: لم يصدق قلبي أنك مت حقا.
وبعد قليل سكنت صدمة الخوف عن الناس فعادوا نحوي ولهم ضجيج وعجيج، يقذفونني بوابل من ألفاظ التقريع والتأنيب. ولا عجب في ذلك؛ فقد رأوا أنني لم أزل حيا، وعبارات المودة لا تساق إلا إلى الأموات.
فقمت بينهم متسترا بأكفاني، وحاولت أن أعتذر إليهم مما سببت لهم من المتاعب، وبالغت في ذلك حتى خيل إلي أنهم قد عفوا عني. ثم طلبت منهم أن يعطوني ما جمعوه من المال من أجلي، وما أخذوه من الناس باسمي، حتى لا أضطر أن أموت مرة أخرى، فانهالوا علي بالشتائم وسموني محتالا وضحكة وخائب الرجاء، ثم انصرفوا عني.
فعدت نحو داري أتوكأ على صديقي أبي النور وأجر أذيال أكفاني، وأنا أقطع نفسي أسفا وغما، ولم أجن من وراء كل تدبيري شيئا.
وكان أبو النور أشد ألما مني؛ فكانت الدموع تتساقط على ثوبه كأنها سمط متصل، والأنفاس تهز صدره هزا عنيفا بعد أن كان هادئا صامتا. وقضى معي تلك الليلة حتى طلع الفجر ولم يفارقني لحظة، ذلك الصديق العزيز!
أما أنا فقد عزمت على أن أهاجر من ماهوش، فلن أبقى في بلد لا أجد لي مكانا فيه، حتى إن الموت نفسه لم يفسح لي بينهم محلا.
الفصل الحادي عشر
خرجت من وطني ماهوش أسير كالأعمى، والأفكار تحتوشني من كل جانب، والأنفاس تكاد تمزق صدري. ونظرت حولي فرأيت ربوة ماهوش الخضراء تبسم للصباح؛ إذ تلقي عليها الشمس أول شعاعها الذهبي. ورأيت سماءها والسحب تزخرف أطرافها بنسيج سحري من الفضة والذهب واللؤلؤ والياقوت. هذه السماء هي التي ملأت قلبي تسبيحا وعلمتني من المعاني ما تعجز عنه كتب الفلاسفة ومباحث العلماء. وألقيت نظري على نهر ماهوش إذ تنحدر إليه الجداول الصافية، تتدفق من عيون رائقة باردة تنبع من قمة الربوة، ثم تسير في جداولها التي تلمع في مجاريها الحصباء كأنها الدرر انفرطت من عقود الحسان. ورأيت بيوت ماهوش على سفح الربوة تتخللها البساتين بما فيها من نبت بين قصير وطويل، وبين مورق ومجرد، قد تداخلت ألوانها وتشابكت فروعها وتعانقت أغصانها، واهتزت للنسيم الوديع.
هذه ماهوش لذة العين وبهجة القلب وشفاء الصدر، أغادرها وأهاجر منها لأضرب في الآفاق. فناديت من أعماق قلبي: «يا نفس تجلدي، ويا عين أغمضي، ويا فؤاد التمس النسيان.» ثم سرت في الطريق أفكر فيما كان من شقائي في وطني الحبيب القاسي الذي لم أجد فيه لي مكانا.
وفيما كنت في طريقي مطرقا مفكرا أفقت على صدمة عنيفة دفعتني إلى جانب الطريق، وكادت تقذف بي إلى النهر الصافي، الذي ما زال منذ الأبد القديم يجري غير مبال إقامة الناس في ماهوش أو خروجهم منها. ولكني تماسكت وتعلقت بشجرة قريبة، وتلفت حولي لأرى ذلك الذي كاد يحطمني بصدمته، وامتلأ قلبي غما وتشاءمت برحلتي. فهذا أول الطريق أصطدم فيه وأخبط بمثل هذه الخبطة الشديدة. فرأيت فارسا من جنود تيمور هؤلاء أصحاب القلانس العالية، الذين يحسنون الانتفاش في ملابسهم الزاهية. وكان ينظر نحوي كأنه ينتظر مني أن أشكره على صدمته. فاعتراني إحساس لا أستطيع وصفه إلا بأنه مزيج من الخوف والغضب؛ فإنني رجل لا أحب الحروب ولا من يخوضونها، ولا أطيق أن أرى دجاجة تذبح تحت ناظري. فكيف بي وقد رأيت أمامي رجلا من جنود تيمور الذين يملئون الأرض دماء؟ كانت نظراتي إلى الفارس تنم عما كان في نفسي، ووقفت أتأمله، وكان منظره في الحق عجيبا. كان مثل الببغاء في زينته الكاملة: من قلنسوة حمراء فوقها ريشة زرقاء، من تحتها عباءة صفراء تغطي ملابس أخرى لا أعرفها بيضاء وخضراء، ولف على وسطه منطقة سوداء، ودلى في جنبه سيفا مقوسا منقوشا بالذهب والفضة، مرصعا بالجواهر، ومن تحته وتحت كل زينته جواد كريم لا يقل في ألوان زخرفه عن صاحبه. فقلت في نفسي: «سبحان الله! ما هذا كله؟» وجعلت أصعد فيه بصري وأصوبه من أعلى ريشته إلى حافر جواده، وأحسست أن خوفي وغضبي قد تبدلا وامتلأ قلبي ضحكا. فتبسم الفارس وأخذ يكلمني بلغة لم أفهم منها إلا يسيرا، فهمت منه أنه يريد أن يعرف من أنا، فقلت له أريد أن أصرفه وأتجه في سبيلي: «أنا فقيه.» ثم هممت بالسير، فهمز جواده يسايرني وقال وفي صوته رنة السرور: «فقيه؟»
فهززت رأسي أن نعم، ومضيت في سبيلي. ولكنه كرر سؤاله في اهتمام. فخشيت أن ينخدع الرجل عن حقيقتي، وهو لا يعرف لغتي. فلعل لهذا اللفظ (فقيه) معنى آخر عنده، مثل تاجر أو صيرفي أو جوهري، فيحسب خطأ أنني ممن يطمع فيهم رفاق الطريق، فيبادر بإيقاع الأذى بي، فبادرت قائلا: «أديب.» واخترت هذه الكلمة لأنها معروفة للناس جميعا، ولا تحمل لبسا، ولا يختلط على أحد معناها؛ فكل الناس يعرفون من هو الأديب. هو الرجل الذي لا يملك من حطام الحياة شيئا. ولكن الفارس لم يعجبه هذا اللفظ، وكرر الكلمة الأولى سائلا: «فقيه؟» فملأت عيني منه وتنازعني الخوف، ولكني رأيت أنه قد بدأ يعبس. فخفت إن ضحكت أن يغضب، واكتفيت بأن هززت رأسي له بالإيجاب، وفوضت أمري إلى الله. فأسرع الرجل فنزل عن جواده وفتح لي ذراعيه، وأقبل علي يضمني إلى صدره، ويقبلني بين عيني، ويرطن بكلام كثير. ففهمت منه إجمالا أنه قائد كتيبة في جيش تيمور، وأنه طالما طمع في أن يكون عنده فقيه ليكون لكتيبته زينة إسلامية. فلما عرف أنني فقيه سره ذلك، وعزم على أن يأخذني معه. ثم أمرني في رفق أن أسير وراءه، فقلت: «سبحان الله! أهذه محنة جديدة؟» ووقفت حائرا مترددا. فنظر إلي وصاح بي مكررا أمره أن أسير وراءه. فلم أجد بدا من السير، ومضيت في أثره مطرقا أفكر في أمري. ثم قلت أعزي نفسي: «إن السير وراء هذا الفارس لن يغير شيئا من حالي؛ فقد خرجت من ماهوش لأسير في الأرض، وسواء لدي شرق وغرب.» وانطلقت أمشي قريبا من ذيل جواده وأنا أكاد أغمض عيني.
وما زلنا نسير حتى مالت الشمس عن كبد السماء، وأخذ التعب يدب في أوصالي ، فنظرت إلى الفارس لعلي أرى عليه علامة تبشر بأنه يريح جواده، فلم أجد على مظهره ما ينم عن شيء من ذلك؛ لأنه كان يهز رجليه ويغني مرحا. ومضى زمن طويل بعد ذلك حتى بلغنا قرية، فاجتزنا بها. وفيما نحن خارجان منها طلع علينا فارس آخر عند منعرج الطريق، فلما رآنا أقبل نحونا يسعى، وكان في زينته أشبه الناس بصاحبي، حتى خيل إلي أنه توءمه وقد ولدا معا فوق جواديهما. فلما اقترب الفارس منا حيا صاحبه ووقف حياله يحدثه، ثم التفت نحوي وجعل يفحصني ببصره حينا، ثم عاد إلى صاحبه يراطنه باهتمام. ولم أدر ما كان بينهما من الحديث إلا أنني سمعت الفارس يصيح وهو ينظر نحوي: «فقيه؟»
فخفق قلبي خفقة شديدة، ونظرت إليه مندهشا، ثم أحسست أن الضحك يكاد يغلبني، فملكت نفسي وقلت باسما: «نعم فقيه.» فنظر إلي صاحبه وجعل يحادثه، ثم سمعت الحديث يحمى والألفاظ تسرع فيما بينهما، ثم رأيت الرجلين يجردان سيفيهما ويقف أحدهما حيال الآخر وقفة الحرب والنزال. فدب الأمل إلى قلبي وقلت لعل هذا أول الفرج؛ فليس للفريسة من أمل إلا إذا تطاحن عليها الوحوش. ووقفت أنظر إليهما متفرجا، وكانا مثل ديكين وقفا ليتناقرا. ولكني لم ألبث إلا قليلا حتى رأيت المنظر يتحول فجأة تحولا كريها؛ فإن الفارسين لم يقفا وجها لوجه إلى نهاية المعركة المرة، بل رأيت صاحبي الأول يتجه نحوي مجردا سيفه ليقتلني؛ نعم ليقتلني أنا. ونظر قبل أن يتم عمله إلى قرينه وقال له ما معناه: «سأقتله حتى لا يكون لي ولا لك.» ففهمت من هذا أن ما بينهما من الجدال كان في شأني، وعلمت أن صاحبي أراد أن يحسم الخلاف الذي بينه وبين صاحبه بأن يبقر بطني. وكان لا بد لي من الدفاع عن نفسي بما استطعت، فصحت قائلا: «حاسب، ماذا تريد؟»
فتوقف الرجل وجعل يبين لي قصده في لهجة الاعتذار. فقلت متكلفا الهدوء: «هذا رأي غير صائب.»
فرد علي بكلام كثير يحاول به أن يفهمني أنه لا يريد إلا العدالة؛ فإنه لا يليق عدلا أن أكون فقيه غريمه بغير حق؛ لأنه قد سبق إلى وضع يده علي. فلم أرد أن أجادله في ذلك، والعدالة على أية حال أمر نسبي يختلف الناس في فهم معناها؛ فيراها القوي من زاوية، والضعيف من زاوية أخرى، ولا سبيل إلى تلاقي نظرتيهما. ولم أجد وسيلة تنجيني من هذه العدالة إلا أن أجرد لها لساني وحيلتي. فقلت وأنا أرتجف: هذا كلام حسن. ولكن ألا ترى أيها الشجاع أن تحتفظ بي حيا؟ فإني أقدر على أن أنفعك، وتستطيع أن تجد في خيرا كثيرا.
فنظر إلي غير مصدق، فقلت له مسرعا: أنا رجل شاعر، أقدر على أن أرفع من شأنك حتى يراك الناس سيد الخلق، وأقدر على مدحك بما لا تتصور أنه فيك، فيصدق الناس أنك أفضلهم وأسمحهم وأعلمهم وأعقلهم وأحكمهم وأشجعهم.
ولست أدري أفهم قولي أم لم يفهمه، ولكني رأيته قد لان ورق لي، فأتبعت قولي: إنك رجل باسل بغير شك، وتستطيع أن تقاتل خصمك حتى تقتله أو تعجزه. فإذا تم لك ذلك سرت وراءك شرقا أو غربا كما تشاء.
ولكن هذا الرأي لم يعجبه، فأطرق مفكرا وهو يتأفف، ثم رفع رأسه بعد حين وقد تهلل وجهه كأن فكرة موفقة سنحت له، وتقدم نحوي باسما ووضع يده على كتفي قائلا: «عفارم!»
ثم لوى عنان فرسه وأسرع إلى صاحبه، وسرت وراءه في لهفة، فسمعته يقول له: «أتذكر الكلب الأسود الذي أودعته عندي؟» فقال له الفارس باهتمام: «نعم بلا شك، وأنا في حاجة إليه.» قال له صاحبي مبتسما في خبث: «إذا أردته فانزل لي عن هذا الفقيه.» وأشار إلي. وصمت قليلا ثم قال: «وإلا فإني قاتل كلبك عند عودتي.» وكانت هذه الكلمات كالصاعقة إذا انقضت على الرجل. فنزل عن جواده مترنحا وجثا على ركبتيه، وجعل يتوسل إلى صاحبه بكل كلمة رقيقة أن يبقي على كلبه، وأن يفعل بي ما شاء. ثم مسح دمعة ثارت في عينه، وسلم لصاحبه بغير قيد ولا شرط. ولست أنكر أنني قد رققت للرجل في حزنه من أجل كلبه، وشيعته بنظري وهو منصرف عنا وفي قلبي مودة له ورحمة.
ولم يطل بنا الوقوف بعد ذلك، فسار صاحبي المنتصر في طريقه، وأمرني أن أسير وراءه، وجعل يهز رجليه ويغني. وسرت وراءه في شيء يشبه الذهول، أتحرك بلا وعي كالآلة الصماء.
وكاد النهار ينصرم وأنا أجرر قدمي وراء الجواد، وتمشى التعب في مفاصلي وعروقي، واستولى الضيق على نفسي، ولاح لي الفضاء مثل لجة البحر الهائج لا تقع العين فيه إلا على سر مجهول. ثم أقبل الليل بعد أن كادت نفسي تزهق، فدعوت الله أن يبعث الفرج. ونظرت إلى الفارس في حقد، وأخذت أتلو بعض آي من القرآن. وما كان أشد فرحي عندما رأيته يقف فجأة كأن شيئا أمسكه، ونزل عن جواده وجعل يمشي وينظر حوله ليختار مكانا للمبيت. وكنا قد بلغنا جانب غابة عظيمة لا تبلغ العين آخرها، قد اكتست أرضها بالعشب الأخضر، وتشابكت في أعلاها الغصون. فجلست لألقف أنفاسي وأريح أعضائي. ولم يلبث الظلام أن أرخى سدوله، ثم طلع القمر وكان شعاعه يفيض على الغابة جمالا باهرا. وهدأ حر النهار إلا ما بقي منه كامنا في الهواء إذا هب رخاء من الغرب. وأخذ نور القمر يزداد حتى تخلل فرجات الأغصان، وكسا البساط العشبي الذي تحتها، وتراقصت الظلال وتلاعبت كلما هبت نسمة من النسمات. فاسترعى ذلك الجمال بصري وجلست ساعة أتأمله. وكانت المتعة التي أصبتها كافية لإزالة تعبي واضطرابي، وشعرت بنشوة تملأ صدري، ورأيت صاحبي الفارس قد خلع قلنسوته ووضع جعبته وإداوته على الأرض، وأطلق فرسه يرعى، وجعل يسير في أطراف الغابة يجمع الأحطاب. فاسترحت إلى منظره الإنساني وأنس قلبي إليه، وأخذت أنفاسي تعود إلى هدوئها، ودب البشر إلى نفسي.
ولما شعرت بما داخل نفسي من الخفة قمت متجها إلى الفارس وقلت له مستعيرا لفظه: «عفارم أيها الشجاع!»
ولم أقصد من قولي شيئا سوى أن أحدثه، وما كدت أفاتحه بهذه الكلمة حتى استجاب وأقبل على حديثي منطلقا كأنني فككت بالكلمة عقدة لسانه. وسأعيد ما قاله لي بلغتي؛ فقد كانت لغته رطانة لا تفهم إذا نقلتها عنه نصا. قال باسما: سأهيئ لنفسي طعاما وشرابا، نعم فإني أهيئ طعامي بيدي دائما، ولا أحب أكلا إلا إذا طبخته وسويته، ومازجت بين ما يقلى منه وما يسلق، وقدرت ملحه وذررت عليه الأفاويه بمقدار.
ثم استمر يضرب الأمثال مما صنع، ويذكر الصنوف وتواريخ صنعها، وهو في أثناء ذلك يذهب ويجيء يجمع الأحطاب في ضوء القمر. فقلت له باسما: «هذا بديع، ولا شك في أنك رجل ماهر.» فنظر إلي مسرورا وبدت نواجذه السوداء من فمه الأهتم، ثم مال على جعبته وأخذ ينكشها قائلا: «ليس هنا إلا بقايا مجففة، ولو كان في الوقت فسحة لكان عشائي لحما طريا.» ثم أشار بيده إلى الغابة وقال: «سأريك في الغد إذا بقينا هنا كيف أسدد الرمية، وكيف أثبت الطير في كبد السماء.»
فقلت له باسما: «إن من كان مثلك لم تعص له الوحوش أمرا.»
فقال مرتاحا: «وإذا شئت فإني أريك كيف أطعن بالرمح، وكيف أحطم بالدبوس؛ فإني صاحب السبق في هذه الفنون جميعا.»
فضحكت ضحكة لأخفي الرعشة التي سرت في جسمي، وقلت مبادرا: «لا، لا، ليس في هذه الحال التي نحن فيها ما يدعو إلى رمح أو سيف.»
فمضى في حديثه، وجعل يصف لي مغامراته ومنازلاته، وكلما بدا على وجهي أثر من قوله زاد حماسة، حتى كان أحيانا يمسك عن العمل لكي يشير بيديه. وفطنت إلى أنني أضيع عليه بعض وقته، فانتهزت فرصة سكوته لحظة وهو مشغول بقدح زنده ليوري به نارا، فتسللت ذاهبا نحو الغابة، ووقفت أتأمل أشجارها، ومالت نفسي إلى أن أجول فيها جولة ثم أعود بعد أن يكون صاحبي قد هيأ طعامه.
وسرت في الغابة، وكان للهواء فيها عطر خفيف من رائحة الأوراق والأزهار، وكانت ألوان الشجر مختلفة وأشكاله متباينة، فمنه ما كان غزير الورق، ومنه ما كان عاريا، ومنه ما كان ضخم الجذع وما كان دقيقا يتسلق متوكئا على غيره. وجعلت أتنقل في الغابة من بقعة ضاحية يغمرها نور القمر إلى أخرى ظليلة تتراقص فوقها الظلال، وكان الليل الساجي يفعل في نفسي فعل السحر، فلم أشعر بمرور الزمن ولا بطول السير، ولم أتلفت إلى ورائي لأنظر أين صرت من صاحبي، حتى رأيتني بعد حين أمام صخرة وعرة لم أنظرها إلا عندما صرت على خطوات قليلة منها، كأنها خرجت فجأة من جوف الأرض لتعترض سبيلي. فاتجهت نحوها فوجدتها ربوة مهشمة مدببة الجوانب كأن سطحها كله من أنياب وأظفار، وهي تنطوي على كهف يبعث الرهبة في النفس، تخرج من ثناياه قناة فيها ماء صاف كأنه بلور مذاب، ينساب جاريا وهو يغني بخرير يلذ للأسماع، خافت يشبه التهانف بالضحك في مزاح العذارى. وكان يهبط إلى حوض من الصخر مهشم مصقول يلمع النور فوقه، فإذا هو يبدو أخضر مثل قطعة من الزبرجد من أثر ما عليه من الطحلب الدقيق. فوقفت لحظات أتأمل المنظر البديع، وكانت عيني لم تقع من قبل على مثله، فشملتني نشوة، واهتزت نفسي طربا، ونسيت ما كان من هجرتي ووحدتي، حتى لقد نسيت جوعي، ووجدتني أدندن بالغناء. وتواردت علي الألحان المشجية، فجلست على جانب الصخرة وغبت في غمرة أشجاني، وجعلت أقلب عيني وأتمتع بالمنظر، وملأت صدري من الهواء العطر، ووجدت كل حواسي نصيبا من اللذة من خرير الماء منسابا في جداوله، إلى ريح الزهر المشتعل في خمائله، إلى لون الورد الناعس في غلائله.
جلست هناك وقتا لا أدري أقصيرا كان أم طويلا، ثم شعرت فجأة بشيء من الرهبة يمسني من السكون العميق الذي حولي، فما كدت أتنبه له حتى خيل إلي أنني في عالم صاخب مضطرب. سمعت خفق الأوراق على الأعواد، ووسوسة النسيم بين الغصون، وخشخشة الحشر بين الحشائش، فاضطرب خيالي ووقف شعر رأسي، ولم أطق البقاء مكاني، وهممت بالرجوع إلى موضع صاحبي، فنظرت حولي لأرى الطرق التي جئت منها فلم أجد أمامي إلا غابة شجراء، وضوء القمر يسطع من فوقها ويتخللها. فخيل إلي أن المكان قد امتلأ أرواحا من الجان تتلاعب وتتواثب من حولي، وأسرعت في سيري وأنا أتلفت ورائي ولا أتبين لي طريقا . وفيما أنا كذلك لاح لي عن بعد شيء يتحرك، يشبه أن يكون قطا أو فهدا أو ظبيا أو ذئبا أو غير ذلك مما يسير على أرض الغابات يلتمس قوتا. فشعرت بوجهي يتقد، ورفعت يدي لألتمس جبيني فوجدته باردا تبلله قطرات من العرق. وحاولت أن أشجع نفسي بأن أسمع صوتي، فحاولت أن أغني، ولكن الألحان شردت عن ذهني، وجعلت ألوم نفسي على هذا الفزع الذي لا سبب له، وأجاهدها بكل ما استطعت أن أتذكره من الحكم. ولكن ذلك كله لم يجدني شيئا.
ثم سمعت صوتا لا شك في أنه كان صوت حيوان مسكين يعاني الآلام المبرحة بين أنياب عدو مفترس أو مخالبه أو أظافره. فوقفت حيث كنت وجعلت أستمع. وأمسكت أنفاسي فسمعت الصرخات تتوالى في فزع، ثم سمعتها تضعف قليلا قليلا ثم انقطعت فجأة. لقد استسلم الحيوان المسكين بعد أن ضعف واسترخى وخضع لما لا حيلة له فيه، وذهب إلى المصير المحتوم في جوف الوحش المفترس، كما ذهب ألوف وألوف من أسلافه على مر الدهر الطويل.
ولم يكن من العجيب أن يسطو حيوان على آخر في الغابة؛ فإن هذا هو قانونها الأزلي. ولم يكن من العجيب أن أجد مثلا جديدا من احتيال الكائنات على اقتناص الرزق؛ فإن قانون الغابة كان دائما هكذا: من عز بز، ومن غلب افترس، ومن استطاع صيدا اصطاد، ومن قدر على الروغان راغ. ولكني مع هذا اهتززت هزة عنيفة عند سماع ذلك الصوت. فلما عاد السكون العميق إلى الغابة خيل إلي أن ذلك الصمت أكثر ضجة من أعنف الهيعات في معامع الحرب. وصرت كلما خطوت خطوة تمثلت حولي نضالا متصلا فيه فتك وفيه فناء وفيه مطاردة وهروب. وكلما مررت بكومة من الأوراق الجافة وسمعت بينها خشخشة تمثلت لي صورة معركة دامية بين قوي وضعيف أو بين سريع وبطيء. ولج بي التصور حتى ضاقت نفسي بالسكون الشامل الذي لا ينطوي على سلام بل يستر تحته حربا متصلة قاسية.
وتمنيت لو تمزق هذا الصمت عن زمجرة الأسود وضحكات الضباع وفحيح الأفاعي؛ فقد كان ذلك أرفق بنفسي لأنه لا يخدعها بمظهر كاذب من سلام مموه خداع. وبدت لي الحياة الإنسانية عند ذلك جنة نعيم إذا قيست بالحياة في هذه الغابة الساكنة؛ لأن الإنسان قد أقام قوانين تحمي الضعفاء من الأقوياء، وتبيح للبطيء أن يسعى على بطئه، وللصغير أن يبقى على هوان أمره. وأسرعت في سيري وأذهلني الاضطراب عن التفكير في مكاني أو في المآل الذي ينتهي إليه سيري، وجعلت أخبط بين الشجر خبط عشواء، لا أبالي أين تحملني قدماي. ولم أتنبه إلا فجأة وقد لاحت لي بين الأشجار عن بعد أنوار لهيب تسطع فوق الجذوع والأغصان. فعادت إلي صورة صاحبي الفارس، فاتجهت إليه، وكان السير قد أجهدني واضطراب الفكر قد نال مني، فأحسست بتعب شديد يشيع في أعضائي، وتمنيت لو اتخذت من بعض أكوام الورق الجاف فراشا. ولكني تحاملت على نفسي حتى بلغت مكان الفارس، فوقفت لحظة أنظر إليه وهو منصرف إلى إعداد طعامه، ينحني على النار ليضع فيها أعوادا تزيدها ضراما، ويميل عليها ينفخ فيها ورأسه الأصلع يلمع في ضوئها والشرر يتطاير من حوله. فلما أحس بمقدمي رفع رأسه وهو يبسم سرورا، حتى بدت أسنانه السوداء من تحت شاربيه. فارتميت إلى جانبه خائر القوى، وخرجت مني آهة نفست بها عن صدري. فقال لي بعد أن نفخ في النار نفخة: «لقد سرت طويلا.» فقلت له في صوت ضعيف: «أما نضج طعامك؟»
فقال في مرح: نعم كاد ينتهي، حساء وأرز بقطعة من زند البقر.
فقلت له: هنيئا مريئا.
فقال وهو يبلع ريقه: وسنبوذج ولوزينج.
فقلت ضاحكا: إنها وليمة.
فضحك وقال وهو يشير إلى زق من جلد المعز: وكأس من النبيذ المعتق.
فقلت مبادرا: أما هذا فلا شأن لي به.
