ولكن الظروف لم تكن هذه المرة مواتية، ونوافذ الشقة المقابلة تفتحت يوما، ورأى بهيج بعيني رأسه شابا يطل منها، شابا لا أحد معه، لا طفل ولا زوجة أو أم ... وكان واضحا من نظراته الجريئة، وطريقة تطلعه إلى الناحية المقابلة وإلى المارة في الشارع أنها طريقة الحر الذي لا يخشى على نفسه مغبة نظرة، ولا يحمل فوق كاهله مسئولية، ولا يعمل حسابا لإنسان وراءه كل مهمته أن يناقشه الحساب. كانت نظرات وتطلعات فرس بري غير مروض ذكرت بهيج نفسه بأيام ما قبل الزواج، ذكرته لا ليتحسر، وإنما ليحس بهم مفاجئ بدأ يركبه ... الشاب واضح تماما أنه أعزب، وها هو ذا قد سكن أمامهم لا يفصلهم عنه سوى الشارع. وبهيج كان أعزب يوما، ويعلم أنه والعزاب جميعا لا يتركون حولهم أو أمامهم طوبة من طوب الأرض إلا وأشبعوها فحصا ولمسا؛ لعله يثبت في النهاية أنها طوبة مؤنثة. وهو واثق طبعا من نفسه، ومن أن سنسن أشرف نساء الأرض، ولكن من قال إن أسلم أصحاء الأرض لا يمرض، خاصة إذا ظل صباح مساء معرضا للميكروب؟ لا ضمان هناك لأي شيء؛ فأي شيء ممكن أن يحدث. فالمسألة ليست جلسة في أوتوبيس أو رفقة سفر ... المسألة إقامة دائمة وسكن.
أغلق بهيج باب البلكونة في ذلك اليوم وهو يفكر، وظل يفكر حتى بعد إغلاقها ... وإلى صباح اليوم التالي حين فتحها بنفسه، ووجد بلكونة الجار مفتوحة هي الأخرى، ووجده يغني وصوته القبيح يأتيه عبر الشارع عاليا ... أعزب ... متحديا. •••
وبدأ الجار الأعزب الجديد يصبح مشكلة، وبكثرة تفكير بهيج فيها، بدأت تتشعب وتتعمق وتضاف إلى مشاكل حياته الرئيسية، خاصة حين كان يعود. وقبل أن يدخل البيت يسرح ببصره إلى أعلى ليجد بلكونة الشاب مفتوحة وبلكونتهم أيضا مفتوحة أو مواربة، ولا يفصل الاثنتين سوى الشارع العريض.
وبدأ بهيج يفكر في حل حاسم للمشكلة ... وأضناه التفكير فقد كان في موقف لا يستطيع معه أن ينتقل من البيت ويعزل، وليس هو السلطان؛ لكي يجبر القاطن الجديد على التعزيل. وهو يريد أن يحمي زوجته من الخطر الوافد في سرية تامة وهدوء، ودون أن تشعر أنه لا يثق فيها أو يحميها.
ورغم هذا كله؛ فقد كان مصرا على أن يجد الحل.
وقد وجده.
وعلى العشاء المقتبس بحذافيره من ركن المرأة، والذي كانت تفوح منه رائحة الاقتباس وطعمه الماسخ، بدأ بهيج يسوق المقدمات ويتحدث عن الحريات المنزلية الأربع. قال إنه بدأ يدرك أنهم محرومون في بيتهم من حرية الحركة والعري والحفاء وارتكاب الحماقات، وكيف أن المنزل لا يعد متعة أو بيتا بمعنى الكلمة إلا إذا توافرت له هذه الأركان؛ وإلا لكان السجن أرحم. وهو قد أدرك أيضا بعد طول بحث أن سبب إهدار حرياتهم تلك يرجع إلى عامل واحد لا غير، هو البلكونة التي تفتح على الصالة، وتتوسط البيت وتجرحه، وتجعله نهبا لأنظار الجيران القاطنين عبر الشارع. وأن الطريقة الوحيدة؛ لكي يصبح بيتهم بيتا، هي أن يقيموا فوق سور البلكونة ستارا عاليا، أعلى من قامته، يحجب كل ما يدور داخل البيت عن الأنظار. وحين تبلورت المقدمة الطويلة في هذا الاقتراح، بدأت الزوجة تسخفه، وتعيب عليه أن يريد أن يخنقها ويمنع عنها الشمس والهواء. وكل هذا لأنه لا يثق فيها ولا يثق في نفسه، إلى آخر المحاضرة التي تعودت أن تلقيها عليه، وتسخف بها أي اقتراح من اقتراحاته؛ ربما لمجرد كونها اقتراحاته.
ولكنه لم ييأس ... استجمع كل ذكائه وقدرته على الإقناع؛ ليدحض مزاعمها وليثبت لها أن ليس في الأمر شك فيها أو في الجيران، وأنه لا يريد سوى حقه في الاستمتاع ببيته، وحجب الأنظار المستطلعة عنه. وأيضا لم تبدأ الزوجة توافق إلا بعد أن تعهد بشراء طقم كراسي إيديال للبلكونة، ومضى يغذي أحلامها عن الجلسات المرتقبة وليالي القمر وأشجار الياسمين التي لا بد سيزرعونها.
ولم يأت الغد إلا ليجد بهيج قد اتفق مع المنجد والنجار، ولم يمض يوم آخر إلا وكانت الستارة معلقة عريضة، تغطي البلكونة من جهاتها الثلاث، وترتفع فوق قامة الرجل.
واعتقد بهيج يومها أن دوره في حل المشكلة والمحافظة على بيته وزوجته قد أداه على خير ما يرام، ويحق له بعد هذا أن ينام ملء جفونه ويمدد رجليه ويشخر. •••
ناپیژندل شوی مخ