وما كدت أنطق بهذه الكلمة حتى خجلت خجلا شديدا؛ لأن لفظي خانني. كنت حقا شديد الجوع، ولكن ما كان ينبغي لي أن أدعو نفسي إلى طعامه. وكأنه قد لحظ خجلي فقال لي مترفقا: ستذوق طعامي وستحكم على مهارتي.
فسرى عني وقلت مبتسما : أشكرك، إنك رجل كريم. فنظر إلي مسرورا، وهز رأسه مرتاحا إلى مديحي، وكشف غطاء القدر وجعل يقلب ما فيها بخنجره وهو يمص شفتيه، ولا أكتم أن رائحتها كانت تنفذ إلى أعماق صدري طيبة شهية، وأخرج قطعة لحم فجسها بظفره ثم أعادها إلى القدر، وتحرك في مجلسه وفرك يديه مسرورا وقال: «سيكون عشاء عظيما.» ثم قام يهيئ السفرة، فقمت معه لأساعده، وما هو إلا قليل حتى كنا نتسابق في التقام الطعام.
ولم يقم الفارس عن طعامه حتى شرب أكثر زقه وتركه على الأرض مفشوشا، وكنت قد أمتعت نفسي بالطيبات وأثنيت على طعمها ورائحتها، وكان القمر لا يزال في كبد السماء، فقمت لأصلي ما فاتني من الأوقات. وجلسنا بعد ذلك نتسامر، حتى طالت ظلال الأشجار تحت القمر المنحدر، واشتد برد الليل فتلففت في ثيابي، واضطجعت فوق كومة من الحشيش الجاف وتغطيت بشيء منه، وعمد صاحبي إلى كومة أخرى ففعل كما فعلت.
الفصل الثاني عشر
قمت في الصباح فتوضأت وصليت. وكانت الصلاة إلى جانب الغابة قرة عين؛ فهناك كنت أتمثل قدرة الله في خلق هذا الكون البديع، وكنت أصلي بقلبي وعقلي ولساني. ثم أخذ الفارس يستعد للسير بعد أن أصاب شيئا من الزاد وأشركني فيه ونحن على عجل، وأقبل على فرسه يمسحه ويخدمه وأنا أنظر إليه متعجبا وأسائل نفسي عما جمعني به. فسرحت أفكاري فيما رأيته الليلة السابقة من نضال بين الأحياء، حتى كدت أعتقد أن الحياة الإنسانية ليست إلا جزءا من حياة الغابة. وكدت أنكر ما توهمته من فضل امتاز به الإنسان على سائر الحيوان؛ إذ أقام لنفسه نظاما وسن من القوانين ما يحمي الضعيف من القوي، ويكفل الحياة للصغير والبطيء. كدت أنكر كل هذا، بل لقد خطر لي أن الحيوان في الغابة أسلم وآمن فيما بينه وبين نفسه؛ لأن النضال إنما يكون بين صنوف مختلفة منه؛ فالأسود لا يفترس بعضها بعضا، ولا يتخذ بعضها البعض خدما، ولا تفرق بين أنفسها بحدود، ولا تجعل في جنسها أمما يحتقر بعضها بعضا أو تتقاتل وتتفانى فيما بينها. وهي لا تتناكر ولا تتشاحن؛ لأن الله لم يصبها بذلك المصاب الوبيل؛ تحريك اللسان بنطق اللغات. وليس فيها من يميز نفسه على سواه بعلامة مصطلح عليها، فلونها واحد وأنيابها متشابهة، وذيولها سواء في طولها، ولم يمتحنها الله بمحنة الملابس التي يتخذها الإنسان وسيلة للتفريق والتمييز بين بعض وبعض؛ فكل فرد في الغابة مساو لكل فرد آخر من جنسه. جعلت أفكر في هذا حتى بلغ بي الأمر أن تمردت على الإنسانية، وجعلت أشتد في تعنيفها واتهمتها بأنها تداري سيئاتها تحت ستار خداع استعانت به على إخفاء الحقائق عن نفسها.
لقد بدا لي عند ذلك أنني أسير وراء الفارس كما يسير فرسه من تحته، لا أملك أن أتحول عنه كما لا يملك الفرس أن يتحول عنه، وأنه إنما يخدعني إذ يترفق بي أو يبسم في وجهي؛ فإن جوهر الأمر كله أنه أخضع إرادتي لإرادته، وليس بعد هذا مرتبة أبلغ في القسر والعدوان.
وساقتني هذه الأفكار بدفعها حتى تصورت الإنسان أحمق الكائنات وأبشعها وأقساها، تمثلته عند ذلك عبدا للألفاظ التي كان يحلو له منذ القدم أن يخدع نفسه بها. كان في العصور السالفة ينحت قطعة من الحجر ويسميها بلفظ جميل، فإذا هي عنده إله مقدس يعبده ويتقرب إليه، ويقوم عليه السدنة والكهنة يتجرون باسمه الجميل. ثم ها هو ذا اليوم يجعل من الجرائم فضائل ويسميها أسماء جميلة؛ يسميها «الحرب» و«المجد» و«العظمة» وما هي إلا جرائم قتل ونهب وتدمير. هذا «تيمور» وما أحراه أن يكون في أعين الناس أشد المجرمين خطرا، وما أجدر الناس بأن يقيدوه في السلاسل ويجعلوه في مأمن لا يستطيع الهروب. ولكنه أفلح في أن يسمي جرائمه أسماء جميلة، فاستطاع أن يفوز بالسلطان الأعظم في الأرض.
ومر الوقت سريعا وأنا أنظر إلى صاحبي وأناجي هذه الخواطر المضطربة، ثم رأيته قام وركب وأشار إلي أن أسير وراءه، فقمت خاشعا ومضى في سبيله يهز رجليه ويغني على عادته. ولو واتتني خفة النفس لغنيت مثله، ولكن أفكاري أبعدت عني الألحان جميعا، فسرت مطرقا حتى سمعته بعد حين يناديني، فرفعت رأسي فرأيته يومئ إلي أن أقترب منه. ثم سألني هل أحب الركوب وراءه؟ فدار رأسي ولم أدر بم أجيب. فظن الرجل أنني أتردد لأني لا أعرف الركوب، فتحرك وجعل يبين لي الطريقة المثلى لمن أراد أن يعلو ظهر الخيل، وعلمني كيف أضع رجلي اليسرى في الركاب، وكيف أتحامل عليه وأثب على ظهر الفرس، ثم مد يده لكي يساعدني حتى علوته من ورائه. وخشيت أن يرانا أحد على هذه الحال فيسخر منا، فتلفت حولي فلم أجد أحدا، فسكنت وراءه وأمسكت بردائه، ووجدت بعد قليل راحة في الركوب بعد السير الذي هد قواي في اليوم السابق.
واتصل الحديث بيننا، وكنت أجد بعض المشقة في فهم أقواله؛ فقد كانت لكنته الأعجمية تخفي ألفاظه، ويزيدها فسادا أنه كان أهتم لا يحسن النطق بالحروف. ولكني مع هذا كنت أفهم مجمل قوله تخمينا، ولم تكن الحاجة تدعو إلى فهم كل كلامه؛ فكان إذا أراد مخاطبتي لفت رأسه نحوي فأرى صفحة وجهه كأنها صورة رسمها طفل في ورقة يعبث فيها، وإذا أردت أنا مخاطبته أخرجت رأسي من ورائه حتى يراني. ولست أدري كيف يرى صفحة وجهي، ولكنه كان بين حين وآخر يضحك إذا وقعت عينه على عيني حتى يبدي أسنانه السوداء المنثورة في فمه. فكنت أرد عليه بضحكة مثلها تخرج من ثنايا قلبي. وكان أكثر ما قاله لي لا يزيد على وصف مغامراته في الحروب مع تيمور، ويمكن الإنسان في سهولة أن يلخص ذلك كله في بضع كلمات: إنه شارك في سفك دماء الكثيرين من بني آدم.
وكنت أحيانا أضيق بحديثه، وأهم بأن أقذف نفسي من ورائه لولا أن الجواد كان يسير. فكنت أحاول أن أصرف حديثه إلى معنى لا يثير في خيالي مناظر الدماء، واستطعت بعد لأي أن أستدرجه إلى التحدث عن نفسه وعن أولاده، فوجدت ذلك الحديث أكثر إيناسا لأنه دلني على أن الرجل كان آخر الأمر إنسانا يعرف معنى المحبة.
وأخيرا دخلنا ريف جانبولاد ، وكان منظره بهيجا. كان الهواء يهب على البساط الأخضر فيتموج سطحه كما يتموج أمام هبات النسيم. وكان الزهر يتخلل الخضرة بين أحمر وأبيض وأصفر، ومن فوقه ترفرف الفراشات متنقلة متقلبة تتواثب كأنها تلاعب الزهرات فوق أعوادها وتضحك منها إذ هي لا تستطيع أن تثب وراءها. فملأني المنظر مرحا واهتزت نفسي بعواطف نقلتني إلى عالم من الأحلام، فنسيت الفارس وحديثه، وانطويت على نفسي أتأمل ما طبع فيها من الصور البديعة، وتصورت علية ابنة علاء الدين وقلت في نفسي: «أين أنت الآن يا ملاك السماء؟ وأين انتهى بك المطاف الذي شردك إليه تيمور؟» فما صحوت من تأملي إلا على وكزة في صدري، فإذا بصاحبي يدفعني بمفصل مرفقه دفعا مؤلما. فقلت له وأنا أكظم غيظي: «ماذا تريد مني؟»
فقال لي في حنق: «ألا تسمع؟ أقول لك انزل. انزل وأحضر اثنتين من هذه.»
فلم أفهم وقلت له مستفهما: «اثنتين من أي شيء؟»
فأدار وجهه نحوي وقال: «نعم. اثنتين من هذه ...» وأشار برأسه إلى حقل مزروع بالكرنب. ما كان أعجب صاحبي هذا في تقلب نزواته!
وكان الحقل يانع الخضرة يغطيه كرنب كبير تفتحت أوراقه الخضراء عن قلب أبيض صاف، فقلت مترددا: «بكم؟»
فوكزني مرة أخرى وقال: «انزل. هات اثنتين. ألا تفهم؟»
فلم أجد مهربا من وكزه إلا بأن أتحرك وأهم بالنزول، وكان لا يزال واضعا قدميه في الركاب يهزهما والجواد سائر به قدما. فصحت به: «قف الفرس.»
فشد اللجام ورفع قدمه اليسرى من الركاب، ثم ساعدني على النزول. ولست أدري ماذا فعلت؛ فقد وقعت عن ظهر الجواد وتشبثت بالفارس حتى كدت أوقعه معي، لولا أنه دفعني فوقعت على الأرض وحدي، وقمت أنفض التراب عن ثيابي، ثم اعتدلت وفي وجهي شيء من التحدي، فصاح بي غاضبا: «أسرع ثم الحق بي.» وهمز الجواد وسار في طريقه، فلم أجد بدا من الطاعة، وتلفت حولي فلم أجد أحدا، فملت إلى طرف الحقل ونزعت منه كرنبة قريبة، وما كدت أفعل حتى سمعت صوتا يصيح بي: «ماذا تفعل؟»
ثم خرج رجل من عريش في أقصى الحقل وجاء يجري نحوي. فنظرت نحو الفارس فوجدته بعد عني ولا يزال يهز رجليه فوق الفرس، فوضعت الكرنبة على الأرض وأسرعت لألحق به. ولكن صاحب الحقل لم يدعني، وجرى ورائي وهو يصيح ويهدد ويشتم، حتى أدركني وأخذ بتلابيبي. وسمع الفارس الصوت فالتفت ووقف الفرس، ثم لوى عنانه وأقبل نحونا مسرعا. وكان الرجل يدفعني في صدري ويكيل لي السباب كيلا، ثم رفع هراوة في يده وكاد يهوي بها على رأسي، لولا أن الفارس همز جواده وأدركني. فلما رآه الرجل أرخى يده وأنزل هراوته وأطلقني من قبضته، وقال في خوف وهو ينظر نحوه: «هل هذا معك؟»
ثم قال للفارس في خشوع: «هل هو معك يا جندي؟» فأقبل عليه صاحبي وأخذ يقتص منه بما شتمني به، ورفع يده بالسوط. فصاح الرجل: «لم أعرف أنه معك.» ثم جرى نحو الحقل فرفع الكرنبة التي قطعتها وقلع معها ثلاثا أخرى وجاء يحمل كل اثنتين في يد من يديه الغليظتين، حتى قدمها إلي؛ أربع كرنبات عظيمة منفوشة.
فقلت له حانقا: «ومن سألك أيها الأحمق أن تأتي بكل هذه؟» فانفجر الرجل كأنه أراد أن يفرغ كل غيظه في وقال صائحا: «خذ فاحمل. خذ أيها الكسول.» ثم جعل يدفع إلي واحدة بعد أخرى، وهو كلما أعطاني إحداها شتم شتمة جديدة ودفعني في يدي إذ يناولني. فلما فرغ منها انصرف عنا وهو يغمغم. وجعلت أحتال على طريقة أستطيع بها أن أحمل حملي، وقضيت في ذلك حينا أضعه في أشكال وأوضاع وهو ينفرط ويتساقط، حتى استطعت أخيرا أن أجمع كل كرنبتين على كتف وأمسك رأسيهما بيدي من أمام، ونظرت إلى الفارس منتصرا. فارتاح لما رأى وقال لي: «عفارم!» ثم ابتسم وهمز جواده وسار وسرت خلفه ولم يبق ثمة أمل في ركوبي.
لم نلبث أن أوغلنا في ريف جانبولاد، وكثر الناس على الطريق وفي الحقول، وكانوا كلما مر بي أحدهم نظر إلي نظرة طويلة يتأملني وأنا سائر وحملي يهتز فوق كتفي مع حركة جسمي، ثم يرفع كم ثوبه إلى وجهه ليخفي تحته ضحكته. فكنت كلما مررت بواحد منهم نظرت إليه، حتى إذا رأيته يرفع كمه بادرت كذلك بضحكة، فترتفع على أثر ذلك قهقهة صريحة مرحة كانت ترن في أذني أحلى رنين. أيها الأشقياء من بني الإنسان، التمسوا الضحك كلما أحسستم بالرغبة في البكاء، التمسوا الضحك كلما شعرتم بدبيب اليأس بين ضلوعكم؛ فإن اليأس لا يلبث أن يذوب تحت نوره الساطع.
هذا أمر مجرب عرفته من طول ما قاسيت في الحياة.
واقتربنا بعد حين من قرية، وكانت الشمس قد علت في كبد السماء واشتد الحر، فتحرك الفارس في سرجه ونزل إلى ظل شجرة في جانب ساقية على مقربة من القرية، واخترت لنفسي مكانا معتزلا، وجلست أنظر إلى الحقوق وإلى الناس ممن يذهبون إلى القرية أو يخرجون منها.
ثم تنبهت على صوت صاحبي يناديني: «هو. ألا تسمع؟» وكان إلى ذلك الوقت لم يسألني عن اسمي. فعذرته في جفاء ندائه لي، ونظرت إليه مستفهما. فأشار إلي بيده أن أذهب إليه، ثم قال: «ألم تجع بعد؟» وكنت بغير شك جائعا، فهززت رأسي أن نعم، وحسبت أنه كان يخفي طعاما في موضع لم أره، فقال لي: «إذن ماذا نفعل؟» ففاجأني سؤاله ولم أحر جوابا. أيسألني أنا عما نفعل؟ وهل سرت وراءه من ماهوش لأدبر له طعامه؟ ونظرت إليه والعجب مرتسم على وجهي، فأعاد قوله: «ألا تسمع؟ ماذا نفعل؟» فقلت له: «إذا لم نجد أكلا فلا يمكن الأكل.» فلم يعجبه ردي وقبض وجهه وأطرق قليلا، ثم رفع رأسه باسما وغمز بعينه مشيرا نحو القرية. فثارت في نفسي شكوك كثيرة، وهززت رأسي مستفهما. فضحك وقال: «اذهب إلى هناك، فالتمس لنا طعاما.» وكأن حجرا قد أصاب رأسي عند ذلك، فتراجعت أترنح وصحت: «ماذا؟» فأعاد علي قوله وإيماءته وبسمته، فزادت حيرتي. إن أهل القرية كثيرون يبلغون المئات أو الألوف، وقد عجزت عن صاحب حقل الكرنب وحده، فما بالي بهؤلاء جميعا؟ واستقر رأيي على الإباء. ولم يكن الجوع شاقا علي؛ فقد تعودت صوم رمضان، فلن أعجز عن صيام يوم واحد. ولكن الفارس صاح بي: «ماذا يؤخرك عن السير؟» فتجرأت وقلت: «إنني لا أملك نقودا.» فنظر إلي نظرة فيها ازدراء، ولكنه سكن لحظة يفكر، ثم لمعت عيناه وقال متحمسا: «عفارم! خذ هذه فبعها واشتر بثمنها.» وأشار إلى الكرنب. فسمرت في موضعي ولم أتحرك؛ إذ كانت هذه أخت الأخرى، ولا خيار بين البيض الفاسد. فلما رأى الرجل أنني لا أتحرك قام وهزني من كتفي هزة عنيفة وصاح بي: «هو، لا تضيع الوقت.» فلم أجد بدا من الطاعة، وحملت الكرنب وسرت به نحو القرية. فلما دخلتها وجدت جدرانا من الطين قد رصت رصا ليس فيها سوى فتحات صغيرة أذكرتني بيوت الدجاج. ورأيت الدواب تخرج منها فحسبتها حظائر الماشية جعلت في طرف من القرية. ولكني كلما سرت لم أر إلا جدرانا متشابهة، ورأيت الناس يدخلون ويخرجون منها بثيابهم المتربة وعيونهم الرمصاء. مساكين هؤلاء، هل يكون بينهم من يشتري الكرنب؟ وسرت حتى بلغت آخر القرية، فوجدت براحا من الأرض فيه أطفال يلعبون بكرة يتقاذفون بها. وكنت أحب الأطفال منذ خلقني الله، ولا أرى منهم أحدا حتى أذكر ولدي عجيبا وجميلة. ما كان أشوقني إليهما، وما كان أشد حنيني إلى رؤيتهما! لقد تركتهما منذ يومين طويلين كأنهما دهر من الدهور، وكنت لا أدري كيف أمسيا ولا كيف أصبحا، ولا أعلم هل أصابا عشاء أم فاتهما العشاء والإفطار. الله لهما من حبيبين، فهو أشفق عليهما مني وأبر بهما. وتقدمت نحو الأطفال وأنا أمسح دمعتي، ووقفت أنظر إليهم وشفتاي تختلجان وقلبي يخفق.
كم كان في هؤلاء من أمثال ولدي؟ وهل كان فيهم من تركه أبوه وهاجر من القرية كما هاجرت؟ مساكين هؤلاء الأبرياء، كانوا يلعبون في أسمالهم البالية، ويفركون أعينهم الرمصاء بأيديهم الملوثة. وتأملت وجوههم الشاحبة. لقد كانت جميلة لو امتلأت لحما ودما. ونظرت إلى أقدامهم السوداء، لم تكن سوداء وإنما هو الطين الكثيف الذي كان يغطيها بلونه الكالح القاتم. مساكين هم، ما كان أظرفهم في تواثبهم وتضاحكهم وتعابثهم! وتحركت نفسي إليهم فلم أملك أن اندفعت نحوهم لكي أشاطرهم ما هم فيه، وأعلمهم كيف يسددون الرمية؛ فقد كنت في صباي عميدا للصبيان في لعبهم. وما كدت أقترب منهم حتى سددت إلي الكرة من يد أحدهم، فوقعت في صدري وصدمتني صدمة كدت أصرخ من ألمها. لم تكن كرة، علم الله، بل قطعة من الطين اليابس القاسي. فوقفت ووضعت الكرنب على الأرض لأمسح ما علق بثيابي من الوسخ، وما كاد الشياطين يبصرونني أفعل هذا حتى علا ضحكهم وأقبلوا علي يصفقون ويستعدون لكي يتخذوني هدفا لقذائفهم. فخشيت على نفسي وحملت الكرنب مسرعا ورجعت من حيث جئت وأنا أسمع تناديهم وتضاحكهم وتحريض بعضهم بعضا على أن يسرعوا لتسديد قذيفة جديدة ليدركوا مني متعة أخيرة قبل منصرفي. وكان قلبي مع ذلك لا يزال يخفق حنينا إليهم عندما بلغت أقصى الميدان وبعدت عن مدى رمايتهم.
عدت بعد ذلك إلى نفسي وذكرت الكرنب والفارس، وجعلت أفكر في طريقة أحمل بها من يستطيع الشراء من أهل القرية على شراء سلعتي، فتذكرت الباعة في وطني ماهوش وهم ينادون على سلعهم بالأسجاع والنغمات المطربة، ويصفونها وصفا شعريا يحببها إلى الشارين. فجعلت أنادي على الكرنب وأتغنى به وأستعير له كثيرا من صفات الزهر والعطور والحرير. ولست أدري ما الذي حمل أهل القرية على أن يجتمعوا حولي ويضحكوا كلما سمعوا ندائي، كأنني كنت أناديهم لأضاحكهم. ومضى وقت طويل وأنا أسير والناس يسيرون من ورائي نساء وصبية وشبانا، ولم يتقدم أحدهم للشراء حتى يئست وعزمت على الرجوع خائبا. ولكني فكرت في ثورة صاحبي إذا عدت إليه بغير طعام، فنظرت إلى الجمع الذي كان حولي وسكت عن الغناء، وقلت لهم بكلام ساذج: «ألا يريد أحد في هذه القرية أن يشتري كرنبة مني؟» فضحكوا جميعا، واقتربت مني عجوز فقالت ضاحكة: «فعل الله لك، هل تريد بيعا؟ لقد كنا نحسب أنك تغني إعجابا بخضرك.» فأجبتها منكسرا: «أسأل الله لك الستر يا أماه، لم يكن بي إعجاب، بل لقد ضقت بها وثقلت على كاهلي، وإنما غنيت ليشتري الناس مني على عادة قومي في ماهوش.» فضحكت وضحك سائر من حولي وتصايحوا فيما بينهم: «غريب غريب.» وتواثبوا إلي من كل ناحية يقلبون ملابسي ويجسونها ويمسحون أيديهم عليهم، وجعلوا يمطرونني بالأسئلة عن وطني، ومتى جئت وإلى أين أذهب. ولم أستطع أن أجيب عن شيء من ذلك كله، بل شعرت بضيق شديد وصحت بهم في شيء من الضجر: «هذه كرنبات فاشتروها مني بدريهمات أشتري بها طعاما.» وكأنهم سمعوا مني مزاحا، فصاحوا ضاحكين وقالت إحدى البنات: «غن لنا مرة أخرى يا عم.» فغضبت ونظرت إليها في ألم وكدت أصيح صيحة أخرى مؤنبا، ولكني سمعت من ورائي صوتا ينادي: «عفارم!» فعرفت الصوت ونظرت إلى ورائي في فزع وأردت أن أشكو إلى الفارس ما لقيت، ولكني رأيت وجهه يتحرك بالغضب، ورأيت شاربه يهتز كشارب القط إذا كشر، ولم أدر إلا وقد اقترب مني وأخذ الكرنب فألقاه على الأرض في عنف، فتحطم وتطايرت أجزاؤه وتناثرت أوراقه الرطبة البيضاء، ثم صاح في وحشية: «ما هذا؟»
وما كاد الجمع يراه حتى انفض من حولي، فجرى النساء والصبية وهم يصرخون، وانصرف الرجال يتلفتون إلى وراء. فقلت له وقد غضبت: «ماذا؟» فصاح بي صيحة لم أفهم معناها، ثم مضى إلى أقرب منزل فطرقه وخرجت إليه امرأة فأمرها أن تحضر له طعاما، فأسرعت داخلة إلى الدار ولم تبطئ حتى جاءت إليه بما عندها من خبز وجبن وبيض. وما كان أشد عجبي عندما رأيت المنازل المجاورة كلها قد فتحت، وأقبل الناس منها يسعون زرافات ووحدانا، وكل منهم يحمل شيئا في يديه أو في صفحة أو قرطاس، وأخذت أجمع ما يأتون به حتى لم أدر كيف أحمله. وسار الفارس في كبرياء إلى خارج القرية عائدا إلى ظل الشجرة، وسرت وراءه أحمل ما استطعت حمله في يدي، وسار الناس من ورائنا في موكب يحملون ما جاءوا به حتى بلغنا مجلسنا، فألقوا ما معهم وهم يتأدبون ويظهرون المودة، ثم ساروا سراعا كأنهم يلتمسون النجاة. ووالله لو كنت وحدي لقضيت النهار كله في سير، ولعدت آخر النهار بمعدة خاوية.
أكلنا هنيئا ، ثم جلسنا نتسامر، وقد عادت أخلاق صاحبي إلى الموادعة، ولم أتمالك أن سألته: «أيعرفك أهل هذه القرية؟ إنهم قد أكرموك حقا.» فقال وهو يضحك: «إنهم لا يعرفون إلا هذه الريشة.» ثم طأطأ رأسه وهز ريشته الزرقاء، وقال وهو يبتسم ابتسامة هادئة: «إذا أردت أن تعيش فاعرف كيف تعيش. خذ ما تستطيع قسرا. اعرف كيف تأمر ثم تملأ جيبك. املأ جيبك ما استطعت، ثم سر رافعا رأسك. خذ ضريبتك أنى وجدت إليها سبيلا.»
نعم هكذا الدنيا، وقد كانت هدايا المساكين منذ القدم ضريبة.
وبعد أن قضينا في الراحة ساعة قمنا إلى السير، وأبيت أن أركب عندما سألني الفارس أن أفعل، بل شكرته وسرت على قدمي أتأمل ما قاله لي، وقلبت نظري في الريف وما فيه من جمال الطبيعة، وتمنيت لو كان أهل القرية بعض حيوان الحقل. لقد كانت قطعان الماشية ترعى في المرج الأخضر سمينة بيضاء ناصعة أو صفراء فاقعة، تسر النظر بما عليها من كسوة نظيفة حباها بها الله جل وعلا.
ومر وقت طويل وأنا سائر أفكر فيما يقع عليه بصري، حتى سمعت صوت صاحبي يناديني، فنظرت إليه فرأيته يشير بأصبعه إلى الأفق. وكان النهار قد انقضى إلا أقله، وأقبل الليل وأخذ النور يتضاءل، ولاحت على الأفق مدينة كأنها صورة رسمها صانع ماهر فوق طومار كاغد. وبعد قليل لمعت الأنوار تبص خافتة من بعيد منثورة على الأفق في غير نظام. وخفق قلبي عندما سمعت الفارس يصيح وهو يشير إلى المدينة «جانبولاد».
الفصل الثالث عشر
لم تدع لي الأيام الأولى من مقامي في جانبولاد فراغا للتفكير ولا للترفيه عن نفسي؛ فقد كنت في شغل شاغل من أمر حياتي الجديدة، وما ينبغي لي فيها من وسائل العيش. فاتخذت لي مسكنا في جوار صاحبي الفارس غرفة وفناء واسعا تسطع فيه الشمس من شروقها إلى غروبها. وأعددت فيه القليل من الأثاث، ولم أنس أن أبعث مع بعض التجار خبرا يطمئن أهلي في ماهوش، وأرسلت إليهم شيئا من الرزق الذي أصبته.
ولما استشعرت الاطمئنان إلى حياتي الجديدة، أخذت أدير عيني فيما حولي وأتحسس أحوال البلد الذي حللت فيه.
وجانبولاد مدينة عظيمة تجتمع فيها خيرات ريف خصب، وكانت من قبل تراثا لعلاء الدين سلطان ماهوش، ثم نزعها منه تيمور فيما نزعه من أرض السلاطين.
مسكين علاء الدين، إنني لا أذكره إلا ذكرت الدين والمكرمات جميعا. ولكن أبر السلاطين ليس في هذه العصور أقواهم وأعظمهم؛ لأن تيمور لم يدع عظمة لغير سفاح الدماء. وعلية ابنة علاء الدين، إن قلبي لم يخل يوما من صورتها، وما زالت تؤنس أحلامي في حلي وترحالي.
أيها القلب اتئد، فما من حيلة لك إلا أن تقنع بأطياف الأحلام، وما علية مما أنت فيه؟ ما هي إلا صورة، فلتقنع بصورتها ولتجعلها نجية وحي العلا.
قضيت الأيام في هذه المدينة أتعلم كل يوم معنى جديدا. ومن غريب أمر الإنسان أن يرى في البلد الأجنبي ما لا يراه في البلد الذي ولد وعاش فيه؛ فكل ما يحيط بالإنسان في بلده مألوف معروف، مع أنه قد يكون للأجنبي عجبا من العجب.
ولست أقصد هنا أن أصف أهل جانبولاد لأبدي فيهم رأيا؛ فمن ذا الذي نصب بعض الناس ليحكموا على البعض؟ لا، بل إني أحس في نفسي أشد الحاجة إلى عطف الآخرين علي وتغاضيهم عن عيوبي، فلست بمن يتلمس العيوب أو يعد السقطات. علمتني الحياة أن آخذ الناس كما أراهم، فهكذا خلقهم الله، وهكذا أراد لهم أن يعيشوا. إنهم من طين الأرض لا يستطيعون أن يكونوا من ملائكة السماء، وما أحرانا إذا رأينا العيوب أن يزيد عطفنا على أصحابها ورثاؤنا لهم؛ لأننا من البشر نحس ثقل الطين في طبعنا. وأكرم ما يستطيعه إنسان أن يملأ قلبه بالعطف على المخطئ والآثم؛ لأن هؤلاء أحوج إخوانه في البشرية إلى عطفه.
ومع هذا كله فالحسن والقبح أمران يتوقفان على تقدير كل فرد، وقد يكون الشيء حسنا في عين إنسان، فإذا به نهاية القبح في عين إنسان آخر.
ولقد كدت أعدل عن أن أقص حرفا واحدا في وصف جانبولاد، لولا أنني أردت أن أتحدث ببعض ذكريات حياتي فيها، وأتأمل مناظر الماضي، كما يتأمل مناظر السهل من صعد في الجبل إلى قمته، فإذا لم يجد في تأمله درسا يستفيده لم يخل من متعة الذكرى.
كان صاحبي الفارس أول من عاشرت من أهل المدينة، وقد وجدت على طول الزمن أنه في دخيلة نفسه إنسان. عرفت فيه أمورا كثيرة دلتني على أنه من أرق الناس نفسا ومن ألينهم شكيمة، واسمه «طوطاط»، ويعرف بين العامة باسم «وطواط»؛ فإن لأهل «جانبولاد» عادة في تسمية حكامهم أسماء يخترعونها، أو يحرفونها عن أسمائهم، أو يفيضون عليها بعض أفاويه من فكاهتهم. وأهل جانبولاد من أحلى الناس فكاهة، وهذا مما حببهم إلي؛ فالفكاهة أولى علامات الإنسانية. وهم يجدون في فكاهتهم ترفيها كثيرا مما يعانون من مشقات الحياة. وخواص جانبولاد لا يخشون من عامتها شيئا هو أشد عليهم من هذه الفكاهة الحلوة اللاذعة.
وكان صاحبي الفارس لا يملك في بيته أمرا ولا نهيا؛ لأن له في بيته امرأة تسيره وهو بذلك سعيد، لا يرد لها أمرا، ولا يفكر معها في شيء، بل يترك لها قياده حتى يفرغ لما هو أجدر بعنايته شأنا. فهو إن كان في طرق جانبولاد أسدا لم يزد في داره على أن يكون حملا وديعا.
وكان في «طوطاط» إخلاص ومودة، حتى كدت أعده صديقا، بل لقد كان له علي فضل فيما بعد لن أنساه له أبد الدهر. ولكنه رجل صاحب نزوات تثور به بين حين وحين، فإذا ثارت فلا يدري المرء إلام تنتهي به. وقد اعترته نزوة من هذه مرة ونحن معا في داره، وكان قد شرب بعض النبيذ وطرب ثم عربد، فعزم علي أن أشرب معه. وشكرته معتذرا فألح علي، ثم بالغ حتى حلف بالطلاق لأشربن معه، وكان ذلك على مسمع من زوجه. فوقعت في حيرة لم أدر معها ما يجب علي أن أفعل، فهل أعصي الله وأقارف إثم الخمر، أم أطيع الله وأفرق بينه وبين امرأته؟
ولم يكن التفريق بينهما هو الذي يزعجني؛ لأن أكبر ظني أنه كان خيرا له لو تزوج أخرى تكون ألين منها جانبا وأرفق في التعتعة. وإنما الذي حرت فيه هو التماس طريق الخلاص من بيته إذا أنا لم أنزل على حكمه وأبر له يمينه؛ فإن الزوجة ما كانت تتركني أخرج من دارها سليما. فاضطررت بعد التأمل إلى أن آخذ الكأس من يده، وحسبت أن هذا يخرجني من الحرج، ولكنه أبى وأصر على أن أنادمه سائر الليلة، ولم يجدني معه اعتذار بأمر من أمور الدين أو الصحة؛ فكنت كلما أبديت له عذرا قطع علي السبيل بيمين جديدة. وجعل يعجب مني إذ أريد أن أعيش في جانبولاد بغير أن أتمتع بمباهج الحياة، وحلف لي أغلظ الأيمان أنني أكون ضحكة بين الناس إذا أنا لم أسايرهم في حياتهم. فأخذت الكأس ورفعتها إلى فمي ومصصت منها مصة أظن الله يغفرها لي؛ فقد قصدت بها أن أبر له يمينه، ثم قمت مسرعا فذهبت إلى الخلاء وادعيت أن بردا أصابني، حتى إذا ما صرت خارج القاعة قذفت بنصف ما في الكأس ثم عدت لأنادمه. وكلما رأيته ينظر إلي رفعت الكأس نحو فمي وقمت مرة أخرى إلى الخلاء.
ولم يطل بي الخوف منه بعد قليل؛ فقد شغله عني طربه عندما دب الشراب في دمه، وكأني به قد تمنى لو أمسكت عن مشاركته بعد ثلاث كئوس، حتى لا أنقص ما بقي له في الدن؛ ولهذا رأيته لا يصر على إعطائي كأسا رابعة عندما أظهرت له قليلا من الامتناع.
وكان في تلك الليلة مدهشا. كانت أقل لفظة أفوه بها تبعثه على أن يتمرغ على الأرض من شدة الضحك. وصرت عنده من تلك الليلة من أحب الناس وأكرمهم. فصار لا يطيق البعد عني، وكلما رآني مقبلا استعد للضحك، فلا أكاد أنطق بحرف حتى ينفجر مقهقها كما يعطس الإنسان إذا قربت من أنفه النشوق.
ولم يكفه هذا، بل أذاع عني بين أصحابه جميعا أنني نديم حلو الفكاهة شهي الأحاديث، وأضاف إلى ذلك قوله إنني إذا شربت ثلاثا كنت أبرع الناس في المنادمة . سامحه الله، لقد كلفتني قالته هذه مشقة كبيرة فيما بعد.
ومن أعجب العجب أن كل من سمع منه هذا لم ينتظر حتى يحكم لنفسه، بل اعتقد صدقه بادئ ذي بدء، فصرت بعد ذلك لا أنطق بحرف في مكان حتى تتجاوب أصداء الضحك من كل أركانه. فلما رأيت هذا تعمدت أن أنطق بالكلام الذي لا يحتمل الفكاهة، بل لقد تعمدت أن أنطق بالفاتر البائخ من القول، ومع ذلك فما كنت أرى الضحك يزداد إلا علوا. هكذا الناس، قلما تجد فيهم من ينظر بعينيه بل يسيرون على هدي آذانهم.
ومهما يكن من الأمر فقد رضت نفسي على تحمل نزوات صاحبي؛ لأن حسناته تغلب السيئات، وهذا حسبه من الإحسان. وكنت أجد متعة في مصاحبته، فجلنا معا في طرق جانبولاد، وزرنا حدائقها ومساجدها، وأسواقها المزدحمة وأحياءها الفقيرة وأحياءها العامرة بالقصور المنيفة، فوجدتها مثل سائر بلاد الأرض، يسكنها الناس مجتمعين لكي يمكر كل جار بجاره. هذه حقيقة أبدية ليس فيها جديد في جانبولاد. وكنت إذا سرت في صحبة «طوطاط» أسلم من العدوان؛ لأن الناس كانوا إذا رأوه فسحوا له الطريق، حتى في أشد الأسواق زحمة، مع أني كنت إذا سرت وحدي لا أنجو من الدفع والخبط، وكثيرا ما أصابتني ضربات من العصي إذا مررت بقوم يتعاركون. وقد كنت ذات مرة أسير وحدي في طريق خالية، فسمعت قوما يتخاصمون ويتقاتلون، فاستغاث بي أحدهم، فذهبت لكي أعين على السلام والوئام، وشغلت بسماع حجج الخصمين ووزنها، وتأمل مواضع الحق فيها، فلما فرقت بين المتخاصمين بالحق، وسرت عنهم راضيا تلمست ردائي فلم أجده. فنظرت ورائي وحولي فلم أجد منه شيئا، كأن الأرض قد ابتلعته. ورجعت إلى مكان المعركة فلم أجد أحدا هناك سوى شيخ يدب على عصاه، فلما رآني أبحث سألني عن الخصام فيم كان. فقلت له إن القوم كانوا يتخاصمون على ردائي فأخذوه، فنظر إلي الرجل في عطف ثم مد يده إلي وسألني «حسنة». فأعطيته ما كان معي وهو قليل، فنظر إلى ما أعطيته فاحصا، ثم انصرف عني وهو يغمغم شاتما. هذا يحدث لي إذا سرت وحدي، ولكني كنت إذا سرت في صحبة طوطاط رأيت على وجوه الناس إجلالا وأدبا، وقد سألته في ذلك مرة فضحك وقال: «من أراد صلاح قوم أخافهم.»
وفي هذا حق كثير بغير شك؛ فقد خلق الله في الإنسان غرائز كثيرة، والخوف من أعجبها أسرارا؛ فهو يتشكل في شتى المظاهر كما يتصور الجني في صور الإنسان والحيوان. فالخوف يتخذ حينا شكل الحب، وقد يتخذ شكل الإجلال أو الولاء أو الأدب، وهو يحمل كل هذه الأسماء مع أنه ليس في الحقيقة سوى الخوف. ولكن هذا الخوف لا يطغى على الطباع إلا إذا انعدم الحب الصحيح، والخير كله لا يكون إلا في الحب، ولا تكون الكرامة ولا الصلاح ولا الإنسانية إلا في المحبة.
وقد أطلعني صاحبي «طوطاط» على حقيقة فذة في جانبولاد لم أشهد مثلها في بلد من البلاد التي رأيتها؛ ذلك أني رأيت بعض بيوتها تحمل فوقها أعلاما مختلفة الأعداد، فبعضها يحمل عشرة، والبعض يحمل عشرين أو أكثر، والبعض لا يخفق فوقه إلا علم أو علمان. وكانت البيوت التي لا تعلوها أعلام بيوتا ضئيلة حقيرة المنظر. فوقع في نفسي من ذلك شيء من العجب؛ فعهدي بالأعلام أن تكون زينة يقيمها الناس إذا أرادوا احتفالا بمرور السلاطين في المدينة. وسألت صاحبي عن سرها، فقال في دهشة: «ألم تر هذا من قبل؟» فقلت له: «لعلي رأيته، ولكني لم أتنبه إليه.»
فكشف لي عن ذلك السر الخطير الذي تمتاز به جانبولاد، فقال: نحن هنا لا نتساهل في أمر من الأمور، كل شيء هنا مقرر على نظام مرسوم، هكذا يحكم تيمور دائما.
فانتقل بي خاطري فجأة إلى الغابة التي رأيتها في طريقي، وتذكرت صرخة الفريسة المسكينة.
وقلت لصاحبي في حماسة: لا شك في أن النظام أساس العمران. فقال وهو يرفع صدره ويميل برأسه في كبرياء: هنا طائفتان تحكمان جانبولاد: الأولى نحن.
ثم أشار إلى نفسه إشارة زهو.
فقلت في هدوء: طبعا.
فقال: ولكل أمير منا علامة تميزه؛ فمنا صاحب الريشة، ومنا صاحب الريشتين، ومنا صاحب الثلاث.
ثم توقف ليرى أثر كلامه على وجهي.
فقلت وأنا أنظر إلى ريشته: نعم صاحب الثلاث.
فقال مبادرا: ستكون لي بعد قليل ريشة أخرى. لا شك أن تيمور يزيدني ريشة إذا عاد من حربه مع بايزيد. وسيعود بعد قليل. ألم تسمع منذ أيام أنه أسره ووضعه في قفص من حديد؟
فخرجت مني صيحة: قفص من الحديد؟
فقال باسما: نعم. وسيأتي به إلى هنا لنراه في قفصه، ثم يذهب به بعد ذلك إلى سمرقند لكي يجعله في طليعة موكبه العظيم.
ثم نفخ صدره وعبس.
فقلت بغير وعي: بايزيد في الموكب؟
فصاح بي غاضبا: نعم، إنها آية لمجد تيمور.
فلم أشأ أن أجادله في هذا الأمر، فقلت: نعم.
فقال وكأنه نسي ما كان يحدثني فيه: سينظر الناس إلى عاقبة من يقاوم تيمور. هو الأسد الذي لا يقاوم، والنسر الذي لا يسامى. وليس لأعدائه إلا القهر والفناء.
فهززت رأسي وفي حلقي غصة ولم أملك جوابا، وضاق صدري بأنفاسي، وعادت إلي صورة الغابة.
فقال صاحبي مستمرا: فإذا عاد تيمور إلى هنا رأينا عدوه في القفص، وشفينا النفوس من كبريائه المحطمة.
فقلت له: إنك تكرهه. هل رأيته؟
فرفع حاجبيه وقال: ولم أراه؟
فأردت أن أبعد به عن هذا الحديث، فقلت له: وإذا عاد تيمور وضع لك هنا ريشة أخرى؟
وأشرت إلى قلنسوته. فتذكر ما كان فيه من الحديث وقال: نعم. ريشة أخرى هنا.
فقلت مشجعا: وثالثة ورابعة.
فضحك حتى تراجع إلى الوراء وقال: «إنما هي ثلاث ريشات ليس بعدها إلا الأذناب.» فصحت ضاحكا: الأذناب؟
فقال ضاحكا كذلك: نعم ذنب واحد أو اثنان أو ثلاثة. هؤلاء هم أعلى الفرسان، ليس فوقهم سوى تيمور.
فقلت بغير تفكير: إذن فالأذناب في القمة.
فقال موافقا: ثلاثة أذناب ليس بعدها إلا تيمور.
فقلت: وماذا يحمل تيمور العظيم؟ حدوة فرس؟ سيف؟ سن فيل؟
فقال ضاحكا من جهلي: لا، بل هي عمامة كبيرة.
ثم نظر إلى عمامتي وقال: أكبر من هذه.
فشعرت بشيء من الكبرياء وضحكت قائلا: ثوب آخر يجعلها كعمامة تيمور.
فضحك صاحبي كعادته إذا سمع كلماتي، وضرب بيده على كتفي وكأنه نسي كل الحديث الذي كان بيننا، فقال: سيكون موكبه عظيما بغير شك، وسيعطيني بعد ذلك ريشة أخرى.
فخشيت أن يعود إلى وصف سيده العظيم، فقلت له مذكرا: هؤلاء هم أصحاب الريش والأذناب، هؤلاء هم الطائفة الأولى.
فقال وقد تذكر: نعم، وأما الطائفة الثانية فهم أصحاب القدور.
فصحت ضاحكا: قدور فوق الرءوس؟ مساكين!
فعاد إلى الضحك وقال: لا، لا، بل هي قدور ملأى بالذهب الأصفر الصافي. كلما جمع أحدهم قدرا ختمها ووضع على داره علما جديدا يدل على أن قدوره الذهبية قد زادت واحدة.
فهززت رأسي وقلت كالحالم: قدور ملأى بالذهب!
وأطرقت أفكر في هذا النظام العجيب. فما أغلى هذه الأعلام التي لا يرفع أحدها إلا إذا كان تحته قدر من الذهب. وذهبت بي الأفكار مذاهب شتى في تصور حال جانبولاد، حتى هزني صاحبي وقال لي: «انظر إلى هذا المنزل.» وأشار إلى بيت على يساري، فوجهت نظري إليه فاترا فرأيته قصرا عظيما تلمع جدرانه وتبتسم بساتينه، ورأيت فوقه خمسين علما تخفق في الهواء في مرح وكبرياء. وقال «طوطاط»: «هذا بيت صاحب السيف. كلمة واحدة منه تكفي لأن تطيح الرأس عن الجسد؛ فهو صاحب الأعلام الخمسين، قاضي جانبولاد.»
فاعترتني قشعريرة من سماع هذا القول، وجعلت أفكر في أمري وأمر الناس، وموضعي في هذا البلد الذي تكفي فيه كلمة من صاحب الأعلام الخمسين لأن تطيح الرءوس عن الأجساد. ولكني ما لبثت أن هدأت نفسي؛ فإني جئت إلى جانبولاد لاجئا، ولا ينبغي لي أن أتكلم ولا أن أناقش، فإذا لم تعجبني هذه الحال فباب المدينة مفتوح أستطيع أن أخرج منه إلى حيث شئت. ولم يكن أولى بي من أن أضع لساني بين فكي وأطبق عليه شفتي. وعند ذلك تبين لي ما يعتري الغريب من الذلة، ولو كنت في ماهوش لما رضيت لنفسي إهدار الكرامة؛ فإني كنت هناك أتكلم وأنتقد وأسخر أحيانا، ولم أسمح لأحد أن يكم فمي . ولاحت لي الحياة في ماهوش عند ذلك أحب حياة على الأرض، واشتد حنيني إليها، وأطرقت حزينا أستعيد ذكراها.
ولاحظ صاحبي وجومي وإطراقي، فقال لي: أراك تعبت!
وكنت قد تعبت حقا، فقلت له: صدقت.
فأشار إلى مكان مزدحم في جانب السوق وقال: هلم نسترح قليلا.
فترددت قليلا؛ فما كان ينبغي لي أن أجلس على قارعة الطريق؛ فإن هذا مذهب للمروءة.
ولكن صاحبي مضى في وجهه حتى جلس، وأخذ يصفق بيديه فجلست معه ونظرت حولي أدير عيني في الجلوس، فلم أر فيهم شيئا يستحق التأمل. كانوا جميعا جالسين بعضهم مسترخ في صمت وبعضهم يتخاصم في صخب، فملت على «طوطاط» وقلت له: أليس في المدينة من يرى في هذا النظام رأيا؟
فقال في دهشة: ماذا تعني؟
فقلت: أعني أن جانبولاد مدينة عظيمة، وفيها خلق كثير لا أعلام لهم ولا ريش. فما حظ هؤلاء منها؟
فقال في بساطة: من تقصد؟ هؤلاء العامة؟
فقلت منكسرا: نعم، من لا ريش لهم ولا أذناب مثلي.
فقال ضاحكا: هؤلاء قد عرفوا كيف يصمتون.
فطعنتني كلمته طعنة شديدة، وخيل إلي أن عذاب الجحيم نفسه أهون علي من الإقامة في بلد ليس لي فيه إلا أن أصمت. وجاء عند ذلك خادم المكان يحمل القهوة. وكنت أحبها فأقبلت عليها أرشفها، وشغل عني صاحبي بمساومة بعض الباعة الذين جاءوا يعرضون سلعهم يحملونها في أيديهم أو فوق رءوسهم، وكانت مساوماته أشبه الأشياء بالنضال، حتى لم يخل بعضها من الدفع باليد والسباب. وكان الباعة رجالا يستطيع أحدهم إذا شاء أن يدير ساقية بزنده، ولكنهم كانوا لا يحملون من السلع إلا يسيرا لا يزيد ثمنه على دريهمات. ففهمت عند ذلك السر الخفي؛ فهمت كيف يرضى العامة في جانبولاد بأن يقيموا فيها خاضعين، ويضعوا ألسنتهم داخل أفواههم؛ فليس بهم من حاجة إلى الكلام لأنهم في شغل عن ذلك بهم اقتناص الرزق الضئيل. وجمع صاحبي كومة كبيرة مما اشتراه من أصناف كثيرة مختلفة الألوان، ولم يبق له إلا أن يشتري ليمونا، فتنبهت على صوته وهو يشاحن البائع ليأخذ منه ليمونة عاشرة، فلما سخا له البائع بها أعطاه دانقا ثم التفت إلي وقال: أف لهؤلاء الباعة! ما أشد لجاجتهم!
ولما رآني مشغولا عنه هزني بيده وقال: أراك غارقا في تفكيرك.
ثم أخذ يجمع السلع ويضعها في منديل كبير، ولكن المنديل لم يتسع لها، فقلت له باسما: هذا حمل كبير.
فقال وهو يغمز بعينه: عندي الليلة بعض أصحابي، وحبذا لو كنت معنا.
فتذكرت الليلة التي عربد فيها علي، وفهمت من غمزة عينه أنه يشير إلى الكئوس الثلاث التي ظن أنني شربتها، ولم أجد جوابا أرد به، فاستمر قائلا: هم جميعا من أصحابي المقربين ويسرهم وجودك بينهم. لقد سمعوا عنك وهم يحبون أن يتمتعوا بحديثك. وعلى فكرة، هم جميعا من أصحاب الأعلام، وليس أولى بك من مصاحبتهم.
ومال علي هامسا: لا تبعد عن مجالسة أصحاب الأعلام إذا شئت أن تكون لك أعلام في جانبولاد.
فأثارني قوله وقلت: «ما هذه الأعلام التي جعلت جانبولاد لها كل هذه القيمة؟ وما هذه القدور المختومة التي في باطنها الذهب؟ إنها لا تزيد على قدور مملوءة بالرمل أو الطين ما دامت مقفلة.»
فضحك طوطاط حتى كاد يستلقي على ظهره، ثم قال: سيتغير رأيك إذا أصبحت من أصحابها.
فقلت في عناد: وما الذي يشق علي في ملء عشرات من القدور بالحصى؟ إن قدرا من الخزف لا تزيد على الأخرى إذا كانت مختومة.
فعاد إلى ضحكه وقال: لن تستطيع.
فقلت: وما الذي يمنعني؟
فقال وهو لا يزال يجمع بضاعته: الذي يمنع من السرقة.
فقلت: ولكن السرقة جريمة.
وكان قد قام ونادى رجلا يسير أمامه، فأمره أن يحمل له بضاعته، فجمعها الرجل في حجر ثوبه، ونظر صاحبي إلي في عجلة وقال: «ستكون وليمة مرحة، وأرجو أن تؤنسنا بصحبتك.»
وكأنه نسي كل الحديث الذي كان بيننا، فسار وسرت معه، وجعل يحدثني عن صنوف الطعام التي يعدها لوليمته، حتى بلغنا المنزل فاستأذن وسار إلى داره وهو يغني، والحمال يزحف من ورائه بحمله الثقيل.
الفصل الرابع عشر
قضيت ليلتي في أحلام متعاقبة عشت فيها مع الأحبة في ماهوش.
أي وطني الحبيب الذي قسا علي! إنك لا تزال في قلبي مع كل قسوتك، وكلما مرت بي الأيام عرفت ما كنت أجهل من فضلك. لقد هاجرت من وطني لأنني لم أجد فيه مكانا يرضيني، ولأنني لم أجد فيه رزقا يغنيني. ولكنني علمت بعد أن وجدت الرزق في جانبولاد أن وطني كان يمنحني ما هو أثمن من كل مال وأطيب من كل رزق. كان يمنحني الكرامة والحرية، وهما لا يقومان بمادة هذه الحياة كلها، فوا حر قلباه! ورأيت في حلمي كل الأحبة: رأيت ولدي عجيبا وابنتي جميلة، ورأيت صديقي أبا النور، ثم رأيت مع كل هؤلاء علية؛ علية ابنة علاء الدين التي ملأت قلبي حبا ونورا، وحدثتها وبثثتها لوعة الفراق وناجيتها بأشجاني الثائرة، وعاتبتها عتابا طويلا؛ عاتبتها في حلمي كأنها هي التي هجرتني وخلفتني وحيدا. فلما قمت في الصباح وجدت قلبي ممتلئا بها. لقد كانت في ماهوش تعيش في قصرها وحوله الحراس والحجاب، لم أستطع يوما أن أدنو من أسواره. ولكنها مع ذلك كانت دائما قريبة مني. قريبة لا يفرق بيني وبينها حجاب لأنها كانت في قلبي. كانت صورة وكانت خيالا، وما حاجتي إلى غير صورتها وخيالها؟ إنني لم أبال الجسم الذي يذوي ويمرض ويضعف ويزول؛ فقد كانت روحي التي تتعلق بها وتجد السعادة في تأمل كمالها.
قمت في الصباح كعادتي فذهبت إلى المعسكر وصليت بالجنود، ثم خرجت أسير في الطرق وأنا أفكر في مكاني من هذا الوطن الجديد. هذا البلد الذي لا كرامة فيه إلا لأصحاب الأعلام والريش، والذي تحكمه القدور الملأى بالمعدن اللامع. ولم يكن بي من حقد على أحد؛ فلست أنفس على الناس أن يفوزوا بالذهب كما يشاءون، والذهب عندي لا يزيد على سائر مادة هذا الطين. ولو كنت يوما راقدا في ضوء الشمس أتأمل في خلق الكون وأنا أنظر إلى السماء الصافية وأهيم مع أحلامي في الملكوت، ثم رأيت خمسين قدرا ملأى بالذهب تهوي في الظل على بضع خطوات مني لما تحركت من مرقدي لأذهب إليها. وقد كنت منذ عقلت لا أطمع من هذه الدنيا في أكثر من الرزق الذي يقيم الحياة؛ لأني أخذت نفسي بما علمت، والذهب في آخر الأمر لن يصاحب الناس إلى القبور. سيخلف الناس الذهب كما يخلفون كل شيء وراءهم بعد الحياة، ولم يكن الذهب سبيل السعادة في دار من الدارين. فليس بي من حقد أن يسعى إليه الناس ويستأثروا به، وحسبي من الدنيا ما أصيب من رزقي الضئيل. ولكن الذهب شيء والكرامة شيء آخر، ولا علاقة بين هذه وذاك؛ فالكرامة حق وهبه الله للناس منذ خلقهم ناسا. فإذا كانت جانبولاد تهب لي القوت لكي تسلبني هبة الله الثمينة فلا مقام لي فيها.
ولكن ... أواه من شعور العاجز بعجزه! فكرت في أين أهاجر إذا تركت جانبولاد. هذا ما شغل قلبي منذ تلك الليلة في إصباحي وإمسائي، وفي نومي وصحوي، حتى ضاق صدري وكاد يضطرب عقلي. وأخيرا بدا لي رأي وجدت فيه من ضيقي مخرجا. عزمت على أن أعيش في عالم أسعى فيه إلى الخير، وأبذل فيه كل ما أستطيع، وأهب فيه للناس من قلبي ومن عطفي، فلن أحس في مثل هذا العالم ذلا، ولن أبالي من أمور الناس هما. فعزمت على أن أقف حياتي كلها على خدمة المساكين في جانبولاد. وما أكثر مساكين جانبولاد، هؤلاء الحفاة الذين ليس لهم من أمر وطنهم شيء إلا أن يصيبوا الكفاف من عيش زري على ما يقومون به من عمل قاطع! استقر رأيي على أن أكون خادما لهؤلاء، أعلمهم وأرفه عنهم وأواسيهم، ورسمت لنفسي خطة قمت على تحقيقها بغير تردد أو تسويف.
فكنت إذا فرغت من صلاتي وفرغ الجنود من تقبيل يدي عقدت لهم مجلسا قبل أن ينصرفوا، أحاول فيه أن أفتح صدورهم للرحمة، وأن أبصرهم بحياة الإنسان. وكثيرا ما كنت أرى في أعينهم الدمع كلما لمست جانبا رقيقا من قلوبهم، فكان هذا يملأ قلبي سرورا، وكنت أحمد الله الذي يفجر من الصخر ينابيع الماء الزلال، والخير لا بد أن ينتصر يوما، والدمع الذي يثور في العين مرة لا يضيع سدى.
فإذا ما انتهى درس الجنود نزلت إلى المدينة أقلب فيها نظري، وكنت في كل يوم أجد فرصة جديدة أتخذ منها مطية إلى الخير. مساكين أهل جانبولاد، كنت أمد يدي إليهم فتغنيهم وإن لم يكن فيها شيء من الذهب. كم من كلمة طيبة يجود بها القلب فتغذي الروح لا يقاس بها عطاء من فضلات الغنى. وكنت كل يوم أذهب إلى المسجد الأعظم وأتخذ فيه مجلسا إلى جوار عمود، فيجتمع حولي من المساكين من يتعطش إلى الكلمة الطيبة. وفي هؤلاء كنت أجد السلام والكرامة. كنت أحس أنني أصب عليهم مما في قلبي وأضيفهم في حنايا صدري. وما كان أعظم ما نلت من السعادة في أعقاب هذه الدروس! كنت أحس أن النور يجلو روحي، وأن الحق يحل في كياني فيملؤه قدسية، فإذا بي لا أرى في الكون كله إلا تسبيحا وترتيلا.
هناك بين المساكين كنت أرى الزهر يانعا، وأشم العطر فياحا، وأسمع من أنغام السموات ما لا يدركه السمع، وأفهم من وحي العلا ما لا يبلغه العقل. كان روحي يهيم ويكشف الغطاء عن الأسرار، ويتلبس بحقائق الأزل، فلا اللفظ لفظ ولا الحس حس، بل الكون أنا وأنا الكون. هناك بين المساكين سموت حتى أشرفت على العالم الصغير، وعلى من فيه من الدبى المغرور؛ تيمور وجنده من أصحاب الريش وأصحاب الأذناب، وجانبولاد وعليتها من ذوي القدور والأعلام. وكنت أشير بأصبعي إلى الأنوار التي كانت تتلألأ في كل مكان أمام بصيرتي، فيتطلع المساكين ويصدقون؛ لأنهم كانوا يؤمنون. علمت المساكين أن في الحياة ما هو أثمن من الذهب، وأسمى من السلطان ومن القوة، وأن فيها من اللذة ما هو فوق متعة الأجسام. علمتهم أنهم يستطيعون الاستغناء عن كل قوة وعن كل متعة إذا هم آمنوا بما هو أسمى وأعلى، في حين أن الدبى المغرور من أمثال تيمور يقضي حياته أسيرا في قيود من الطين العفن لا يستطيع أن ينتزع نفسه منها.
وكانت الأوقات التي قضيتها مع تلاميذي في هذه الحلقة أحب العبادات إلي. وجدت فيها قرة العين، وفزت فيها بمجمع اللذات. فإذا ما انصرفت بعد ذلك إلى داري أقبلت على أوراقي وكتبي أقرأ وأكتب، وجعلت ما كتبته وقفا على من يطلب العلم قربانا إلى الله سبحانه الذي علم بالقلم.
ولكني لم ألبث أن صدمت صدمة بددت آمالي.
كنت يوما في مجلسي إلى جوار السارية أناجي خفي الأسرار، فإذا بي أحس شخصا يقف عند رأسي، ويضع يده على كتفي، فالتفت نحوه لفتة قصيرة لعله أعمى ضل فعثر بي، أو فقيرا جاء يقصدني، فإذا بي أرى فتى أسمر في حمرة، قد أمال قلنسوته إلى يمين، وأبدى من تحتها طرة تلمع فوق الجبين، وقد أطال عارضيه، وزجج حاجبيه، ولف حول وسطه منطقة حمراء من الحرير، فوق ثوب أصفر من ديباج، وهو قصير بدين، يدرج كالدحروجة، ويتمايل تياها وينظر متحديا.
فقلت له لأصرفه عني: «هداك الله إلى سبيلك.»
فقال وقد كشر عن نابه: «أما تعرفني؟»
فنظرت إليه فاحصا، وصعدت فيه بصري كرتين، فلم أتبين من يكون، ولم يكن لي عهد برؤية مثله، فضاق عند ذلك صدره وصاح بي: «أنا صاحب الباب وحاجب الحجاب! قم إلى القاضي ولا تبطئ عليه.»
فوقع قوله مني موقعا شديدا؛ فالقاضي سيد من أصحاب الخمسين، وقد عرفت نفسي عزوفا عن مجالس العظماء، فاستعذت بالله من الغرور، وظننت أن سيده قد سمع بي، وعرف ما أقدمه للعلم في سبيل الله، فأحب أن يظهر لي تجملا، أو يبعث في طلبي تقريبا وتلطفا. وكنت لا أحب أن أفتح قلبي للغرور، فإنما الأعمال لله وحده، وما كنت لأبتغي بها عند الناس رياء. وعزمت على أن أجعل بيني وبين السلطان سدا، وهممت أن أرد الحاجب ردا جميلا، وأبعث معه إلى السيد العظيم دعوة خير أرجو أن تكتب له في صحيفته.
ولكن ما كان أشد عجبي عندما ناداني الفتى متجهما، وأمرني في جفاء أن أسرع إلى المجلس فإن لي فيه شأنا.
ولم أفهم أي شأن يكون لي في مجالس القضاء، وليس لي في جانبولاد ما أنافس الناس فيه؛ فلم تكن لي تجارة ولا زراعة، بل هي صلاتي ودرسي، وكتابي وورقي. وإن كان لي رزق فيها فمما قسمه الله لي من عطاء لست فيه شريكا لشريك أو عميلا لعميل. فقلت للحاجب في هدوء: «هداك الله يا ولدي، لقد أخطأت، فما أنا بمن يطلبه السيد العظيم.» ثم هممت أن أعود إلى درسي، ولكنه نظر إلي مغضبا ثم صاح بي حانقا: «أيها الرجل، قم إلى القاضي فإنه ينتظرك لينفذ فيك ما يجب عليه أن ينفذه من حكم العدل.» فنظرت إليه وإلى حلقة الدرس، ونظر التلاميذ إليه ثم إلي، وطال النظر من بعض إلى بعض حتى نفد صبر الحاجب، وكان قويا فتيا يلمع رونق الشباب في وجنتيه، فتقدم نحوي عامدا كأنه أراد أن يجرني من الدرس قسرا، فلم أجد بدا من القيام طائعا؛ فهؤلاء أتباع السلطان لا يعرفون تجملا ولا ترفقا. ولما رأيت من تلاميذي بوادر الغضب أشرت إليهم بالصبر والأناة، ونظرت إليهم معاتبا؛ فما ينبغي لمن كان مثلي إلا أن يطيع ولي الأمر إذا دعاه.
وسرت إلى مجلس القاضي، وأنا أدير في ذهني كل حوادث الأيام والشهور، لعلي أذكر لنفسي سببا مما يجر إلى ساحة القضاء، فلم أجد شيئا أعرفه، وحسبت الأمر كله خطأ لا يلبث أن يزول. ولما دخلت إلى المجلس رأيت السيد في صدر المكان وله فم ضب وعينا أرنب، يخيم عليه ظل الهيبة، وترنق في عينه الصرامة. ورأيت قلنسوته العالية من تحتها لحية تبلغ القبضتين، ورأيت ثيابه من الدمقس، وتحته طنفسة من الإبريسم الحر، وقد رفع فوق رأسه الدرفس، ووقف الأتباع من حوله خشوعا، يسلون السيوف ويبسطون أمامهم الأنطاع. فوقفت حينا أنظر في ارتياع، وأترقب حركة فمه المدبب، الذي يضم بين شفتيه لسانا فيه مصير الناس من سعد وشقاء، وأتأمل عينيه الخاويتين، ومنهما يطل القضاء. وتمثل لي ما كان في مجلسه ذاك على مر الأيام، من سجن وتعزير، وغرامة وتشهير، وقلت في نفسي أعوذ بالله من عثرات المقادير، وتقدمت نحوه باسما وسلمت عليه محتفيا خاضعا، ثم أردت أن أشكو إليه حاجبه كيف قطع درسي وروع تلاميذي، فإذا به ينظر إلي في جمود، ويرفع يمينه في جفاء، ثم قال بصوته النحاسي: مكانك أيها الرجل!
وكأن الأرض قد مادت بي عند ذلك، أو كأن السماء قد مارت وتداعت، وعقل لساني عن النطق، ووقفت أنظر إليه وعيناي تطرفان وأذناي تطنان. ولا حاجة بي إلى ذكر ما قال لي كله؛ فقد كان مجمله أنني جئت إليه متهما بأنني شربت الخمر وقارفت عظيم الإثم، ونادمت وفاكهت، وأعنت على المنكرات، وأنا رجل أدخل المساجد وأؤم في الصلوات، وقد شهد علي بذلك من كنت أنادمه، وسمعه منه الشهود العدول، ورواه عنهم الشهود العدول. ثم أراد - حرسه الله - أن يتحرى العدالة وأن يبالغ في التدليل حتى لا يزل في حكمه، فقال إنه قد بعث في أثري العيون وشهدوا أنهم رأوني أدخل إلى بيت صاحبي الفارس في الليل، وأخرج منه بعد حين في هيئة من لا شك في امتلائه بالشراب؛ إذ كنت أسير مطرقا وأجرر رجلي خائرا، وأدخل إلى داري، لا ألتفت إلى ورائي ولا أرفع ذيول ردائي.
فذكرت عند ذلك ما كان. جازى الله «طوطاط»، فكم من مصاب ينزل بالمرء من وراء عبث، وكم من دواه جرها على الناس حديث إفك. منذ تلك الليلة التي نادمت فيها «طوطاط» لم يبق في جانبولاد مجلس شراب لا يذكر فيه اسمي، ولم يبق جمع طرب لا يتحدث بفكاهتي وظرفي. فكنت أوصف بحسن المنادمة وطيب المحادثة، والأدب عند الشراب والصبر على عربدة الصحاب، على حين كنت في المسجد أحلق مع تلاميذي في السماء، وأتقرب إلى الله بفعل الخيرات وخدمة الطلاب، وأعكف على التأليف والتصنيف والعبادة والتسبيح.
وتقدم القاضي إلي بأن أدفع التهمة عن نفسي إذا استطعت؛ فإن العدالة تناديه أن يكشف عن جرمي، وأن يحمي الناس من ريائي، ولن يزال بي حتى أتوب بين يديه، بعد أن يوقع علي العقوبة التي أستحقها، ثم يمنعني بعد ذلك من مخالطة الطلاب، وتلويث المساجد التي لا ينبغي أن يدخلها إلا المطهرون. فلم أملك من القول إلا سبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولم أستطع غير التسبيح والحوقلة ردا ولا دفعا، ووقفت مبهوتا كأن صخرة قد هوت على رأسي فشدخته، ونظر القاضي إلي من تحت جفنيه كأنه أراد أن يخرق بنظراته صدري، لينظر ما أخفي وراء جدرانه من دليل على جرمي. ومن العجيب أنني بعد حين أحسست في نفسي تبدلا، فزالت عني الحيرة وامتلأ قلبي ضحكا، حتى كدت أقهقه في وجه السيد العظيم، وأنقض على عثنونه الطويل فأهزه وأجبذه، ولكن نظرته كانت قاسية، فهرب مني الضحك في لحظة، ونظرت إلى الشرط والأتباع وهم يتربصون بي أمره، وينتظرون علي إشارته، وبعد لأي نطقت فقلت: لقد فاجأني هذا الأمر يا سيدي، فيسر لي من الوقت ما أقدر فيه على جمع نفسي والإدلاء بحجتي.
وكان - حرسه الله - يعرف أصول القضاء، فلم تأخذه في عدالته الكبرياء، ولم يسرع إلى العقوبة قبل أن يبلغ العذر من الإعذار، وأنا بعد في يديه إن لم يكن اليوم فغدا.
وذهبت إلى الدار أحدث نفسي حائرا بائسا، لا أرى أمامي إلا هما وظلاما، وضاقت جانبولاد في وجهي، حتى فكرت في الهرب منها متسللا، وهاجمتني المخاوف تعذبني، فلم أجد منها خلاصا إلا بأن أقوم إلى وضوئي، لعلي إذا اتجهت إلى صاحب الكون وجدت عنده السلام.
الفصل الخامس عشر
أتى الليل هاجما علي بظلامه، فزادني هما على همي، وشملتني رهبة لا أستطيع أن أصفها، فقمت إلى صلاة المغرب، وما كدت أقيمها حتى سمعت على الباب طرقا، فزاد اضطرابي خوف أن يكون ذلك نذيرا بمصاب جديد؛ فقد خيل إلي أنه لم يبق لي في هذا العالم إلا سلسلة من الكوارث تتعاقب حلقاتها علي مع الساعات. وفتحت الباب في حذر ثم نظرت. «أهو أنت أيها الحبيب؟» خرجت مني هذه الصيحة وأحسست أن شعاعا من النور أضاء أمامي عندما رأيت صاحبي وتلميذي كمال الدين.
جاء صديقي إلى داري من قبل فلم يجدني، وذهب إلى مجلس القاضي فدفع عنه دفعا قبيحا، فعاد إلى داري بعد أن قضى حينا يهيم في طرق المدينة مهموما من أجلي. حمدا لله؛ فإن المصائب تهون وإن جلت إذا وقف إلى جانب المرء صديق وفي. لقد اطمأننت عند ذلك على أني أجد إلى جانبي رجلا يصدقني إذا تحدثت، ويواسيني إذا تعذبت، ويعينني بمؤانسته إذا تحيرت. ولما دخلنا توضأ صاحبي وصلينا معا، ثم جلسنا نتحدث وأفضيت إليه بكل قصتي، وشكوت إليه عثرتي. ولله هو من صديق، لم أجده يتزعزع أو يشك، بل كان مصدقا واثقا، وجعل يذكرني بالله وما هو جدير به من نصرتي وجلاء غمتي، حتى أخجلني من نفسي. فما كان لي أن أبتئس أو أخشى؛ لأن الله عالم بأمري وهو معي ولن يخذلني.
وأشار علي أن نذهب إلى القاضي لعلنا نحدثه في خلوة؛ فإنه إنسان وإن كان من أصحاب الخمسين، ولا بد لحجة البريء أن تظهر وإن ساءت الظنون. فقمنا معا وكان وقت العشاء قد اقترب، فقلنا ندرك الشيخ فنصلي معه جماعة، ونتحرم إليه في كنف الصلاة. فلما بلغنا القصر وجدنا عنده حرسا كثيرا من شرط وحجاب وأعوان وغلمان، فلما رأونا نقصد الباب نظروا نحونا شزرا، وأقبل بعضهم على بعض يتهامسون. فتجرأ صاحبي وتقدم فسأل عن الشيخ، وطلب أن يسمحوا لنا أن نراه، وتعلل بالعلل، فقال: «إن السيد يهم الساعة بالصلاة، ونحن نحب ألا تفوتنا بركة الائتمام به.» فضحك أحد الغلمان ثم نظر إلى رفاقه فتضاحكوا، وعاد فنظر إلينا واحدا بعد الآخر من أعلى الرأس إلى أخمص القدم، ثم مد يده إلى جبتي ووضع يده في خروقها، وقال وهو يضحك: «خذوا زينتكم عند كل مسجد.» فجذبت جبتي منه في شيء من الغضب وكدت أقذفه بكلمة حانقة لولا أن تدخل كمال الدين متوسلا يقول: «إن الشيخ - حرسه الله - لا يضن على مثلنا أن نصلي معه؛ فنحن فقيران نريد أن نتملى ببركته.» فقام أحد الحجاب إليه ودفعه في غلظة وقال له معنفا: «اذهب إلى المسجد إن شئت الصلاة، وأما إذا أردت الاحتيال على الصدقة فإننا لا نخدع عن مثلكما.» فملأني الغيظ وجرحت عزتي، وكدت أثور لولا أن جذبني كمال الدين وهمس في أذني: «ليس لنا من حيلة إلا الذهاب.»
وسرنا معا مطرقين حتى بلغنا المنزل فصلينا، ثم جلسنا نقرأ الأوراد، وما هو إلا أن انصرفت إلى الله بقلبي حتى حل فيه السلام ونسيت كل ما كان.
وكأن وحيا قد هبط علي فألقى في روعي أن أذهب وحدي إلى القاضي، وأحسست في نفسي يقينا أنني إذا ذهبت إليه لم يستطع أحد أن يقف في سبيلي. فقمت واستأذنت صديقي، ورجوته أن يصبر حتى أعود إليه، وسرت قدما برأس مرفوع وقلب يجيش ونفس تتحفز حتى بلغت قصر القاضي. وما كان أشد عجبي إذ وجدت الباب خاليا ليس عليه حراس ولا غلمان، فدفعت المصراع فانفتح، وأدخلت رأسي من فرجة الباب فلم أجد أحدا وراءه، فدخلت ورددت المصراع، وكان الظلام كثيفا، فسرت أتحسس مواضع خطواتي حتى اجتزت مدخل الفناء، فوجدت بابا آخر فدفعته فانفتح وظهر من ورائه بستان من فاكهة ونخل وريحان، وكانت الدار تشرف عليه محيطة به، وعلى نوافذها مشربيات بديعة تبدو أمام العين مبهمة في الضوء الخافت المنبعث منها. وسرت في غير تردد وأنا أتعجب أن يكون القصر خاليا صامتا. فأين حراسه؟ ولم أخفيت هكذا أنواره؟ إنها تبص بصيصا من وراء السجف تنم عن قناديل مئات تزهر من داخل الأبهاء، وصعدت في السلم على حذر حتى انتهيت إلى مدخل البهو، فما هذه الأصوات المختلطة؟ كانت أصوات الضحك والغناء تتجاوب ويحملها الهواء في أمواج متعاقبة، فتخف حينا ثم تعلو حينا، كأنها آتية من عالم بعيد. وزاد بي العجب وقويت في نفسي رغبة الاطلاع، وازدادت القوة التي في صدري دفعا ففتحت باب البهو، فإذا قاعة يضل فيها البصر، طولها ثلاثون ذراعا وعرضها عشرون، فرشت بأبدع الأثاث وغطيت نوافذها بخالص الحرير، وأحسست تحت قدمي طنفسة لينة تغوص بي كلما خطوت، ورأيت في صدر القاعة بابا يأتلق النور من ورائه، وتفوح العطور من قبله. فكانت رائحة المسك تتضوع منه مختلطة بأبخرة العود، وكانت الأصوات الناعمة يمازجها صوت أجش له رنين النحاس. وسمعت رجلا يضحك ضحكة ناعسة بين كركرة صداحة، كأنها من سجع الطير. وعادت الموسيقى فكانت سحرا وفتنة، فلم أستطع إلا أن أقف مكاني، وقد غلبني طربها؛ فقد كنت منذ صباي مولعا بالغناء. وكدت أنسى أنني دخلت القصر خلسة، وأنه لا ينبغي لي أن أطيل الوقوف، ثم أفقت بعد حين وعادت إلي نفسي، فسرت إلى الأمام خطوات وأنا أتعجب. فما للقاضي والغناء؟ وما هذه الأصوات الناعمة التي تسحر الهواء؟ وفكرت في العودة خاشيا من عاقبة هذه الجرأة. ولكن شيئا في قلبي دفعني فلم أستطع خلافه. ثم رأيت باب القاعة يفتح من أقصى أركانها، فخفت أن يراني أحد، فأسرعت إلى أقرب ستار فتكمشت وراءه، وجعلت أطل برأسي من مخبئي. فرأيت غلمانا وجواري يحملون صحافا وكئوسا، ثم اقتربت من موضعي فتاة مثل فلقة القمر، تخطر في أثواب من الحرير الأحمر والأصفر، فلم أتمالك أن نظرت إليها نظرة، ثم أغضيت وقلت: سبحان من خلقها وسواها! وكتمت أنفاسي حتى بعدت عني، فاختلست إليها نظرة أخرى فرأيتها تحمل ثيابا وتضعها على أريكة، ثم رأيتها تعود خفيفة رشيقة كأنها مهاة في الصحراء، أو ريم شارد من كناسه. ولما بعدت عني أطللت برأسي وراءها حتى فتحت الباب ودخلت منه، فنظرت من الفتحة فإذا في صدر الحجرة قلنسوة حمراء، ومن تحتها السيد القاضي - حرسه الله - في هالة رائعة المنظر، من مؤنسات أوانس وندامى صباح. ورأيت أمامه طاسات من المدام ونقولا وفاكهة وأزهارا، وقماقم من عطور، وأحقاقا من غالي، فكدت لا أصدق عيني، وثارت الوساوس في نفسي، وتساءلت أفي يقظة أنا أم في منام. وجعلت أقرص كفي وأضرب بيدي على وجهي، حتى تحققت أني في صحوة، وأنني أرى السيد القاضي بعينه وذقنه وفصه ونصه، فقلت: أهذا هو الذي يحاكمني؟ ويقتص للعدالة مني؟ وامتلأت غما وهما؛ فقد علمت أن أقسى القضاة في إيقاع حد الخمر من ذاق لذتها وأحس سورتها. وجررت نفسي والألم يعصر قلبي، فخرجت من وراء الستار لأعود أدراجي تاركا إلى الله قضائي. ومررت في سيري بالثياب التي ألقتها الفتاة على الأريكة، وكانت تبرق في الضوء المنبعث عليها من بعيد، ونظرت إلى ثيابي نظرة قصيرة فرأيت جبتي وقميصي وقد حال لونهما وانكمشت أكمامهما وتفزرت جوانبهما، وتهتك أعلاهما وأسفلهما، فعذرت الحجاب في منعي ودفعي، واستقر رأيي على أن أقترض ثياب الشيخ قرضا حتى أستطيع إذا لبستها في الصباح أن أجد إلى بابه سبيلا. وليس علي من بأس إذ أنا اقترضتها عارية، ثم رددتها إلى السيد من بعد سليمة طاهرة. وخطفت الثياب وسعيت بها جريا، ثم قفزت في رحاب القصر قفزا حتى بلغت الفناء، وخرجت أعدو حتى بلغت داري وأنا أتلفت إلى ورائي. وكان صاحبي كمال الدين لا يزال في حجرتي يغط في نومه، فلم أشأ أن أوقظه؛ فإن متعته في الصباح تكون أعظم إذا رآني أطلع عليه في بريق تلك الثياب.
ولما ذهبت في الصباح إلى مجلس السيد الشيخ، وقفت عند الباب أريد الاستئذان، فقام الحجاب يسارعون، وحنوا لي الهامات، وهزوا لي القلانس، وأطرقوا لا ينظرون إلى وجهي، وفتحوا الباب على مصراعيه، ووقف بعضهم عن يمين والبعض عن شمال حتى دخلت. وكان السيد في صدر المجلس، فوقع بصري عليه ووقعت عينه في عيني، ثم رأى ملابسه تلمع علي، وعرف أنني رأيت كل شيء، ففغر فاه كأنه يهم بالصياح، ثم أخذ يجمع ثيابه ويلتمس رداءه، ثم تحرك قائما يبرق بعينيه ويختلج في خفيه، وأقبل نحوي فاتحا ذراعيه، وانطلق في تحية طويلة مؤهلا مسهلا مرحبا مستبشرا، حتى تلاقينا في وسط القاعة، فضمني إلى صدره ضمة مودة، وترك كل من حوله وأقبل علي فأجلسني عن يمينه، وأخذ يحييني ويؤنسني حتى هدأ روعي وذهب عني وجلي، وصاح في حجابه أن يسرعوا في خدمتي، وأمرهم أن يعدوا لي قهوة وماء ورد لأستروح وتذهب عني بهرة السير. وما زال بي حتى شرح صدري وفك عقدة لساني، وبدأت أقص عليه قصتي في قول مبين وحجة ظاهرة، وأظهرت له الحق كله فلم أخف عنه شيئا، ولم أحاول أن أعتذر ولا أن أستتر، حتى أفضيت إليه بكل ذات نفسي، فتبسم - حرسه الله - وأخذني من تحت إبطي وانتحى بي جانبا وجعل يسألني عن تفصيل أحوالي، فلان قلبي له وزالت حفيظتي عليه، وهممت أن أعتذر إليه من أخذ ثيابه وأعده بإرجاعها إليه. ولكنه لم يمكني من المضي في حديثي، بل عانقني عناق الصديق، ومد يده فدس في كفي كيسا ثقيلا فتحته فيما بعد فوجدت فيه مائة من الدنانير صافية وافية. ولما استأذنته آخر الأمر في الانصراف سألني هل جئت إليه راكبا، وهل حملني جواد أم سعت بي إليه أتان، فنظرت إليه في خجل وقلت: لقد كنت دائما أسير على قدمي منذ بعت صديقي.
فضحك حتى كاد يهتز عن وقاره وقال: أكنت تركب الصديق؟
فقلت له باسما: هذا صديق كان لي في وطني ماهوش، وكان الناس يسمونه حماري، وكنت أسميه البطل الصامت حتى لا أشارك الناس في شتمه.
وخفق قلبي عند ذلك خفقة شديدة؛ إذ تذكرت الصديق المسكين الذي اضطرتني الحاجة في وطني إلى بيعه ومفارقته، وأطرقت حزينا.
فقال لي السيد: لا عليك أيها الشيخ المبارك؛ فما كان مثلك ليسير في جانبولاد راجلا.
ثم أسرع إلى ظاهر المجلس ونادى حاجبه، وأمره أن يعد لي بغلته الشهباء، ثم نظر إلي في عطف وقال: هي بغلة فارهة، مباركة الخطوات، ميمونة الروحات والغدوات، بارك الله لك فيها، ولا تنس أن تختلف إلينا عليها، وأن تذكرنا في صلاتك.
فسرى عني كل ما كان من همي، وأحسست للسيد - حرسه الله - شكرا يملأ قلبي، وسرت عنه راكبا بغلته، لابسا ثيابه وعمامته. وكنت على طول الطريق أدعو الله له ليجزي عني فضله، ويغفر له ذنبه.
وكان أهل جانبولاد ينظرون إلي وأنا سائر، فإذا قربت منهم تواثبوا لتحيتي، وأشار البعيد منهم إلي بالبنان. وقضيت سائر اليوم في داري عاكفا على الصلاة أشكر الله، وأسبح له تسبيحا.
الفصل السادس عشر
اتسعت بعد ذلك حلقة دروسي، وضاق بها المسجد حتى كادت تمتنع على الناس الصلاة، فدعاني هذا إلى أن أتخذ دارا خاصة جعلتها مدرسة أعلم فيها الناس كبارا وصغارا.
وكنت قرأت فيما قرأت عن أرسطو أن غاية التعليم أن يعرف المرء كيف يستخدم وقته إذا خلا من العمل. ولست أدري لعمري ما الذي حمل هذا المعلم الأول على أن يدعي مثل هذا الزعم؟ إن الناس إذا خلوا من العمل لم تعوزهم الحيلة في استخدام وقتهم الفارغ؛ فالطبائع توجههم وتحتال لهم وتميل بهم وتشرد. أما أنا فقد رأيت أن السعادة والخير لا يكونان إلا في العمل؛ العمل الدائم وإن تغير وتنوع. ولا خير فيمن يخلو من عمل إلا إذا دخل في سواه. وقد جعلت هذا المعنى شعاري، وأذعته في دروسي وأحاديثي.
جعلت أعلم تلاميذي أن أقل مراتب الإنسان أن يبذل وقته فيما يعود عليه بالمسرة وحده، وإن كانت مسرة مباحة بريئة. فالذي يقضي وقته في نزهة إنما يبلغ أدنى مراتب الإنسان، والذي يسلي نفسه إنما يبلغ هذه المرتبة عينها، إلا إذا كان في نزهته وفي ترفيهه إنما يتحفز إلى خير أو يساعد عليه من بعد. وعلمتهم أن الذين لا يعملون بل يجدون أوقاتهم فارغة فيحتالون على قتلها هم الطفيليون على مائدة الحياة. هؤلاء يطردهم الله من رحمته وإن كانوا لا يقارفون شرا؛ لأنهم لا يعرفون السلام ولا يعينون على الخير.
وقد بدا لي بعد حين من مقامي في جانبولاد أن التعليم وحده لا يجدي إذا لم تصحبه الأعمال؛ فإن أسمى اللذة في الخير لا يجدها من يتأمله بعقله، بل من يباشره بعمله. فأقبلت على ذلك القصد مع تلاميذي، وتحاملت فيه على نفسي مع ضعف حولي وقلة ذات يدي، ولو كنت من أصحاب الأعلام لما احتجت إلى معونة من غيري، ولكن ما حيلتي ولم يكن لي في جانبولاد قدور؟ ففكرت أن أتكفف الناس أطلب منهم المعونة على مقصدي. ولكن الله يعلم ما قاسيت في سبيل ذلك من عنت؛ فقد عجزت مرة بعد مرة، ولم تفدني ملابس القاضي شيئا في جمع المال. وقد يجود الناس بالتحية وحلو القول، ولكن حلو القول لا يعين على ما كنت أسعى فيه . فأطلت التأمل في هذا الأمر وتحدثت فيه كثيرا مع تلاميذي. فقال لي كمال الدين يوما: «إنه من التعسف أن تكلف الناس ما تأباه الطباع. فهل تطمع في جانبولاد أن يحرم الناس أنفسهم بعض مسراتهم في سبيل إطعام الجائع الذي لا يجد لقمة، أو كسوة العاري الذي يرتعد من شدة البرد، أو مداواة المريض الذي يقع في الطريق من الإعياء؟ ما كان ينبغي أن نطلب من النار أن تطفأ بالرجاء، أو أن نطلب من الماء في القاع أن يعلو صعدا إلى القمم.» فكانت تلك كلمة صريحة صارمة ألقت اليأس في قلوبنا. ولكنه أردف قائلا: «من شاء الخير فليتدسس إلى الشهوات.»
فنظر تلاميذي بعضهم إلى بعض وتصايحوا: «نتدسس إلى الشهوات؟ هذا مستحيل. وما جدوى الخير إذا كانت الشهوات سبيله؟» فقال كمال الدين مترفقا: «أقصد أن نتدسس إلى المسرات!» فقال التلاميذ: «نعم، أما هذه فلا بأس بها.» وأخذنا ندبر الخطة المحكمة.
بالاختصار جعلنا نعقد في المدرسة كل أسبوعين مجلسا للهو ندعو إليه علية جانبولاد وأوساط أهلها، وكنا نحشد فيه المغنين وصناع اللهو والمضحكين، وجعلنا لذلك أجرا، فكنا نأخذ من البعض ذهبا ومن البعض الفضة، كل على قدر وجاهته. وكنا نميز أصحاب الذهب بمقاعد في الصدر، فكان هذا كافيا لأن يبذل الجميع ذهبا حتى صارت القاعة كلها مقاعد صدر.
وكان نجاحنا منقطع النظير؛ فإن علية جانبولاد أسرعت إلى التلبية، ولم يرد أحد منهم دعوتنا، وانهال علينا المال انهيالا، فأمكننا أن نطعم الفقراء ونكسو المساكين ونعين المرضى على الدواء، ولكنني مع هذا النجاح كنت أحس في قرارة نفسي أنني أخطأت سبيلي، وأنني أحيي ألف سيئة في سبيل حسنة واحدة. وما قيمة الخير إذا لم يفعله صاحبه متجها إليه؟
وكنت أحس أن الله لن يرضى عن عملي ولن يقبل خيري. ولم ألبث أن وجدت عقوبة الله أمامي، فما كان الله ليبارك في خير جاء عن سبيل الشهوات.
الفصل السابع عشر
عاد تيمور إلى جانبولاد بعد أن قهر الملوك وقتل الجيوش، وأتى معه بعدوه بايزيد العثماني في قفص من الحديد؛ ليراه الناس ويعتبروا ويمجدوا في الأرض اسم تيمور.
ولم تطاوعني نفسي على الخروج مع الناس لرؤيته؛ فما حاجتي إلى رؤية منظر شهدت مثله في الغابة من قبل! وزاد من زهدي في رؤيته ما سمعت عن منظره؛ فقد قيل إنه أشل اليد والرجل، تعترض وجهه ضربة سيف تركت فيه جرحا غائرا يجعل نظرته كنظرة الفهد. فآثرت الذهاب إلى دار صديقي كمال الدين لأقضي عنده اليوم؛ لأن مدرستي كانت خاوية؛ إذ خرج أكثر تلاميذي كما خرج الناس لرؤية موكب المنتصر. ولست ألوم أحدا منهم على ذلك فإنه من طبع الإنسان. كان الإنسان منذ القدم يعبد الأقوياء القساة.
ولم يكن كمال الدين وحده في الدار، بل كانت معه أخته الصالحة الكريمة «نجوى»؛ نجوى الطاهرة البتول التي كانت لأخيها كل ما في الحياة.
كانت شابة في البضع والعشرين، وإن كنت كلما حدثتها رأيت من عقلها كمال الخمسين، وكنت كلما نظرت إليها تذكرت علية ابنة علاء الدين.
كانت لها عيناها الواسعتان وجبينها الوضاح وصفحة وجهها الوضاء، حتى لقد كان يخيل إلي أحيانا أنها هي التي رأيتها في الهودج المزركش في موكب السلطان في ماهوش.
قضينا اليوم معا وكان يوما من الربيع. والربيع ما زال منذ الصبا يهزني ويطربني، ويعتريني فيه خشوع وتشملني فيه رقة، كأن زهره يتفتح في قلبي، وكأن طيره يتغنى في حنايا صدري. كان الربيع دائما يجمعني بالخليقة، ويمزجني بالوجود ويوحي إلي أسمى المعاني. ولكن الربيع في ذلك اليوم كان أكثر سحرا ونشوة.
سرت في الحديقة الصغيرة أنقل طرفي من عود إلى عود، ومن زهرة إلى زهرة، على حين جلس صديقي في ركن منها يصلي ويقرأ الأوراد. وذهبت «نجوى» إلى شئون البيت كعادتها إذ تمهن لأخيها. وقد وجدت في تأمل المخلوقات عبادة أسمى من كل عبادة؛ إذ كانت كل ورقة تملأ صدري سلاما وشكرا، وكل حشرة أفحص بنظري أعضاءها وحركتها تملأ عقلي علما وخضوعا. وقضيت في جولتي حول الحديقة الصغيرة ساعات كنت فيها أحلق في الآفاق وأهيم في الوجود من الأزل القديم إلى الأبد المقيم إلى ما شاء الله، وكان أقل ما يقع عليه بصري يفتح لي عالما لا يقل عن الفضاء الفسيح في روعته وجلال أسراره.
رأيت عنكبوتا ضئيل الجسم لم أكد أتبينه في ضوء الصباح، ورأيت بيته الواهي وقد انعقدت عليه قطرات من الندى تلمع عليها أشعة الشمس بألوان لا حصر لها ولا يستطيع اللسان وصفها، ورأيت المخلوق الصغير يتحرك ويلقي من فمه خيطا لا تبصره العين إلا إذا لمع عليه شعاع من الضوء، فمددت إليه أصبعي فعلق به، وإذا بالعنكبوت يتعلق بخيطه في طرف أنملتي ويهتز في الهواء مترجحا، ثم رأيته يتسلق الخيط حتى كاد يلمس أصبعي، فهززت يدي فإذا به يسرع فيمد من فمه غزلا رقيقا تطاول حتى صار على أكثر من ذراع مني، فملأني هذا الخلق البديع عجبا. هو آلة دقيقة الصنع عجيبة التركيب، لا تكاد العين ترى لها جرما، ومع ذلك فله أرجل وأطراف، وفيه حواس لا أدري عددها، وله أهداب وأجهزة وفم ومعدة وآلة لإفراز هذا اللعاب الدقيق الذي لا يخونه إذا امتد ولا ينقطع به إذا تسلقه. كل هذا قد اجتمع متناسقا في نقطة ضئيلة لا تكاد العين تبصرها، فسبحانك يا ألله!
وانتهى صديقي من أوراده وجلس ينتظرني. وكانت «نجوى» قد جهزت طعاما للإفطار - أتم الله عليها نعمته وأسبغ عليها فضله - فدعتني إلى الطعام. وما كان أطيبه! ثم قضينا سائر اليوم في درس وتأمل وحديث طيب وصلاة، وكان مجلسنا يفيض بنور الله، لم أحس فيه أنني معلم ألقي الدروس، بل كنت أتعلم من صاحبي أكثر مما كنت أعلمهما. كانت «نجوى» إذا تحدثت فتحت في قلبي ينابيع من الفيض فأغرق في تأملي حينا ثم أطفو وقد امتلأ قلبي يقينا. ولست أدري ما ذاك الذي كانت تحدثه في بنظراتها الوديعة. كانت تستمع لما أقول وتنظر إلي بعينيها الواسعتين الحالمتين، ثم تنطق بكلمة أو بكلمات فإذا بي أسمع معنى لم يجل من قبل بخاطري. وقد تنظر إلي صامتة فإذا بي أرى عالما خفيا من الأسرار ينفتح أمام عيني.
كانت نفسها الصالحة تتصل بالملأ الأعلى، فإذا هي نطقت أنفذت بصري الكليل إلى طرف منه، فألمح لمحة سريعة تكفي لأن تفيض علي من النور القدسي فيضا غامرا.
ولما ذهبت إلى بيتي مع وسط الليل كنت أحس أنني لا أسير فوق الأرض، بل تحملني أجنحة الملائك على متن الهواء، حتى كأن السحب قد صارت تحت مسراي، وكأن تيمور وشيعته وبطشه وخوفه كانت كلها تحت مواطئ قدمي.
ذهبت إلى منزلي وجلست على كرسي كبير لم يكن في غرفتي سواه إلى جوار النافذة المطلة على الفناء، وأشعلت المصباح ولم يكن به سوى القليل من الزيت، فجعل يتراقص ويطقطق ولا يكاد نوره يبلغ زوايا المكان. فبدت الأركان بعيدة كأنها تنتهي إلى الأفق في طرف السماء. وأغمضت عيني وأنا جالس على الكرسي لا أريد نوما، ولكني وجدت في الغمض راحة أنست إليها. فأخذتني سنة من النوم فتحت عيني بعدها على صوت سمعته يناديني. فتلفت حولي ثم نظرت إلى النافذة ورائي فرأيت شخصا واقفا قد وضع مرفقيه على حافة النافذة واتكأ بذقنه على كفيه، فوسعت عيني لأتبينه في الضوء الخافت فإذا به صاحبي «طوطاط» وبادرني قائلا: «أين كنت بالأمس؟»
فقلت له منكرا: «وما سؤالك عن هذا؟»
فنظر إلي معاتبا وقال: «لم تذهب إلى لقاء تيمور. وقد سأل عنك.»
فصحت في فزع: «تيمور يسأل عني؟»
فقال جادا: «وما تعجبك من هذا؟»
فقلت: «إنه لم يرني.»
فقال ضاحكا: «ولكنه يعرفك. ألا تفهم؟ إن تيمور لا يخفى عليه علم بأحد.»
فأزعجني قوله وداخلني منه هم زادني قلقا، فأطرقت صامتا أفكر فيما عساه ذكرني به. فقرب «طوطاط» مني وهمس في أذني: «احذر!»
فقلت له مبادرا: «مم أحذر، وما بي ما أحذر منه؟»
فقال جادا: «ألجم لسانك هذا. كفاك ما صنع بك.»
فنظرت إليه في دهشة وقلت: «لساني أنا؟»
فقال لي في رفق: «نعم، فما هذه الدروس التي تلقيها؟ وما هذه الكرامة الإنسانية التي تتحدث عنها؟ ثم ما هذه الأغاني التي توسع لها صدر مدرستك؟ وماذا عليك إذا شئت الغناء أن تجعله في بيت رجل مثلي ليكون طربك في ستر وتجمل؟»
ثم غمزني في ذراعي هامسا: «لا تذهب إلى المدرسة منذ اليوم؛ فقد أمر تيمور بإغلاقها.»
قال هذا ومضى عني مسرعا.
كانت كلمته هذه مثل الصاعقة تنقض علي، واسودت الدنيا في عيني ولم أدر ماذا أصنع. وشعرت عند ذلك أول مرة أنني واقف وجها لوجه أمام تيمور، وتمثلت لي كل قوته وكل سطوته وأحسست الخوف يملكني. لقد كنت من قبل أتأمل جبروته بالفكر وأسمع عن بطشه بالأذن، وأمقت كل هذا وأنا بعيد عنه، ولكني عند ذلك رأيت نفسي وضعفي أمام سلطانه الهائل، فخيم اليأس علي وشل حركتي.
فقمت منتفضا عن مقعدي، وقد شعرت بأنه لم يبق لي في جانبولاد مقام؛ فإني لا أستطيع البقاء فيها إلا إذا رضيت بأن أذهب إلى تيمور وأتمسح عند أقدامه.
وقمت إلى الصلاة، واتجهت إلى الله أن يسدد خطاي وأن ينقذني من الوساوس، فلما فرغت منها عدت إلى نفسي أحاسبها حسابا عسيرا. فهي التي زينت لي اتخاذ دار العلم مسرحا للهو، وهي التي جعلتني أفرط وأسف في سبيل الذهب. وامتلأ قلبي سخطا على ذلك المعدن الخسيس الذي أضلني؛ فإن الله لم يجعل سبيلا إلا على من ظلم وأخطأ. وأقبلت على صلاتي أستغفر فيها ربي من ذلك الإثم الذي وقعت فيه. وجعلت أناقش نفسي وأحاجها في الهجرة، وترجحت بي الميول بين المشقة وبين الكرامة، ولم أستطع أن أهتدي إلى رأي بينهما؛ إذ كان أحلى الخطتين مرا. وفيما كنت في حيرتي برقت لي بارقة من الأمل، فألقي في روعي عزم رأيت فيه فرصة الخلاص مما كنت فيه. بدا لي أن الهجرة نوع من الهروب، وأنني لا ينبغي لي أن أهرب حتى أبلي في سبيل الحق بلاء ألتمس فيه العذر لنفسي، فإذا اضطررت بعد ذلك إلى الهجرة لم أجد على نفسي سخطا أو لوما. فعزمت على أن أقيم في جانبولاد وأن أجاهد في سبيل الحق ما استطعت، وأن أقابل الجبروت بالتحدي، وأرفع رأسي كريما لا أحنيه لقوة ظالمة، فإذا أصابني من ذلك ما يصيب الشهداء كنت قد بلغت عذري. وامتلأ قلبي يقينا بأنني لن أخشى قوة الطغاة. فوالله إن الحق ليصرعهم لو نطق به من ملأه الإيمان.
وعزمت بعد ذلك على أن أصحح مكاني في جانبولاد، وأن أضع نفسي حيث كان يليق بها أن تكون. فإني لم أكن أقل من أصحاب الريش والأعلام. بل إنني كنت لا أرضى بأن أكون مساويا لهم. فإذا كان سادة جانبولاد قد تواضعوا على أن يجعلوا الأمر كله لأنفسهم، فلن أسمح بأن أكون دونهم في شيء. عزمت على أن أدخل نفسي قسرا إلى المكان الذي يليق بي. وما كان لمثلي إلا أن يكون في المحل الكريم. وما كدت أستقر على هذا الرأي حتى أخذت في الاستعداد له، واجتهدت فيه اجتهادا كبيرا.
الفصل الثامن عشر
كانت الأعلام في جانبولاد لا ترفع طبعا إلا إذا ملأ الناس قدورا من الذهب بعددها، ولكن ما لي وللذهب؟ قد رسم السادة خطتهم على أن يجعلوا الذهب وقفا عليهم، فكانت النتيجة أن الذكاء والعلم والأدب والخير والفضل لم يصبها منه شيء؛ إذ لم تجعل لها قيم في خطتهم المرسومة. وما كنت لأقيد نفسي بقواعدهم منذ عزمت على أن أطيع الحق وحده، ولا أنظر إلا إلى جوهر الأشياء، فلو أنصف الناس لجعلوا المكان الأول في القيم كلها للذكاء والفضل وأمثالهما مما ضاع قدره في جانبولاد.
ومهما يكن من الأمر فقد استقر رأيي على أن أستغني عن الذهب وأتخذ لنفسي معيارا رمزيا أجازي به الأفعال بما تستحقه. والذهب بعد التفكير لا يزيد على أنه معدن مثل كل معادن الأرض؛ فهو كالحجر لا يزيد على أنه من عناصر الطين، وهو لا يستحق كل هذه العناية التي يحيطونه بها؛ إذ هو لا يؤكل ولا يشرب ولا يلبس، وشربة واحدة من الماء في الصحراء تكون أغلى من كل ذهب الأرض. وإذا كان المقصود إنما هو وضعه في القدور وختمها بعد ذلك، فلن يضير القدور شيء إذا ملئت بشيء آخر كالحصا أو الحجارة ، ولن تكون قدر من الخزف خيرا من أخرى لأن واحدة مختومة على ذهب والأخرى مختومة على حجارة.
فعمدت إلى قرطاس كتبت عليه أنواعا من العمل، وكتبت أمام كل منها ما يستحقه من وزن الذهب لو أنصف الناس، ثم عمدت إلى قرطاس آخر كتبت عليه أنواعا من النقص أو الظلم أو أعمال السوء، وجعلت ما يقابلها من العقوبة مقدرا بوزن الذهب. وعزمت على أن أحاسب نفسي على أعمالها جميعا، فأقدر ما قدمت من خير وأجعل لكل عمل من ذلك وزنا ألقيه في قدر - أقصد وزنا من الحصى بدلا من الذهب. فإذا ما امتلأت قدر ختمتها ورفعت على داري علما، وكلما ملأت أخرى وختمتها رفعت علما آخر. ولم أنس محاسبة نفسي على ما تجترم من الذنوب، فعزمت على أن أنقص من القدور ما يعادل قيمة عقوبتها على آثامها، حتى لا يبقى فيها إلا وزن ما هو باق لي من الحسنات الخالصة. وكنت في ذلك متحرجا متأثما؛ فإن الله قد وعدنا - معاشر البشر - لما علم من ضعف الطبيعة الإنسانية أن نجزى على الحسنة بعشرة أمثالها، وألا نجزى على السيئة إلا بمثلها، فبالغت في الحيطة، وجعلت الحسنة والسيئة سواء في الأجر والعقوبة.
ولأضرب مثلا مما وضعت من القيم لأبين أنني لم أغال في التقدير؛ فقد جعلت لإطعام الفقير وزن حبة من الرمل، ولعيادة المريض وزن حصاة صغيرة؛ فإن هذه من الواجبات التي لا ينبغي لأحد أن يطلب عليها الأجر. وجعلت لكتابة رسالة في الأخلاق وزن حصاة كبيرة، ولكتابة رسالة في التاريخ وزن درهم؛ لأنه سجل الأمم، وهو يعلم الناس أن الحياة تفنى ولا يبقى على الدهر إلا الخير، وأن الظلم مرتعه وخيم، وأن العسف لا يقيم الدول إلا إلى حين. وجعلت لكتابة القصة وزن أقة؛ لأن القصة لا يقدر عليها إلا من وهب الله له من فضله. ولم يكن في تقديري مبالغة؛ فإن الخلفاء العظماء كانوا فيما مضى يجيزون الشعراء بمئات الألوف من الدراهم على أبيات في المدح الكاذب، أو في وصف الخمر واللهو ، فإذا أنا جعلت للقصة وزن أقة واحدة من الذهب لم أكن مغاليا. وجعلت لتعليم الناس قدرا كاملة. نعم! قدرا كاملة؛ فالتعليم يطهر النفوس ويبني أساس المستقبل ويفهم الناس معنى الإنسانية. فإذا خرج المعلم رجلا كاملا أضاف به إلى الأمة ثروة لا تقدر بمال. وما كنت لأبخس التعليم حقه وأنا أعرف قيمته، ولن يضيرني أن تيمور وعلية جانبولاد لا يعرفون له قدره؛ فإن الحقائق لا يستطيع إدراكها إلا من يسمو بذكائه إلى المعاني العليا.
ولما انتهيت من ذلك أخذت في إعداد القدور والحصى، واستطعت أن أملأ لنفسي قدرين كبيرتين، ثم عمدت إلى ثوب فقددت منه ما يكفي لصنع علمين، فما أتى العصر حتى كان علمان أصفران بديعان يخفقان في الهواء فوق داري.
ثم أسرعت إلى دار صديقي كمال الدين لأقضي معه ساعات في الدرس والعبادة؛ إذ قضيت اليوم كله لاهيا عن عبادتي، وأحسست شوقا إلى مجلس العلم، وحمدت الله إذ بقي لي في جانبولاد صديق أتذوق معه لذة الدرس. فلما طرقت الباب فتحت لي «نجوى» الكريمة الصالحة، فهشت إلي وبشت، ونظرت إليها وكأن نورا يشع منها إلى قلبي. وخفق قلبي فأسرعت داخلا وأغضيت حتى لا أطيل النظر إليها. ولست أدري لم كانت صورتها تنطبع في خيالي وتعاودني في خلواتي وتلازمني في سيري، حتى كادت تنافس الصورة التي طويت عليها جوانحي، وجعلتها رمز الكمال والأمل؛ صورة علية ابنة علاء الدين.
وبعد قليل جاء أخوها، فجلسنا ثلاثتنا نتدارس ونتعاطى أطيب الحديث، وصلينا وقرأنا الأوراد حتى مضى صدر من الليل، وأخبرتهما بما كان من أمري، فاختلفت فيه الآراء، وراجعني كمال الدين في رأيي مراجعة شديدة، ولكنني ما كنت لأرجع عن أمر تبين لي فيه وجه الحق، ولم يراجعني كمال الدين إلا لأنه خشي علي من عواقبه. ولكن ما هذه العواقب التي يخشاها؟ إن الحق واضح ولا يليق بنا أن نتردد فيه.
ثم قمت عائدا إلى داري والسرور يملأ قلبي، والأمل يضيء لي سبيلي، ولم أنس أن أذكر نظرة «نجوى» عندما ودعتها. لقد خفق قلبي خفقة شديدة عندما نظرت إلى عينيها الواسعتين، ولست أستطيع أن أعبر عن أثر نظراتها في نفسي؛ فإن الألفاظ تتضاءل عن وصفه؛ تلك الألفاظ التي لم يتخذها الناس إلا مطية لما اعتادوه من معانيهم. حقا أني لم ألبث أن غضضت من بصري وسرت عنها مسرعا، ولكني جعلت ألوم نفسي، فما كان ينبغي لي أن أستبيح تلك المتعة من النظر إلى جمالها البارع وملء عيني منه. ومضيت في سبيلي وصورتها ماثلة في قلبي حتى غلبت على صورة علية ابنة علاء الدين. ما لي وعلية! إنها ليست إلا خيالا، وهذه «نجوى» الطاهرة التي كنت أسمع حديثها وأستوحي العلا من نظرتها. «نجوى» التي كنت أراها حقيقة أمامي. وما يدريني إذا أنا رأيت علية وحدثتها كيف أجد حقيقتها؟ ألا أراها ترفع حاجبيها استعلاء وتزور عني ولا تهش لي كما تهش نجوى الكريمة إذا لقيتها؟
بلغت منزلي أخيرا ولم أنس أن أحاسب نفسي على نظرتي التي نظرتها، فأخذت حفنة من الحصى من إحدى القدرين وقذفت بها إلى جانب، ثم قمت إلى أحد العلمين فحططته عن داري ريثما ييسر الله من الحسنات ما يعوض ذلك النقص. وأطلت في ليلتي من القيام بالصلاة لعل الله يتجاوز عن خطيئتي، وعزمت على أن أمسك قلبي من بعد فلا أنظر إلى «نجوى» إلا كما نظر موسى إلى النور المقدس.
الفصل التاسع عشر
كانت الليالي بطيئة كأنها تزحف زحف الدبى، وكانت النجوم تلمع من وراء القضبان الحديدية الغليظة كأنها قد سمرت في مواضعها من السماء. وكنت أقفقف من البرد في سجني المظلم، ولولا الصلاة وقرة عيني فيها لتمزق صدري من غيظه وتطايرت عنه أضلاعي. قذف بي في السجن كما ترمى الهرة في البئر أو كما يخبط الحجر فيتدحرج إلى الهاوية. وقد حاولت أن أعرف ما الذي دعا إلى سجني وأنا رجل قد كفيت الناس كل أمري فلم أستطع أن أهتدي إلى شيء؛ لأن السجان الفظ كان يأبى أن يكلمني، وكنت لا أرى سواه إلا بعض رفاق كانوا مثلي لا يعرفون لهم جريمة .
وبقيت كذلك إلى أن أحسست يوما على جدار حجري حسا، فنظرت حولي ورفعت رأسي فإذا وجه يطل علي من بين القضبان، فبرقت فيه لأعرفه فلم يسعفني الضوء الضئيل، ثم رأيته يفتح فمه الأهتم ويهمس يناديني، فصعدت بصري فيه حتى بلغت رأسه الأصلع وصحت فرحا: «طوطاط!» فهز رأسه وهو صامت، وكان يحاول في مشقة أن يلف ذراعه اليمنى حول القضبان ليتعلق بها، ثم رمى إلي حزمة بيده اليسرى وقال هامسا: «كيف حالك؟ تشجع!»
فصحت به: «قل لي لم جيء بي إلى هنا.»
فقال متأثرا: «ألم أقل لك؟ إنك لا تسمع النصح. كيف تجرأت على تزوير القدور؟»
وعند ذلك ثقل جسمه على ذراعه فاختل تماسكه ووثب إلى الأرض بعد أن قال لي: «تصبر.»
فعدت إلى وحدتي حزينا أفكر فيما مضى بي من أيامي في جانبولاد، وأقبلت على نفسي ألومها على الخروج من الوطن، ولاحت لي ماهوش عند ذلك جنة نعيم. حقا لقد خرجت منها حانقا لأنني لم أجد بها مكانا، ولكني كنت أتكلم فيها، وكنت أضحك وكنت أسخر، وما كنت أرى فيها أحدا خيرا مني. بل لقد ذهبت يوما لأسطو عامدا على أموال الناس لآخذ حقي من أرزاق ماهوش غصبا، وعدت أحمل ما أخذته عن رضا. أيها الوطن العزيز، كنت أجد فيك الحب فجحدت نعمتك، وها أنا ذا أذوق عقوبة الجحود. لقد كاد قاضي جانبولاد يحدني في جرم لم أرتكبه، ولولا أنني لبست ملابسه لأصابني العذاب والعار. ثم أغلق تيمور مدرستي مدعيا بأنني أذيع فيها الفساد وأتخذها مسرحا للهو، وهذا هو يلقي بي في السجن لأنني زورت القدور. أي قدور هذه التي زورتها! إن الطغاة لا تعوزهم الحجج إذا شاءوا التماسها. ويا ليتهم إذ أرادوا البطش اتجهوا إليه كما يتجه الضبع إلى فريسته مكشرا صريحا لا يعرف مواربة ولا رياء. ليتهم يفعلون ذلك فيبلغوا العذر؛ لأن هذا هو قانون الغابة، ولا بأس فيه على القوي إذا سطا بالضعيف. ولكنهم يأبون إلا أن يتستروا وراء ما يقيمونه من القواعد ويسمون ذلك عدلا.
ذكرت ما كان من حوادث الأيام الماضية، وأيقنت أن القدور كانت سبب بليتي، فإنني ما كدت أضع العلم فوق بيتي حتى رأيت الناس يجتمعون حوله منذ الصباح وينظرون إليه متهامسين، فحسبت أنهم يعجبون بلونه ورشاقة خفقاته. ثم أتى الليل فجاء إلي رجل من هؤلاء أصحاب الريش، فأخذ يسألني عن علمي وعن قدري، وزعم أنه لا بد له من الاطلاع عليها حتى يختمها بنفسه. هكذا زعم، وقال لي إن أعلام جانبولاد لا ترفع إلا إذا ختم القدور بيده، وتحقق من أنها مملوءة. فذهبت معه إلى القدر ففض ختامها ودس يده فيها، فصحت به حانقا: «ماذا تفعل؟» ولكنه كان قد سبق صيحتي وأخرج يده من القدر مملوءة بالحصى. فنظر إلي ضاحكا وقال لي: «ما هذا؟» فلم أجد بدا من أن أشرح له الأمر كله، وهو يهز رأسه حتى فرغت من قولي بعد أن أوضحت له كل ما قد يبهم عليه. فذهب عني صامتا بعد أن نظر نحوي نظرة عجيبة. فلم أعبأ بنظرته لما علمته من غرابة أطوار أصحاب الريش، وعدت إلى غرفتي لأهيئ عشائي، وما كدت أفعل حتى جاءني جماعة من الشرط يأمرونني أن أسير معهم، ولم تجدني فيهم مساءلة ولا مدافعة، فقادوني إلى هذا السجن بغير أن يتكلموا كلمة واحدة.
ومرت بي الأيام بسجني في بطء، لا يقطع ظلامها إلا شعاع ضئيل من النجوم الوامضة الباردة، التي لا تفتأ تحدث حديث الأجيال الفانية. ولم يكن أحد يقطع علي وحشة الوحدة إلا صورة «نجوى» التي كانت تلازمني، ثم صاحبي «طوطاط»؛ إذ يتسلق الجدار من خارج، ويتعلق بالقضبان حينا ويهمس لي بكلمات قصيرة، وكان في كل مرة يرمي إلي ربطة فيها ما يتفق له من طعام أو ملبس، وكان أحيانا يطرفني ببعض الفاكهة أو الحلوى، فكانت إلمامته القصيرة تبعث في قلبي أنسا يقيم فيه أياما؛ جزاه الله من صاحب كريم.
وكانت آخر مرة جاء فيها طوطاط لزيارتي في ليلة من رمضان، وكنت أستعد للصلاة قبل الإفطار، فقذف إلي ربطته قائلا: هي سنبوذجة لسحورك، صنعتها بيدي.
فخفق قلبي عندما تذكرت طعامه الذي صنعه بيده على جانب الغابة، فما كان أشهاه من طعام، كان القمر يضيء الفضاء، وكان هواء الربيع طلقا لا يشبه في شيء هواء سجني. وهممت بأن أشكره على بره وكرمه، ولكنه قاطعني هامسا: «تشجع، إن تيمور قد ذكرك.»
فصحت به: «ذكرني؟ وهل كان ذكره إياي إلا شؤما؟»
فهمس قائلا: «هذا شيء آخر، كنت عند ذلك طليقا حرا.»
فصحت: «ألا يكون شؤمه إلا على الأحرار؟»
فهمس في رعب: «صه! ألجم ذلك اللسان. اسمع، نسيت أن أخبرك أن لك رسالة مع السنبوذجة. خطاب. أسمعت؟»
ثم قهقه وقال: «لقد صرت لك عامل بريد.»
فاضطرب جسمه في ضحكه وثقل على ذراعه فخلصها من بين القضبان ووثب إلى الأرض.
فأسرعت إلى الربطة ففككتها وتلمست الرسالة من طياتها، ولكني تذكرت الظلام، فألقيت بها حانقا، وقضيت الليلة مفكرا مهموما لم أذق طعاما، وكانت همومي لا تفارقني إلا إذا قمت للصلاة. كانت الأفكار تشرد بي دائما إلى جانب الغابة، فأذكر ما رأيت فيها وما سمعت، وتمثلت لي قوانين الإنسان في مجتمعاته أشد قسوة من القانون الطليق الذي يسري في الغابة. وبدا لي في ظلمة سجني أن قانون الأسود والفهود أقرب إلى الرحمة من تلك القيود التي يضعها تيمور؛ فالأسد لا يقتل لأنه يحب القتل بل لأنه يريد أن يشبع جوعه. وليس في قانون الغابة مثل هذه السجون المظلمة التي يزيد عذابها على عذاب ساعة تعانيها الفريسة قبل أن تنزلق إلى بطن الوحش المفترس.
هكذا قضيت الليلة في تفكيري الحانق حتى طلع الصباح، وكنت أترقب دخول الشعاع الضئيل من النور لكي أستطيع أن أقرأ الرسالة. فما كدت أتبين الحروف حتى أقبلت عليها أقرؤها مع ما أصاب عيني من الألم في قراءتها على النور الضئيل. ولكني لا أذكر سرورا كان أعظم عندي في يوم من أيام حياتي مما أحسسته بعد أن مضيت في قراءتها. لقد تحرك المساكين الذين كنت أعلمهم وأواسيهم؛ تحركوا من أجلي وعزموا على النزوح من جانبولاد. هكذا أخبرني صديقي كمال الدين في رسالته - جزاه الله خيرا. ولم ينس أن يبعث إلي في خطابه تحية من أخته الصالحة. كتبت نجوى إلي تحيتها تشد من عزيمتي وتدعو لي بالفرج القريب. إنني لم أزل منذ حللت في ذلك السجن أراها أمام عيني، ولكن أفكاري السوداء كانت تجعل لصورتها إطارا من الأحزان والآلام. أما صورتها التي ملأت قلبي عندما قرأت تحيتها فقد كان إطارها من السلام والسعادة.
دب الأمل إلى قلبي وصار يرفه عني أثر ضيق السجن وظلامه. وما أكرم مساكين جانبولاد! ليس لبلد أمل في الحياة إذا فقد مساكينه؛ فهم الأيدي وهم الأرجل وهم القلوب والأحشاء. لا قوام لأمة بدونهم، ولن يستقيم أمر أمة إلا إذا ساوت بين رأسها وبين سائر أعضائها فيما يجب لكل منها من الرعاية والحرمة والكرامة.
ولكن الطغيان أعمى، ولا سبيل إلى فتح عينيه إلا بأن يظهره المساكين على أنه لا حياة له من غيرهم. يستطيع المساكين أن يعيشوا في الأرض الفسيحة؛ فإن عندهم الأيدي والأرجل تعمل وتسعى، وهم يجدون وطنا حيث يحلون لأنهم في كل وطن يخدمون، ولن يضرهم أن تزول الحروب بين الأمم وأن تكون بلاد الله كلها للإنسان.
لم أشك في أن تيمور قد فزع واضطرب من هؤلاء المساكين الذين أرادوا الخروج من جانبولاد. أيها الأشقياء، لو اطلعتم على ما في قلوب الطغاة وهم يدوسونكم بأقدامهم لسركم ما تطلعون عليه. إنهم يخشونكم وأنتم صرعى، ويعرفون ضعفكم وقوتكم.
ولقد صدق ظني فيما ذهب إليه، فما أتى عصر ذلك اليوم حتى سمعت السجان يعالج فتح باب جحري، ثم سمعت صراخ المصراعين وهما ينفرجان، ثم رأيت ذنب السيد الذي انحنى وهو داخل من الباب المطأطئ. كان الذنب يضطرب فوق قلنسوة حريرية صفراء عندما فتح الباب. ولما دخل الذنب دخل وراءه السيد، وكان مثل الببغاء كسائر أصحابه، حتى كدت أقهقه من رؤيته، ولكني أمسكت نفسي ونظرت إليه صامتا.
فنظر إلي مبتسما وقال بعد أن حيا: «أنت رجل طيب؛ هكذا يقول الناس عنك. وليس السجن بالمقام اللائق بك.» ثم نظر حوله مشمئزا.
فقلت له: «لا شك فيما تقوله أيها السيد، إنني أحب السير في ضوء الشمس والتنفس من الهواء الطلق، وأحب أن أذهب حيث شئت، وأتكلم مع من أحببت، وأقول ما يدور في نفسي إذا أردت. أحب كل ذلك وأحس تلك الجدران التي أقيم بينها تكاد تنطبق علي وتزهق أنفاسي بركود هوائها وظلمتها.»
فهز رأسه موافقا وقال: «وإذن فأنت ترى مصلحتك في التخلص منها.»
فصحت: «مصلحتي! إنما هو حقي.»
فقال الرجل متراجعا: «حقك! ليس من حقك أن تسير الأمور حسب أهوائك.»
فقلت في حنق: «بل أقول إنه حقي، وليس لأحد أن يسلبني إياه.» فاحمر وجهه ونظر إلي نظرة بشعة وقال: «أهذا ما تعلمته في سجنك؟»
فقلت مبتسما: «نعم، تعلمت من السجن أشياء كثيرة.»
فقال ساخرا: «تعلمت مثلا أن توجه ألفاظا جافية إلى من جاء يحسن إليك.»
فأخذ الغضب مني مأخذه وصحت به: «تحسن إلي! إنني لا أقبل منك إحسانا. إن من حقي أن أكون حرا، ولو كنت مجرما لما كان هذا السجن عقابا جديرا بإنسانيتي. اقطع يد السارق واتركه حرا، واقتل القاتل ودع روحه حرة. إن الحرية أثمن من اليد ومن الجسد كله.»
فنظر إلي صامتا والدهشة تعقل لسانه، ثم حاول أن يهدئ نفسه وقال: «دعنا من هذا القول الحانق، كن هادئا وافهم فيم أتيت إليك.»
فقلت له هادئا: «ها أنا ذا تراني هادئا. ولكني أنطق بالحق. قد علمني السجن ألا أمانع نفسي من قول كلمة أراها حقا. كنت أحيانا أتردد في قولها من خوف هذا السجن، فلما دخلته وتحملت ضيقه، وجدت أن كل ما فيه من عذاب وألم أقل قسوة من الشقاء الذي يسببه الامتناع عن قول الحق.»
فقال الرجل متكلفا العطف: «لسنا نخشى الحق، قل ما شئت من الحق الصحيح.»
فضحكت مقهقها، وكانت تلك فلتة لمت نفسي عليها، ولكني لم أقدر على الامتناع منها، ثم قلت: «هناك إذن حق صحيح وآخر غير صحيح؟ إنما أعرف الحق واحدا، فإذا لم يكنه كان باطلا.»
فتحرك الرجل في قلق، ولكنه تكلف الهدوء وقال باسما: «قله إذن، قل الحق.»
فقلت مسرعا: «لقد قلت ما ثار في نفسي، وهذا حسبي الآن.»
فقال في عطف متكلف: «أنت مخطئ في تقديرك كله. لست من هؤلاء الأغرار الذين يليق بهم أن يخطئوا وأن يعاقبوا؛ فأنت رجل عالم، لست من السوقة الرعاع.»
فقلت مندفعا: «السوقة الرعاع؟ من هؤلاء؟ لا أعرف سوقة ولا رعاعا إلا هؤلاء الذين يملئون الأرض فسادا. وأما رجل الحقل الذي يلوث يديه بالطين ويسير عاري القدمين ممزق الثياب، ويذهب آخر اليوم إلى أهله بحزمة من الفجل ورغيفين؛ أما هذا فرجل وهب نفسه للعمل ووهب ماله إلى الآخرين. فإذا كان من السوقة الرعاع فما أحب إلي أن أكون منهم.»
فقال السيد متأففا: «أوه! أقصد أنك رجل عاقل لا ترضى بالفوضى.»
فقلت: «لست أرضى الفوضى لبلد من بلاد الله.»
فقال مرتاحا: «إذن قد اتفقنا. وأنا آت إليك موفدا من مولاي تيمور العظيم، إنه يمد يده إليك.»
فصحت في دهشة: «أنا؟ يمد يده إلي أنا؟ أنا هنا أسير، ويد الأسير مغلولة.»
فقال معاتبا: «أنت تتجنى، هذا كرم لا ترفضه.»
فقلت وأنا أغص بريقي: «كرم؟ ما الذي حمله على القذف بي إلى هنا؟ أليس هذا بغيا؟ وهل إزالة البغي تكرم؟»
فصاح في حنق: «أنت تصدني وتمعن في جرح كرامتي، وتستهين باسم مولاي.»
فقلت له هادئا: «لست أفهم.»
فتحرك ضجرا وقال: «إذن أنت ترفض السلام.»
فقلت: «الذي يريد السلام لا يستشير فيه.»
فصاح وقد نفد صبره: «هذا تعنت، هذا عناد.»
فقلت وقلبي يدمى: «أنا هنا في سجني كأنني لست شيئا. لقد سلبتم حقي في الحياة حرا وأنتم أصحاب الحول والقوة، ردوا علي حريتي فهذا حقي.»
فقال وقد ثار: «لقد علمت أنك لا تجيب إلى السلام، فلتتحمل العقبى.» فلم أتمالك أن قهقهت مرة أخرى وقلت: «تهددني؟ وماذا يأخذ الريح من البلاط؟»
فجعل الرجل يشتم ويهدر بألفاظ لم أفهم معناها، وكان منظره مسليا، فوقفت أنظر إليه حتى سكن، ثم قلت له: «إذا كانت الحقيقة تغضبك، فما ذلك من ذنبي.»
فأخذ يرعد ويبرق وقبض يده فرفعها نحوي صائحا: «اخرس!»
فنظرت إليه هادئا ولا أزال أضحك وقلت: «أهكذا تخشى لساني؟»
فدفعني دفعة غيظ كدت أقع منها، ولكني لم أشأ أن يخرج بغير أن أسمعه آخر كلماتي، فقلت: «ستقف معي أنت وسيدك وجها لوجه أمام الأبد. ستقفان وجها لوجه أمامي والعار يقطر من وجهيكما، وتتردد أصداء هذا الحديث جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة. وستشهد الأجيال قوتي وضعفكم، وثباتي وهروبكم، وحقي وظلمكم. وليس فوق الظلم ما يمكن أن يسب به صاحب السلطان.»
فصاح الرجل صياحا عاليا لم أفهم منه لفظا، وخرج يخبط الأرض في عنف، ثم تضاءلت أصداء خطواته في السراديب بعد حين، وعاد السكون العميق. ثم أتى السجان إلى حجرتي فأعاد المصراعين إلى إغلاقهما، وكان الليل قد أخذ يرخي سدوله، واختفى الشعاع الضئيل من الضوء وأقبل علي الظلام الكثيف يلف ما حولي، ولكن قلبي كان يشتعل ويضيء. وقمت أصلي لله شكرا؛ فقد نصرني في سجني على تيمور وجبروته.
الفصل العشرون
لم أنم من الليل شيئا بعد أن انصرف عني الرجل صاحب الذنب، ولكني كنت مطمئن القلب مبتهجا. فلما مضى الليل وأطلت علي بوادر أشعة النهار الضئيلة من وراء قضبان سجني سمعت صرير المفتاح في باب حجرتي، ثم رأيت الباب يفتح ودخل منه السجان حاملا في يده صرة. فتبسم في وجهي أول بسمة منذ رأيته، ثم ألقى إلي الصرة وقال: «هذه خلعة مولاي.» فنظرت إليه ولم أفهم ما يقصد من قوله، فأعاد كلماته وهو يزيد في ابتسامته اتساعا وقال متلطفا: «خلعة مولاي تيمور العظيم، لكي تلبسها ثم تمضي إليه مع الأمير صاحب الذنب الذي ينتظرك عند الباب.» فدار بي رأسي وحسبت أنني في رؤيا، وتحركت في موضعي ولمست بلاط الحجرة بيدي فوجدته باردا قاسيا كعهدي به، ثم قمت ومشيت وتكلمت لأتأكد من أنني لست نائما، ثم خررت لله ساجدا. ولم أنظر إلى الصرة وتركتها ملقاة على الأرض، وخرجت أتلمس الطريق والسجان يرشدني كلما أخطأته حتى بلغت الباب، فرأيت صاحب الذنب الذي كان عندي بالأمس واقفا مقطب الوجه، فلم أنظر إليه وخرجت إلى الطريق بعد أن مكثت في سجني شهرين وعشرة أيام وساعتين. وهبت علي نسائم الصباح الباردة؛ تلك النسائم الرطبة التي تحمل عطر الفضاء الفسيح ولا تلوثها جدران السجون. ووقفت حينا أملأ صدري منها وأنظر إلى السماء الصافية اللامعة، وأنوار الصباح الرفيقة الباسمة، وامتلأت عيناي بالدمع. ثم سرت وقلبي يهتف بالشكر لله الذي له الأمر كله، والذي يلطف في الخطب الجسيم، وينعم بما لا يحصى من الآلاء.
وسمعت الأمير صاحب الذنب بعد حين يناديني من ورائي: «إلى أين؟» فلم ألتفت إليه لأنني كنت منصرفا إلى تسبيح قلبي، فأسرع حتى صار إلى جانبي وأمسك بذراعي وقال معبسا: «أما تعرف أن تيمور ينتظر؟» فرفعت بصري إليه، وكان رجلا طوالا، وقلت له مترفقا: «أما تعفيني؟» فقال وهو يقلل من عبوسه: «وهل هو أمري حتى أعفيك؟ إنه أمر مولاي.» فتنبهت إلى نفسي وزالت دهشتي، فتمثلت لي حقيقة الحال، وعلمت أنني مطلوب إلى مجلس تيمور. وماذا كان تيمور يبغي مني؟ فتلطفت في القول وخاطبت الرجل خطابا لينا، فقلت له: «إذا تكرمت علي بساعة أذهب فيها إلى داري لأصلي، سألت الله لك العافية.» وما قلت ذلك حتى سمعت صوتا يصرخ من ورائي يناديني باسمي، فالتفت فإذا السجان يشتد مسرعا نحوي وهو يحمل صرة في يده. فوقفت حتى صار إلى جانبي ومد يده بالصرة قائلا وهو يلهث: «أتريد أن تذهب إلى البادشاه بهذه الملابس؟» فنظرت إلى ملابسي التي كانت من قبل ملابس السيد القاضي، فرأيتها في الحق زرية لا تليق إلا أن تلبس في السجون. فأخذت الصرة من السجان وشكرته على ما تكلف من المشقة، ثم نظرت إلى الأمير الذي إلى جانبي فوجدته ينظر إلي باسما، فاستبشرت وتبسمت إليه مستعطفا فقال: «لا بأس عليك أن تذهب إلى دارك ساعة، ثم أحضر إليك لأسير بك إلى مولاي، فإنه يريد أن يراك في ساعة الغداء.» وكان هذا القول مدهشا في الحقيقة، ولكني لم أقف لأندهش، بل أسرعت قاصدا إلى دار صديقي كمال الدين، فما كان أشوقني إليه، وما كان أشوقني إلى طلعة أخته الصالحة المباركة «نجوى»، ما كان أشد شوقي إليها. فلما بلغت الدار طرقت الباب ووقفت أنتظر متلهفا، فأبطأ علي الجواب حينا، ثم سمعت صوتا يسأل: «من هذا؟» وكان صوتا حبيبا، فقلت بصوت متهدج: «أنا جحا.»
فسمعت صيحة مكتومة، ثم فتح الباب وظهرت «نجوى» من ورائه تنظر باسمة بعينيها الواسعتين وقالت في حماسة يغالبها الحياء: «مرحبا بك!» ولمحت تحت جفنيها ماء يترقرق.
ثم احمر وجهها، فأصبح مثل لون الوردة في الصباح إذا بللها الندى، فأسرعت أنفاسي ودق قلبي ومددت يدي أصافحها، وغالبت نفسي التي كانت تدفعني إلى ضمها إلى صدري. ويعلم الله أن ذلك لم يكن من شوق هذه الأرض، بل كان رحمة ورقة في صفاء نور السماء. وقلت كلاما وقالت كلاما لا أذكر منهما شيئا؛ إذ كنت أنطق بما لا أعي، وأعي ما لا أنطق به. ولما هدأت سألتها عن أخيها، فقالت إنه خرج في الصباح الباكر، ودعتني إلى الدخول. ولكني اعتذرت وشكرتها واستأذنتها في الذهاب وأنا أنازع نفسي نزاعا شديدا، فألحت علي في الدخول لأستريح، وألحت معها خلجات قلبي، ولكني حركت نفسي قسرا ومضيت في سبيلي، ولم ألتفت إلى ورائي خوف أن تحملني رجلاي جريا إلى الباب الذي لم يغلق بعد ذهابي.
سرت في طرق جانبولاد، وكان بصري كلما وقع على شيء من بيوتها أو عطفة من عطفاتها رأيته باهر الحسن، كأنني لم أنظر إليه قط، وخيل إلي أنني أسير في مسارب جنان خلع عليها ضوء الصباح ألوانا فاتنة. وما زلت أهيم حتى بلغت قريبا من داري، فقلت أذهب إليه لألبس خلعة تيمور، وجررت نفسي جرا لأنني كرهت جدران البيوت من أجل جدران سجني. ولكني لمحت عند باب بيتي شيئا يشبه أن يكون جمعا. فترددت وداخلني الوهم من أن يكون تيمور قد بدا له رأي فبعث بعض جنده من ورائي ليعودوا بي إلى حيث كنت، وخطر لي أن أطلق ساقي للريح وأنجو من المدينة، ولكني آثرت أن أتحقق، فتقدمت في حذر أتدارى في ظل البيوت. فلما قربت من الجمع لم ألمح فيه خيلا ولا ريشا، بل لاحت لي عمائم بيضاء وقفاطين فضفاضة، فاطمأننت وذهبت نحو الجمع ثابتا حتى بلغت أوله، وملت أسأل أقرب الواقفين عن سر الزحام. فنظر إلي وما كاد يتبين وجهي حتى صاح صيحة فرح: «خواجه نصر الدين! جحا!» وإذا بالسيل الجارف يردد الصيحة، ويتدافع نحوي في ضجيج وعجيج حتى أحاط بي، وجعل كل من استطاع منهم أن يصل إلى يدي يقبلها، وكل من يصل إلى ثيابي يمسح عليها كفه، ومال بعضهم نحو قدمي يلمسونها حتى كدت أتزعزع وأسقط لولا أن الزحام لم يترك لي فسحة من فراغ أتزعزع به أو أسقط فيه. وبعد لأي انشق الزحام عن رجل يجاهد في الوصول إلي حتى صار عندي وأخذني بين ذراعيه، وجعل يقبل كتفي وعنقي، وصحت عندما رأيت وجهه: «صديقي!» فقال لي كمال الدين: «لم ندركك في السجن، ولم نجدك في المسجد فجئنا إلى هنا.» فقلت له: «لقد عرجت على بيتك ...» وقبل أن أتم كلامي علت صيحة من الجمع الزاخر: «إلى المسجد!» ثم وجدت نفسي أتحرك كما يتحرك العود على التيار القوي. ولما بلغنا المسجد صلينا ركعتين، ثم جلست عند العمود الذي كنت من قبل أجلس عنده. وما كان أشوقني إلى أن أعاود لذة أحاديثي! وفتح الله علي بما شاء، ولا أدري كيف تحدثت؛ فقد كان الجنان يملي واللسان يهدر والقلب يجيش مليئا. وما زلت في درسي لا أحس للوقت مرا حتى أذن للصلاة، فقمنا للجماعة والمسجد يضيق بمن فيه. ثم أردت الانصراف، فأخذت صرة تيمور تحت إبطي وقمت أسير في مشقة بين الجموع حتى بلغت الباب وهممت بالخروج فإذا بي أرى الأمير صاحب الذنب يقبل علي مترفقا باسما ويسألني أن أذهب إلى مولاه.
فقلت له: «أنا متعب وبي حاجة إلى الإغفاء.»
فقال باسما: «إن مولاي ينتظرك على الغداء.»
فكدت أنصرف عنه بغير جواب لولا أن غمزني كمال الدين في ذراعي، ففهمت قصده وسرت إلى جانب الأمير، وسار كمال الدين عن يساري، وأبى الناس إلا أن يشيعوني حتى أبلغ القصر، فساروا في موكبهم الصاخب يجهرون بذكر الله حتى بلغنا الساحة الفسيحة.
وأشار إلي الرسول أن أدخل. فنظرت إلى كمال الدين ثم نظرت إلى الأمير وقلت له: «أما يدخل معي صديقي؟»
فقال الأمير وهو يحني ذنبه: «كما تشاء.» وتقدم راشدا.
فنظرت إلى الأمير وإلى الصرة التي في يدي وقلت: «ولكني لم ألبس خلعة البادشاه.»
فقال وهو ضجر: «لا بأس عليك، فادخل في ثيابك.»
فلم أجد بدا من الطاعة، وأعطيته الصرة قائلا: «احفظ لي هذه معك.» فمد يده كارها وأخذ الصرة وقال لي في شيء من العنف: «هلم إذن.» فأخذت بيد كمال الدين ثم نظرت إلى الجمع فسلمت عليهم ودعوت لهم بالخير، وانطلقت في سبيلي إلى ما بين عمد القصر. وكانت دعوات الناس تشق الفضاء وتلاحقني حتى دخلت، وشعرت برهبة عندما رأيت مطالع الأبهاء، وفكرت فيما أنا صانع في حضرة العظماء، فما تعودت أن أجالسهم، وما كنت لأعرف كيف أحدثهم أو أؤاكلهم، ولم أجد من يرشدني غير صديقي كمال الدين. فهمست في أذنه: «كن إلى جانبي، فإذا رأيت مني خطأ فاجذب جبتي.» فهز رأسه منعما، وسرنا حتى دخلنا البهو. وكان فيه خوان فسيح لا يدرك البصر مداه، ولا تحصر العين ما علاه: ألوان من زهر، وصحاف من فضة وذهب، وأكواب من البلور، وفوط من الكتان الناصع، وطنافس من الصوف الوثير، وزينة أخرى لم أر مثلها ولا أعرف أسماءها، وكراسي كأنها رصعت بلؤلؤ عليها رجال كالتماثيل، يلمع فوقهم الحرير ويفوح من لحاهم العبير، وقد توسط تيمور الصدر في عمامة ذات زخرفة وجوهر، وثياب وهاجة وحلي متلألئة براقة، وكان ينظر نحوي بعينه وجرحه، من تحت جبهة ناتئة، وحاجبين مائلين صعدا. وكانت لحيته سوداء خفيفة، وفمه أشدق يكاد اللعاب يسيل من جانبه، فوقفت أنظر إليه حينا وأعجب من قدرة الله الذي جعل هذا سيدا للناس. وجذبني كمال الدين من جبتي، فالتفت إليه فوجدته يومئ إلي أن أسير لأجلس حيث كان تيمور يشير. فذهبت إلى الكرسي الذي أشار إليه في جواره وجذبت كرسيا آخر وأشرت إلى كمال الدين أن يجلس عليه. ولم أدر ما الذي حمل صاحبي على أن يجذب جبتي عند ذلك، ولكنه جلس عندما أشار إليه تيمور، وقد كنت أتمثل تيمور كبعض النمور أو الفهود، له أنياب ومخالب وزئير وزمجرة، ولكني لم أجده في الحق إلا رجلا أو نصف رجل، فلم ألبث أن حللت عقدة وجهي، وفككت حبسة لساني، ووجدت نفسي أكلمه كما أكلم الناس، بل لقد جعل يؤنسني بقوله، ووجدته يضحك أحيانا، ويدرك من المعاني ألوانا. ولست أنكر أنني لم ألبث أن نسيت حنقي عليه وسوء ظني به، وأقبلت عليه طيب النفس منشرحا. وتلطف بي، فكان يمد يده إلي بقطع مختارة من طرف الطعام، وكنت في الحق جائعا، فوجدت في الأكل لذة لم أعهدها ولم أعرفها. وكان حياله طبق فيه فاكهة تأخذ العين بجمال منظرها، ولست أعرف لعلها كانت من بعض ما حمل إليه من أطراف الصين أو من غوطة دمشق، فمد يده إلي بواحدة كانت لها رائحة لا يشبهها ريح المسك والعنبر، ولا يدانيها لون الورد الأنضر. فرفعتها لأمتع نفسي من شميمها، ثم قضمت منها قضمة كأنها الشهد في مذاقها، وكدت أقضم منها أخرى لولا أن جذبني كمال الدين من جبتي، فأمسكت على مضض، ونظرت نحوه بمؤخر عيني، فهمس لي قائلا: «هدية الملوك لا تؤكل ...»
فعجبت من قوله؛ لأن الله إنما خلق هذه الفواكه اللذيذة لنأكلها ونشكره على جزيل نعمه، ولكني لم أجد حيلة في نصيحة صاحبي؛ فهو أعلم بما كان ينبغي لي أن أفعل في مجالس الملوك. فوضعت الفاكهة في حجري وانصرفت إلى بقية طعامي، وشعرت بارتباك كاد يفسد علي غدائي. ولكن تيمور مد يده إلى ورك ديك سمين فقدمها إلي وهو باسم، فأخذتها من يده وشكرته في أدب مقلدا حركة من حولي في تحاياهم، ثم أمسكت الورك بيميني في سكون، ولم أستطع أن أمد يدي إلى شيء آخر. فجذبني كمال الدين من جبتي فالتفت إليه مستفهما، ولكني قبل أن أسمع همسته سمعت تيمور يسألني: «لم لا تأكل ما أعطيتك؟» فالتفت إليه في أدب وقلت معتذرا: «أيها البادشاه، ما كانت هدايا الملوك لتؤكل، وهذا صديقي يجذبني من جبتي.»
فضحك تيمور حتى بدت نواجذه، ومال على ظهره حتى اهتزت لحيته، وأغمضت عينه. وسمعت كمال الدين يهمس: «هذه ورك تؤكل.» فرفعت بها يدي فأكلتها وأنا في حيرة شديدة لا أعرف ماذا يطلع به صاحبي علي مع كل لقمة. ولكن تيمور تبسط في محادثتي، واشترك من حول المائدة في التلطف بي، حتى سري عني، وتركت النظر إلى مشورة صديقي، وأقبلت على المائدة آكل كما يريد الله للناس أن يأكلوا حتى امتلأت، وأمتعت نفسي بكل الطيبات. وقضيت عند تيمور بعد الغداء ساعات في شجون الحديث، كأنني لم أكن في صباح ذلك اليوم ملقى في سجنه.
أيتها الأقدار العجيبة!
وكان الشعراء عند الباب ينتظرون الدخول، فلما صلينا العصر أذن لهم تيمور بالدخول وجلس في البهو الأعظم، وجلس الأمراء والأعيان من حوله في وقار وقد وضعوا أيديهم على الصدور، وأمالوا رءوسهم على النحور، حتى مست لحاهم أحزمتهم الحريرية أو الذهبية. وأقبل الشعراء واحدا بعد واحد، وجعلوا يتغنون بالسيد الأعظم ويصفون جمال هيئته وشدة هيبته، وسيفه ورمحه، وقوة ساعده ورقة قلبه، وكان منظرهم في الحق مسليا؛ إذ كانوا يتمايلون ويهتزون، وينظر كل منهم بمؤخر عينيه إلى الناس ليرى أثر قوله على الوجوه. مساكين هؤلاء! جعلت كلما سمعت من أحدهم معنى أتأمله لأرى صدقه، فإذا سمعت وصف جمال تيمور نظرت إلى وجهه، وإذا سمعت وصف قوته صوبت بصري في جسمه وصعدته، وإذا سمعت وصف سيفه ورمحه التفت إليه لأرى هل معه من ذلك آلة، فلم أجد من كل ذلك إلا كذبا حتى فرغ الشعر، وهز تيمور رأسه مرتاحا، وأذن للشعراء أن ينصرفوا، ثم أشار إلى رجل قائم عند رأسه، فانصرف وراءهم، ولا أدري بم أمره، أبعقابهم على الكذب أم بثوابهم على الرياء. ولأمثال تيمور حرص على مثل هذه الأقوال المنمقة والصور المخترعة؛ فهي تستقر في العقول لا يزعزعها من بعد شيء، ومثل هذه الأقوال قد زيفت على الناس معنى العظمة، وأفسدت معنى الكرم والعدالة، وجعلت من العقلاء الأبرار عبيدا في الأغلال. وليست هذه أول مرة رأيت فيها أثر الألفاظ في الناس؛ فقديما كان الإنسان أسيرها.
ومهما يكن من الأمر فقد جلست أتأمل ما كان، وأوازن بين المحاسن وأضدادها، ثم تنبهت بعد حين إلى جذبة في جبتي، فالتفت فإذا كمال الدين يغمزني بعينه مشيرا نحو تيمور، فالتفت إليه فوجدته يبسم ويقول: «لقد أبعدتك عنا تأملاتك أيها الشيخ الجليل.»
ولمحت في مظهره ورنين صوته شيئا كثيرا من العطف حتى رققت له، ولمت نفسي على سابق ظلمي إياه، وعراني ارتباك فلم أستطع جوابا.
فقال لي متلطفا: «كنا نتحدث في أمر نحب أن نسمع فيه رأيك.»
فقلت وقد سري عني: «فيم كان الحديث؟»
فقال: «كنا نتمنى لو استطاع الإنسان أن يعرف حقيقة قدره في أعين الناس.»
فقلت مبادرا: «هذا شيء يسير، لقد عرفت قدري في أعين الناس دائما.»
فقال باسما: «ولكني جربت ذلك فلم أجده كما وجدته.»
فقلت له: «لعل الناس يخشونك، أمنهم خوفك تعرف ما تشاء أن تعرفه.»
فضحك وقال في لهجة التحدي: «أتقدر أن تخبرني كم أساوي من المال؟»
فقلت ناظرا إلى من حولي في ارتباك: «أظن أن هؤلاء السادة أقدر مني على جواب مثل هذا السؤال.»
فقال ضاحكا: «لم أجد عندهم ما يشفيني، قل ولا تخش شيئا.»
فنظرت إليه مترددا، ثم تجرأت وجعلت أفحصه ببصري وقلت: لا أظنك تساوي أقل من ألف دينار.
فضحك حتى استلقى على ظهره وضحك من معه وراءه، ثم قال: إنك لم تبلغ في جوابك شيئا. إن ملابسي وحدها تساوي ذلك المقدار من الدنانير.
فقلت وقد امتلأت سرورا من صدق حدسي: «لقد صدق ظني إذن. فما كنت أنظر في تقدير ثمنك إلا إلى هذه الملابس.»
فعاد إلى الضحك حتى كاد نفسه ينقطع، وضحك أصحابه مثله حتى لم يبق في المجلس أحد لا يضحك غيري أنا وكمال الدين، ونحن ننظر إليهم ونتعجب مما يضحكهم.
وبعد حين هدأ تيمور وظهر عليه النشاط وانشرح صدره، ثم نظر إلي جادا وقال: «أيها الشيخ المبارك، إننا نحب أن نسمع وعظك.» فوقعت كلمته علي وقعا ثقيلا، وزادت حيرتي عندما نظرت حولي، ورأيت من كان هناك من حرس وأتباع ومن لحى شهباء وعمائم مكورة بيضاء. فماذا كان لي أن أقول بين هؤلاء؟ وما خرجت من سجني لكي أعظ تيمور، ولعل تلك العظة تعيدني إلى ما كنت فيه من ظلام جحري. وترددت طويلا وأطرقت حائرا وكدت أنطق معتذرا، ولكني لم أجد لنفسي عذرا، وسمعت تيمور يقول لي: «لقد سمعت عن ورعك وعلمك فأحببت أن أراك وأن أسمعك، فلا تحرمنا من بركة مواعظك.» فشعرت كأن روحا جديدا يسري في أعماق قلبي، ونسيت إشفاقي وخوفي، وقمت كأنني أنشط من عقال. فأحسست جذبة في طرف جبتي، ولكني لم أبال صاحبي، وانطلقت أتكلم، فقلت ناظرا إلى تيمور: «لا تصدق حرفا واحدا مما يقوله هؤلاء الذين يمدحونك؛ فإنهم إنما يبيعون لك سلعة يعرفون أنك تحبها.»
وما نطقت بهذه الكلمات حتى رأيت الجمع ينتفض كأن نارا لذعتهم، ورأيت لحاهم تخفق، ونظروا إلي ثم نظروا إلى تيمور ليروا ما هو صانع بي. ولكني لم أنظر إلى أحد وقلت مستمرا: «وإذا أردت أن تسمع عظة فلا شيء يعظك خير من الحقيقة، فتأمل وفكر والتمسها. لقد خلقك الله كما خلق من قبلك، وكما هو خالق من بعدك، وجعل لك أياما على هذه الأرض لن تعيش أكثر منها. ولقد كنت قبل أن تخلق نسيا منسيا، وستمضي بعد حين وتذهب عن هذه الأرض لا تأخذ منها شيئا، فلا تجعل هذه الأيام القصيرة تغطي على الحقيقة الخالدة، ولا تجعل هؤلاء الذين يمدحونك يسخرون من حكمتك. قد خلقك الله كما خلق هؤلاء الناس جميعا، وجعل لكم الحياة ميدانا وامتحانا لكي تؤدوا الواجب الذي ألقاه جل وعلا على الإنسانية عندما خلقها منذ قال:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . وما عبادته إلا السعي إلى الكمال الذي قدره للخلق، وجعله قصد حياتهم. كان من قبلك ملوك بلغوا من السلطان ما بلغت، ثم أضلتهم الحياة فمضوا عنها وصاروا نسيا منسيا، فهم اليوم صور وأسماء مجردة معطلة من كل مجد وهيبة، لا فرق فيها بين فرعون وبين العبد الذي كان يسجد عند قدميه، فالملوك الذين لم يخلفوا إلا آثار العسف والطغيان لم يكونوا أهلا للإنسانية، بل كانت حياتهم على الأرض لعنة لأنهم جحدوا الله الذي وهب لهم الحياة. كان المجد عند الطغاة أن يذلوا الأعزاء، وأن يسفكوا الدماء، وأن يجعلوا أهل الأرض عبيدا ليتملقوا كبرياءهم وغرورهم. فلما مرت أيامهم ذهبوا بعد أن دمغهم اليقين، فعلموا ولات حين علم أن كل ما اضطربوا فيه لم يكن سوى غرور من الغرور، وليس فيه شيء سوى الغرور، وبقيت الأرض بعدهم باسمة كأنها تسخر من جهالتهم العمياء.» «لقد مررت يوما بغابة، ورأيت فيها تنازع الحيوان والحشر، وهناك استطعت أن أدرك الرسالة السامية التي أعدها الله للإنسان، أن يعيش على قانون الرحمة والحب لا على القانون الطليق الذي يحكم الغابة. ولكني كلما تأملت بدا لي أن من بني الإنسان من يريدون أن يطفئوا نور الله، وأن يمسخوا الرسالة السامية ويعودوا إلى قانون الغابة طمعا فيما يصيبونه من وراء ذلك من مجد حيواني وحشي. وهؤلاء ليسوا سوى نكسة من نكسات الحياة، وفلتة من فلتات أقدام الإنسانية في صعودها نحو العلا. الأرض لا تضيق بالناس جميعا إذا أرادوا أن يعيشوا فيها لما أراد الله لهم، بل هي تتسع للجميع وتفتح ذراعيها للجميع، وتدعو الجميع إلى الحياة السعيدة. فهنيئا لمن استطاع أن يكون من رسل الرحمة، ومن أكبر الإنسانية وأعظمها، فلم يسفك دماءها، ولم يدنس كرامتها، وسعى في تحقيق الخير، وأعان على تحقيق السعادة للجميع.»
ولما انتهيت إلى آخر قولي تنفست عميقا وشعرت بأن حملا أزيح عن كاهلي، ونظرت حولي حتى وقعت عيني على تيمور.
وما كان أشد عجبي إذ رأيته يبكي. نعم كان يبكي وهو مطرق والدموع تنحدر على لحيته. وكان الجمع كله مطرقا يشارك في البكاء، إلا صديقي كمال الدين فقد كان ينظر إلي مأخوذا وصدره يعلو ويهبط في اضطراب. فلما رآني قد أمسكت قام نحوي ولم يعبأ بأحد، حتى صار أمامي وضمني إلى صدره، قائلا في صوت متهدج: «لقد عرفت أنك لن تخشى في الحق أحدا، وأحمد الله إذ لم تطعني عندما جذبتك من جبتك.»
ولما عزمت على الخروج بعد ذلك صافحني تيمور متأثرا، وأمر لي بخلعة أخرى، فذهبت إلى داري عند الغروب بخلعتين كريمتين من البادشاه كأنني لم أكن عند شروق الشمس ملقى في سجنه، فسبحانك يا ألله!
الفصل الحادي والعشرون
سمعت في اليوم السابع بعد خروجي من السجن حركة في جانبولاد، وكنت ذاهبا إلى المسجد الذي جعلني تيمور إماما له، وكانت ضجة عظيمة حسبت أنها هيعة حرب أو حدث من الأحداث. كان الناس يتواثبون ويتسابقون في هياج ويقولون: «خرج تيمور.»
خرج تيمور بكل جيشه وكل أمرائه عائدا إلى سمرقند، فلم يبق من جيشه أحد في جانبولاد، وخرج معه كثير من أصحاب الأعلام وحملوا قدورهم معهم؛ لأنهم لا يقدرون على مفارقتها أو الحياة من غيرها؛ فهي عندهم أعز من الولد وأحب من الوطن. وخرجت مسرعا لأنظر إلى الموكب الضخم، ولم أستطع مغالبة نفسي في رغبتها. فرأيت تيمور وهو خارج، وسلمت عليه، ولا أنكر أنني أحسست في قلبي عطفا عليه. مسكين هو ما كان أفقره إلى السلام! ورأيت السيد القاضي صاحب السيف يسير وراءه في مؤخرة الجيش على بغلة حمراء، وكانت قدوره الخمسون محملة على قافلة من الإبل تسير في آثاره. وكنت قريبا منه على جانب الطريق، فوقعت عيني عليه وتبسمت له وأحسست له رقة. مسكين هو كذلك؛ فقد كان الحزن باديا عليه، ولما رآني أدار وجهه ولم يرد على ابتسامتي. ثم مضى الموكب حتى خرج من المدينة. وهكذا خلت جانبولاد من تيمور بين عشية وضحاها.
وبعد يوم واحد عاد السلطان علاء الدين إلى ملكه ونزل في قصره، ورجع الأمر إلى مستقره، وكان لعودته يوم مشهود أخذت فيه المدينة زينتها، ففرشت له الأرض بالطنافس، ورفعت له الأعلام فوق البيوت؛ أعلام تنم عما في القلوب من بشر وليست مما ينم عما في القدور من ذهب. وقد اختار السلطان علاء الدين أن يقيم في جانبولاد، ولعله أراد بذلك أن يزيل أثر تيمور منها. فرفع رايته على قلعتها، وأظهر مجده في مقرها وساحتها. فقد طالما شقيت قلعتها ببنود تيمور، وطالما ضاقت ساحتها بجنده المغرور. وازدحم الناس على جانبي الشارع الأعظم، وخرجت فيمن خرج وكأنني عدت في طربي إلى عهد الصبا. ولما مر موكب السلطان في خيله ورجله أقبل ركب الحرم في هوادجه وستوره، ومن عجيب الاتفاق أن مر بي هودج باهر في ستور من الحرير والجواهر، فلما صار تلقائي خفقت ستوره خفقة، فماذا رأيت؟ إنها علية بعينها وجبينها وشعرها ونحرها ومعصمها وأناملها. ولكن أي فرق بين ما رأيت منها بعيني عند ذلك وما كنت أراه منها في خيالي من قبل في صباحي ومسائي؟ أأنا الذي تبدلت وتغيرت، أم هي التي خلقت خلقا جديدا؟ رأيت في نظرة خاطفة عينا غير العين التي سحرتني، وجبينا غير الجبين الذي أوحى إلي بالمعاني.
أين هي من «نجوى» الصالحة الباسمة ذات العينين الناطقتين الوديعتين؟ أين هي من «نجوى» التي لا أبرح أراها في لمعة الشمس وفي ضوء القمر وفي فم الزهرة وفي قطرات الندى؟
أهي علية التي تغيرت أم هو قلبي الذي يحس وعيني التي ترى؟ لقد كنت ما حييت أحب أن أكشف عن قرارتي، وأتعرف ما خفي من عيوبي. ولست أبرئ نفسي ولا أزكيها؛ فأنا كما خلقني الله ضعيف لا أدعي قوة، سقيم لا أدعي سلامة، ولكني أصف ما كان مني - غفر الله لي، وتجاوز عن ضعفي وسقمي.
ولما عدت إلى بيتي بعد انصراف الموكب عادني وجد غلب علي لم أستطع إدراك علته، ولم أقو على صرفه أو الاحتيال في مغالبته. فإذا بي أحس عزوفا عن الناس، فكنت لا أكاد أطيق مع أحد حديثا. وبقيت في الدار لا أخرج إلا إلى صلاتي ثم أعود إليها، فلا أجد ما يفرج همي إلا البكاء. وكان كمال الدين يزورني كل يوم ساعة، فأكاد أضيق به وأتحرج أن يرى وجومي وبكائي. فإذا دعاني إلى زيارته تعللت له بالعلل حتى ينصرف عني. ولكنه جاءني يوما وجعل يحملني على الخروج، وكلما تخلصت بعلة حاورني فيها وجادلني حتى قال لي كلمة هزتني وزعزعت عزمي. قال إن أهل جانبولاد يتحدثون عني بما يكاد يبعث فيهم فتنة، يقولون إنني أنا أخرجت تيمور من الأرض بكرامتي، وإنني أنا هزمته بمقالتي. وقالوا إن السلطان ما اختار الإقامة في جانبولاد إلا ليكون قريبا مني فتحصل له بركة صلواتي ودعواتي.
فما سمعت قوله حتى دهشت وحزنت، وسألت الله أن يغفر لي ولا يؤاخذني بما قالوا. هكذا الناس لا يرضيهم إلا الإغراق والغلو، ولو علموا الحق لعرفوا أن الله لم يخلق من البشر شياطين مردة ولا ملائكة بررة. إن الله خلقنا بشرا نقارف الخير والشر، ويمتزج فينا الضعف والقوة. وما أجدرنا أن نفيض بالحب والعفو، وأن نعرف أننا أبدا فقراء إلى الحب والعفو.
وحملني قول صديقي أن أخرج من عزلتي، وأستغفر الله أن أكون قد أثرت في الناس هذه الفتنة بكلمتي أو إشارتي. وخرجت منذ ذلك اليوم إلى المسجد، فعاودت فيه دروسي لعلي أدخل إلى قلوب الناس شعاعا من الحق يردهم عن هذا البهتان، بل لقد تعمدت أن أظهر فيهم ببعض ما أكره، وأعلن بعض ما أنكر لعلهم يدركون أنني بشر أزل وأخطئ، فإذا اجتهدت فأنا إنسان ضعيف وإذا علمتهم فأنا مثلهم بشر سخيف. ولكنهم كانوا يرون آثامي تجليا وحماقاتي رموزا حتى عجزت عن صرفهم عن اعتقادهم وهممت بالهجرة خوفا من تضليلهم. ولكن كمال الدين كان كالصخرة ثابتا، فنصحني أن أواصل دروسي؛ فإن العلم وحده يهدي النفوس ويهذبها.
وكنت في داري ذات مساء فسمعت طارقا يدق الباب، وكنت لم أر صديقي كمال الدين في ذلك اليوم، فوقع في نفسي أن يكون هو الطارق، فأسرعت لأفتح له، ولكني دهشت عندما رأيت رجلا لا أعرفه، وكان رجلا حسن الوجه واللحية، عليه هيئة العلماء، وله سمت الصالحين. فرحبت به ورجوته أن يدخل، فاعتذر قائلا: «لعلي قطعت عليك تسبيحك أيها الشيخ الصالح ، فأرجو منك عفوا.» فأعدت عليه الترحيب ودعوته للدخول، فأبى قائلا: «مولاي السلطان قد بعثني في طلبك.»
ولا حاجة بي إلى إطالة الحديث في وصف ما دار بيني وبينه؛ فقد كان لا بد لي من رؤية السلطان. وكان علاء الدين عندي كريما جليل القدر؛ فهو سلطان وطني، وعرفته الملك الصالح والسلطان البر والعالم الورع. فلم أتردد طويلا في الذهاب إليه مع كل ما كان في نفسي من العزوف عن غرور الحياة.
ولما بلغت القصر ودخلت في رحابه، وانتهيت إلى مجلس السلطان، رأيته في حلقة من العلماء والحكماء، فانشرح صدري لمنظره؛ إذ لا شيء أجمل من الملوك إذا أحاطت بهم مثل تلك الهالة النبيلة. قيل إن حكيم اليونان سئل عن الحكم يوما، فقال إنه لا ينبغي أن يحكم الناس سوى الفلاسفة. ولو تأمل العاقل هذا القول لوجد أنه الحق عينه. ولو أنصف الناس لأجمعوا على تجربته؛ فإن الدول كانت منذ القدم لا تدين إلا لأولي القوة، حتى كاد الناس يعتقدون أن الحكم وقف على أصحاب السيف لا يجمل بأحد غيرهم أن يقبض على صولجانه. بل لقد قالوا في بعض الأمثال إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ولكنهم لم يجربوا مرة إقامة دولة على حكم الفلاسفة، وأغلب ظني أنهم لو جربوا مثل ذلك الحكم لاستساغوه وأقبلوا عليه، ولم يرضوا به بديلا؛ فإن الفلاسفة يعرفون ضعف البشرية، وهذا يكفل لحكمهم الرحمة، ويعرفون كرامة الإنسانية وهذا يكفل لهم التطلع والتسامي، ويعرفون معنى الفناء وهذا يكفل لهم الاعتدال.
وكانت ليلة مباركة تلك الليلة التي قضيتها في مجلس علاء الدين، لم أنصرف عنه بخلعة، ولم أذق عنده طعاما، ولكني عدت من عنده بقلب عامر بالمعاني. ما أجمل الملوك إذا أحاط بهم الحكماء!
الفصل الثاني والعشرون
لم تفارقني وساوسي منذ ليال، وكنت أحس كأنني أضطرب في بحر لجي موج من فوقه موج من فوقه سحاب. كانت صورة علية في تلك الليالي لا تبرح ماثلة أمام عيني ناظرة إلي بجبينها العالي وأنفها الأشم وعينها المتكبرة كأنها تسألني : «من أنت؟» لقد كانت تلك الصورة من قبل تبدو لي عاطفة رحيمة تأخذ بيدي إذا ما اشتدت بي الحيرة، وتصعد بي إلى حيث الصفاء والسلام، فما الذي بدل نظرتها؟ ولكن ما بالي أتحدث عن صورة علية ابنة علاء الدين كأنها شخص له جسد وفكر وروح يحدثني، ويتغير في نظرته نحوي؟ أليس هذا من الخبل والتخليط؟ أكانت في عقلي لوثة هي التي خيلت إلي ذلك الوهم الذي تسلط علي كل هذه المدة الطويلة منذ وقعت عيني عليها في ماهوش؟
كنت سابحا في هذا الخضم المائج عندما طرق بابي رسول السلطان ودعاني إلى حضرة مولاه، وكان السلطان على عادته نبيلا كريما، فما زال يكرمني في الحديث ويقبل علي بالترحيب ويبالغ في التلطف بي - عفا الله عنه - فيسألني الدعاء ويلتمس مني البركة حتى كاد الغرور يدخل إلى قلبي. وأي إنسان لا يتدسس إلى قلبه الغرور؟ لقد أوشكت أن أصدق السلطان وأومن بما يقوله أهل جانبولاد فأظن في نفسي القرب من الله، أعوذ بالله من الغرور، فأنا أعرف الخلق بما ينطوي عليه صدري من نوازع ضعف الإنسان ودوافع طباع الحيوان. فلما خلوت إلى نفسي بعد ذلك المجلس تركت العنان للبكاء لعلي أنال عفو الله عما داخلني من الغرور. وقد فاجأني السلطان في ذلك المجلس بأمر ما كان يخطر لي ببال؛ فقد عرض علي أن أكون له وزيرا أدير له ملكه وأشير عليه بما ينبغي أن يكون عليه حكمه. وما كدت أسمع ذلك الحديث حتى كاد يغلبني الضحك على الحياء؛ فإنه عندما طلب مني الدعاء دعوت الله له ولا حرج علي إذا اتجهت إلى الله بالدعاء؛ فإن الله يقبل الدعوة من خلقه ولا يقيم حجابا بينه وبين عباده.
ولكنه عندما سألني أن أدير له الملك دار بي رأسي، فأوشكت أن أنفلت من وعيي، ولولا أنه السلطان العظيم في مجلسه الرهيب لانفجرت ضاحكا ساخرا. أيكون جحا وزيرا؟ قد أحسن السخرية من الحياة كلما رأيت فيها حماقة أو سخافة، ولكني إذا ضحكت من السخف لم يخف عني أنني شريك لهؤلاء الذين أثاروا الضحك في نفسي. أأكون أنا وزير السلطان وأزعم أنني أستطيع أن أبلغ قرار الحكمة والعدالة؟ وهل أحمل على عاتقي أوزار العمال وأثقال المظالم التي ترتكب باسمي؟ أكون أنا وزير السلطان لأحمل الناس على أن يعيشوا معي في عالمي؟
كيف أستطيع أن أدبر أمور الخلق وأنا أنظر إلى الحياة بهاتين العينين اللتين وهبهما الله لي. إن الحق عندي باطل عند أكثرهم، والعدل عندي جور في مذهبهم، ولست أقدر على أن أخلق نفسي خلقا جديدا وأقلب كل معايير القيم عندي حتى أصلح لأن أحكم بين الناس على عرفهم الذي يرتضونه. فهل يستطيع السلطان أن يبدل طبعي؟ أم يستطيع أن يأتي لي بناس آخرين يصلحون لحكمي؟ إن الناس لا يعرفون إلا العنف، ولا يفهمون من الحاكم إلا القوة والقسر، وهم لا يخرجون عن أن يكونوا في إحدى حالتين؛ إما أن يكونوا فرائس تتخذ طعاما، أو مفترسين يتخذون من غيرهم طعاما. ولقد حاولت أن أعلمهم، ولكن التعليم لا يجدي إلا بعد أن يؤتي الثمار ويحرك القلوب، ويفتح العقول، ويهذب النفوس، وهيهات أن يكون ذلك إلا بعد حين طويل. لقد حاول موسى أن يعلم قومه احتمال أعباء الحرية فأذاقوه مرارة الحنق والألم حتى فني جيل منهم بعد جيل. ولا سبيل إلى استقامة الحكم حتى يستعد الناس لتحمل أمانة السلام والكرامة والعدل في غير عنف ولا قهر. ولو كان أهل جانبولاد كلهم مثل تلميذي كمال الدين أو تلميذتي «نجوى» لهان الأمر، ولكن أنى لي أن أجد في الناس مثل هذين؟ ما لقلبي يخفق عندما يخطر عليه ذكر «نجوى»؟ ما لي كلما صرفت نفسي عن التفكير فيها لا يلبث أن يعود مكرها إليها.
أأنا أحبها؟ هل هذا الذي أحسه هو ما يسميه الناس حبا؟ إنني أطرب كلما مرت صورتها في خاطري، فكأن الحياة كلها تبسم، وكأن الأفلاك من فوق تغني. أأخادع نفسي وأوهمها بأن هذا غير ما يسميه الناس حبا؟ وفيم هذا الخداع إذا كان هو الحب حقا؟ لقد سمعت عن المحبين وقرأت عن أخبارهم ما يجعلني أسيء الظن بنفسي. وإن قلبي يرف إذا رأيتها، وأصعد في سماء الملائكة إذا سمعت صوتها، وأجد في حديثها سلاما مثلما يتحدث فيما بينهم أصحاب اليمين. فهل هكذا كان المحبون قبلي؟ وإني لأقنع منها بالنظرة لا أطيلها، وبالكلمة القصيرة لا تعيدها، ويسري في البشر إذا أحييتها. فهل كان هكذا المحبون قبلي؟ ولكني لست أحس ذلك الشوق المحرق ولا ذلك القلق المؤلم الذي يصف الشعراء أثره في سقم أبدانهم. أيكون ما أحسه مع كل ذلك حبا؟
لقد شردت بي الأفكار عما كنت فيه؛ فإن السلطان أرادني على أن أكون وزيرا، فكدت أضحك لولا أن تماسكت قسرا، وأطرقت صامتا حتى أعاد علي قوله، فاشتدت حيرتي ولم أجد من الأمر مخرجا إلا أن استأذنته أن أتريث في جوابي. وعدت إلى داري في أشد الحيرة أقلب صور الناس في ذهني، وأتصور ما يكون حالي إذا قبلت أن أكون وزيرا.
أأقيم الحجاب على بابي، أم آذن للناس ولا أقيم حجابا؟ وهل أغير لهم صورتي التي ألفوها فأعبس وأشمخ وأنقبض، أم أفيض عليهم بما في قلبي وأفتح لهم أبواب صدري وأضحك وأخلط أحيانا في حديثي؟
ولم تطل بي الحيرة؛ فإني عزمت على أن أرسل إلى السلطان معتذرا.
ولكني ما كدت أخرج من حيرتي حتى طلعت علي حيرة أشد ظلاما؛ فقد طرق الباب رسول آخر جاء يشتد في أثري. فلما استقر به المجلس همس في أذني: أبشر بالعلا والمجد يا جحا.
فعجبت ماذا يكون هذا المجد الذي جاء يحمله إلي، وحسبت أنه قد جاءني يطلب عملا منذ سمع أن السلطان يريد أن يتخذني وزيرا. فهذا ما تعودته من الناس، لا يكادون يسمعون أن سوط الحكم صار إلى يد رجل حتى يسارعوا إليه ليستمدوا منه أسواطا. نعم، فما هي إلا أسواط يستمدونها ليلهبوا بها الخلق، أو كما يقولون ليحكموا الناس بها.
ونظرت إلى الرجل لحظة، وكدت أصيح ضاحكا في وجهه لولا أنه كان في بيتي، ولم يمهلني الرجل، فأعاد هامسا: «إن السلطان يريد أن يقربك.»
فقلت له: بارك الله في مولاي، إنه يبالغ في تقريبي.
فقال باسما في خبث: سوف تكون صهر السلطان يا جحا.
ففتحت عيني من الدهشة وحسبت الرجل يعبث بي أو يسخر مني.
فلما رأى دهشتي قال جادا: لقد أرسلني مولاي إليك لأعرض عليك الزواج من ابنته.
فصحت ولم أتمالك نفسي: علية!
فقال الرجل عاتبا: علية! من علية؟ فالسلطان لم يسمها علية، هي وردخان سليلة السلاطين.
ولم أتذكر إلا في تلك اللحظة أنني لم أعرف اسم ابنة علاء الدين، لقد كنت أدعوها علية وأناجيها وأصاحبها في خيالي على أنها علية، وأرتل التسبيح على صورتها التي سميتها علية. ولكني لم أسمع حقا من قبل ماذا كان اسمها. لم أعرف إلا عند ذلك أن علية تلك لم تكن إلا صورة أخرى عرفتها في شبابي وخلطتها بالصورة الأخرى حتى صارتا عندي خيالا واحدا. أف لنفسي وويح لقلبي! لقد عشت ما عشت في عالم خصصت به نفسي، ولم أفرق فيه بين الأشباح والأشياء، ولا عيب على الناس إذا هم رموني بالتخليط.
وسمعت الرجل يعيد قائلا: أما سمعت بشراي يا جحا؟
وكان ينظر إلي متعجبا، ولا لوم عليه إذا تعجب مني؛ فقد كنت جديرا بالعجب لصمتي ووجومي واصفرار وجهي وزيغ بصري. لقد كان الرجل ينتظر أن أثب راقصا أخلع عمامتي فرحا وأغني مرحا، ولكني لم أفعل بل بقيت في دهشتي صامتا.
وبعد لأي استطعت أن أجمع نفسي فقلت مضطربا: هذا شرف لم أكن به جديرا.
فربت الرجل على كتفي وقال باسما: ليس عليك من بأس في دهشتك؛ فإن السعادة قد تذهل الناس كما تذهلهم النكبات.
وكأنه قد فهم من حالي وقولي أنني قد قبلت، فقام وحياني منحنيا، ثم قبل الأرض عند الباب وتركني قائما.
ولم أذق طعم النوم في تلك الليلة بعد انصراف الرجل، فإني ما كدت أفيق من صدمة الوزارة حتى صدمت بخطبة ابنة السلطان.
عجبا لنفسي! أما كنت أتحدث في ماهوش عن علية؟ فما الذي غير نفسي منذ رأيت وردخان؟ أهو القدر يسخر مني ؟ أم هذا كله خيال أهذي فيه كما يهذي المحموم في بحرانه؟
ولمست وجهي بيدي فوجدته يتقد، وعضضت بناني فآلمني حتى كدت أصيح جزعا. ولكن ذلك كله لم يزل عني الشك، وبقيت أحسب أنني كنت حالما. ألا يراجع الإنسان نفسه وهو يحلم فيخيل إليه أنه يعض بنانه أو يحرك لسانه أو يلمس وجهه حتى إذا طلع الصباح وجد أن ذلك كان كله حلما؟ أين الحد الذي يفرق بين الأحلام والحقائق؟
وقلت أخرج إلى الناس أسألهم لعل ذلك يهديني، فخرجت أسير نحو بيت صديقي كمال الدين، فلما طرقت الباب سمعت الصوت الذي يهزني. ولما حييت «نجوى» سألت نفسي مرة أخرى: أأنا في يقظة أم لا أزال أهيم مع أشباحي؟ وسمعتها ترحب بي، فكدت أثب إليها وآخذها بين ذراعي لأرى إذا كنت أرى أمامي جسدا أم كل ما أراه صورا وأوهاما.
ولكني تماسكت وقلت إن ذلك لا يجديني شيئا، فلا سبيل إلى برهان قاطع يذهب عني شكوكي، وما الذي يدلنا - معاشر الأحياء - على أن حياتنا هذه كلها ليست سوى صور تمر علينا في حلم مستمر في أوهامنا.
ولاحظت «نجوى» العزيزة اضطرابي، فنادت أخاها، فأقبل كمال الدين علينا فحيا باسما ومد يده إلي فسألته مبادرا: أتستطيع يا صديقي أن تخلو معي ساعة؟
فانصرفت «نجوى»، وقد علت وجهها حمرة زادتها حسنا، فلما صرنا وحيدين قلت له هامسا: أأنا أراك حقا؟ أنحن في يقظة يا صديقي؟ أسمعني صوتك لعله يهديني. ولكن ما جدوى ذلك، فلعل الذي يجيبني ما هو إلا خيال، وما أزال هائما في أحلامي.
فظهر على كمال الدين شيء من الارتياع وأجاب متماسكا: لا بأس عليك يا سيدي.
فقصصت عليه قصة السلطان منذ عرض علي الوزارة إلى أن أرسل إلي يعرض علي زواج ابنته، وقلت آخر الأمر: ولست أجد سبيلا إلى أن أومن أنني لست حالما. فترفق كمال الدين بي وجعل ينصرف بي في شجون الأحاديث، فداخلني ارتياح أعاد إلي اطمئناني وبدا لي أنني قد أكون في يقظة حقا.
وخطرت لي عند ذلك فكرة كأنها كانت من إلهام الحق، فقلت مسرعا حتى لا أجد فرصة للتردد: أتزوجني «نجوى»؟
فنظر كمال الدين إلي في دهشة، ثم رفع يده فربت على كتفي وقال: لا بأس عليك يا سيدي؟ ألا تحب أن تشرب القهوة معي؟
فقلت له جادا: إذا كنت تعرف أنني لست في منام، فأجب عن سؤالي: «أتزوجني «نجوى»؟»
فأطرق كمال الدين مليا ثم قال: لو كان الأمر لي لقضيت فيه راضيا.
فقلت مبادرا: وهل كنت لأرضى برأيك أنت؟ ألا تسأل «نجوى»؟
فقام كمال الدين ولا يزال في دهشة من المفاجأة، وتركني أدير في نفسي كل ما مر بي.
وعادت إلي صور شتى تساورني حتى أعادت الشكوك إلى نفسي. أأنا في يقظة حقا؟ لم تكن علية إلا خيالا يخادعني به قلبي، ولكن «نجوى»! ألم تكن تحدثني وتناقشني وأراها قطعة من الحياة أمام عيني؟ كانت «نجوى» أمامي فتاة ساذجة ليس حولها بريق ولا زخرف، أحدثها فتدرك، وأحس فتستجيب.
أتكون هي الأخرى من صناعة خيالي؟
وأقبل كمال الدين راجعا يبدو عليه شيء من القلق.
فقلت له مبادرا: لا بأس عليك إذا هي لم ترض بي، إنها عندي ...
ولكنه قاطعني قائلا: معاذ الله يا سيدي أن يخيب ظنك وظني، ولكني أسأل نفسي ألا تكون ...
فأدركت أنه يشفق علي أن أكون قد أخطأت في اختياري. لك الله يا صديقي!
فقلت له: «اجلس إلى جانبي، فإني محدثك حديثا.»
ثم قلت له، وكان صوتي متهدجا: كنت في شبابي أرى قمم الجبال من بعيد تغطيها الثلوج الشهباء، وأرى أشعة الشمس تصبغها عند الغروب وعند الشروق فتلونها ألوانا ساحرة تخلب النظر والفؤاد. وكم تمثلتها وتصورت ما فيها من بهاء، وكنت أحس في نفسي دافعا لا يقاوم يدفعني إلى توقل الصخور والصعود إلى تلك القمم الساحرة.
وهكذا قضيت زمنا أهيم في خيالي وأنا ناظر نحوها وقلبي متعلق بالتسامي إليها. ولم أستطع أن أقاوم نفسي فخرجت أسعى لأبلغها، وكنت أتصور ما تخبئه لي تلك القمم اللامعة من كنوز وصور باهرة ومسارح ساحرة. فسافرت سفرا مضنيا تمزقت فيه أعضائي وخارت فيه قواي من نضال الصخور ومحاورة ثنايا الشعاب، وكدت أهلك جوعا وبردا، فلم يمسكني إلا الأمل الذي كان يملأ قلبي. وكنت كلما ضجرت وكاد الضعف يغلبني استندت إلى الأماني التي تجيش في صدري فتدفعني وتزيل آلامي. كنت دائما أنظر إلى القمة وأمني النفس بما لا يزال أمامي، وأخيرا بلغت القمة وسقطت من الإعياء وخانتني أنفاسي، ثم كادت الخيبة تقتلني، ماذا رأيت هناك؟ تلفت حولي فلم أر إلا صخورا مثل الصخور، وكهوفا مثل ما مررت به في صعودي. وكانت القمة جرداء صماء كالحة باردة، فسألت نفسي: أين البهاء والرونق؟ وأين الألوان الزاهية والأضواء الباهرة؟
لقد كادت الخيبة تقتلني، وعدت أدراجي أجر قدمي وأجادل غروري حتى عدت إلى السهل ونظرت إلى القمة وأنا أتهالك على المروج الخضراء، فرأيت القمة لا تزال تلمع وتصبغها الألوان الساحرة كما كانت من قبل تصبغها، فصحت في حنق: أيتها القمم الساخرة!
ولقد كان هذا هو شعوري عندما فارقني رسول السلطان وجلست إلى نفسي أراجعها.
ثم قلت في لهفة: أرضيت «نجوى» بزواجي؟
فقال كمال الدين مطرقا: لقد لمحت السعادة عليها.
فقلت: أتكون وكيلها؟
فقال كمال الدين: قد زوجتكها.
ومد إلي يده، فخطفتها وقلبي يرفرف كالطائر في قفصه، وقمت مسرعا لم أتكلم بكلمة حتى بلغت داري لا أتلفت إلى يمين ولا إلى شمال، وقضيت سائر الليلة أصلي وأناجي ربي.
ولما أصبح الصباح ذهبت إلى القصر ودخلت بين عمده، فانفرج لي صف الحراس، ودخلت إلى البهو حتى بلغت مجلس السلطان.
وهناك لقيني علاء الدين وقرب إليه مكاني وغمرني ببشاشته وحياني. ولما استقر بي المجلس واستأنست وهدأ جأشي وذهب عني حيائي أفضيت إليه بما استقر عليه رأيي، واعتمدت على الله فلم أخف عنه كلمة تجيش في صدري.
وقد سمع قولي هادئا عاطفا، حتى إذا فرغت من حديثي سألني الدعاء، وقدمني لأكون إماما في الصلاة.
وها أنا ذا اليوم في جانبولاد وسائر قصتي معروف لا يخفى على أحد؛ فقد صرت إمام السلطان أذهب كل يوم إلى مسجده الذي بناه ليكون لي مدرسة أعلم فيها الناس مما علمني ربي، فلعلهم يوما يبلغون ما يحب لهم علاء الدين من خير في الأولى والآخرة، وقد وهب لي السلطان بيتا أعيش فيه مع «نجوى» بعد أن أعفاني من زواج الأميرة، حفظها الله وأمتعها وبارك لها وفيها.
وإنني اليوم أقضي أيامي بين كتابي وصلاتي، وأذوق السلام في أهلي وولدي. لكم تغيرت بفضل قلبك الطاهر يا «نجوى».
ولست اليوم أحمل لريمة إلا الرحمة والرثاء، مسكينة هي، أسأل الله أن يلطف بها، فما أولى القلوب الثائرة بالرثاء، وهي تقيم في جناح من الدار وحدها حتى لا أبعدها عن ولدها.
وقد أتيت بولدي عجيب إلى حضرة السلطان كما شاء، فأرضاه حسن خطه وأعجبه إنشاء رسائله فجعله خازنا لكتبه. بارك الله للسلطان في ملكه ورعيته.
وأما جميلة ابنتي فقد زوجها السلطان لوزيره الذي اخترته له ليحمل الأعباء عني، صديقي وتلميذي كمال الدين، وفقه الله إلى رضاه. وأما صديقي أبو النور فقد كان أحب شيء عندي أن يشاركني في سلامي وأمني، ولكنه لم يرض أن يفارق ماهوش، فهو لا يحب أن يدفن عظامه إلا في ثراها.
ما أسعد ذلك الصديق الطيب بقلبه الكبير، إنه يعطي ولا يحب أن يأخذ، ويعاشر الناس كما يجدهم راضيا، ولم أره يوما يضيق بالحياة.
وقد أردت أن أكتب للناس قصتي، فعكفت في شهر رمضان أتسلى بها بين قيامي وسحوري، لعل كلمة منها تسري عن الناس هما أو تدخل إلى قلبهم سرورا، أو لعل خطرة تخطر على قلبهم عند قراءتها تحمل إليهم حكمة أو عبرة.
وقد وقفتها على أهل جانبولاد، وجعلت منها نسخا في مسجدها، لعل الله يجعل لي منها ثوابا إذا ترحم الناس على كاتبها جيلا بعد جيل.
ناپیژندل شوی مخ